أقرأ أيضاً
التاريخ: 5-9-2016
1624
التاريخ: 5-9-2016
1306
التاريخ: 5-9-2016
2460
التاريخ: 18-8-2016
922
|
قد مضى في الجزء الثاني البحث مستوفى عن الملازمات العقلية، لتشخيص صغريات حجية العقل، أي لتعيين القضايا العقلية التي يتوصل بها إلى الحكم الشرعي وبيان ما هو الدليل العقلي الذي يكون حجة. وقد حصرناها هناك في قسمين رئيسين:
(الأول) حكم العقل بالحسن والقبح وهو قسم المستقلات العقلية، (والثاني) حكمه بالملازمة بين حكم الشرع وحكم آخر، وهو قسم غير المستقلات العقلية. ووعدنا هناك ببيان وجه حجية الدليل العقلي، والآن قد حل الوفاء بالوعد، ولكن قبل بيان وجه الحجية لا بد من الكرة بأسلوب جديد إلى البحث عن تلك القضايا العقلية، لغرض بيان الآراء فيها وبيان وجه حصرها وتعيينها فيما ذكرناه، فنقول: ان علماءنا الأصوليين من المتقدمين حصروا الأدلة على الأحكام الشرعية في الأربعة المعروفة التي رابعها (الدليل العقلي)، بينما ان بعض علماء أهل السنة أضافوا إلى الأربعة المذكورة القياس ونحوه على اختلاف آرائهم. ومن هنا نعرف ان المراد من الدليل العقلي مالا يشمل مثل القياس، فمن ظن من الأخباريين في الأصوليين إنهم يريدون منه ما يشمل القياس ليس في موضعه، وهو ظن تأباه تصريحاتهم في عدم الاعتبار بالقياس ونحوه. ومع ذلك فانه لم يظهر لي بالضبط ما كان يقصد المتقدمون من علمائنا بالدليل العقلي، حتى أن الكثير منهم لم يذكره من الأدلة، أو لم يفسره، أو فسره بما لا يصلح أن يكون دليلا في قبال الكتاب والسنة. وأقدم نص وجدته ما ذكره الشيخ المفيد المتوفي سنة 413 في رسالته الأصولية التي لخصها الشيخ الكراجكي (1)، فانه لم يذكر الدليل العقلي من جملة أدلة الأحكام، وانما ذكر ان أصول الأحكام ثلاثة الكتاب والسنة النبوية وأقوال الأئمة عليهم السلام، ثم ذكر ان الطرق الموصلة إلى ما في هذه الأصول ثلاثة: اللسان، والأخبار، وأولها العقل، وقال عنه: (وهو سبيل إلى معرفة حجية القرآن ودلائل الأخبار). وهذا التصريح كما ترى أجنبي عما نحن في صدده. ثم يأتي بعده تلميذه الشيخ الطوسي المتوفى سنة 460 في كتابه (العدة) الذي هو أول كتاب مبسط في الأصول، فلم يصرح بالدليل العقلي فضلا عن ان يشرحه أو يفرد له بحثا. وكل ما جاء فيه في آخر فصل منه أنه بعد ان قسم المعلومات إلى ضرورية ومكتسبة والمكتسب إلى عقلي وسمعي ذكر من جملة أمثلة الضروري العلم بوجوب رد الوديعة وشكر المنعم وقبح الظلم والكذب، ثم ذكر في معرض كلامه ان القتل والظلم معلوم بالعقل قبحه ويريد من قبحه تحريمه. وذكر أيضا ان الأدلة الموجبة للعلم فبالعقل بعلم كونها أدلة ولا مدخل للشرع في ذلك. وأول من وجدته من الأصوليين يصرح بالدليل العقلي الشيخ ابن إدريس المتوفى 598، فقال في السرائر ص 2: (فإذا فقدت الثلاثة - يعني الكتاب والسنة والإجماع - فالمعتمد عنه المحققين التمسك بدليل العقل فيها). ولكنه لم يذكر المراد منه. ثم يأتي المحقق الحلي المتوفى 676، فيشرح المراد منه فيقول في كتابه (المعتبر) ص 6 بما ملخصه: وأما الدليل العقلي فقسمان: أحدهما ما يتوقف فيه على الخطاب، وهو ثلاثة: لحن الخطاب وفحوى الخطاب ودليل الخطاب، وثانيهما ما ينفرد العقل بالدلالة عليه ويحصره في وجوه الحسن والقبح، بما لا يخلو من المناقشة في أمثلته.
ويزيد عليه الشهيد الأول المتوفى 786 في مقدمة كتابه (الذكرى)، فيجعل القسم الأول ما يشمل الأنواع الثلاثة التي ذكرها المحقق، وثلاثة أخرى وهي: مقدمة الواجب، ومسألة الضد، وأصل الإباحة في المنافع والحرمة في المضار. ويجعل القسم الثاني ما يشمل ما ذكره المحقق وأربعة أخرى وهي: البراءة الأصلية، وما لا دليل عليه، والأخذ بالأقل عند الترديد بينه وبين الأكثر، والاستصحاب. وهكذا ينهج هذا النهج جماعة آخرون من المؤلفين، في حين ان الكتب الدراسية المتدوالة، مثل المعالم والرسائل والكفاية، لم تبحث هذا الموضوع ولم تعرف الدليل العقلي. ولم تذكر مصاديقه، الا إشارات عابرة في ثنايا الكلام. ومن تصريحات المحقق والشهيد الأول يظهر انه لم تتجل فكرة الدليل العقلي في تلك العصور، فوسعوا في مفهومه إلى ما يشمل الظواهر اللفظية مثل لحن الخطاب، وهو ان تدل قرينة عقلية على حذف لفظ، وفحوى الخطاب، ويعنون به مفهوم الموافقة، ودليل الخطاب، ويعنون به مفهوم المخالفة. وهذه كلها تدخل في حجية الظهور، ولا علاقة لها بدليل العقل المقابل للكتاب والسنة. وكذلك الاستصحاب، فانه أصل عملي قائم برأسه، كما بحثه المتقدمون في مقابل دليل العقل. والغريب في الأمر أنه حتى مثل المحقق القمي المتوفى سنة 1231 نسق على مثل هذا التفسير لدليل العقل فأدخل فيه الظواهر مثل المفاهيم، بينما هو نفسه عرفه بأنه (حكم عقلي يوصل به إلى الحكم الشرعي وينتقل من العلم بالحكم العقلي إلى العلم بالحكم الشرعي (2). وأحسن من رأيته قد بحث الموضوع بحثا مفيدا معاصره العلامة السيد محسن الكاظمي في كتابه (المحصول)، وكذلك تلميذه المحقق صاحب الحاشية على المعالم الشيخ محمد تقي الإصفهاني الذي نسج على منواله، وان كان فيما ذكره بعض الملاحظات لا مجال لذكرها ومناقشتها هنا. وعلى كل حال، فان إدخال المفاهيم والاستصحاب ونحوها في مصاديق الدليل العقلي لا يناسب جعله دليلا في مقابل الكتاب والسنة، ولا يناسب تعريفه بأنه ما ينتقل من العلم بالحكم العقلي إلى العلم بالحكم الشرعي. وبسبب عدم وضوح المقصود من الدليل العقلي انتحى الأخباريون باللائمة على الأصوليين إذ يأخذون بالعقل حجة على الحكم الشرعي. ولكنهم أنفسهم أيضا لم يتضح مقصودهم في التزهيد بالعقل، وهل تراهم يحكمون غير عقولهم في التزهيد بالعقول؟ ويتجلى لنا عدم وضوح المقصود من الدليل العقلي ما ذكره الشيخ المحدث البحراني في حدائقه، وهذا نص عبارته (3): (المقام الثالث في دليل العقل. وفسره بعض بالبراءة والاستصحاب. وآخرون قصروه على الثاني. وثالث فسره بلحن الخطاب وفحوى الخطاب ودليل الخطاب. ورابع بعد البراءة الأصلية والاستصحاب بالتلازم بين الحكمين المندرج فيه مقدمة الواجب واستلزام الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص، والدلالة الإلتزامية). ثم تكلم عن كل منها في مطالب عدا التلازم بين الحكمين لم يتحدث عنه. ولم يذكر من الأقوال حكم العقل في مسألة الحسن والقبح، بينما أن حكم العقل المقصود الذي ينبغي ان يجعل دليلا هو خصوص التلازم بين الحكمين وحكم العقل في الحسن والقبح. وما نقله من الأقوال لم يكن دقيقا كما سبق بيان بعضها.
وكيفما كان، فالذي يصلح ان يكون مرادا من الدليل العقلي المقابل للكتاب والسنة هو: كل حكم للعقل يوجب القطع بالحكم الشرعي. وبعبارة ثانية هو: كل قضية عقلية يتوصل بها إلى العلم القطعي بالحكم الشرعي، وقد صرح بهذا المعنى جماعة من المحققين المتأخرين.
وهذا أمر طبيعي، لأنه إذا كان الدليل العقلي مقابلا للكتاب والسنة لا بد ألا يعتبر حجة الا إذا كان موجبا للقطع الذي هو حجة بذاته. فلذلك لا يصح أن يكون شاملا للظنون وما لا يصلح للقطع بالحكم من المقدمات العقلية. ولكن هذا التحديد بهذا المقدار لا يزال مجملا، وقد وقع خلط وخبط عظيمان في فهم هذا الأمر. ولأجل أن نرفع جميع الشكوك والمغالطات والأوهام لا بد لنا من توضيح الأمر بشيء من البسط، لوضع النقاط على الحروف كما يقولون، فنقول:
1 - انه قد تقدم (م 1 ص 205): ان العقل ينقسم إلى عقل نظري وعقل عملي. وهذا التقسيم باعتبار ما يتعلق به الإدراك: فالمراد من (العقل النظري): إدراك ما ينبغي ان يعلم، أي إدراك الأمور التي لها واقع، والمراد من (العقل العملي): إدراك ما ينبغي أن يعمل، أي حكمه بأن هذا الفعل ينبغي فعله أو لا ينبغي فعله.
2 - انه ما المراد من العقل الذي نقول انه حجة من هذين القسمين؟ - ان كان المراد (العقل النظري) فلا يمكن ان يستقل بإدراك الأحكام الشرعية ابتداء، أي لا طريق للعقل ان يعلم من دون الاستعانة بالملازمة ان هذا الفعل حكمه كذا عند الشارع. والسر في ذلك واضح، لان أحكام الله توقيفية فلا يمكن العلم بها الا من طريق السماع من مبلغ الأحكام المنصوب من قبله تعالى لتبليغها، ضرورة ان أحكام الله ليست من القضايا الأولية وليست مما تنالها المشاهدة بالبصر ونحوه من الحواس الظاهرة بل الباطنة، وليست أيضا مما تنالها التجربة والحدس. وإذا كانت كذلك فكيف يمكن العلم بها من غير طريق السماع من مبلغها! وشأنها في ذلك شأن سائر المجعولات التي يضعها البشر كاللغات والخطوط والرموز ونحوها. وكذلك ملاكات الأحكام، كنفس الأحكام، لا يمكن العلم بها الا من طريق السماع من مبلغ الأحكام، لأنه ليس عندنا قاعدة مضبوطة نعرف بها أسرار أحكام الله وملاكاتها التي أنيطت بها الأحكام عنده (4) والظن لا يغني عن الحق شيئا. وعلى هذا، فمن نفى حجية العقل، وقال: ان الأحكام سمعية لا تدرك بالعقول - فهو على حق إذا أراد من ذلك ما أشرنا إليه، وهو نفي استقلال العقل النظري من إدراك الأحكام وملاكاتها. ولعل بعض منكري الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع قصد هذا المعنى كصاحب الفصول وجماعة من الأخباريين، ولكن خانه التعبير عن مقصوده. وإذا كان هذا مرادهم فهو أجنبي عما نحن بصدده من كون الدليل العقلي حجة يتوصل به إلى الحكم الشرعي. - إننا نقصد من الدليل العقلي حكم العقل النظري بالملازمة بين الحكم الثابت شرعا أو عقلا وبين حكم شرعي آخر، كحكمه بالملازمة في مسألة الإجزاء ومقدمة الواجب ونحوهما، وكحكمه باستحالة التكليف بلا بيان اللازم منه حكم الشارع بالبراءة، وكحكمه بتقديم الأهم في مورد التزاحم بين الحكمين المستنتج منه فعلية حكم الأهم عند الله، وكحكمه بوجوب مطابقة حكم الله لما حكم به العقلاء في الآراء المحمودة. فإن هذه الملازمات وأمثالها أمور حقيقية واقعية يدركها العقل النظري بالبداهة أو بالكسب، لكونها من الأوليات والفطريات التي قياساتها معها، أو لكونها تنتهي إليها فيعلم بها العقل على سبيل الجزم. وإذا قطع العقل بالملازمة - والمفروض انه قاطع بثبوت الملزوم - فإنه لا بد أن يقطع بثبوت اللازم وهو - أي اللازم - حكم الشارع. ومع حصول القطع فإن القطع حجة يستحيل النهي عنه، بل به حجية كل حجة كما سبق بيانه ص 15. وعليه، فهذه الملازمات العقلية هي كبريات القضايا العقلية التي بضمها إلى صغرياتها يتوصل بها إلى الحكم الشرعي. ولا أظن أحدا بعد التوجه إليها والالتفات إلى حقيقتها يستطيع إنكارها إلا السوفسطائيين الذين ينكرون الوثوق بكل معرفة حتى المحسوسات. ولا أظن ان هذه القضايا العقلية هي مقصود من أنكر حجيتها من الأخباريين وغيرهم، وإن أوهمت بعض عباراتهم ذلك لعدم التمييز بين نقاط البحث. وإذا عرفت ذلك تعرف ان الخلط في المقصود من إدراك العقل النظري وعدم التمييز بين ما يدركه من الأحكام ابتداء وما يدركه منها بتوسط الملازمة هو سبب المحنة في هذا الاختلاف وسبب المغالطة التي وقع فيها بعضهم إذ نفى مطلقا إدراك العقل لحكم الشارع وحجيته، قائلا: ان أحكام الله توقيفية لا مسرح للعقول فيها، وغفل عن أن هذا التعليل انما يصلح لنفي إدراكه للحكم ابتداء وبالاستقلال، ولا يصلح لنفي إدراكه للملازمة المستتبع لعلمه بثبوت اللازم وهو الحكم.
3 - هذا كله إذا أريد من العقل (العقل النظري). وأما لو أريد به (العقل العملي)، فكذلك لا يمكن ان يستقل في إدراك أن هذا ينبغي فعله عند الشارع أو لا ينبغي، بل لا معنى لذلك، لان هذا الإدراك وظيفة العقل النظري، باعتبار أن كون هذا الفعل ينبغي فعله عند الشارع بالخصوص أو لا ينبغي من الأمور الواقعية التي تدرك بالعقل النظري لا بالعقل العملي، وإنما كل ما للعقل العملي من وظيفة هو ان يستقل بإدراك أن هذا الفعل في نفسه مما ينبغي فعله أو لا ينبغي مع قطع النظر عن نسبته إلى الشارع المقدس أو إلى أي حاكم آخر، يعني ان العقل العملي يكون هو الحاكم في الفعل، لا حاكيا عن حاكم آخر. وإذا حصل للعقل العملي هذا الإدراك جاء العقل النظري عقيبه، فقد يحكم بالملازمة بين حكم العقل العملي وحكم الشارع وقد لا يحكم. ولا يحكم بالملازمة إلا في خصوص مورد مسألة التحسين والتقبيح العقليين، أي خصوص القضايا المشهورات التي تسمى الآراء المحمودة والتي تطابقت عليها آراء العقلاء كافة بما هم عقلاء. وحينئذ بعد حكم العقل النظري بالملازمة يستكشف حكم الشارع على سبيل القطع، لأنه بضم المقدمة العقلية المشهورة التي هي من الآراء المحمودة التي يدركها العقل العملي إلى المقدمة التي تتضمن الحكم بالملازمة التي يدركها العقل النظري - يحصل للعقل النظري العلم بان الشارع له هذا الحكم، لأنه حينئذ يقطع باللازم وهو الحكم بعد فرض قطعه بثبوت الملزوم والملازمة. ومن هنا قلنا سابقا: إن المستقلات العقلية تنحصر في مسألة واحدة، وهي مسألة التحسين والتقبيح العقليين، لأنه لا يشارك الشارع حكم العقل العملي الا فيها، أي ان العقل النظري لا يحكم بالملازمة الا في هذا المورد خاصة (5). وجه حجية العقل:
4 - إذا عرفت ما شرحناه، وهو ان العقل النظري يقطع باللازم، اعني حكم الشارع، بعد قطعه بثبوت الملزوم الذي هو حكم الشرع أو العقل، وبعد فرض قطعه بالملازمة - نشرع في بيان وجه حجية العقل، فنقول: لقد انتهى الأمر بنا في البحث السابق إلى أن الدليل العقلي ما أوجب القطع بحكم الشارع، وإذا كان الأمر كذلك فليس ما وراء القطع حجة، فإنه تنتهي إليه حجية كل حجة، لأنه - كما تقدم ص 19 - هو حجة بذاته. ولا يعقل سلخ الحجية عنه. وهل تثبت الشريعة الا بالعقل؟ وهل يثبت التوحيد والنبوة الا بالعقل؟ وإذا سلخنا أنفسنا عن حكم العقل فيكف نصدق برسالة؟ وكيف نؤمن بشريعة؟ بل كيف نؤمن بأنفسنا واعتقاداتها؟ وهل العقل الا ما عبد به الرحمن؟ وهل يعبد الديان الا به؟
ان التشكيك في حكم العقل سفسطة ليس وراءها سفسطة، نعم كل ما يمكن الشك فيه هو الصغريات، أعني ثبوت الملازمات في المستقلات العقلية أو في غير المستقلات العقلية. ونحن انما نتكلم في حجية العقل لإثبات الحكم الشرعي بعد ثبوت تلك الملازمات. وقد شرحنا في الجزء الثاني مواقع كثيرة من تلك الملازمات، فأثبتنا بعضها في مثل المستقلات العقلية، ونفينا بعضا آخر في مثل مقدمة الواجب ومسألة الضد. أما بعد ثبوت الملازمة وثبوت الملزوم فأي معنى للشك في حجية العقل، أو الشك في ثبوت اللازم، وهو حكم الشارع. ولكن مع كل هذا وقع الشك لبعض الأخباريين في هذا الموضوع، فلا بد من تجليته لكشف المغالطة، فنقول: قد أشرنا في المجلد الأول ص 196 إلى هذا النزاع، وقلنا: ان مرجع هذا النزاع إلى ثلاث نواح، وذلك حسب اختلاف عباراتهم:
(الأولى): في امكان ان ينفي الشارع حجية هذا القطع. وقد اتضح لنا ذلك بما شرحناه في حجية القطع الذاتية ص 19 من هذا الجزء فارجع إليه، لتعرف استحالة النهي عن أتباع القطع.
(الثانية): بعد فرض امكان حجية القطع هل نهى الشارع عن الأخذ بحكم العقل؟ وقد ادعى ذلك جملة من الأخباريين الذين وصل إلينا كلامهم مدعين ان الحكم الشرعي لا يتنجز ولا يجوز الأخذ به إلا إذا ثبت من طريق الكتاب والسنة. أقول: ومرد هذه الدعوى في الحقيقة إلى دعوى تقييد الأحكام الشرعية بالعلم بها من طريق الكتاب والسنة. وهذا خير ما يوجه به كلامهم ولكن قد سبق الكلام مفصلا في مسألة اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل ص 29 من هذا الجزء، فقلنا: انه يستحيل تعلق الأحكام على العلم بها مطلقا، فضلا عن تقييدها بالعلم الناشئ من سبب خاص، وهذه الاستحالة ثابتة حتى لو قلنا بإمكان نفي حجية القطع. لما قلناه من لزوم الخلف، كما شرحناه هناك. وأما ما ورد عن آل البيت عليهم السلام من نحو قولهم: (إن دين الله لا يصاب بالعقول) فقد ورد في قباله مثل قولهم: (إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام وأما الباطنة فالعقول) (6). والحل لهذا التعارض الظاهري بين الطائفتين، هو أن المقصود من الطائفة الأولى بيان عدم استقلال العقل في إدراك الأحكام ومداركها، في قبال الاعتماد على القياس والاستحسان، لأنها واردة في هذا المقام، أي أن الأحكام ومدارك الأحكام لا تصاب بالعقول بالاستقلال. وهو حق كما شرحناه سابقا. ومن المعلوم أن مقصود من يعتمد على الاستحسان في بعض صوره هو دعوى إن للعقل أن يدرك الأحكام مستقلا ويدرك ملاكاتها، ومقصود من يعتمد على القياس هو دعوى ان للعقل ان يدرك ملاكات الأحكام في المقيس عليه لاستنتاج الحكم في المقيس. وهذا معنى الاجتهاد بالرأي. وقد سبق ان هذه الإدراكات ليست من وظيفة العقل النظري ولا العقل العملي، لان هذه أمور لا تصاب إلا من طريق السماع من مبلغ الأحكام. وعليه فهذه الطائفة من الأخبار لا مانع من الأخذ بها على ظواهرها لأنها واردة في مقام معارضة الاجتهاد بالرأي، ولكنها أجنبية عما نحن بصدده وعما نقوله في القضايا العقلية التي يتوصل بها إلى الحكم الشرعي. كما إنها أجنبية عن الطائفة الثانية من الأخبار التي تثني على العقل وتنص على انه حجة الله الباطنة، لأنها تثني على العقل فيما هو من وظيفته ان يدركه، لا على الظنون والأوهام، ولا على ادعاءات إدراك مالا يدركه العقل بطبيعته.
(الناحية الثالثة) - بعد فرض عدم امكان نفي الشارع حجية القطع والنهي عنه، يجب أن نتسأل عن معنى حكم الشارع على طبق حكم العقل؟ والجواب الصحيح عن هذا السؤال عند هؤلاء أن يقال: إن معناه إدراك الشارع وعلمه بأن هذا الفعل ينبغي فعله أو تركه لدى العقلاء. وهذا شيء آخر غير أمره ونهيه، والنافع هو أن نستكشف أمره ونهيه، فيحتاج إثبات أمره ونهيه إلى دليل آخر سمعي، ولا يكفي فيه ذلك الدليل العقلي الذي أقصى ما يستنتج منه ان الشارع عالم بحكم العقلاء، أو انه حكم بنفس ما حكم به العقلاء، فلا يكون منه أمر مولوي أو نهي مولوي. أقول: وهذه آخر مرحلة لتوجيه مقالة منكري حجية العقل، وهو توجيه يختص بالمستقلات العقلية. ولهذا التوجيه صورة ظاهرية يمكن أن تنطلي على المبتدئين أكثر من تلك التوجيهات في المراحل السابقة. وهذا التوجيه ينطوي على أحدى دعويين:
1 - دعوى إنكار الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، وقد تقدم تفنيدها في المجلد الأول ص 217، فلا نعيد.
2 - الدعوى التي أشرنا إليها هناك في آخر ص 218 من المجلد الأول وتوضيحها: ان ما تطابقت عليه آراء العقلاء هو استحقاق المدح والذم فقط: والمدح والذم غير الثواب والعقاب، فاستحقاقهما لا يستلزم استحقاق الثواب والعقاب من قبل المولى. والذي ينفع في استكشاف حكم الشارع هو الثاني ولا يكفي الأول. ولو فرض إنا صححنا الاستلزام للثواب والعقاب، فإن ذلك لا يدركه كل أحد. ولو فرض انه أدركه كل أحد فإن ذلك ليس كافيا للدعوة إلى الفعل إلا عند ألفذ من الناس. وعلى أي تقدير فرض فلا يستغني أكثر الناس عن توجيه الأمر من المولى أو النهي منه في مقام الدعوة إلى الفعل أو الزجر عنه. وإذا كان نفس إدراك الحسن والقبح غير كاف في الدعوة - والمفروض لم يقم دليل سمعي على الحكم - فلا نستطيع ان نحكم بان الشارع له أمر ونهي على طبق حكم العقل قد اكتفى عن بيانه اعتمادا على إدراك العقل، ليكون حكم العقل كاشفا عن حكمه. لاحتمال ألا يكون للشارع حكم مولوي على طبق حكم العقل حينئذ. وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، لان المدار على القطع في المقام.
والجواب: إنه قد أشرنا في الحاشية (م 1 ص 220) إلى ما يفند الشق الأول من هذه الدعوة الثانية، إذ قلنا: الحق ان معنى استحقاق المدح ليس الا استحقاق الثواب، ومعنى استحقاق الذم ليس الا استحقاق العقاب، لا أنهما شيئان أحدهما يستلزم الآخر، لان حقيقة المدح والمقصود منه هو المجازاة بالخير لا المدح باللسان، وحقيقة الذم والمقصود منه هو المجازاة بالشر لا الذم باللسان. وهذا المعنى هو الذي يحكم به العقل، ولذا قال المحققون من ألفلاسفة: (ان مدح الشارع ثوابه وذمه عقابه). وأرادوا هذا المعنى. بل بالنسبة إلى الله تعالى لا معنى لفرض استحقاق المدح والذم اللسانيين عنده، بل ليست مجازاته بالخير إلا الثواب وليست مجازاته بالشر الا العقاب. وأما الشق الثاني من هذه الدعوى فالجواب عنه: إنه لما كان المفروض ان المدح والذم من القضايا المشهورات التي تتطابق عليها آراء العقلاء كافة فلا بد ان يفرض فيه أن يكون صالحا لدعوة كل واحد من الناس. ومن هنا نقول: انه مع هذا الفرض يستحيل توجيه دعوة مولوية من الله تعالى ثانيا لاستحالة جعل الداعي مع فرض وجود ما يصلح للدعوة عند المكلف إلا من باب التأكيد ولفت النظر. ولذا ذهبنا هناك إلى أن الأوامر الشرعية الواردة في موارد حكم العقل مثل وجوب الطاعة ونحوها يستحيل فيها أن تكون أوامر تأسيسية (أي مولوية)، بل هي أوامر تأكيدية (أي إرشادية). وإما ان هذا الإدراك لا يدعو إلا ألفذ من الناس فقد يكون صحيحا ولكن لا يضر في مقصودنا، لأنه لا نقصد من كون حكم العقل داعيا انه داع بالفعل لكل أحد، بل انما نقصد - وهو النافع لنا - انه صالح للدعوة. وهذا شأن كل داع حتى الأوامر المولوية، فإنه لا يترقب منها إلا صلاحيتها للدعوة لا فعلية الدعوة، لأنه ليس قوام كون الأمر أمرا من قبل الشارع أو من قبل غيره فعلية دعوته لجميع المكلفين، بل الأمر في حقيقته ليس هو إلا جعل ما يصلح أن يكون داعيا، يعني ليس المجعول في الأمر فعلية الدعوة. وعليه، فلا يضر في كونه صالحا للدعوة عدم امتثال أكثر الناس.
_____________
(1) راجع تأليفه كنز الفوائد ص 186 المطبوع على الحجر في إيران سنة 1322 ه.
(2) راجع أول الجزء الثاني من كتاب القوانين.
(3) الجزء الأول ص 40 طبع النجف.
(4) راجع ما تقدم (م 1 ص 218).
(5) راجع البحث الرابع في أسباب حكم العقل العملي ج 2 ص 223 فما بعدها لتعرف السر في التخصيص بالآراء المحدودة.
(6) راجع كتاب العقل من أصول الكافي. وهو أول كتبه.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
العتبة الحسينية تحقق نسب إنجاز متقدمة بمشروع مياه الشرب في المناطق القريبة من الحرم الحسيني
|
|
|