المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الفقه الاسلامي واصوله
عدد المواضيع في هذا القسم 7456 موضوعاً
المسائل الفقهية
علم اصول الفقه
القواعد الفقهية
المصطلحات الفقهية
الفقه المقارن

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
الحث على المشاورة والتواضع
2024-04-24
معنى ضرب في الأرض
2024-04-24
معنى الاصعاد
2024-04-24
معنى سلطان
2024-04-24
معنى ربيون
2024-04-24
الإمام علي (علي السلام) وحديث المنزلة
2024-04-24

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


مفهوم الشرط  
  
1568   12:08 مساءاً   التاريخ: 9-8-2016
المؤلف : تقريرا لبحث السيد الخميني - بقلم الشيخ السبحاني
الكتاب أو المصدر : تهذيب الأصول
الجزء والصفحة : ج2. ص.100
القسم : الفقه الاسلامي واصوله / علم اصول الفقه / المباحث اللفظية /

هل الجمل الشرطية تدلّ على الانتفاء عند الانتفاء مع الخلوّ عن القرينة ؟ فيها خلاف :

نسب بعض الأكابر ـ أدام الله أظلاله ـ إلى المتقدّمين : أنّ النكتة الوحيدة في دلالة القضايا على المفهوم ـ شرطية كانت أو وصفية أو غيرهما ـ هي شيء واحد غير مربوط بالدلالات اللفظية ، ومجمله : أنّ الغرض الوحيد في الكلام عند العقلاء هو الإفادة والاستفادة ، فكما هو أصل متّبع في أصل الكلام فهكذا هو أصل في قيوده الواردة فيه .

وتوضيحه : أنّ الأصل العقلائي في كلّ فعل صادر من شاعر مختار ـ ومنه الكلام  ـ بما أ نّه فعله هو الحمل على أنّه صدر لغرض لا لغواً .

ثمّ في الكلام أصل آخر ; وهو أنّ صدوره للتفهيم لا لغرض آخر ; لأنّه آلة التفهيم ، واستعماله لغيره خلاف الأصل ، ولو شكّ في الاستعمال الحقيقي والمجازي يحمل على الأوّل . ولا إشكال في جريان الأصل العقلائي في القيود الزائدة في الكلام ، فإذا شكّ في قيد أ نّه أتى به لغواً أو لغرض يحمل على الثاني ، وإذا شكّ أ نّه للتفهيم أو غيره حمل على الأوّل ، وما يكون القيود آلة لتفهيمه هو يرجع إلى دخالتها في الموضوع ، وأنّ إتيان الموضوع مقيّداً لأجل كون الموضوع هو الذات مع القيد ، وهذا ليس من قبيل الدلالات اللفظية ، كما مرّ . فتحصّل من ذلك : أنّ إتيان القيد يدلّ على دخالته في الحكم ، فينتفي عند انتفائه ، من غير فرق بين الشرط والوصف وغيرهما ، هـذا حاصل ما قرّره دام ظلّه(1) .

والحقّ : أنّ هذا التقرير لا يفيد شيئاً ما لم يضمّ إليه شيء آخر ; وهو أنّ عدم الإتيان بشيء آخر في مقام البيان يدلّ على عدم قرين له ، وبه يتمّ المطلوب ، وإلاّ مجرّد عدم لغوية القيود لا يدلّ على المفهوم ما لم تفد الحصر .

وهو أحد الطرق التي تشبّث به المتأخّرون ، وسيأتي تقريره مع جوابه . ومحصّل تقريره : أنّ المتكلّم إذا كان في مقام بيان موضوع حكمه فلابدّ أن يأتي بكلّ ما يتقوّم به طبيعة الحكم ، فلو أتى ببعض دون بعض لأخلّ بغرضه ، فلو كان المقوّم لوجوب الإكرام أحد الأمرين من المجيء والتسليم لما كان له ذكر أحدهما وحذف الآخر .

وحكم المقام حكم باب المطلقات ، فكما يعلم من عدم ذكر الإيمان عدم دخالته فهكذا المقام ; إذ المفروض أ نّه بصدد بيان ما يتوقّف عليه طبيعة الإكرام .

وأنت خبير : أنّ ضمّ هذه المقدّمة إلى الاُولى لا يفيد في إثبات المدّعى أيضاً ; لأنّ كون المتكلّم في مقام البيان لا يقتضي عدا أن يبيّن ما هو تمام الموضوع لوجوب الإكرام المسوق له الكلام ، والمفروض أنّه بيّنه ; حيث قال : «إن جاءك زيد فأكرمه» ، وأمّا إذا فرضنا أنّ للإكرام موضوعاً آخر ـ وهو تسليم زيد ـ فلزوم بيانه لم يدلّ عليه دليل ، ولا يعدّ عدم بيانه نقضاً للغرض ولا كلامه لغواً .

 

مثلاً قوله : «إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء» يدلّ باعتبار التقييد بالكرّ على أنّ ذات الماء ليس موضوعاً للحكم ، وإلاّ لكان القيد لغواً ، ويدلّ على أنّ هذا الموضوع المقيّد تمام الموضوع للحكم ، ولا يكون قيد آخر دخيلاً فيه ، وإلاّ كان عليه البيان .

وأمّا عدم نيابة قيد آخر عن هذا القيد وعدم صدور حكم آخر متعلّقاً بالجاري أو النابع فليس مقتضى التقييد ولا مقتضى الإطلاق .

 وقياس المقام بالمطلق بالجاري أو النابع فليس مقتضى التقييد ولا مقتضى الإطلاق وقياس المقام بالمطلق قياس مع الفارق ; إذ الشكّ هنا في نيابة قيد عن آخر بعد تمامية قيود الحكم المسوق له الكلام ، والشكّ هناك في تمامية قيود الحكم المسوق له ، وأنّه هل هو تمام الموضوع أو لا ؟

وأمّا المتأخّرون : فقد استدلّوا بوجوه غير نقية عن الإشكال ، كلّها مسوقة لإثبات كون القيد علّة منحصرة ، وظاهر ذلك كون الترتّب العلّي أو مطلق الترتّب من المسلّمات عندهم ، مع إمكان منع الأوّل ، بل كفاية مطلق الملازمة العرفية لصحّة قولنا «لو جاء زيد لجاء عمرو» إذا كانا مصاحبين غالباً بلا تجوّز أيضاً . نعم لو لم يكن بينهما ملازمة مطلقاً لما صحّ استعمال الأداة إلاّ بنحو من العناية .

ومن الوجوه المستدلّ بها : دعوى تبادر العلّة المنحصرة من القضية(2)  أو انصرافها إليها(3)، وإثباته على المدّعي ، مع شيوع الاستعمال في غيرها بلا عناية . وما ربّما يدّعى من الأكملية(4)  فهو كما ترى .

ومنها : التمسّك بإطلاق أداة الشرط لإثبات الانحصار ، كالتمسّك بإطلاق الأمر لإثبات كونـه نفسياً تعيينياً(5) . وما ربّما يورد عليه من أنّ الإطلاق فرع التقييد ، ومعاني أدوات الشرط آليات لا تقبل التقييد ، فكيف يؤخذ بإطلاقها(6) ؟ فمدفوع بما مرّ ; من أنّ التقييد يمكن أن يكون بلحاظ ثان ، وتقدّم الوجوه الاُخر في ذلك ، فراجع(7) .

نعم ، الإشكال كلّه في أصل الاستدلال ; لما عرفت في باب الأوامر من أنّ الأقسام كلّها تتميّز عن المقسم بقيود خارجة منه ، وإلاّ لزم أن يكون القسم عين المقسم ، وهو باطل ، فالإطلاق لا يثبت نفسية الأمر ولا غيريته ، بل كلّ منهما متميّز عن نفس الطلب بقيد خاصّ ، فلا يعقل أن يكون عدم بيان قيد مثبتاً لقيد آخر .

فالحكم في المقيس عليه باطل ، فكيف المقيس ؟ ! لأنّ الترتّب العلّي ينقسم إلى قسمين : انحصاري وغير انحصاري ، فكلّ واحد مشتمل على خصوصية زائدة على مقسمه ، فلا معنى لإثبات أحدهما بعدم البيان ، على أنّ القياس مع الفارق ، يعلم ذلك بالتأمّل .

ومنها : التمسّك بإطلاق الشرط ; حيث إنّه لو لم يكن بمنحصر يلزم تقييده ; ضرورة أ نّـه لو قارنه أو سبقه الآخـر لما أثّر وحـده ، وقضيـة إطلاقـه أنّه يؤثّر كذلك مطلقاً(8) .

وفيه : أنّ معنى الإطلاق ليس أنّ الشرط مؤثّر ; سواء قارنه الآخر أم سبقه أم لحقه ، أو أنّ ذلك مؤثّر وحده بل لا يفيد الإطلاق ـ أي عدم ذكر القيد في مقام البيان  ـ إلاّ كون الشيء تمام الموضوع للحكم ، وأنّه لو كان شيء آخر دخيلاً كان عليه البيان .

وأمّا لزوم بيان ما هو قرين لهذا الموضوع في تعلّق الحكم فلم يدلّ عليه دليل ; لعدم لزوم نقض الغرض . وما ذكر في الاستدلال من أ نّه لو لم يكن بمنحصر لزم تقييده ، فلم يعلم له وجه صالح .

 

وإن شئت قلت : إنّ الإطلاق في مقابل التقييد ، وكون شيء آخر موضوعاً للحكم أيضاً لا يوجب تقييداً في الموضوع بوجه .

وأمّا قضية الاستناد الفعلي بالموضوع مع عدم قرين له قبله وبعده فهو شيء غير راجع إلى الإطلاق والتقييد ; فإنّ الاستناد واللااستناد في الوجود الخارجي بالنسبة إلى المقارنات الخارجية غير مربوط بمقام جعل الأحكام على العناوين ; فإنّ الدليل ليس ناظراً إلى كيفيـة الاستناد في الوجود ; فضلاً عن النظر إلى مزاحماته فيه .

وكيف كان فالإطلاق غير متكفّل لإحراز عدم النائب ; وإن كان كفيلاً لإحراز عدم الشريك ـ أي القيد الآخر ـ ولو فرض إحراز كون المتكلّم بصدد بيان العلّة المنحصرة أو الموضوع المنحصر فهو غير مربوط بمفهوم الشرط ، بل مع هذا يفهم الحصر مع اللقب أيضاً ، لكنّه لأجل القرينة لا لأجل المفهوم الذي وقع مورد النزاع .

ومنها : ما نقلـه المحقّق المحشّي في تعليقته الشريفـة ، وأشار إليه بعض الأكابر ـ  دام ظلّه ـ (9)  وهـو أنّ مقتضى الترتّب العلّي أن يكون المقدّم بعنوانـه الخاصّ علّة ، ولو لم تكن العلّة منحصرة لزم استناد التالي إلى الجامع بينهما ، وهو خلاف ظاهر الترتّب على المقدّم بعنوانه(10) .

وفيه ـ مضافاً إلى ما قدّمناه من صحّة استعمال القضية الشرطية في مطلق المتلازمين ، فالعلّية والمعلولية ممّا لا أصل لهما في المقام ـ أنّه يرد عليه أنّ قياس التشريع بالتكوين منشأ لاشتباهات نبّهنا على بعضها(11) ; لأنّ العلّية والمعلولية في المجعولات الشرعية ليست على حذو التكوين; من صدور أحدهما عن الآخر حتّى يأتي فيهما القاعدة المعروفة ; إذ يجوز أن يكون كلّ من الكرّ والمطر والجاري دخيلاً في عدم الانفعال مستقلاًّ بعناوينها ، كما هو كذلك .

على أنّ القاعدة مختصّة للبسيط البحت دون غيره .

ولو أغمضنا عن ذلك كلّه لا يمكن الإغماض عن أنّ طريق استفادة الأحكام من القضايا هو الاستظهارات العرفية ، لا الدقائق الفلسفية ، فتدبّر .

ومنها : ما يظهر عن بعض الأعاظم ، وحاصلة : جواز التمسّك بإطلاق الجزاء دون الشرط ; قائلاً أنّ مقدّمات الحكمة إنّما تجري في المجعولات الشرعية ، ومسألة العلّية والسببية غير مجعولة ، وإنّما المجعول هو المسبّب على تقدير وجود سببه ، فلا معنى للتمسّك بإطلاق الشرط، بل مقدّمات الحكمة تجري في جانب الجزاء ، من حيث عدم تقييده بغير ما جعل في القضية من الشرط ، مع كونه في مقام البيان ، ويحرز كونه في مقامه من تقييد الجزاء بالشرط.

ودعوى كونه في مقام البيان من هذه دون سائر الجهات فاسدة ; فإنّه لو بني على ذلك لانسدّ باب التمسّك بالإطلاقات في جميع المقامات ; إذ ما من مورد إلاّ ويمكن فيه هذه الدعوى(12) ، انتهى ملخّصاً .

وفيه أوّلاً : أنّ لازم ما ذكره عدم التمسّك بالإطلاق في أغلب الموارد ; لأنّ مصبّ الإطلاق في قول الشارع مثلاً «اعتق رقبة» إن كان مفاد الهيئة فهو معنى حرفي غير قابل لجريان مقدّماته فيها على مذهب القائل ، وإن كان مادّتها أو نفس الرقبة فليستا من المجعولات الشرعية . وما هذا إلاّ أنّ إجرائها لا ينحصر بالمجعولات الشرعية ، بل الغالب جريانها فيما له أثر شرعي .

مثلاً إذا قال : «إن ظاهرت فاعتق رقبة» ، وشكّ في اعتبار قيد في الرقبة تجري المقدّمات في نفس الرقبة التي جعلت موضوع الحكم ، وكذا يتمسّك بإطلاق المادّة لو شكّ في كيفية العتق ، مع عدم كونهما مجعولين شرعاً ، فكما يقال في مثل ما ذكر : أنّ ما جعل موضوعاً أو متعلّقاً هو تمامهما ، وإلاّ لكان عليه البيان فكذا يقال في المقام : لو كان شيء آخر دخيلاً في الشرط لكان عليه البيان ، وهذا غير مربوط بجعل السببية والعلّية .

وثانياً : أنّ ما أورده في إثبات إطلاق الجزاء عين ما ردّه في ناحية الشرط ، وما الفرق بين المقامين ؟ ! مع قطع النظر عمّا ذكـره ; مـن حديث عـدم مجعوليـة العلّية والسببية .

وثالثاً : أنّ منع مجعولية السببية والعلّية في غير محلّه ، وسيوافيك في محلّه بإذن الله جواز جعلهما ، فارتقب(13) .

بقي اُمور :

الأمر الأوّل : في كون المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم:

لا إشكال في انتفاء شخص الحكم بانتفاء شرطه أو قيده عقلاً ، من غير أن  يكون لأجل المفهوم، فإذا وقف على أولاده العدول أو إن كانوا عدولاً فانتفاؤه مع سلب العدالة ليس للمفهوم، بل لعدم الجعل لغير مورده .

كما أ نّه لا إشكال فيما إذا كان مفاد الجزاء حكماً كلّياً ممّا عبّر بالمعنى الاسمي في أنّ انتفائه لأجل المفهوم ، كقولك «إذا جاء زيد يكون إكرامه واجباً» .

الإشكال فيما إذا كان مفاد الجزاء معنى حرفياً

نعم ، وقع الإشكال في مثل «إذا جاء فأكرمه» ; حيث إنّ المجعول فيه هو الحكم الجزئي باعتبار خصوصية الموضوع له في المعاني الحرفية ; لأنّ انتفاء الإنشاء الخاصّ بانتفاء بعض قيوده عقلي(14) .

وأجاب المحقّق الخراساني : بأنّ المجعول هو نفس الوجوب الذي هو مفاد الصيغة ، وأ مّا الشخص والخصوصية فمن طوارئ الاستعمال(15) .

وفيه : ما عرفت من أنّ معاني الحروف خاصّة ، ولا يتصوّر الجامع لها(16) .

والتحقيق في الذبّ : ما يستفاد من كلمات الشيخ الأعظم في طهارته(17)  بتوضيح منّا وهو أنّ ظاهر القضية وإن كان ترتّب بعث المولى على الشرط ، إلاّ أنّه ما لم تكن مناسبة بين الشرط ومادّة الجزاء كان طلب إيجاد الجزاء عند وجود الشرط لغواً وجزافاً ، فالبعث المترتّب يكشف عن كونهما بمنزلة المقتضي ـ  بالكسر  ـ والمقتضى ، فيتوصّل في بيان ذلك الأمر بالأمر بإيجاده عند ثبوته ، ويجعل بعثه عنواناً مشيراً إلى ذلك .

فحينئذ : فالمترتّبان هو ذات الشرط ومطلق الجزاء الذي تعلّق به الحكم بلا  خصوصية للحكم المنشأ ، فيشبه الجمل الإخبارية في عموم المجعول .

وبعبارة أوضح : أنّ ظاهر القضايا بدواً وإن كان تعليق الوجوب على الشرط لكن حكم العقل والعقلاء في مثل تلك القضايا أنّ لطبيعة مادّة الجزاء مناسبة مع الشرط تكون سبباً لتعلّق الهيئة بها ، فيكون الإيجاب المتعلّق بالمادّة في الجزاء متفرّعاً على التناسب الحاصل بينهما .

فإذا قال : «إن أكرمك زيد أكرمه» يفهم العرف والعقلاء منه أنّ التناسب الواقعي بين الإكرامين دعا المولى لإيجابه عند تحقّقه ، وإلاّ كان التفرّع لغواً .

وحينئذ : إذا فرض دلالة الأداة على انحصار العلّة تدلّ على أنّ التناسب بينهما يكون بنحو العلّية المنحصرة ففي الحقيقة يكون التناسب موجوداً بين طبيعة ما يتلوا أداة الشرط ومادّة الهيئة ، فإذا دلّت الأداة على الانحصار تمّ الدلالة على المفهوم ; وإن كان مفادها جزئياً .

 

وبعبارة اُخرى : أنّ الهيئة وإن كانت دالّة على البعث الجزئي لكنّ التناسب بين الحكم والموضوع يوجب إلغاء الخصوصية عرفاً ، ويجعل الشرط علّة منحصرة لنفس الوجوب وطبيعية ، فبانتفائه ينتفي طبيعي الوجوب وسنخه .

وبما ذكرنا يظهر ضعف ما أفاده بعض الأكابر ـ أدام الله أظلاله ـ من أنّا لا  نتعقّل لسنخ الحكم وجهاً معقولاً ; لوضوح أنّ المعلّق في قولك «إن جاءك زيد فأكرمه» هو الوجوب المحمول على إكرامه ، والتعليق يدلّ على انتفاء نفس المعلّق عند انتفاء المعلّق عليه ، فما فرضته سنخاً إن كان متّحداً مع هذا المعلّق موضوعاً ومحمولاً فهو شخصه لا سنخه ; إذ لا تكرّر في وجوب إكرام زيد ، وإن كان مختلفاً معه في الموضوع كإكرام عمرو ، أو محمولاً كاستحباب إكرام زيد فلا معنى للنزاع(18) ، انتهى . ووجه الضعف ظاهر ، فلا نطيل المقام .

الأمر الثاني : في تعدّد الشرط واتّحاد الجزاء:

إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء ، كمـا في «إذا خفي الأذان فقصّر» ، و  «إذا خفي الجدران فقصّر» ; فبناءً على ظهور الشرطية في المفهوم يقع التعارض بينهما إجمالاً ، فهل التعارض بين المنطوقين أوّلاً وبالذات ، أو بين مفهوم كلّ منهما ومنطوق الآخر ؟

الظاهر : هو الأوّل على جميع المباني في استفادة المفهوم :

أمّا على القول بأنّ المتبادر هو العلّة المنحصرة فلأنّ حصر العلّية في شيء ينافي إثباتها لشيء آخر ; فضلاً عن حصرها فيه ; ضرورة حصول التنافي بين قوله : العلّة المنحصرة للقصر خفاء الأذان ، وقوله : العلّة المنحصرة له خفاء الجدران .

وهكذا على القول بأنّها منصرفة إلى المنحصرة ، فالتعارضين يقع بين الانصرافين الواقعين في أدوات الشرط .

وكذا على القول بأنّ الانحصار مقتضى الإطلاق ; لوقوع التعارض بين أصالتي الإطلاق في الجملتين .

وأمّا العلاج والتوفيق بينهما : فيختلف كيفيته باختلاف المباني في استفادة المفهوم ; فإن كان المبنى هو وضع الأداة للعلّة المنحصرة فلا محيص عن القول بتساقط أصالتي الحقيقة من الجانبين إذا لم يكن بينهما ترجيح ، كما هو المفروض ; لعدم ترجيح بين المجازات .

وكون العلّة التامّة أقرب إلى المنحصرة واقعاً لا يكون مرجّحاً في تعيينه ; لأنّ وجه التعيين هو الاُنس الذهني الذي يرجع إلى الظهور العرفي .

وإن كان الأساس في الاستفادة هو الانصراف بعد وضعها لمطلق العلّية فالساقط هو الانصرافان، ويكون أصالة الحقيقة في كلّ منهما محكّمة بينهما . ونظير ذلك لو قلنا : إنّ الوضع لمطلق اللزوم أو الترتّب أو غيرهما .

وأمّا إذا كان وجه الاستفادة هو الإطلاق فحينئذ إن قلنا : إنّ الأداة موضوعة للعلّـة التامّة فمع تعارض أصالتي الإطلاق يؤخذ بأصالة الحقيقة بلا تعارض بينهما ، وإن قلنا : إنّ العلّية التامّة ـ كالانحصار أيضاً ـ مستفادة من الإطلاق فللبحث فيه مجال .

فمقتضى إطلاق قوله : «إذا خفي الأذان فقصّر» هو أنّ خفاء الأذان مؤثّر بلا شريك ، وأنّ هذا مؤثّر بلا عديل . وقس عليه قوله «إذا خفي الجدران فقصّر» ، ففي كلّ واحد من الجانبين إطلاقان : أصالة الانحصار وأصالة الاستقلال ، فحينئذ كما يحتمل أن يكون خفاء الجدران قيداً لخفاء الأذان يحتمل أن يكون عدلاً له ، فيقع التعارض بين أصالتي الإطلاق ; أي من جانب نفي الشريك ومن جهة نفي العديل ، ومع عدم المرجّح يرجع إلى الاُصول العملية .

 

فإن قلت : إنّ الانحصار مرتفع بالعلم التفصيلي إمّا لورود تقييد للإطلاق المثبت للانحصار ، أو لأجل وروده على الإطلاق المفيد لاستقلال كلّ منهما في العلّية ، فيرتفع الانحصار أيضاً لأجل ارتفاع موضوعه ، وهو علّية كلّ واحد مستقلاًّ .

وبعبارة أوضح : أنّ العلم الإجمالي بورود قيد ; إمّا على الإطلاق من جهة نفي الشريك ، و إمّا عليه من جهة نفي البديل يوجب انحلاله إلى علم تفصيلي بعدم انحصار العلّة لأجل تقييد الإطلاق من جهة البديل ، أو لأجل تقييده من جهة الشريك ، فيرتفع موضوع الإطلاق من جهة البديل ، وإلى شكّ بدوي ; للشكّ في تقييد الإطلاق من جهة الشريك ، فيتمسّك بأصالة الإطلاق .

قلت : إنّ الانحلال فيه إلى علم قطعي وشكّ بدوي من آثار العلم الإجمالي برفع أحد الإطلاقين ، فكيف يرفع الأثر مؤثّره ؟

وإن شئت قلت : العلم بارتفاع الانحصار معلول للعلم بارتفاع الاستقلال أو الانحصار ، ولا يعقل حفظ العلم الثاني إلاّ بحفظ العلم الأوّل على حاله ، فكيف يمكن أن يكون رافعاً له ؟

وبالجملة : قد سبق في باب مقدّمة الواجب(19)  أنّ الانحلال أينما كان يتقوّم بالعلم التفصيلي بأحد الأطراف والشكّ في الآخر ، كما في الأقلّ والأكثر ، وفيما نحن فيه لا يكون كذلك ; لأنّ العلم الإجمالي محفوظ ومنه يتولّد علم تفصيلي آخر ، وفي مثله يكون الانحلال محالاً ، فيجب الرجوع إلى قواعد اُخر .

فإن قلت : إنّ الذي يفكّ به العقدة هو أ نّه لابدّ من رفع اليد بمقدار يرفع المعارضة ; وهو خصوص الانحصار لا العلّية .

والسرّ فيه : هو أنّ الموجب لوقوع المعارضة إنّما هو ظهور كلّ من القضيتين في المفهوم ، وبما أنّ نسبة كلّ من المنطوقين بالإضافة إلى مفهوم القضية الاُخرى نسبة الخاصّ إلى العامّ فلابدّ من رفع اليد عن عموم المفهوم في مورد المعارضة ، وأمّا رفع اليد عن الإطلاق المفيد للعلّية فهو وإن كان موجباً لرفع الانحصار إلاّ أنّه بلا موجب .

قلت : مرجع ما ذكرت إلى تقديم رجوع القيد إلى الإطلاق المفيد للانحصار لا المفيد للاستقلال ، وهو أوّل الكلام ; ضرورة دوران الأمر بين رجوع القيد ، كخفاء

الجدران ـ مثلاً ـ إلى الإطلاق من حيث الاستقلال حتّى يصير الموضوع للحكم بالقصر مجموع خفاء الأذان والجدران ، أو إلى الإطلاق من حيث الانحصار حتّى يكون الموضوع متعدّداً ، خفاء الأذان مستقلاًّ وخفاء الجدران كذلك ، ومع هذا العلم الإجمالي يقع التعارض بين أصالتي الإطلاق في كلّ قضية منهما لا في قضيتين ، ولا رافع للتعارض ولا ترجيح في البين .

وما ذكرنا هو حال الدليلين ، كلٌّ مع صاحبه ، فهل يدلاّن على عدم مدخلية شيء آخر شريكاً معهما أو عديلاً لهما ؟

الظاهر ذلك لو قلنا : إنّ الدلالة على الانحصار والاستقلال بالإطلاق ; للزوم رفع اليد عن الإطلاق بمقدار الدليل على القيد ، بخلاف ما لو قلنا : إنّها بالوضع أو الانصراف ; لعدم الدليل على عدم المدخلية بعد رفع اليد عن المعنى الحقيقي أو الانصرافي .

الأمر الثالث في تداخل الأسباب والمسبّبات :

إذا تعدّد الشرط واتّحد الجزاء فهل اللازم لزوم الإتيان بالجزاء متعدّداً حسب تعدّد الشرط ، أو يكتفى بإتيانه دفعة واحدة ؟ وقبل الخوض نقدّم مقدّمات :

 

الاُولى : في تحرير محل النزاع :

إنّ محطّ البحث ما إذا فرغنا عن تأثير كلّ واحد من الشروط مستقلاًّ في البعث نحو الجزاء ، لو لم يكن معه غيره ، ولكن نشكّ في حال اجتماعهما في التداخل وعدمـه ، وهذا مثل الجنابة والحيض والنفاس ; فإنّ كلاًّ منها سبب مستقلّ إذا انفرد ، والبحث في كفاية غسل واحد عن الجميع حال اجتماعها .

وأمّا إذا احتملنا أنّ الشروط ترجع إلى شرط واحد ويكون كلّ واحد جزءً للسبب فهو خارج من محطّ البحث في تداخل الأسباب والمسبّبات .

الثانية : في المراد من تداخل الأسباب والمسبّبات:

المراد من تداخل الأسباب هو أنّ كلّ واحـد من الشروط لا يقتضي إلاّ إيجـاد صرف الطبيعة غير مغاير مع ما يطلبه الآخر ، وتعلّق البعثين بها لا يكشف عن أنّ هنا تكاليف متعدّدة مجتمعة في مصداق واحد ، بل هنا تكليف واحد ; وإن تعدّدت الأسباب ، ولهذا يكون التداخل عزيمة لا رخصة ، فيقال : إنّ الجنابة والحيض وغيرهما وإن تعدّدت إلاّ أ نّها حال الاجتماع لا يقتضي إلاّ غسلاً واحداً وجزاءً فارداً .

والمراد من تداخل المسبّبات ـ بعد الفراغ من عدم تداخل الأسباب ، وأنّ كلّ سبب يقتضي مسبّباً ـ هو أنّ الاكتفاء بمصداق واحد جائز في مقام امتثال تكاليف عديدة ، كما إذا أكرم العالم الهاشمي ممتثلاً كلّ واحد من الأمرين المتعلّقين بإكرام العالم والهاشمي ، وهذا المثال وإن كان خارجاً من المقام إلاّ أ نّه يقرّب من وجه ، وحينئذ إذا كانت العناوين المكلّف بها قهرية الانطباق على المصداق ، وكانت التكاليف توصّليات يكون التداخل عزيمة ، وإلاّ يكون رخصة .

الثالثة : في اختصاص النزاع بالماهية القابلة للتكثّر إنّ النزاع فيما إذا كان الجزاء ماهيـة قابلـة للتكثّر كالغسل .

وأمّا إذا كانت غير قابلة له كالقتل فيما إذا ارتدّ وارتكب زناً عن إحصان فخارج من البحث .

نعم قد يقال : إنّ الجزاء غير القابل للتكثّر إن كان قابلاً للتقييد يكون داخلاً في النزاع ، كالخيار القابل للتقييد بالسبب ، كالتقييد بالمجلس والحيوان والعيب وغيرها ، مع أ نّه أمر واحد ; وهو ملك فسخ العقد وإقـراره . ومعنى تقيّده بالسبب هـو أ نّه يلاحظ الخيار المستند إلى المجلس ، فيسقطه أو يصالح عليه ويبقى له الخيار المستند إلى الحيوان ، وكالقتل لأجـل حقوق الناس ; فلو قتل زيـد عمراً وبكراً وخالداً ، فقتله قصاصاً وإن لم يقبل التعدّد إلاّ أ نّه قابل للتقييد بالسبب ; أي يلاحظ استحقاق زيد للقتل باعتبار قتله عمراً ، فلو أسقط ورثة عمرو حقّ القود لم  يسقط حقّ ورثة بكر وخالد(20) ، انتهى .

وفيه : أنّ الخيار إذا كان واحداً غير قابل للتكثّر مع اجتماع الأسباب عليه فلا  يمكن إسقاطه من قِبَل أحدها وإبقاؤه من قبل غيره ; لأنّ الإسقاط لابدّ وأن  يتعلّق بالخيار الجائي مـن قبل كـذا ، ومع الوحـدة لم يكن ذلك غير الجائي مـن قبل غيره .

وإن كان الخيار متعدّداً بالعنوان ; بحيث يكون خيار المجلس شيئاً غير خيار العيب فيخرج من محلّ البحث ، وإن كان كلّياً قابلاً للتكثّر فيرجع إلى الفرض الأوّل .

وكذا الحال في القتل ; فإنّ حقّ القود إمّا واحد فلا يمكن إسقاطه من قبل سبب وإبقائه من قبل آخر ، أو متعدّد عنواناً ; فيخرج من محلّ البحث ، أو كلّي قابل للتكثّر ; فيدخل في الفرض الأوّل .

 

ثمّ لا يخفى : أنّ عدم قبول القتل للتكثّر غير مربوط بعدم قبول حقّ القود له ، والقائل خلط بينهما .

الرابعة : في إمكان التداخل وعدمه : قبل الخوض في المقصود لابدّ من إثبات إمكان التداخل وعدمه :

أمّا إمكان التداخل ; بمعنى اجتماع أسباب متعدّدة شرعية على مسبّب واحد فلا إشكال فيه ; لأنّ الأسباب الشرعية ليست كالعلل التكوينية حتّى يمتنع اجتماعها ; إذ للشارع جعل النوم والبول سبباً لإيجاب الوضوء في حال الانفراد والاجتماع ـ بناءً على إمكان جعل السببية ـ كما أنّ له جعل إيجاب الوضوء عقيب النوم في حال انفراده وعقيبهما في صورة اجتماعهما .

وأمّا عدم التداخل : فقال بعض الأكابر بامتناعه ، بدعوى أ نّه يمتنع أن يكون متعلّق الوجوب في القضيتين الحيثيـة المطلقة ; لامتناع تعلّق الوجوبين بشيء واحد ، فلابدّ أن يكون كلاهما أو أحدهما مقيّداً ، فيسأل عمّا يقيّد الطبيعة ، فلابدّ أن يكون متعلّق الوجوب في الشرطية الاُولى نفس الطبيعة ، وفي الثانية الطبيعة الاُخرى متقيّدة به ، أو بالعكس . ويمكن التغاير بوجه آخر ; وهو أن يتعلّق الأمر في الاُولى على فرد منها ، وفي الثانية على فرد آخر ، أو بالعكس .

ولكن التقييد ممتنع ; لأنّ النوم قد يكون مقدّماً على البول وقد يكون مؤخّراً عنه ، فلا يصحّ أن يقال في صورة التقدّم : «إذا نمت فتوضّأ وضوءً آخر» . على أنّ ذلك إنّما يصحّ إذا كان كلّ من الخطابين ناظراً إلى الآخر ; بأن يقول : «إذا بلت فتوضّأ وضـوءً غير ما يجب عليك بسبب النوم» والالتزام به مشكل ; بداهة عدم كون كلّ واحـد ناظـراً إلى الآخر ، فالإشكال كلّـه في إمكان التقييد ، لعدم قيد صالح لذلك(21) .

وفيه : أ نّـه إذا ثبت ظهور القضيتين في عـدم التداخـل ، وانحصر الإشكال في تصوير القيد الصالح فلنا تصوير قيد آخـر ـ ولو لم يكن في الكلام ـ بأن يقال : «إذا نمت فتوضّأ مـن قبل النوم ، أو مـن قبل البول» ، وغير ذلك . ومعه لا يجوز رفـع اليد عـن الظاهـر لأجل عـدم معقولية تقييد الجزاء، بل إنّما يرفع عنه اليد لو ثبت امتناع كافّة القيود ، وهـو بمكان مـن المنع، فلا يجوز الالتزام بالتداخل لأجل هذه الشبهة ورفع اليد عن ظاهر الدليل بما ذكر .

فإن قلت : يلزم ـ حينئذ ـ أخذ العلّة في معلوله ; وهو الوجوب المسبّب عن النوم الذي هو علّة لهذا الوجوب المقيّد بالنوم .

قلت : قد مرّ أنّ الأسباب الشرعية ليست كالعلل التكوينية ، على أنّ الأخذ هنا لأجل الإشارة وتميّزه عن الوجوب الآتي من الجهة الاُخرى ، لا أنّ الوجوب قد تعلّق بإيجاد الوضوء المتقيّد بالنوم .

الخامسة : في أنحاء تعدّد الشرط إنّ الشرط قد يكون متعدّداً نوعاً ومختلفاً ماهية ، مثل النوم والبول ، فيقع البحث في أ نّه عند تقارنهما أو تعاقبهما مع عدم تخلّل المسبّب بينهما هل يتداخل الأسباب أو لا ؟ وقد يكون ماهية واحدة ذات أفراد ، فيقع البحث في أ نّه مع تعدّد الفرد هل يتعدّد الجزاء أو لا ؟

نقل آراء الأعلام في تداخل الأسباب والمسبّبات ونقدها والأقوال في المسألة ثلاثة: التداخل مطلقاً (22)، وعدمه كذلك (23)، والتفصيل بين تعدّد الماهية نوعاً وتعدّد الفرد مع وحدتها (24). فيقع الكلام في مقامين :

المقام الأوّل :فيما إذا تعدّد الشرط ماهية ونوعاً:

الاستدلال على عدم تداخل الأسباب فعن العلاّمة في «المختلف» القول بعدم التداخل بأنّه إذا تعاقب السببان أو اقترنا : فإمّا أن يقتضيا مسبّبين مستقلّين أو مسبّباً واحداً ، أو لا يقتضيا شيئاً ، أو يقتضي أحدهما دون الآخر ، والثلاثة الأخيرة باطلة ، فتعيّن الأوّل .

وفي تقريرات الشيخ الأعظم  ـ رحمه الله ـ أنّ الاستدلال المذكور ينحلّ إلى مقدّمات ثلاث(25):

إحداها : دعوى تأثير السبب الثاني ; بمعنى كون كلّ واحد من الشرطين مؤثّراً في الجزاء .

وثانيتها : أنّ أثر كلّ شرط غير أثر الآخر .

وثالثتها : أنّ ظاهر التأثير هو تعدّد الوجود لا تأكّد المطلوب .

ثمّ أخذ في توضيح المقدّمات المذكورة وما يمكن به إثباتها ، فقد ذكر في توجيه أنّ السبب الثاني مستقلّ وجوهاً من البيان(26) ، وأخذ كلّ من تأخّر عنه وجهاً من بياناته ، وكان الجلّ عيالاً عليه :

منها : ما ذكره المحقّق الخراساني ـ بعد إن قلت ـ أنّ ظهور الجملة الشرطية في كون الشرط سبباً أو كاشفاً عن السبب ومقتضياً للتعدّد بيانٌ لما هو المراد من الإطلاق ، ولا دوران بين ظهور الجملة في حدوث الجزاء وظهور الإطلاق ; ضرورة أنّ ظهور الإطلاق يكون معلّقاً على عدم البيان ، وظهورها في ذلك صالح لأن يكون بياناً ، فلا ظهور له مع ظهورها ، فلا يلزم على القول بعدم التداخل تصرّف أصلاً ، بخلاف القول بالتداخل(27) .

أقول : وتوضيح حاله وبيان إشكاله هو أنّ دلالة القضية الشرطية على السببية المستقلّة الحدوث عند الحدوث هل هو بالوضع أو بالإطلاق ؟ وأنّه إذا جعلت الماهية تلو أداة الشرط بلا تقييدها بقيد كما يدلّ على أ نّها تمام الموضوع لترتّب الجزاء عليه ، كذلك يدلّ على استقلالها في السببية سواء سبقها أو قارنها شيء أم لا على اصطلاح القوم في معنى الإطلاق ؟

الظاهر هو الثاني ; لتصريح بعضهم على أنّ دلالة الشرطية على العلّية المستقلّة بالإطلاق(28)، وحينئذ فلو كان الدلالة على السببية التامّة لأجل الوضع كان لما ذكره وجه ; خصوصاً على مذهب الشيخ من أنّ الإطلاق معلّق على عدم البيان(29) ، ولكن لا أظنّ صحّة ذلك ولا ارتضائهم به ، مع ما عرفت سابقاً من ضعفه(30) .

وأمّا على القول بأنّ دلالتها على السببية بالإطلاق فللمنع عمّا ذكر مجال ، وحاصله : أنّ الإطلاق كما هو منعقد في ناحية الشرط فكذلك موجود في جانب الجـزاء ، ولا رجحان في ترجيح أحـدهما على الآخـر بعد كون ثبوتهما ببركـة عدم البيان .

 

وتفصيل ذلك : أنّ مقتضى إطلاق الشرط في كلتا القضيتين هو كون كلّ شرط مستقلاًّ علّة للجزاء ، وتلك الماهيـة مؤثّرة ; سواء كان قبلها أو معها شيء ، أم لم يكن ، ولو كان المؤثّر هو الشرط ، بشرط أن لا يسبقه أو لا يقارنه شيء آخر ، كان عليه البيان ورفع الجهل عن المكلّف، هذا مقتضى إطلاق الشرط .

وأمّا مقتضى إطلاق الجزاء فهو أنّ الجزاء وماهية الوضوء تمام المتعلّق لتعلّق الإيجاب عليها ، بلا تقييدها بما يغايرها مع الجزاء الآخر ، فيكون الموضوع في القضيتين نفس طبيعة الوضوء.

فحينئذ يقع التعارض بين إطلاق الجزاء في القضيتين مع إطلاق الشرط فيهما ، وبتبعه يقع التعارض بين إطلاق الشرطيتين ، ولا يمكن الجمع بين إطلاق الشرط في القضيتين وإطلاق الجزاء فيهما ; لبطلان تعلّق إرادتين على ماهية واحدة بلا تقييد .

 

فيدور الأمر بين رفع اليد عن إطلاق الشرط والاحتفاظ على إطلاق الجزاء ، فيقال : إنّ كلّ شرط مع عدم تقدّم شرط آخر عليه أو تقارنه به مؤثّر مستقلاًّ ، وبين رفع اليد عن إطلاق الجزاء وحفظ إطلاق الشرط بتقييد ماهية الوضوء ، ولا ترجيح لشيء منهما ; لأنّ ظهور الإطلاقين على حدّ سواء ، فلا يمكن أن يكون أحدهما بياناً للآخر .

وبعبارة ثانية : أنّ هنا إطلاقات أربعة في جملتين ; اثنان في جانب الشرط ، وآخران في جانب الجزاء ، ورفع التعارض يحصل تارة بتحكيم إطلاق الشرط فيهما المفيد للاستقلال والحدوث عند الحدوث على إطلاق الجزاء فيهما الدالّ على أنّ نفس الماهيـة تمام المتعلّق بتقييده بأحـد القيود ; حتّى يكون متعلّق الإرادتين شيئين مختلفين .

واُخرى بتحكيم إطلاقه على الشرط ، وتخصيص استقلالهما بما إذا لم يسبق إليه شرط آخر .

وكلا العلاجين صحيح لا يتعيّن واحد منهما إلاّ بمرجّح .

وتوهّم : أنّ ظهور صدر القضية مقدّم على ظهور الذيل فاسد ; لأنّه لو سلّم فإنّما هو بين صدر كلّ قضية وذيلها ، لا بين صدر قضية وذيل قضية اُخرى ، ونحن الآن في بيان تعارض القضيتين ، ولولا ضمّ قضية إلى مثلها لما كان بين صدر قوله : «إذا بلت فتوضّأ» وبين ذيله تعارض حتّى نعالجه ; إذ التعارض ناش من ضمّ قضية إلى مثلها ، كما عرفت .

وممّا ذكره الشيخ في تمهيد المقدّمة الاُولى ما ذكره بعض الأعاظم في تقريراته ، ومحصّله : أنّ تعلّق الطلب بصرف الوجود من الطبيعة وإن كان مدلولاً لفظياً إلاّ أنّ عدم قابلية صرف الوجود للتكرّر ليس مدلولاً لفظياً حتّى يعارض ظاهر القضية الشرطية في تأثير كلّ شرط في جزاء غير ما أثّر فيه الآخر ، بل من باب حكم العقل بأنّ المطلوب الواحد إذا امتثل لا يمكن امتثاله ثانياً ، وأمّا أنّ المطلوب واحد أو متعدّد فلا يحكم به العقل ولا يدلّ عليه اللفظ ، فلو دلّ الدليل على أنّ المطلوب متعدّد لا يعارضه حكم العقل ، فالوجه في تقديم ظهور القضيتين من جهة كونه بياناً لإطلاق الجزاء فهو حقيقة رافع لموضوع حكم العقل(31) ، انتهى .

قلت : قد عرفت أنّ إطلاق الجزاء يقتضي أن يكون بنفسه تمام المتعلّق ، كما أنّ إطلاق الشرط يقتضي أن يكون مؤثّراً مستقلاًّ ; سبقه شيء أو لا ، وحينئذ فما المرجّح لتقديم ظهور الشرط على التالي ، بعد الاعتراف بكون الظهور فيهما مستنداً إلى الإطلاق دون الوضع ؟

ولو كان الوجه في تقديم الشرط معلّقية إطلاق الجزاء بعدم بيان وارد على خلافه فليكن إطلاق الشرط كذلك ; لأنّ إثبات تعدّد التأثير يتوقّف على عدم ورود بيان على خلافه في ناحية الجزاء.

ولنا أن نقول : إنّ حكم العقل بأنّ الشيء الواحد لا يتعلّق به إرادتان وبعثان حقيقيان يكشف عن وحدة المؤثّر والتأثير فالتقديم ما لم يستند إلى مرجّح خارجي بلا وجه .

ومنها : ما ذكره المحقّق المحشّي من أنّ متعلّق الجزاء نفس الماهية المهملة ، فهي بالنسبة إلى الوحدة والتعدّد بلا اقتضاء ، بخلاف أداة الشرط ; فإنّها ظاهرة في السببية المطلقة ، ولا تعارض بين المقتضى واللااقتضاء(32) ، انتهى .

وفيه : أ نّه إن اُريد من الاقتضاء الظهور الإطلاقي للمقدّم فهو بعينه موجود في التالي ، وإن اُريد أنّ إطلاق الشرط تامّ غير معلّق بشيء ـ بخلاف إطلاق الجزاء  ـ فقد تقدّم جوابه ; وأنّ ظهور كلّ من المقدّم والتالي إطلاقي ، لا مرجّح لتقديم أحدهما على الآخر .

نعم ، هنا تقريب أو تقريبان يستفاد من كلام المحقّق الهمداني في «مصباحه» ، وقد سبقه الشيخ الأعظم(33) ، وحاصله : أنّ مقتضى القواعد اللفظية سببية كلّ شرط للجزاء مستقلاًّ ، ومقتضاه تعدّد اشتغال الذمّة بفعل الجزاء ، ولا يعقل تعدّد الاشتغال إلاّ مع تعدّد المشتغل به ; فإنّ السبب الأوّل سبب تامّ في اشتغال ذمّة المكلّف بإيجاد الجزاء .

والسبب الثاني إن أثّر ثانياً وجب أن يكون أثره اشتغالاً آخر ; لأنّ تأثير المتأخّر في المتقدّم غير معقول ، وتعدّد الاشتغال مع وحدة الفعل المشتغل به ذاتاً ووجوداً غير معقول .

وإن لم يؤثّر يجب أن يستند : إمّا إلى فقد المقتضي أو وجود المانع ، والكلّ منتف ; لأنّ ظاهر القضية الشرطية سببية الشرط مطلقاً ، والمحلّ قابل للتأثير ، والمكلّف قادر على الامتثال ، فأيّ مانع من التنجّز ؟ !

وأيضاً ليس حال الأسباب الشرعية إلاّ كالأسباب العقلية ، فكما أ نّه يجب تحقّق الطبيعة في ضمن فردين على تقدير تكرّر علّة وجودها وقابليتها للتكرار ، فكذا يتعدّد اشتغال الذمّة بتعدّد أسبابه(34) ، انتهى .

وقد أفاد شيخنا العلاّمة ـ قدس سره ـ قريباً ممّا ذكره في أواخر عمره(35) ـ بعدما كان بانياً على التداخل سالفاً(36) ـ وقد مضى شطر منه في مبحث التوصّلي والتعبّدي ، فراجع(37) .

أقول : وفيه أنّ كلاًّ من الظهورين مقتض لمدلوله ومانع عن صحّة الاحتجاج بالآخر . وبه يظهر ضعف قوله : إنّ عدم الاشتغال إمّا لعدم المقتضي أو لوجود المانع ، والكلّ منتف ; إذ لنا أن نقول : إنّ المانع موجود ; وهو إطلاق الجزاء المعارض مع إطلاق الشرط ، والدليل على تعدّد الاشتغال والمشتغل به ليس إلاّ الإطلاق ، وهو معارض لمثله .

فإن قلت : إنّ تقييد الجزاء إنّما نشأ من حكم العقل بعد استفادة السببية التامّة من الدليل ، فإطلاق السبب ـ منضمّاً إلى حكم العقل بأنّ تعدّد المؤثّر يستلزم تعدّد الأثر  ـ بيان للجزاء ، ومعه لا مجال للتمسّك بإطلاقه ، وليس المقام من قبيل تحكيم أحد الظاهرين على الآخر حتّى يطالب بالدليل ، بل لأنّ وجوب الجزاء بالسبب الثاني يتوقّف على إطلاق سببيته ، ومعه يمتنع إطلاق الجزاء بحكم العقل ، فوجوبه ملزوم لعدم إطلاقه .

قلت : قد نبّه بذلك المحقّق المزبور في خلال كلماته ; دفعاً للإشكال الذي أوردناه وهو أنّ المانع موجود وهو إطلاق الجزاء وأنت خبير بأنّه غير مفيد ; فإنّه مع اعترافه بأنّ وجوب الجزاء بالسبب الثاني إنّما هو بالإطلاق لا بالدلالة اللغوية فأيّ معنى لتحكيم أحد الإطلاقين على الآخر.

والتخلّص عن امتناع تعدّد المؤثّر مع وحدة الأثر ـ بعد الغضّ عن عدم كون حكم العقل الدقيق مناطاً للجمع بين الأدلّة ، وبعد الإغماض عن أنّ مثل ما نحن فيه ليس من قبيل التأثير التكويني، بل علّة الامتناع هو عدم إمكان تعلّق إرادتين بمراد واحد  ـ كما يمكن بما ذكره كذلك يمكن برفع اليد عن إطلاق الشرط عند اجتماعه مع شرط آخر .

فالعقل إنّما يحكم باستحالة وحدة الأثر مع تعدّد المؤثّر ; وهي تنشأ من حفظ إطلاق الشرطيتين وإطلاق الجزاء ، فلا محيص إمّا عن القول بأنّ الأثر متعدّد أو المؤثّر واحد ، ولا ترجيح بينهما.

وأمّا قياس التكوين بالتشريع فقد صار منشأً لاشتباهات ونبّهنا على بعضها(38) ; إذ المعلول التكويني إنّما يتشخّص بعلّته ، وهو في وجوده ربط ومتدلّ بعلّته ، فيكون في وحدته وكثرته تابعاً لها .

وأمّا التشريع فإن اُريد منه الإرادة المولوية فالإرادة تتعيّن بمرادها وتتشخّص بمتعلّقها ، فهما في أمر التشخّص والتعيّن متعاكسان ، وإن اُريد منه الأسباب الشرعية فليست هي أيضاً بمثابة التكوين ; ضرورة أنّ النوم والبول لم  يكونا مؤثّرين في الإيجاب والوجوب ، ولا في الوضوء، فالقياس مـع الفارق ، بل لابدّ من ملاحظة ظهور الأدلّة ، ومجرّد هذه المقايسة لا يوجب تقديم أحدهما على الآخر .

وأضعف من ذلك ما ربّما يقال : من أنّ المحرّك الواحد يقتضي التحريك الواحد ، والمحرّك المتعدّد يقتضي المتعدّد ، كالعلل التكوينية(39) ; إذ فساده يلوح من خلاله ; لأنّ كون التحريك في المقام متعدّداً غير مسلّم ; إذ يمكن أن نستكشف من وحدة الماهية وكونها متعلّقة بلا قيد أنّ التحريك واحد ، والتكرار في البعث لأجل التأكيد لا  التأسيس .

والإنصاف : أنّ أصحاب القول بعدم التداخل وإن كان مقالتهم حقّة إلاّ أنّ ذلك لا يصحّ إثباته بالقواعد الصناعية كما عرفت ، ولابدّ من التمسّك بأمر آخر ، وقد نبّه بذلك المحقّق الخراساني في هامش «كفايته» وهو : أنّ العرف لا يشكّ بعد الاطلاع على تعدّد القضية الشرطية في أنّ ظهور كلّ قضية هو وجوب فرد غير ما وجب في الاُخرى ، كما إذا اتّصلت القضايا وكانت في كلام واحد(40) .

ولعلّ منشأ فهم العرف وعلّة استيناسه هو ملاحظة العلل الخارجية ; إذ العلل الخارجية بمرأى ومسمع منه ; حيث يرى أنّ كلّ علّة إنّما يؤثّر في غير ما أثّر فيه الآخر ، وهذه المشاهدات الخارجية ربّما تورث له ارتكازاً وفطرة ، فإذا خوطب بخطابين ظاهرهما كون الموضوع فيه من قبيل العلل والأسباب فلا محالة ينتقل منه إلى أنّ كلّ واحد يقتضي مسبّباً غير ما يقتضيه الآخر ; قياساً لها بالتكوين ، بل العرف غير فارق بينهما إلاّ بعد التنبيه والتذكار .

فإذا قيل للعرف الساذج : بأنّ وقوع الفأرة في البئر يوجب نزح عدّة دلاء معيّنة ، وكذا الهرّة ينتقل بفطرته إلى أنّ لوقوع الفأرة ـ مثلا ـ في البئر تناسباً لنزح سبع دلاء ، ولوقوع الهرّة فيها مناسبة كذلك ، وأنّ الأمر إنّما تعلّق به لأجل التناسب بينهما ، وإلاّ كان جزافاً ، وإلى أنّ لوقوع كلّ منهما اقتضاءً خاصّاً بها ، وارتباطاً مستقلاًّ لا يكون في الاُخرى ، وهو يوجب تعدّد وجوب نزح المقدار أو استحبابه ، وهذا يوجب تحكيم ظهور الشرطية على إطلاق الجزاء .

وأمّا ما أبطلناه من مقايسة التشريع بالتكوين فإنّما هو ببرهان عقلي لا يقف عليه العرف الساذج، ولكن هذا الارتكاز وإن كان غير صحيح إلاّ أ نّه ربّما يصير منشأً للظهور العرفي ، ويوجب تحكيم ظهور الشرط على ظهور الجزاء ، فلابدّ من اتّباعه ، فإنّه المحكّم في تلكم المواضع .

هـذا كلّـه راجـع إلـى المقدّمـة الاُولى ; أعني فـرض استقلال كـلّ شـرط فـي التأثير .

ولكنّها وحدها لا تفيد شيئاً ، بل لابدّ من إثبات المقدّمة الثانية ; وهي أنّ أثر الثاني غير أثر الأوّل .

ولقائل أن يمنع هـذه المقدّمة ; لأنّ غايـة ما تلزم من الاُولى مـن استقلالهما في التأثير هـي أنّ الوجـوب الآتي مـن قبل النوم غير الآتي مـن قبل الآخـر ، وذلك لا يوجب إلاّ تعدّد الوجـوب لا تعدّد الواجب ، بل يمكن أن يستكشف مـن  وحـدة المتعلّق كـون ثانيهما تأكيداً لـلأوّل .

ولا يوجب التأكيد استعمال اللفظ في غير معناه ; لأنّ معنى وضع الأمر للوجوب هو وضعها لإيجاد بعث ناش من الإرادة الحتمية ، والأوامر التأكيدية كلّها مستعملة كذلك ; ضرورة أنّ التأكيد إنّما يؤتى به في الاُمور الهامّة التي لا يكتفى فيها بأمر واحد .

وحينئـذ : فكلّ بعث ناش من الإرادة الأكيدة ، ولا معنى للتأكيد إلاّ ذلك ، لا أنّ الثاني مستعمل في عنوان التأكيد أو في الاستحباب أو الإرشاد أو غير ذلك ; فإنّها لا ترجع إلى محصّل ، بل التأكيد لا يمكن إلاّ أن يكون المؤكّد من سنخ المؤكّد ، فلابدّ أن يكون البعثان ناشئين من الإرادة الأكيدة لغرض الانبعاث حتّى ينتزع التأكيد من الثاني .

 

وبعبارة ثانية : أنّ الأسباب الشرعية علل للأحكام ، لا لأفعال المكلّفين ، فتعدّدها لا يوجب إلاّ تعدّد المعلول ـ وهو الوجوب مثلاً ـ فيستنتج التأكيد . ومع حمل الأمر على التأكيد يحفظ إطلاق الشرطيتين وإطلاق الجزاء فيهما ، ولا يوجب تجوّزاً في صيغة الأمر على فرض وضعها للوجوب ; فإنّ المراد من وضعها ليس وضعها له لهذا المفهوم الاسمي ، بل لإيجاد البعث الناشئ من الإرادة الحتمية ، وهو حاصل في المؤكّد ـ بالكسر ـ والمؤكَّد .

أترى من نفسك : أ نّك إذا أمرت ولدك بأوامر مؤكّدة أن تمنع عن كون الثاني والثالث مستعملة في غير معناه . كيف ، وهذا كتاب الله والذكر الحكيم بين ظهْرانَيْنا تتلى آياته آناء الليل والنهار، فهل تجد من نفسك أن تقول : إنّ أوامره المؤكّدة في الصلاة وغيرها ممّا استعملت في غير البعث عن الإرادة الإلزامية ؟

بل ترى كلّها صادرة عن إرادة إلزامية ، وغاية كلّ منها انبعاث المأمور .

نعم ، حمل الأمر على التأكيد يوجب ارتفاع التأسيس ، وهو خلاف ظاهر الأمر ، لكنّه ظهور لا يعارض إطلاق المادّة والشرطية . فإذا دار الأمر بين رفع اليد عن أحد الإطلاقين ورفع اليد عن التأسيس لا ريب في أولوية الثاني ، وفيما نحن فيه إذا حمل الأمر على التأكيد يرفع التعارض بين الإطلاقين .

والحاصل : أنّ ما ذكر لا يقتضي إلاّ رفع اليد من التأسيس الذي يقتضيه السياق ، ولا ضير فيه; لإطباقهم على طرده إذا دار الأمر بينه وبين الأخذ بإطلاق بعض أجزاء الكلام .

وممّا ذكرنا يظهر ضعف ما في مقالات بعض محقّقي العصر ـ رحمه الله ـ من أنّ تأكّد الوجوب في ظرف تكرّر الشرط يوجب عدم استقلال الشرط في التأثير ; لبداهة استناد الوجوب الواحد المتأكّد إليهما ، لا إلى كلّ منهما(41) .

وجه الضعف : أنّ البعث الإلزامي الناشئ من الإرادة الإلزامية متعدّد ، وكلّ منهما معلول لواحد من الشرطيتين ، لا أ نّهما يؤثّران في وجوب واحد متأكّد ; لأنّ التأكيد منتزع من تكرار البعثين وكذا الوجوب المتأكّد أمر انتزاعي منه ، لا أ نّه معلول للشرطيتين .

ثمّ إنّه يظهر من الشيخ الأعظم تحكيم هذه المقدّمة بوجهين :

الأوّل : أنّ الأسباب الشرعية كالأسباب العقلية ، فحينئذ لو كانت الأسباب الشرعية سبباً لنفس الأحكام يجب تعدّد إيجاد الفعل ; فإنّ المسبّب يكون هو اشتغال الذمّة بإيجاده ، والسبب الثاني لو لم يقتض اشتغالاً آخر : فإمّا أن يكون لنقص في السبب أو المسبّب ، وليس النقص في شيء منهما ; أ مّا الأوّل فمفروض ، وأمّا الثاني : فلأنّ قبول الاشتغال للتعدّد تابع لقبول الفعل المتعلّق له ، والمفروض قبوله للتعدّد . واحتمال التأكيد مدفوع بعد ملاحظة الأسباب العقلية(42) ، انتهى .

وفيه أوّلاً : أنّ قياس التشريع بالتكوين قياس مع الفارق ، وقد أوعزنا إلى فساده غير مرّة ، فراجع .

وثانياً : أنّ اشتغال الذمّـة بإيجاد الفعل ليس إلاّ الوجوب على المكلّف ، وليس هاهنا شيء غير بعث المكلّف نحو الطبيعة المنتزع منه الوجوب . فحينئذ تحقّق اشتغال آخر من السبب الثاني فرع تقديم الظهور التأسيسي على إطلاق الجزاء ، وهو ممنوع . بل لو فرض معنى آخر لاشتغال الذمّـة فتعدّده فرع هذا التقديم الممنوع .

وثالثاً : أنّ ما أفاده في ذيل كلامه من أنّ احتمال التأكيد فيما تعلّق بعنوانين أقوى ممّا إذا تعلّق بعنوان واحد لا يخلو من غرابة ; إذ لو عكس لكان أقرب إلى الصواب ; لأنّ الأحكام تتعلّق بالعناوين لا بالمصاديق ، فلا وجه للقول بأنّ الأمر المتعلّق بأحد العناوين تأكيد لما تعلّق بالعنوان الآخر . نعم لو تعلّقا بعنوان واحد لكان للتأكيد مجال واسع .

وأعجب من ذلك : ما أفاده من أنّ الأحكام الكلّية في عرض واحد ، فلا مجال لتأكيد أحدهما الآخر إلاّ إذا كان متعلّقها الاُمور الخارجية مع فرض تأخّر أحدهما عن الآخر ; وذلك لأنّ مدار التأكيد هو تشخيص العرف دون التقدّم والتأخّر ، بل لو فرض إمكان التكلّم بشيء واحد مرّتين في آن واحد لحكم العرف بأنّ المتكلّم أتى بشيء موكّد ، كما هو كذلك في البعث اللفظي المقارن للإشارة الدالّة عليه . نعم لو تأخّر أحدهما ينتزع التأكيد من المتأخّر .

الثاني من الوجهين : الالتزام بأنّ الأسباب أسباب لنفس الأفعال لا الأحكام ، ولا يلزم منه الانفكاك بين العلّة والمعلول ; لأنّها أسباب جعلية لا عقلية ولا عادية ، ومعنى السبب الجعلي أنّ لها نحو اقتضاء في نظر الجاعل بالنسبة إلى المعلول .

وبعبارة اُخرى : أنّ ظاهر الشرطيـة كونه مقتضياً لوجود المسبّب ، وأنّ اقتضائه لوجوبه من تبعات اقتضائه لوجوده . وحيث إنّ اقتضائه التشريعي لوجود شيء كونه موجباً لوجوبه ، وحينئذ لازم إبقاء ظهور الشرط في المؤثّرية المستقلّة اقتضاؤه وجوداً مستقلاًّ ، انتهى .

قلت : هذا الوجه ممّا لم يرتضه الشيخ نفسه ; حتّى قال : إنّـه لا يسمن شيئاً(43) ، ولكن ارتضاه بعض محقّقي العصر ـ رحمه الله ـ  ، واعتمد عليه في «مقالاته»(44) .

والإنصاف : أ نّه لا يسمن ولا يغني من جوع ; إذ بعد الاعتراف على أنّ معنى السببية الجعلية هو الاقتضاء لا المؤثّرية الفعلية ـ فراراً عن انفكاك العلّة عن معلولها  ـ فلا منافاة بين استقلال الاقتضاء وعدم تعدّد الوجود ; لأنّ معنى استقلاله أنّ كلّ سبب بنفسه تمام المقتضي لا جزؤه ، ولا يتنافى الاستقلال في الاقتضاء والاشتراك في التأثير الفعلي .

فحينئذ مع حفظ إطلاق الجزاء واستقلال الشرطيتين في الاقتضاء صارت النتيجة التداخل .

وأمّا ما أفاده بقوله لازم إبقاء ظهور الشرط في المؤثرية المستقلّة اقتضاؤه وجوداً مستقلاًّ فرجوع عن أنّ السببية الجعلية عبارة عن نحو اقتضاء بالنسبة إلى المعلول ، لا المؤثّرية الفعلية الاستقلالية .

فالأولى : التمسّك بذيل فهم العرف في إثبات تعدّد الجزاء وجوداً لأجل مناسبات مغروسة في ذهنه ، كما أشرنا إليها ; ولهذا لا ينقدح في ذهنه التعارض بين إطلاق الجزاء وظهور الشرطية في التعدّد ، بل يحكم بالتعدّد من غير التفات إلى إطلاق الجزاء .

في تداخل المسبّبات ثبوتاً و إثباتاً

ثمّ إنّه بعد تسليم المقدّمتين ـ أعني ظهور الشرطية في استقلال التأثير ، وكون أثر الثاني غير أثر الأوّل ـ لابدّ من البحث في المقدّمة الثالثة من أنّ تعدّد الأثـر هل يوجب تعدّد الفعل أو لا ؟ فيقع البحث تارة في الثبوت ـ أي إمكان تداخل المسبّبين  ـ واُخرى في الإثبات :

فنقول : أ مّا تداخل المسبّبين فقد منع الشيخ الأعظم إمكانه ، وقال : قد قرّرنا في المقدّمة السابقة أنّ متعلّق التكاليف ـ حينئذ ـ هو الفرد المغاير للفرد الواجب بالسبب الأوّل ، ولا يعقل تداخل فردين من ماهية واحدة ، بل ولا يعقل ورود دليل على التداخل أيضاً على ذلك التقدير ، إلاّ أن يكون ناسخاً لحكم السببية(45) ، انتهى .

وفيه : أنّ مراده من الفرد المغاير للفرد الواجب بالسبب الأوّل : إن كان هو الفرد الخارجي ـ كما هو الظاهر ـ فتداخل الفردين غير معقول بلا إشكال ، لكن تعلّق الحكم بالفرد الخارجي ممتنع ; وإن كان المراد هو العنوان القابل للانطباق على الخارج ، وإنّما سمّاه فرداً لكونه تحت العنوان العامّ .

فعدم إمكان تداخل العنوانين من ماهية واحدة غير مسلّم ، بل القيود الواردة على الماهية مختلفة; فقد تكون موجبة لصيرورة المقيّدين متباينين ، كالإنسان الأبيض والأسود ، وقد توجب كون المقيّدين عامّين من وجه ، كالإنسان الأبيض والعالم .

فالوضوء في قوله «إذا نمت فتوضّأ ، وإذا بلت فتوضّأ» ماهية واحدة ، ولأجل تسليم المقدّمتين لابدّ من كونهما مقيّدتين بقيدين ; حتّى يكون كلّ سبب علّة مستقلّة للإيجاب على أحد العنوانين . لكن لا يجب أن يكون بين العنوانين نسبة التباين حتّى يمتنـع تصادقهما على الفرد الخارجي ، فمع عدم قيام دليل على امتناعه لا يجوز رفع اليد عن الدليل الدالّ على التداخل فرضاً .

فقوله ـ قدس سره ـ  : لا يعقل ورود دليل على التداخل فرع إثبات الامتناع ، وهو مفقود ، بل لنا أن نقول : لازم ظهور الشرطيتين فيما ذكر ، ولازم ورود الدليل ـ  مثلاً  ـ على التداخل هو كون المقيّدين قابلين للتصادق .

وأمّا مقام الإثبات : فما لم يدلّ دليل على التداخل لا مجال للقول به ، فلابدّ في مقام العمل من الإتيان بفردين حتّى يحصل اليقين بالبراءة ; للعلم بالاشتغال بعد استقلال الشرطيتين في التأثير، ولفرض أنّ أثر كلّ غير الآخر .

وأمّا دعوى تفاهم العرف تكرار الوضوء من الشرطيتين فعُهدتها على مدّعيها ; لأنّها ترجع إلى دعوى استظهار كون كلّ عنوان مبايناً للآخر ، وهي بمكان من البعد .

المقام الثاني : فيما إذا تعدّد الشرط شخصاً لا نوعاً:

 

لو قال «إذا نمت فتوضّأ» ، وفرضنا أنّ المكلّف نام مكرّراً ، وشكّ في أنّ المصداقين منه يتداخلان في إيجاب الوضوء أو لا ، فربّما يقال بالتفريق بين ما إذا كانت العلّة نفس الطبيعة فيتداخلان ، وبين ما إذا كان السبب هو وجود كلّ فرد مستقلاًّ فلا يتداخلان .

وفيه : أنّ الكلام إنّما هو بعد الفراغ عن سببية كلّ فرد مستقلاًّ لو وجد منفرداً ، وإلاّ فلو فرضنا أنّ السبب هو نفس الطبيعة أو احتملنا ذلك يخرج النزاع من باب تداخل الأسباب ، بل يرجع البحث إلى أنّ السبب واحد أو متعدّد .

نعم ، البحث عن تعدّد السبب أو وحدته من مبادئ المسألة المبحوث عنها هنـا بالفعل ; إذ لابـدّ أن يثبت أوّلاً أنّ السبب هو الفرد لا الطبيعة حتّى يتعدّد السبب ، ثمّ يبحث في تداخل الأسباب وأنّ المصداقين منه يتداخلان في إيجاب الوضوء أو لا ؟

فما أتعب به بعض الأعاظم نفسه الزكية واستظهر انحلال القضية الشرطية وقال بتقديم ظهورها في الانحلال على ظهور الجزاء في الاتّحاد(46)  فأجنبي من حريم النزاع ، مع أ نّه غير خال عن الإشكال ، فتدبّر .

وخلاصة الكلام في هذا المقام : أ نّه لو فرضنا ظهور القضية في سببية كلّ مصداق من البول لإيجاب الوضوء فلا شكّ أ نّه يقع التعارض بين صدر القضية الدالّ على سببية كلّ فرد ، كما إذا صدره بلفظة «كلّما» وبين إطلاق الجزاء ، ولكن الترجيح مع الصدر عرفاً ، فيتقدّم على إطلاق الذيل ; إذ لا شكّ أ نّه إذا سمع العرف بأنّ كلّ فرد سبب لإيجاب الوضوء لا يعتمد على إطلاق الجزاء ، بل يحكم بأنّ كلّ فرد سبب لوجوب خاصّ بلا تداخل الأسباب ، وقد ذكرنا وجه فهمه ومنشأ حكمه .

 

هذا حال تداخل الأسباب ، وأمّا تداخل المسبّبات في هذا المقام فقد قدّمناه في المقام الأوّل ثبوتاً وإثباتاً .

تتمّـة: في أنّ مفهوم العامّ الاستغراقي جزئي لا كلّي:

لابـدّ في أخـذ المفهوم مـن القضية الشرطية مـن حفظ الموضوع مـع تمام ما اعتبر قيداً في طـرف الموضوع أو في طرف الجـزاء ، فمفهوم قولنا : «إن جاءك زيـد راكباً يوم الجمعـة فاضربـه» هـو قولنا إن لم يجئك زيـد راكباً يوم الجمعة فلا يجب عليك ضربـه ، وقس عليه سائـر القيود ، وهـذا ما يعبّر عنه مـن تبعيـة المفهوم للمنطوق .

ومن القيود العامّ المجموعي ، مثل قولك : «إن جاءك زيد أكرم مجموع العلماء» ، وقد تسالم كلّ من قال بالمفهوم أنّ مفهومه هو أ نّه إن لم يجئك لا يجب إكرام مجموعهم ، ولا ينافي ذلك وجوب إكرام بعضهم .

إنّما الإشكال في العامّ الاستغراقي ; سواء استفيد بالوضع اللغوي مثل «كلّ» والجمع المحلّى باللام ، أم بغيره مثل النكرة في سياق النفي ، كما في قوله ـ عليه السلام ـ  :

«الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجّسه شيء»(47).

فعلى القول بإفادته المفهوم فهل هو الإيجاب الجزئي ; بداهة أنّ نقيض السالبـة الكلّية هي الموجبة الجزئية ، كما عليه الشيخ المحقّق صاحب «الحاشية»(48) ، أو الموجبة الكلّية ، كما عن الشيخ الأعظم ـ قدس سره ـ  ، وأوضحه ـ كما في تقريرات بعض تلامذته  ـ بأنّ المراد من لفظة «شيء» إمّا معناه العامّ من دون جعله عبرة لعناوين اُخر التي هي موضوعات في لسان الدليل ـ كالدم والبول ـ أو يكون عنواناً مشيراً إلى العناوين الواقعة موضوعاً للنجاسات .

فعلى الأوّل : يكون المفهوم هو الإيجاب الجزئي ، فيقال : «الماء إذا لم يبلغ الكرّ ينجّسه شيء».

وعلى الثاني : يكون مفاد المنطوق لم ينجّسه هذا وهذا ، ويصير مفهومه ـ  حينئذ  ـ قضية منطبقة عليها ، ويقال : «الماء إذا لم يبلغ قدر الكرّ ينجّسه هذا وهذا» ، ويكون هو الموجبة الكلّية . والأظهر : هو الثاني(49) ، انتهى ملخّصاً .

ويرد عليه : أ نّه إن كان المراد من جعله عبرة ومرآة للعناوين هو جعل الحكم على الكثرة التفصيلية أوّلاً وبالذات بلا وساطة لفظ «الشيء» و «الكلّ» ، فهو واضح البطلان ; ضرورة ملحوظية عنواني الكلّ والشيء في موضوع القضية .

وإن كان المراد أنّ الغرض من التوصّل بهما ليس جعل الحكم عليهما بما هما كذلك ، بل الغرض هو اتّخاذهما وسيلة لإسراء الحكم منهما إلى العناوين الواقعية فهو حقّ لكن ذلك لا يستلزم ما يبتغيه ; إذ لابدّ أن يكون الحكم في طرف المفهوم كذلك ـ أي أن ينفي الحكم عن العنوان المشير إلى العناوين الواقعية ـ فمفهوم قولنا إذا جاءك زيد أكرم كلّ عالم هو أ نّه إذا لم يجئك لا يجب إكرام كلّ عالم ، ولا إشكال في إفادته قضية جزئية .

وبعبارة أوضح : أنّ كون لفظ «شيء» مرآة للعناوين لا يستلزم أن يكون العناوين موضوعاً للحكم في لسان الدليل ، بل الموضوع هو لفظ شيء ; وإن كان مرآة للعناوين .

 

وعليه : فمدار أخذ المفهوم هو رفع الحكم عمّا جعل موضوعاً في لسان الدليل ، كما أنّ الحكم ثابت عليه ظاهراً ، وحينئذ يكون مفهوم قولنا «لا ينجّسه شيء» هو «ينجّسه شيء» ، ولا يضرّ كونه مرآة لما هو موضوع ، فتدبّر .

على أنّ فهم العرف أقوى شاهد .

أضف إلى ذلك : أ نّه لو سلّمنا كونه مرآة بالمعنى المتقدّم ، وأنّ العناوين بكثرتها التفصيليـة وقعت موضوعاً للحكم ، إلاّ أ نّه لا يستفاد من القضية إلاّ الجزئية ; لأنّ المفهوم ليس إلاّ رفع سنخ الحكم المذكور عن الموضوع ، لا إثبات حكم مقامه . ومفهوم قولنا «لا ينجّسه» هو «ليس لا ينجّسه» والقول بأنّ مفهوم ما ذكر هو «ينجّسه» مسامحة نشأت من وضع لازم المفهوم مكانه .

وحينئذ : فمفهوم قوله «إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه البول والدم والكلب» هو أ نّه «إذا لم يبلغ قدر كرّ ليس لا ينجّسه البول والدم والكلب» ، وهو لا ينافي تنجيس بعضها ; إذ المفهوم هو سلب السالبة الكلّية ، وهو يتحقّق تارة بالإيجاب الجزئي واُخرى بالإيجاب الكلّي .

ولو سلّم أنّ العرف في مثل القضية لا ينتقل إلى سلب السلب بل ينتقل إلى الإيجاب فلا إشكال فيما هو مورد نزاع العلمين : أنّ العرف مساعد للإيجاب الجزئي ، وأنّ المفهوم من قوله «إذا بلغ الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء» هو أ نّه «إذا لم يبلغ قدر كرّ ينجّسه شيء في الجملة» ، لا أنّه «ينجّسه كلّ شيء من العناوين» .

لا يقال : إنّ لازم حصر العلّة في الكرّية الذي هو الأساس لإثبات المفهوم أن لا يكون لبعض أفراد العامّ علّة اُخرى غير ما ذكر في الشرطية ، وإلاّ يكون مخالفاً لظهور الشرطية في الانحصار ، بل ينهدم أساس المفهوم .

وحينئذ : فلازم انحصار العلّة في جميع الأفراد والعناوين هو الإيجاب الكلّي في صورة عدم الكرّية ، فيثبت أنّ مفهومه هو أ نّه ينجّسه كلّ شيء .

لأنّا نقول : ما يستفاد من الشرطية في مثل تلك القضايا ـ بعد تسليم المفهوم  ـ هو كون الشرط علّة منحصرة للعموم  ـ وإن كان استغراقياً ـ فلا ينافي عدم الانحصار بالنسبة إلى البعض . فبلوغ الكرّ علّة منحصرة لعدم تنجّسه بكلّ نجاسة ، لا أ نّه علّة منحصرة لعدم تنجّسه بالبول ، وعلّة منحصرة لعدم تنجّسه بالدم ، وهكذا .

نعم ، لو انحلّت القضيـة إلى تعليقات عديـدة أو الجـزاء إلى كثرة تفصيلية حكماً وموضوعاً كان لما ذكـره وجـه ، لكـن الانحلالين ممنوعان ، والـدليل الأسدّ الذي هو فهم العرف ـ إن قطعنا النظر عمّا يقتضيه الصناعة ـ موافق لما قوّيناه .

__________
1 ـ لمحات الاُصول : 273 ـ 274 .

2 ـ معالم الدين : 78 ، قوانين الاُصول 1 : 175 / السطر15 .

3 ـ الفصول الغروية : 147 / السطر27 .

4 ـ اُنظر مطارح الأنظار : 170 / السطر27 ، كفاية الاُصول : 232 .

5 ـ اُنظر كفاية الاُصول : 232 .

6 ـ نفس المصدر .

7 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 317 .

8 ـ اُنظر كفاية الاُصول : 232 .

9 ـ لمحات الاُصول : 282 ـ 283 .

10 ـ نهاية الدراية 2 : 416 .

11 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 227 و 245 .

12 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 481 و 483 ـ 484 .

13 ـ الاستصحاب ، الإمام الخميني ـ قدس سره ـ  : 70 ـ 72 .

14 ـ اُنظر مطارح الأنظار : 173 / السطر16 .

15 ـ كفاية الاُصول : 237 .

16 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 46 .

17 ـ الطهارة ، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1 : 318 .

18 ـ نهاية الاُصول : 302 ـ 303 .

19 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 350 .

20 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 491 .

21 ـ لمحات الاُصول : 292 ـ 293 .

22 ـ مشارق الشموس : 61 / السطر 31 .

23 ـ كفاية الاُصول : 239 ـ 242 .

24 ـ السرائر 1 : 258 .

25 ـ مختلف الشيعة 2 : 423 .

26 ـ مطارح الأنظار : 177 / السطر22 .

27 ـ كفاية الاُصول : 242 .

28 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 488 ـ 489 .

29 ـ مطارح الأنظار : 179 / السطر21 .

30 ـ تقدّم في الصفحة 101 .

31 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 : 493 .

32 ـ نهاية الدراية 2 : 425 .

33 ـ مطارح الأنظار : 180 / السطر الأوّل .

34 ـ مصباح الفقيه ، الطهارة 2 : 258 ـ 261 .

35 ـ درر الفوائد ، المحقّق الحائري : 174 ، الهامش 1 .

36 ـ نفس المصدر : 173 ـ 174 .

37 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 225 .

38 ـ تقدّم في الجزء الأوّل : 227 و 244 .

39 ـ نهاية الدراية 2 : 427 .

40 ـ كفاية الاُصول : 242 ، الهامش 3 .

41 ـ مقالات الاُصول 1 : 407 .

42 ـ مطارح الأنظار : 179 ـ 180 .

43 ـ مطارح الأنظار : 180 / السطر24 .

44 ـ مقالات الاُصول 1 : 407 .

45 ـ مطارح الأنظار : 180 / السطر36 .

46 ـ فوائد الاُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 :494 .

47 ـ الكافي 3 : 2 / 2 ، وسائل الشيعة 1 : 158 ، كتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ، الباب 9 ، الحديث 1 .

48 ـ هداية المسترشدين 2 : 460 .

49 ـ مطارح الأنظار : 174 / السطر18 .




قواعد تقع في طريق استفادة الأحكام الشرعية الإلهية وهذه القواعد هي أحكام عامّة فقهية تجري في أبواب مختلفة، و موضوعاتها و إن كانت أخصّ من المسائل الأصوليّة إلاّ أنّها أعمّ من المسائل الفقهيّة. فهي كالبرزخ بين الأصول و الفقه، حيث إنّها إمّا تختص بعدّة من أبواب الفقه لا جميعها، كقاعدة الطهارة الجارية في أبواب الطهارة و النّجاسة فقط، و قاعدة لاتعاد الجارية في أبواب الصلاة فحسب، و قاعدة ما يضمن و ما لا يضمن الجارية في أبواب المعاملات بالمعنى الأخصّ دون غيرها; و إمّا مختصة بموضوعات معيّنة خارجية و إن عمّت أبواب الفقه كلّها، كقاعدتي لا ضرر و لا حرج; فإنّهما و إن كانتا تجريان في جلّ أبواب الفقه أو كلّها، إلاّ أنّهما تدوران حول موضوعات خاصة، و هي الموضوعات الضرريّة و الحرجية وبرزت القواعد في الكتب الفقهية الا ان الاعلام فيما بعد جعلوها في مصنفات خاصة بها، واشتهرت عند الفرق الاسلامية ايضاً، (واما المنطلق في تأسيس القواعد الفقهية لدى الشيعة ، فهو أن الأئمة عليهم السلام وضعوا أصولا كلية وأمروا الفقهاء بالتفريع عليها " علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع " ويعتبر هذا الامر واضحا في الآثار الفقهية الامامية ، وقد تزايد الاهتمام بجمع القواعد الفقهية واستخراجها من التراث الفقهي وصياغتها بصورة مستقلة في القرن الثامن الهجري ، عندما صنف الشهيد الأول قدس سره كتاب القواعد والفوائد وقد سبق الشهيد الأول في هذا المضمار الفقيه يحيى بن سعيد الحلي )


آخر مرحلة يصل اليها طالب العلوم الدينية بعد سنوات من الجد والاجتهاد ولا ينالها الا ذو حظ عظيم، فلا يكتفي الطالب بالتحصيل ما لم تكن ملكة الاجتهاد عنده، وقد عرفه العلماء بتعاريف مختلفة منها: (فهو في الاصطلاح تحصيل الحجة على الأحكام الشرعية الفرعية عن ملكة واستعداد ، والمراد من تحصيل الحجة أعم من اقامتها على اثبات الاحكام أو على اسقاطها ، وتقييد الاحكام بالفرعية لإخراج تحصيل الحجة على الاحكام الأصولية الاعتقادية ، كوجوب الاعتقاد بالمبدء تعالى وصفاته والاعتقاد بالنبوة والإمامة والمعاد ، فتحصيل الدليل على تلك الأحكام كما يتمكن منه غالب العامة ولو بأقل مراتبه لا يسمى اجتهادا في الاصطلاح) (فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في المورد التي لم يظفر فيها بها) وهذه المرتبة تؤهل الفقيه للافتاء ورجوع الناس اليه في الاحكام الفقهية، فهو يعتبر متخصص بشكل دقيق فيها يتوصل الى ما لا يمكن ان يتوصل اليه غيره.


احد اهم العلوم الدينية التي ظهرت بوادر تأسيسه منذ زمن النبي والائمة (عليهم السلام)، اذ تتوقف عليه مسائل جمة، فهو قانون الانسان المؤمن في الحياة، والذي يحوي الاحكام الالهية كلها، يقول العلامة الحلي : (وأفضل العلم بعد المعرفة بالله تعالى علم الفقه ، فإنّه الناظم لأُمور المعاش والمعاد ، وبه يتم كمال نوع الإنسان ، وهو الكاسب لكيفيّة شرع الله تعالى ، وبه يحصل المعرفة بأوامر الله تعالى ونواهيه الّتي هي سبب النجاة ، وبها يستحق الثواب ، فهو أفضل من غيره) وقال المقداد السيوري: (فان علم الفقه لا يخفى بلوغه الغاية شرفا وفضلا ، ولا يجهل احتياج الكل اليه وكفى بذلك نبلا) ومر هذا المعنى حسب الفترة الزمنية فـ(الفقه كان في الصدر الأول يستعمل في فهم أحكام الدين جميعها ، سواء كانت متعلقة بالإيمان والعقائد وما يتصل بها ، أم كانت أحكام الفروج والحدود والصلاة والصيام وبعد فترة تخصص استعماله فصار يعرف بأنه علم الأحكام من الصلاة والصيام والفروض والحدود وقد استقر تعريف الفقه - اصطلاحا كما يقول الشهيد - على ( العلم بالأحكام الشرعية العملية عن أدلتها التفصيلية لتحصيل السعادة الأخروية )) وتطور علم الفقه في المدرسة الشيعية تطوراً كبيراً اذ تعج المكتبات الدينية اليوم بمئات المصادر الفقهية وبأساليب مختلفة التنوع والعرض، كل ذلك خدمة لدين الاسلام وتراث الائمة الاطهار.


جامعة الكفيل تكرم الفائزين بأبحاث طلبة كلية الصيدلة وطب الأسنان
مشروع التكليف الشرعي بنسخته السادسة الورود الفاطمية... أضخم حفل لفتيات كربلاء
ضمن جناح جمعيّة العميد العلميّة والفكريّة المجمع العلمي يعرض إصداراته في معرض تونس الدولي للكتاب
جامعة الكفيل تعقد مؤتمرها الطلابي العلمي الرابع