أقرأ أيضاً
التاريخ: 4-9-2016
1013
التاريخ: 4-9-2016
582
التاريخ: 1-9-2016
627
التاريخ: 10-8-2016
1927
|
... إن عملية الاستنباط تتألف من عناصر مشتركة وعناصر خاصة وأن علم الاصول هو علم العناصر المشتركة في علمية الاستنباط ففيه تدرس هذه العناصر وتحدد وتنظم. وما دام علم الاصول هو العلم الذي يتكفل بدراسة تلك العناصر فمن الطبيعي أن يبرز هذا السؤال الاساسي : ما هي وسائل الاثبات التي يستخدمها علم الاصول، لكي يثبت بها حجية الخبر أو حجية الظهور العرفي، أو غير ذلك من العناصر المشتركة في عملية الاستنباط؟.
ونظير هذا السؤال يواجهه كل علم، فبالنسبة إلى العلوم الطبيعية نسأل مثلا: ما هي وسائل الاثبات التي تستخدمها هذه العلوم لاكتشاف قوانين الطبيعة وإثباتها؟ والجواب هو أن وسيلة الاثبات الرئيسية في العلوم الطبيعية هي التجربة. وبالنسبة إلى علم النحو يسأل أيضا ما هي وسائل الاثبات التي يستخدمها النحوي لاكتشاف قوانين إعراب الكلمة وتحديد حالات رفعها ونصبها؟ والجواب هو أن الوسيلة الرئيسية للأثبات في علم النحو هي النقل عن المصادر الاصلية للغة وكلمات أبنائها الاولين. فلا بد لعلم الاصول إذن أن يواجه هذا السؤال وأن يحدد منذ البدء وسائل الاثبات التي ينبغي أن يستخدمها لإثبات العناصر المشتركة وتحديده. وفي هذا المجال نقول: إن الوسائل الرئيسية التي ينبغي لعلم الاصول أن يستخدمه مردها إلى وسيلتين رئيسيتين، وهم:
1 - البيان الشرعي (الكتاب والسنة).
2- (الأدراك العقلي).
فلا تكتسب أي قضية طابع العنصر المشترك في عملية الاستنباط، ولا يجوز إسهامها في العملية إذا أمكن إثباته بإحدى هاتين الوسيلتين الرئيسيتين، فإذا حاول الاصولي مثلا أن يدرس حجية الخبر لكي يدخله في عملية الاستنباط - إذا كان حجة - يطرح على نفسه هذين السؤالين: هل ندرك بعقولنا أن الخبر حجة وملزم بالاتباع أم لا؟ وهل يوجد بيان شرعي يدل على حجيته؟ ويحاول الاصولي في بحثه الجواب على هذين السؤالين وفقا للمستوى الذي يتمتع به من الدقة والانتباه، فإذا انتهى الباحث من دراسته إلى الاجابة بالنفي على كلا السؤالين كان معنى ذلك أنه لا يملك وسيلة لأثبات حجية الخبر، وبالتالي يستبعد الخبر عن نطاق الاستنباط. وأما إذا استطاع الباحث أن يجيب بالإيجاب على أحد السؤالين أدى هذا إلى اثبات حجية الخبر ودخولها في عملية الاستنباط بوصفها عنصرا أصوليا مشتركا. وسوف نرى خلال البحوث المقبلة أن عددا من العناصر المشتركة قد تم إثباتها بالوسيلة الاولى - أي البيان الشرعي - وعددا آخر ثبت بالوسيلة الثانية - أي الادراك العقلي - فمن قبيل الاول حجية الخبر وحجية الظهور العرفي، ومن نماذج الثاني القانون القائل: ان الفعل لا يمكن أن يكون واجبا وحراما في وقت واحد . وعلى ضوء ما تقدم نعرف أن من الضروري - قبل البدء في بحوث علم الاصول لدراسة العناصر المشتركة - أن ندرس الوسائل الرئيسية التي ينبغي للعلم استخدامها في سبيل إثبات تلك العناصر، ونتكلم عن حدوده لكي نستطيع بعد هذا أن نستخدمها وفقا لتلك الحدود.
البيان الشرعي:
البيان الشرعي هو إحدى الوسيلتين الرئيسيتين لأثبات العناصر التي تساهم في عملية الاستنباط. ونقصد بالبيان الشرعي ما يلي:
1 - الكتاب الكريم وهو القرآن الذي أنزل بمعناه ولفظه على سبيل الاعجاز وحيا على أشرف المرسلين (صلى الله عليه وآله).
2 - السنة وهي كل بيان صادر من الرسول (صلى الله عليه وآله) أو أحد الائمة المعصومين (عليهم السلام)
والبيان الصادر منهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 - البيان الايجابي القولي وهو الكلام الذي يتكلم به المعصوم عليه السلام.
2 - البيان الايجابي الفعلي وهو الفعل الذي يصدر من المعصوم عليه السلام.
3 - البيان السلبي وهو تقرير المعصوم (عليه السلام)، أي سكوته عن وضع معين بنحو يكشف عن رضاه بذلك الوضع وانسجامه مع الشريعة. ويجب الاخذ بكل هذه الانواع من البيان الشرعي، وإذا دل شيء منها على عنصر مشترك من عناصر عملية الاستنباط ثبت ذك العنصر المشترك واكتسب طابعه الشرعي. وفي هذا المجال توجد عدة بحوث نتركها للحلقات المقبلة انشاء الله تعالى.
الادراك العقلي:
الادراك العقلي هو الوسيلة الرئيسية الثانية التي تستخدم في بحوث هذا العلم لاثبات العناصر المشتركة في عملية الاستنباط، إذ قد يكون العنصر المشترك في عملية الاستنباط مما ندركه بعقولنا دون حاجة إلى بيان شرعي لإثباته، من قبيل القانون القائل: إن الفعل لا يمكن أن يكون حراما وواجبا في وقت واحد ، فإننا لا نحتاج في إثبات هذا القانون إلى بيان شرعي يشتمل على صيغة للقانون من هذا القبيل، بل هو ثابت عن طريق العقل، لان العقل يدرك أن الوجوب والحرمة صفتان متضادتان، وأن الشيء لواحد الا يمكن أن يشتمل على صفتين متضادتين، فكما لا يمكن أن يتصف الجسم بالحركة والسكون في وقت واحد كذلك لا يمكن أن يتصف الفعل بالوجوب والحرمة معا. والادراك العقلي له مصادر متعددة ودرجات مختلفة. فمن ناحية المصادر ينقسم الادراك العقلي إلى أقسام:
(منها) الادراك العقلي القائم على أساس الحس والتجربة. ومثاله إدراكنا أن الماء يغلي إذا بلغت درجة حرارته مئة، وأن وضعه على النار إلى مدة طويلة يؤدي إلى غليانه.
(ومنها) الادراك العقلي القائم على أساس البداهة. ومثاله إدراكنا جميعا أن الواحد نصف الاثنين، وأن الضدين لا يجتمعان، وأن الكل أكبر من الجزء. فإن هذه الحقائق بديهية ينساق إليها الذهن بطبيعته دون عناء أو تأمل.
(ومنها) الادراك القائم على أساس التأمل النظري. ومثاله إدراكنا أن المعلول يزول إذا زالت علته، فإن هذه الحقيقة ليست بديهية، ولا ينساق إليها الذهن بطبيعته، وإنما ندرك بالتأمل عن طريق البرهان والاستدلال.
ومن ناحية الدرجات ينقسم الادراك العقلي إلى درجات: (فمنه) الادراك الكامل القطعي. وهو أن ندرك بعقولنا حقيقة من الحقائق إدراكا لا نتحمل فيه الخطأ والاشتباه، كإدراكنا أن زوايا المثلث تساوى قائمتين، وأن الضدين لا يجتمعان، وأن الارض كروية، وأن الماء يكتسب الحرارة من النار إذا وضع عليها. (ومن الادراك العقلي) ما يكون ناقص. والادراك الناقص هو اتجاه العقل نحو ترجيح شيء دون الجزم به لاحتمال الخطأ، كإدراكنا أن الجواد الذي سبق في مناورات سابقة سوف يسبق في المرة القادمة أيضا، وأن الدواء الذي نجح في علاج أمراض معينة سوف ينجح في علاج أعراض مرضية مشابهة ، وأن الفعل المشابه للحرام في أكثر خصائصه يشاركه في الحرمة.
والسؤال الاساسي في هذ البحث: ما هي حدود العقل أو الادراك العقلي الذي يقوم بدور الوسيلة الرئيسية لأثبات العناصر المشتركة في عملية الاستنباط؟
فهل يمكن استخدام الادراك العقلي كوسيلة للأثبات مهما كان مصدره ومهما كانت درجته، أو لا يجوز استخدام الادراك العقلي كوسيلة للأثبات إلا ضمن حدود معينة من ناحية المصدر أو الدرجة. وقد إتجه البحث حول هذه النقطة نحو معالجة الدرجة أكثر من اتجاهه نحو معالجة المصدر، فاتسعت الدراسات الاصولية التي تناولت حدود العقل من ناحية الدرجة، واختلفت الاتجاهات حول مدى شمول العقل وحدوده - بوصفه وسيلة إثبات رئيسية - فهل يشمل الادراكات الناقصة التي تؤدي إلى مجرد الترجيح أو يختص بالإدراك الكامل المنتج للجزم؟. ولهذا البحث تاريخه الزاخر في علم الاصول وفي تاريخ الفكر الفقهي، كما سنرى.
الاتجاهات المتعارضة في الادراك العقلي:
وقد شهد تاريخ التفكير الفقهي اتجاهين متعارضين في هذه النقطة كل التعارض، يدعو أحدهما إلى اتخاذ العقل في نطاقة الواسع الذي يشمل الادراكات الناقصة، وسيلة رئيسية للأثبات في مختلف المجالات التي يمارسه الاصولي والفقيه. والآخر يشجب العقل ويجرده إطلاقا عن وصفه وسيلة رئيسية للأثبات، ويعتبر البيان الشرعي هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن استخدامها في عمليات الاستنباط. ويقف بين هذين الاتجاهين المتطرفين اتجاه ثالث معتدل يتمثل في جل فقهاء مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو الاتجاه الذي يؤمن - خلافا للاتجاه الثاني - بأن العقل أو الادراك العقلي وسيلة رئيسية صالحة للأثبات إلى صف البيان الشرعي، ولكن لا في نطاق منفتح - كما زعمه الاتجاه الاول - بل ضمن النطاق الذي تتوفر فيه للإنسان القناعة التامة والادراك الكامل الذي لا يوجد في مقابله احتمال الخطأ، فكل ادراك عقلي يدخل ضمن هذا النطاق ويستبطن الجزم الكامل فهو وسيلة إثبات، وأما الادراك العقلي الناقص الذي يقوم على أساس الترجيح ولا يتوفر فيه عنصر الجزم فلا يصلح وسيلة إثبات لأي عنصر من عناصر عملية الاستنباط. فالعقل في رأي الاتجاه الثالث أداة صالحة للمعرفة، وجديرة بالاعتماد عليها والاثبات بها إذا أدت إلى إدراك حقيقة من الحقائق إدراكا كاملا لا يشوبه شك. فلا كفران بالعقل كأداة للمعرفة، ولا أفراط في الاعتماد عليه فيما لا ينتج عنه إدراك كامل. وقد تطلب هذا الاتجاه المعتدل الذي مثله جل فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام أن يخوضوا المعركة في جبهتين: إحداهما المعركة ضد أنصار الاتجاه الاول الذي كانت مدرسة الرأي في الفقه تتبناه بقيادة جماعة من أقطاب علماء العامة، والاخرى المعركة ضد حركة داخلية نشأت داخل صفوف الفقهاء الاماميين متمثلة في المحدثين والاخباريين من علماء الشيعة الذين شجبوا العقل وادعوا أن البيان الشرعي هو الوسيلة الوحيدة التي يجوز استخدامها للأثبات، وهكذا نعرف أن المعركة الاولى كانت ضد استغلال العقل والاخرى كانت إلى صفه.
1 -المعركة ضد استغلال العقل :
قامت منذ أواسط القرن الثاني مدرسة فقهية واسعة النطاق تحمل اسم مدرسة الرأي والاجتهاد بالمعنى الاول الذي تقدم في البحث السابق، وتطالب باتخاذ العقل بالمعنى الواسع الذي يشمل الترجيح والظن والتقدير الشخصي للموقف، أداة رئيسية للأثبات إلى صف البيان الشرعي، ومصدر للفقيه في الاستنباط، وأطلقت عليه اسم الاجتهاد. وكان على رأس هذه المدرسة أو من روادها الاولين أبو حنيفة المتوفي سنة (150) والمأثور عن رجالات هذه المدرسة أنهم كانوا حيث لا يجدون بيانا شرعيا يدل على الحكم يدرسون المسألة على ضوء أذواقهم الخاصة وما يدركون من مناسبات وما يتفق عنه تفكيرهم الخاص من مرجحات لهذا التشريع على ذاك ويفتون بما يتفق مع ظنهم وترجيحهم ويسمون ذلك استحسانا أو اجتهاد.
والمعروف عن أبي حنيفة أنه كان متفوقا في ممارسة هذا النوع من العمل الفقهي، فقد روي عن تلميذه محمد بن الحسن أن أبا حنيفة كان يناظر أصحابه فينتصفون منه ويعارضونه حتى إذا قال: استحسن لم يلحقه أحد. وجاء في كلام له وهو يحدد نهجه العام في الاستنباط إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده أخذت بسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخذت بقول أصحابه من شئت وأدع من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى غيرهم، فإذا انتهى الامر إلى إبراهيم والشعبي والحسن وابن سيرين فلي أن أجتهد كما اجتهدوا . والفكرة الاساسية التي دعت إلى قيام هذه المدرسة وتبني العقل المنفتح بوصفه وسيلة رئيسية للأثبات ومصدرا لاستنباط الحكم هي الفكرة الشائعة في صفوف تلك المدرسة التي كانت تقول: إن البيان الشرعي المتمثل في الكتاب والسنة قاصر لا يشتمل إلا على أحكام قضايا محدودة، ولا يتسع لتعيين الحكم الشرعي في كثير من القضايا والمسائل . وقد ساعد على شيوع هذه الفكرة في صفوف فقهاء العامة اتجاههم المذهبي السني، إذ كانوا يعتقدون أن البيان الشرعي يتمثل في الكتاب والسنة النبوية المأثورة عن الرسول (صلى الله عليه وآله) فقط، ولما كان هذا لا يفي إلا بجزء من حاجات الاستنباط اتجهوا إلى علاج الموقف وإشباع هذه الحاجات عن طريق تمطيط العقل والمناداة بمبدأ الاجتهاد.
وأما فقهاء الامامية فقد كانوا على العكس من ذلك بحكم موقفهم المذهبي، لانهم كانوا يؤمنون بأن البيان الشرعي لا يزال مستمرا باستمرار الائمة (عليهم السلام) فلم يوجد لديهم أي دافع نفسي للتوسع غير المشروع في نطاق العقل. وعلى أي حال فقد شاعت فكرة عدم كفاية الكتاب والسنة لإشباع حاجات الاستنباط، ولعبت دورا خطيرا في عقلية كثير من فقهاء العامة ووجهتهم نحو الاتجاه العقلي المتطرف. وتطورت هذه الفكرة وتفاقم خطرها بالتدريج، إذ انتقلت الفكرة من اتهام القرآن والسنة - أي البيان الشرعي - بالنقص وعدم الدلالة على الحكم في كثير من القضايا، إلى اتهام نفس الشريعة بالنقص وعدم استيعابها لمختلف شؤون الحياة، فلم تعد المسألة مسألة نقصان في البيان والتوضيح بل في التشريع الالهي بالذات. ودليلهم على النقص المزعوم في الشريعة هو أنها لم تشرع لتبقى في ضمير الغيب محجوبة عن المسلمين، وإنما شرعت وبينت عن طريق الكتاب والسنة لكي يعمل بها وتصبح منهاجا للامة في حياته ولما كانت نصوص الكتاب والسنة في رأي العامة لا تشمل على أحكام كثير من القضايا والمسائل، فيدل ذلك على نقص الشريعة وأن الله لم يشرع في الإسلام إلا أحكاما معدودة، وهي الاحكام التي جاء بيانها في الكتاب السنة و وترك التشريع في سائر المجالات الاخرى إلى الناس أو إلى الفقهاء من الناس بتعمير أخص ليشرعوا الاحكام على أساس الاجتهاد والاستحسان، على شرط أن لا يعارضوا في تشريعهم تلك الاحكام الشرعية المحدودة المشرعة في الكتاب والسنة النبوية. وقد رأينا أن الاتجاه العقلي المتطرف كان نتيجة لشيوع فكرة النقص وانعكاسها، وحين تطورت فكرة النقص من اتهام البيان إلى اتهام نفس الشريعة انعكس هذه التطور أيضا على مجال الفكر السني، ونتج عنه القول بالتصويب الذي وصل فيه ذلك الاتجاه العقلي المتطرف إلى قصارى مداه، ولتوضيح ذلك لا بد من إعطاء فكرة عن القول بالتصويب.
القول بالتصويب:
بعد أن استباح فقهاء مدرسة الرأي والاجتهاد، لأنفسهم أن يعملوا بالترجيحات والظنون والاستحسانات وفقا للاتجاه العقلي المتطرف، كان من الطبيعي أن تختلف الاحكام التي يتوصلون إليه عن طريق الاجتهاد تبعا لاختلاف أذواقهم وطرائق تفكيرهم ونوع المناسبات التي يهتمون بها. فهذا يرجح في رأيه الحرمة لان الفعل فيه ضرر، وذاك يرجح الاباحة لان في ذلك توسعة على العباد، وهكذا. ومن هنا نشأ السؤال التالي: ما هو مدى حظ المجتهدين المختلفين من إصابة الواقع؟ فهل يعتبرون جميعا مصيبين ما دام كل واحد منهم قد عبر عن اجتهاده الشخصي؟ أو أن المصيب واحد فقط والباقون مخطئون؟ وقد شاع في صفوف مدرسة الرأي القول بأنهم جميعا مصيبون، لان الله ليس له حكم ثابت عام في مجالات الاجتهاد التي لا يتوفر فيها النص، وإنما يرتبط تعيين الحكم بتقدير المجتهد وما يؤدي إليه رأيه واستحسانه، وهذا هو القول بالتصويب. وفي هذا الضوء نتبين بوضوح ما ذكرناه آنفا من أن القول بالتصويب يعكس تطور فكرة النقص وتحولها إلى اتهام مباشر للشريعة بالنقص وعدم الشمول، الامر الذي سوغ لهؤلاء الفقهاء أن ينفوا وجود حكم شرعي ثابت في مجالات الاجتهاد ويصوبوا المجتهدين المختلفين جميعا. وهكذا نعرف أن فكرة النقص في البيان الشرعي دفعت إلى الاتجاه العقلي المتطرف تعويضا عن النقص المزعوم في البيان الشرعي، وحينما تطورت فكرة النص إلى اتهام الشريعة نفسها بالنقصان وعدم الشمول أدى ذلك إلى ض تمخ الاتجاه العقلي المتطرف عن القول بالتصويب. وهذا التطور في فكرة النقص الذي أدى إلى اتهام الشريعة بالنقصان وتصويب المجتهدين المختلفين جميعا، أحدث تغييرا كبيرا في مفهوم العقل أو الاجتهاد الذي يأخذ به أنصار الاتجاه العقلي المتطرف، فحتى الآن كنا نتحدث عن العقل والادراك العقلي بوصفه وسيلة إثبات، أي كاشفا عن الحكم الشرعي كما يكشف عنه البيان في الكتاب أو السنة، ولكن فكرة النقص في الشريعة التي قام على أساسها القول بالتصويب تجعل عمل الفقيه في مجالات الاجتهاد عملا تشريعيا لا اكتشافيا، فالعقل بمعناه المنفتح أو الاجتهاد في مصطلح الاتجاه العقلي المتطرف لم يعد - على أساس فكرة النقص في الشريعة - كاشفا عن الحكم الشرعي، إذ لا يوجد حكم شرعي ثابت في مجالات الاجتهاد ليكشف عنه الاجتهاد، وإنما هو أساس لتشريع الحكم من قبل المجتهد وفقا لما يؤدي إليه رأيه. وهكذا يتحول الاجتهاد على ضوء القول بالتصويب إلى مصدر تشريع، ويصبح الفقيه متشرعا في مجالات الاجتهاد ومكتشفا في مجالات النص.
ولسنا نريد الآن أن ندرس القول بالتصويب ونناقشه، وإنما نستهدف الكشف عن خطورة الاتجاه العقلي المتطرف وأهمية المعركة التي خاضتها مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ضد هذا الاتجاه، إذ لم تكن معركة ضد اتجاه أصولي فحسب بل هي في حقيقتها معركة للدفاع عن الشريعة وتأكيد كمالها واستيعابها وشمولها لمختلف مجالات الحياة، ولهذا استفاضت الاحاديث عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في عصر تلك المعركة تؤكد اشتمال الشريعة على كل ما تحتاج إليه الانسانية من أحكام وتنظيم في شتى مناحي حياتها، وتؤكد أيضا وجود البيان الشرعي الكافي لكل تلك الاحكام متمثل في الكتاب والسنة النبوية وأقوالهم عليهم السلام. وفيما يلي نذكر جملة من تلك الاحاديث عن أصول الكافي :
1 - عن الامام الصادق (عليه السلام) أنه قال: إن الله تعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء، حتى والله ما ترك الله شيئا يحتاج إليه العباد، حتى لا يستطيع عبد أن يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلا وقد أنزله الله فيه .
2 - عنه (عليه السلام) أيضا أنه قال: ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة .
3 - وعن الامام موسى بن جعفر (عليه السلام) أنه قيل له: أكل شيء في كتاب الله وسنة نبيه أو تقولون فيه؟ قال: بل كل شيء في كتاب الله وسنة نبيه .
4 - وفي حديث عن الامام الصادق (عليه السلام) يصف فيه الجامعة التي تضم أحكام الشريعة، فيقول: فيها كل حلال وحرام وكل شيء يحتاج إليه الناس حتى الار ش في الخدش.
رد الفعل المعاكس في النطاق السني :
ولا يعني خوض مدرسة أهل البيت معركة حامية ضد الاتجاه العقلي المتطرف أن هذا الاتجاه كان مقبولا على الصعيد السني بصورة عامة، وأن المعارضة كانت تتمثل في الفقه الامامي خاصة، بل إن الاتجاه العقلي المتطرف قد لقي معارضة في النطاق السني أيضا، وكانت له ردود فعل معاكسة في مختلف حقول الفكر. فعلى الصعيد الفقهي تمثل رد الفعل في قيام المذهب الظاهري على يد داود بن علي بن خلف الاصبهاني في أواسط القرن الثالث، إذ كان يدعوا إلى العمل بظاهر الكتاب والسنة والاقتصار على البيان الشرعي، ويشجب الرجوع إلى العقل. وانعكس رد الفعل على البحوث العقائدية والكلامية متمثلا في الاتجاه الاشعري الذي عطل العقل وزعم أنه ساقط بالمرة عن إصدار الحكم حتى في المجال العقائدي. فبينما كان المقرر عادة بين العلماء: أن وجوب المعرفة بالله والشريعة ليس حكما شرعيا وإنما هو حكم عقلي، لان الحكم الشرعي ليس له قوة دفع وتأثير في حياة الانسان إلا بعد أن يعرف الانسان ربه وشريعته، فيجب أن تكون القوة الدافعة إلى معرفة ذلك من نوع آخر غير نوع الحكم الشرعي، أي أن تكون من نوع الحكم العقلي.
أقول:
بينما كان هذا هو المقرر عادة بين المتكلمين خالف في ذلك الاشعري، إذ عزل العقل عن صلاحية إصدار أي حكم وأكد أن وجوب المعرفة بالله حكم شرعي كوجوب الصوم والصلاة. وامتد رد الفعل إلى علم الاخلاق - وكان وقتئذ يعيش في كنف علم الكلام - فأنكر الاشاعرة قدرة العقل على تمييز الحسن من الافعال عن قبيحها حتى في أوضح الافعال حسنا أو قبحا، فالظلم والعدل لا يمكن للعقل أن يميز بينهما، وإنما صار الاول قبيحا والثاني حسنا بالبيان الشرعي، ولو جاء البيان الشرعي يستحسن الظلم ويستقبح العدل لم يكن للعقل أي حق للاعتراض على ذلك. وردود الفعل هذه كانت تشمل على نكسة وخطر كبير قد لا يقل عن الخطر الذي كان الاتجاه العقلي المتطرف يستنبطه، لأنها اتجهت إلى القضاء على العقل بشكل مطلق، وتجريده عن كثير من صلاحياته، وإيقاف النمو العقلي في الذهنية الإسلامية بحجة التعبد بنصوص الشارع والحرص على أهل البيت (عليهم السلام) التي كانت تحارب الاتجاه العقلي المتطرف، وتؤكد في نفس الوقت أهمية العقل وضرورة الاعتماد عليه في الحدود المشروعة واعتباره ضمن تلك الحدود أداة رئيسية للأثبات إلى صف البيان الشرعي، حتى جاء في نصوص أهل البيت (عليهم السلام) إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة: فأما الظاهرة فالرسل والانبياء والائمة، وأما الباطنة فالعقول . وهذا النص يقرر - بوضوح - وضع العقل إلى صف البيان الشرعي أداة رئيسية للأثبات. وهكذا جمعت مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بين حماية الشريعة من فكرة النقص وحماية العقل من مصادرة الجامدين. وسوف نعود إلى الموضوع بصورة عملية موسعة في الحلقات المقبلة.
2- المعركة إلى صف العقل :
وأما الاتجاه الآخر المتطرف في إنكار العقل وشجبه الذي وجد داخل نطاق الفكر الامامي فقد تمثل في جماعة من علمائنا اتخذوا اسم الاخباريين والمحدثين وقاوموا دور العقل في مختلف الميادين، ودعوا إلى الاقتصار على البيان الشرعي فقط، لان العقل عرضة للخطأ وتأريخ الفكر العقلي زاخر بالأخطاء، فلا يصلح لكي يستعمل أداة إثبات في أي مجال من المجالات الدينية.
وهؤلاء الاخباريون هم نفس تلك الجماعة التي شنت حملة ضد الاجتهاد كما أشرنا في البحث السابق. ويرجع تأريخ هذا الاتجاه إلى أوائل القرن الحادي عشر، فقد أعلنه ودعا إليه شخص كان يسكن وقتئذ في المدينة باسم الميرزا محمد أمين الاسترابادي المتوفي سنة (1023) ه، ووضع كتابا أسماه الفوائد المدنية . بلور فيه هذ الاتجاه وبرهن عليه ومذهبه أي جعله مذهبا. ويؤكد الاسترابادي في هذا الكتاب أن العلوم البشرية على قسمين : أحدهما العلم الذي يستمد قضاياه من الحس، والآخر العلم الذي لا يقوم البحث فيه على أساس الحس ولا يمكن إثبات نتائجه بالدليل الحسي. ويرى المحدث الاسترابادي أن من القسم الاول الرياضيات التي تستمد خيوطها الاساسية في زعمه من الحس، وأما القسم الثاني فيمثل له ببحوث ما وراء الطبيعة التي تدرس قضاي بعيدة عن متناول الحس وحدوده، من قبيل تجرد الروح، وبقاء النفس بعد البدن، وحدوث العالم. وفي عقيدة المحدث الاسترابادي أن القسم الاول من العلوم البشرية هو وحده الجدير بالثقة لانه يعتمد على الحس، فالرياضيات مثلا تعتمد في النهاية على قضايا في متناول الحس، ونظير أن (2 + 2 = 4). وأما القسم الثاني في قيمة له، ولا يمكن الوثوق بالعقل في النتائج التي يصل إليها في هذا القسم لانقطاع صلته بالحس. وهكذا يخرج الاسترابادي من تحليله للمعرفة بجعل الحس معيارا أساسيا لتمييز قيمة المعرفة ومدى إمكان الوثوق بها. ونحن في هذا الضوء نلاحظ بوضوح اتجاها حسيا في أفكار المحدث الاسترابادي يميل به إلى المذهب الحسي في نظرية المعرفة القائل بأن الحس هو أساس المعرفة، ولاجل ذلك يمكننا أن نعتبر الحركة الاخبارية في الفكر العلمي الإسلامي أحد المسارب التي منها الاتجاه الحسي إلى تراثنا الفكري. وقد سبقت الاخبارية بما تمثل من اتجاه حسي التيار الفلسفي الحسي الذي نشأ في الفلسفة الاوروبية على يد جون لوك المتوفي سنة (1704) م ، و دانيد هيوم المتوفي سنة (1776) م ، فقد كانت وفاة الاسترابادي قبل وفاة جون لوك بمئة سنة تقريبا، ونستطيع أن نعتبره معاصرا ل فرنسيس بيكون المتوفي سنة (1626) م ، الذي مهد للتيار الحسي في الفلسفة الاوروبية. وعلى أي حال فهناك إلتقاء فكري ملحوظ بين الحركة الفكرية الاخبارية والمذاهب الحسية والتجريبية في الفلسفة الاوروبية، فقد شنت جميعا حملة كبيرة ضد العقل، وألغت قيمة أحكامه إذا لم يستمدها من الحس. وقد أدت حركة المحدث الاسترابادي ضد المعرفة العقلية المنفصلة عن الحس إلى نفس النتائج التي سجلتها الفلسفات الحسية في تأريخ الفكر الاوروبي، إذ وجدت نفسها في نهاية الشوط مدعوة بحكم اتجاهها الخاطئ إلى معارضة كل الادلة العقلية التي يستدل بها المؤمنون على وجود الله سبحانه، لانها تندرج في نطاق المعرفة العقلية المنفصلة عن الحس. فنحن نجد مثلا محدثا كالسيد نعمة الله الجزائري يطعن في تلك الادلة بكل صراحة وفقا لاتجاهه الاخباري، كما نقل عنه الفقيه الشيخ يوسف البحراني في كتابه الدرر النجفية، ولكن ذلك لم يؤد بالتفكير الاخباري إلى الالحاد كما أدى بالفلسفات الحسية الاوروبية، لاختلافهما في الظروف التي ساعدت على نشوء كل منهما، فإن الاتجاهات الحسية والتجريبية في نظرية المعرفة قد تكونت في فجر العصر العلمي الحديث لخدمة التجربة وإبراز أهميتها، فكان لديها الاستعداد لنفي كل معرفة عقلية منفصلة عن الحس، وأما الحركة الاخبارية فكانت ذات دوافع دينية، وقد اتهمت العقل لحساب الشرع لا لحساب التجربة، فلم يكن من الممكن أن تؤدي مقاومتها للعقل إلى إنكار الشريعة والدين. ولهذا كانت الحركة الاخبارية تستبطن في رأي كثير من ناقديها تناقضا، لأنها شجبت العقل من ناحية لكي تخلي ميدان التشريع والفقه للبيان الشرعي، وظلت من ناحية أخرى متمسكة به لإثبات عقائدها الدينية، لان إثبات الصانع والدين لا يمكن أن يكون عن طريق البيان الشرعي بل يجب أن يكون عن طريق العقل.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|