أقرأ أيضاً
التاريخ: 16-10-2014
4820
التاريخ: 16-10-2014
1706
التاريخ: 16-10-2014
1674
التاريخ: 6-03-2015
1803
|
هـو أبـو بـكـر محي الدين محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد اللّه الحاتمي الطائي الاندلسي ، المعروف بابن عربي ـ بدون أداة التعريف ـ فرقاً بينه وبين القاضي ابي بكر ابن العربي صاحب كتاب أحكام القرآن وهذا الفرق من اصطلاح المشارقة ، أما اهل المغرب فيأتون باللام في كلا الموردين .
ولـد بـمرسية سنة (560هـ) ثم انتقل الى اشبيلية سنة (568 هـ) وبقي بها نحواً من (30) سنة تـلـقى فيها العلم على كثير من الشيوخ حتى بزغ نجمه وعلا ذكره. وفي سنة (598 هـ) نزح الى الـمـشرق وطوف في كثير من البلاد ، فدخل الشام ومصرو الموصل وآسيا الصغرى ومكة ، واخيراً ألقى عصاه واستقر به النوى في دمشق ، توفي بها سنة (638 هـ).
كـان ابن عربي شيخ المتصوفة في وقته ، وكان له اتباع ومريدون معجبين به الى حد كبير ، حتى لـقـبوه بالشيخ الاكبر والعارف باللّه ، كما كان له اعداء ينقمون عليه ويرفضون طريقته ويرمونه بـالكفر والزندقة ، لما كان يصدر عنه من المقالات الموهمة ، التي تحمل في ظاهرها معاني الكفر والالحاد.
وكان الى جنب تصوفه بارعا في كثير من العلوم ، فكان عارفا بالآثار والسنن ، وكان شاعراً اديباً ، ولذلك كان يكتب الإنشاء لبعض ملوك الغرب .
وتلك مؤلفاته الكثيرة تدل على سعة باعه ووفرة اطلاعه وتبحره في العلوم الظاهرة والباطنة ، وكـانت له حدة في النظر ودقة في الاستنباط ، ولكن في الاكثر على مشربه الصوفي الباطني ، ومن ثم كانت له شطحات ملأ كتبه ومصنفاته .
هل لابن عربي من تفسير؟
كـانـت لـه فـي الـتـفسير والحديث نظرات ، وله فيها مقالات ضمن كتبه ولاسيما (الفتوحات الـمـكـيـة ) و(الـفصوص )و غيرهما من امهات كتبه ولكن هل كان قد الف كتابا في التفسير يخصه ؟.
يـبـدو مـن مواضع من كتبه ولاسيما (الفتوحات ) ، ان له تأليفاً في التفسير ، ففي الجزء الأول من الـفتوحات (ص59) عند الكلام على حروف المعجم في أوائل سور القرآن ، يقول : (ذكرناه في كتاب الجمع والتفصيل في معرفة معاني التنزيل).
وفـي (ص63) يقول : (و قد أشبعنا القول في هذا الفصل عندما تكلمنا على قوله تعالى : {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ } [طه : 12] في كتاب الجمع والتفصيل ).
وفـى (ص77) عـنـد كلامه على حروف المعجم ، يقول : (من أراد التشفي منها فليطالع تفسير القرآن الذي سميناه الجمع والتفصيل ).
ويقول عن كتاب آخر في التفسير أسماه (ايجاز البيان في الترجمة عن القرآن ) في الجزء الثالث من الفتوحات (ص64) عند الكلام عن (علم الإصرار) : (قد بيناه في كتاب (إيجاز البيان في الـتـرجـمة عن القرآن) في قوله تعالى في آل عمران : {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا} [آل عمران : 135] فأنظره هناك).
وهذا التفسير قد وجد منه جزء يسير من أوله الى الآية 253 من سورة البقرة ، وعليه في الخاتمة توشيح المؤلف هكذا :
(انـتهى الجزء الثامن من (ايجاز البيان في الترجمة عن القرآن ) ويتلوه في التاسع قوله تعالى : {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة : 253] . وهذا الأصل بخط يدي من غير مسودة ، وكتب محمد بن على بن محمد بن احمد بن العربي الحاتمي الطائي ، المترجم يوم الجمعة الثاني والعشرين مـن ذي الـقـعدة ، سنة إحدى وعشرين وست مائة ، والحمد للّه رب العالمين وصلى اللّه على محمد خاتم النبيين ، وعلى آله اجمعين آمين) (1) .
وقـد طـبـع عـلى هامش (رحمة من الرحمان) من كلام ابن العربي (الجزء الأول من ص7 الى ص 378).
وله ايضاً اشارة ، الى تفسيرين ، أحدهما بعنوان (التفسير الكبير) حيث يقول فى الجزء الرابع من الفتوحات (ص194) :
" اعلم أن كل ذكر ينتج خلاف المفهوم الأول منه ، فإنه يدل ما ينتجه على حال الذاكر ، كما شرطناه فى (التفسير الكبير) لنا " .
والـثـانـي بـعـنـوان (الـتفسير) او (تفسير القرآن ) كما جاء في الجزء الأول من الفتوحات (ص86) و(ص114) والجزء الثالث (ص64).
وهل هما نفس التفسيرين الآنف ذكرهما ، أم غيرهما ، غير واضح .
غـيـر أن الـذي يستفاد من مجموع كلماته ، أن له في التفسير تأليفاً باستقلاله ، وقد ضاع مع الأسف سوى النزر اليسير حسبما ذكرنا .
تفاسير منسوبة الى ابن عربي
نعم هناك تفاسير تحمل اسم ابن عربي :
1ـ ايـجـاز الـبـيان في الترجمة عن القرآن ، وهو في كمال الايجاز والاختصار ، وقد طبع جزء يسير منه على هامش (رحمة من الرحمان) على ما أسلفنا.
2ـ رحـمة من الرحمان في تفسير واشارات القرآن ، من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي جمع وتأليف محمود محمود الغراب ، من علماء دمشق المعاصرين .
وهو تفسير غير شامل ، التقطه المؤلف من كلام ابن عربي ضمن تأليفاته ، ولا سيما (الفتوحات) حيثما تكلم عن تفسير آية او إشارة الى معنى من معاني القرآن ، ومن ثم لم يستوعب جميع آي القرآن .
وقد قام المؤلف بهذا الجمع خلال خمسة وعشرين عاماً ، قال : ولمحاولة الوقوف على فهم الشيخ الاكـبر للقرآن الكريم ، قمت بالعمل اكثر من خمس وعشرين سنة ، في جمع وتصنيف وترتيب ما كتبه الشيخ الاكبر ، في كتبه التي بين ايدينا ، مما يصلح ان يكون تفسيراً لبعض آيات القرآن ، سواء من الناحية الظاهرة على نسق التفاسير الأخرى من الاحكام الشرعية والمعاني العربية ، او ما يصلح ان يكون تفسيراً صوفياً لبعض آيات القرآن ، وهو ما يسمى بالاعتبار والاشارة في التوحيد والسلوك ، وسـميته (رحمة من الرحمان في تفسير واشارات القرآن) تمشياً مع عقيدة الشيخ الأكبر في شمول الرحمة وعدم سرمدة العذاب (2) .
وطبع هذا الأثر في أربع مجلدات ، في دمشق سنة (1410 هـ ـ 1989 م ).
3ـ تـفـسـيـر الـقرآن الكريم في مجلدين اشتهرت نسبته الى ابن عربي ، وقد راج ذلك منذ زمن سـحيق ، وهو موضوع على مذاق الصوفية في التفسير الباطني المحض وفيه بعض الشطحات مما آثـار الـريـب في نسبته الى الشيخ ، وزعموا انه من صنع الشيخ كمال الدين أبي الغنائم المولى عبد الرزاق الكاشي السمرقندي المتوفى سنة (730 هـ).
قـال الـشيخ محمد عبده : من التفسير الإشاري ما ينسبونه للشيخ الأكبر محيى الدين ابن عربي ، وانـمـا هـو لـلـقـاشـانـي الـبـاطـنـي الـشـهير ، وفيه من النزعات ما يتبرأ منه دين اللّه وكتابه العزيز (3) .
وامـا الـحـاجي خليفة ـ صاحب كشف الظنون ـ فقد نسبه رأساً الى القاشاني من غير ترديد ، قال : كـتـاب (تأويلات القرآن) المعروف بتأويلات القاشاني ، هو تفسير بالتأويل على اصطلاح أهل الـتـصـوف ، لـلـشيخ كمال الدين أبي الغنائم عبد الرزاق بن جمال الدين الكاشي السمرقندي ، اوله : (الـحمد للّه الذي جعل مناظم كلامه مظاهر حسن صفائه) (4) و هذه العبارة هي المبدوء بها في التفسير المذكور.
والنسخة التي كانت عند حاجي خليفة ، كانت الى سورة "ص" . وتوجد نسخ كاملة في سائر المكتبات ، مـنـهـا نـسـخـة كاملة بالمكتبة السليمانية بتركيا تحت رقم (17ـ 18) وتحمل خاتم عبدالرزاق الكاشاني (5) .
و يتأيد نسبة الكتاب الى القاشاني بما جاء في تفسير سورة (القصص) عند الآية رقم 32 : {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} ، قوله : (وقد سمعت شيخنا المولى نور الدين عبد الصمد(قدس سره) في شهود الوحدة ومقام الفناء عن أبيه ، انه كان بعض الفقراء في خدمة الشيخ الكبير شهاب الدين السهروردي (6) .
ونـور الـدين هذا هو : نور الدين عبد الصمد بن علي النطنزي الأصفهاني ، والمتوفى في أواخر الـقـرن الـسابع ، وكان شيخ العبد الرزاق القاشاني ، المتوفى سنة (730 هـ) وغير معقول أن يكون نور الدين هذا شيخا لابن عربي المتوفى سنة (638 هـ) (7) .
التعريف بهذا التفسير
قـد أتـى المؤلف فيه بالتفسير الرمزي الإشاري على طريقة الصوفية العرفانية وغالبه يقوم على اسـاس وحـدة الـوجـود ، ذلـك الـمذهب الذي كان له اثره السيئ في تفسير كلام اللّه ، والذي دعا بالقائلين انه من صنع ابن عربي ، حيث مذهبه في وحدة الوجود مشهور.
وهـو تفسير مغلق العبارة ، لا يفهم معناها ، كما لا يوجد لها من سياق الآية او فحواها ما يدل عليها ، ولـو ان المؤلف كان واضحاً في كلامه ، او كان جمع بين التفسير الظاهر والتفسير الباطن كما فعله الـمـيـبـدي لهان الأمر ، ولكنه لم يفعل شيئاً من ذلك ، مما جعل الكتاب مغلقاً ، كأكثر مواضع كتب ابن عربي ولا سيما كتابه (الفتوحات) ومن ثم كان دليلاً آخر على احتمال صحة نسبته اليه فهو في سـورة آل عـمران {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران : 191] ، يقول : ربنا ما خـلـقـت هـذا الـخلق باطلاً أي شيئاً غيرك ، فإن غير الحق هو الباطل ، بل جعلته اسماءك ومظاهر صـفـاتك ، سبحانك ، ننزهك ان يوجد غيرك ، أي يقارن شي فردانيتك ، او يثني وحدانيتك . فقنا عذاب نـار الاحتجاب ، بالأكوان عن افعالك ، وبالأفعال عن صفاتك ، وبالصفات عن ذاتك ، وقاية مطلقة تامة كافية (8) .
وفـي سـورة الـواقعة {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} [الواقعة : 57] يقول : نحن خلقناكم بإظهاركم بوجودنا وظهورنا في صوركم (9) .
وفـي سـورة الحديد {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد : 4] يقول : وهو معكم اينما كنتم لوجودكم به ، وظهوره في مظاهركم (10) .
وفـي سـورة الـمـجادلة {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة : 7] يقول : لا بالعدد والمقارنة ، بل بامتيازهم عنه بتعيناتهم ، واحتجابهم عنه بماهياتهم وإنياتهم ، وافتراقهم منه بالإمكان الـلازم لـمـاهياتهم وهوياتهم ، وتحققهم بوجوبه اللازم لذاته ، واتصاله بهم بهويته المندرجة في هـويـاتـهـم ، وظهوره في مظاهرهم ، وتستره بماهياتهم ، ووجوداتهم المشخصة ، و اقامتها بعين وجـوده ، وايجابهم بوجوبه فبهذه الاعتبارات هو رابع معهم ، ولو اعتبرت الحقيقة لكان عينهم ، ولـهذا قيل : (لولا الاعتبارات لارتفعت الحكمة ) ، وقال امير المؤمنين (عليه السلام) : (العلم نقطة كثرها الجاهلون ( (11) .
وفـي سـورة المزمل { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل : 8، 9] يقول : واذكر اسم ربك الذي هو أنت ، أي اعرف نفسك ، واذكرها ، ولا تنسها ، فينساك اللّه ، واجتهد لتحصيل كمالها بعد معرفة حقيقتها.
رب الـمـشـرق والمغرب ، اي الذي ظهر عليك نوره ، فطلع من افق وجودك بإيجادك ، والمغرب الذي اختفى بوجودك ، وغرب نوره فيك ، واحتجب بك (12).
تلك نماذج تكشف لك عن واقع هذا التفسير ، وانه يقوم على مذهب صاحبه في القول بوحدة الوجود ، الأمـر الـذي يلتئم وامكان نسبته الى ابن عربي القائل بذلك ، فليس غريباً منه ان يقوم بتأليف تفسير يـعـتـمـد عـلـى مذهبه الخاص . فلا موضع لما استغربه أمثال الشيخ محمد عبده ، وان النزعات أو الـشـطحات التي تشاهد في هذا التفسير ، ليست شيئاً غريباً عن روح ابن عربي ومذهبه في وحدة الوجود.
ويـقـوم مـذهب ابن عربي في التفسير ـ في سائر مؤلفاته ـ غالباً على نظرية (وحدة الوجود) الـتي يدين بها ، وعلى الفيوضات والوجدانيات التي تنهل عليه من سحائب الغيب الالهي ، وتنقذف في قلبه من ناحية الإشراق الرباني ، فنراه في كثير من الأحيان يتعسف في التأويل ، ليجعل الآية تتمشى مـع هذه النظرية ، فهو يبدل فيما اراد اللّه من آياته ويفسرها على ان تتضمن مذهبه وتكون أسانيد لـه ، الأمـر الـذي ليس من شأن المفسر المنصف المخلص للّه عمله ، اذ يجب على المفسر المخلص أن يبحث في القرآن بحثاً مجرداً عن الهوى والعقيدة ، مما قل ما يوجد في أهل التصوف والعرفان .
هذا وقد بالغ ابن عربي في دعواه الاشراقات الربانية المنهلة على قلبه ، ويدعي أن كل ما يجري عـلـى لـسـان أهـل الحقيقة ـ ويعني بهم الصوفية بالذات ـ من المعاني الإشارية في القرآن هو في الحقيقة تفسير وشرح لمراد اللّه ، وأن أهل اللّه ـ ويعني بهم الصوفية ـ أحق الناس بشرح كتابه ، لأنـهم يتلقون علومهم عن اللّه مباشرة ، فهم يقولون في القرآن على بصيرة ، اما أهل الظاهر فيقولون بـالظن والتخمين ، وفضلاً عن ذلك انه يرى أن تفاسير أهل الحقيقة لا يعتريها شك ، وانها صدق وحـق عـلى غرار القرآن الكريم ، فإذا كان القرآن الكريم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، لأنـه من عند اللّه ، فكذلك أقوال اهل الحقيقة في التفسير ، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، لأنها منزلة من عند اللّه .
يقرر ابن عربي كل هذه المبادئ ويصرح بها في فتوحاته .
يـقول : (وما خلق اللّه أشق ولا أشد من علماء الرسوم على أهل اللّه المختصين بخدمته ، العارفين به من طريق الوهب الإلهي ، الذين منحهم اسراره في خلقه ، وفهمهم معاني كتابه واشارات خطابه ، فـهم لهذه الطائفة مثل الفراعنة للرسل (عليه السلام) ، ولما كان الأمر في الوجود الواقع على ما سبق به العلم القديم ـ كما ذكرنا ـ عدل اصحابنا الى الاشارات كما عدلت مريم (عليها السلام) من أجل أهل الإفك والإلحاد الـى الإشـارة . فـكـلامـهـم في شرح كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، اشـارات ، وان كان ذلك حقيقة وتفسيراً لمعانيه النافعة ، ورد ذلك كله الى أنفسهم مع تقريرهم إياه فـي الـعـمـوم وفيما نزل فيه كما يعلمه أهل اللسان الذين نزل ذلك الكتاب بلسانهم ، فعم به سبحانه عـندهم الوجهين ، كما قال تعالى : {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت : 53] ، يعني الآيات المنزلة في الآفاق وفي انفسهم ، فكل آية منزلة لها وجهان : وجه يرونه في نفوسهم ، ووجه آخر يرونه فيما خرج عنهم ، فيسمون ما يرونه في نفوسهم اشارة ، ليأنس الفقيه صاحب الرسوم الى ذلك ، ولا يقولون في ذلك انه تفسير ، وقاية لشرهم وتشنيعهم في ذلك بالكفر عليه ، وذلك لجهلهم بمواقع خـطاب الحق ، واقتدوا في ذلك بسنن الهدى ، فإن اللّه كان قادراً على تنصيص ما تأوله اهل اللّه في كـتـابـه ، ومـع ذلـك فما فعل ، بل أدرج في تلك الكلمات الالهية التي نزلت بلسان العامة ، علوم معاني الاختصاص التي فهمها عباده حين فتح لهم فيها بعين الفهم الذي رزقهم (13).
وتـفـاسـيره بهذا النمط كثيرة ومنبثة في كتبه لاسيما في (الفتوحات) خذ لذلك مثلاً ما ذكره بشأن قوله تعالى : {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم : 1] بما لا يرجع الى محصل .
قال في الباب الستين الذي وضعه لمعرفة العناصر وسلطان العالم العلوى على العالم السفلى :
(اعـلم ان اللّه تعالى لما تسمى بالملك رتب العالم ترتيب المملكة ، فجعل له خواصاً من عباده ، وهم الـمـلائكـة المهيمنة جلساء الحق تعالى بالذكر لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون ، يسبحون الليل والنهار لا يفترون ثم اتخذ حاجباً من الكروبيين واحداً أعطاه علمه في خلقه ، وهو علم مفصل في اجمال ، فعلمه سبحانه كان فيه مجلى له ، وسمى ذلك الملك (نوناً) فلا يزال معتكفاً في حضرة عـلـمـه (عزوجل) وهو رأس الديوان الإلهي ، والحق من كونه عليماً لا يحتجب عنه . ثم عين من ملائكته ملكاً آخر دونه في المرتبة سماه (القلم) وجعل منزلته دون منزلة (النون) واتخذه كاتباً ، فيعلمه اللّه سـبحانه من علمه ما شاءه في خلقه بوساطة (النون) ، ولكن من العلم الاجمالي ، ومما يحوي عـلـيه العلم الاجمالي علم التفصيل ، وهو من بعض علوم الإجمال ، لأن العلوم لها مراتب ، من جملتها عـلـم التفصيل فما عند القلم الإلهي من مراتب العلوم المجملة إلا علم التفصيل مطلقاً ، وبعض العلوم الـمـفصلة لا غير ، واتخذ هذا الملك كاتب ديوانه وتجلى له من اسمه القادر ، فأمده من هذا التجلي الإلهي ، و جعل نظره الى جهة عالم التدوين والتسطير ، فخلق له لوحاً وأمره أن يكتب فيه جميع ما شاء سـبحانه أن يجريه في خلقه الى يوم القيامة خاصة ، وأنزله منزلة التلميذ من الأستاذ ، فتوجهت عـلـيـه هـنـا الإرادة الإلهية ، فخصصت له هذا القدر من العلوم المفصلة ، وله تجليات من الحق بلا واسـطـة ولـيس للنون سوى تجل واحد في مقام أشرف ، فإنه لا يدل تعدد التجليات ولا كثرتها على الأشرفية ، وإنما الأشرف من له المقام الأعم فأمر اللّه النون أن يمد القلم بثلاث مائة وستين علماً من عـلـوم الإجـمـال ، تـحت كل علم تفاصيل ، ولكن معينة منحصرة لم يعطه غيرها ، يتضمن كل علم إجمالي من تلك العلوم ثلاث مائة وستين علماً من علوم التفصيل ، فإذا ضربت ثلاث مائة وستين في مثلها ، فما خرج لك فهو مقدار علم اللّه تعالى في خلقه الى يوم القيامة خاصة ، ليس عند اللوح من العلم الذي كـتبه فيه هذا القلم أكثر من هذا ، لا يزيد ولا ينقص ، ولهذه الحقيقة الالهية جعل اللّه الفلك الاقصى ثلاث مائة وستين درجة ، وكل درجة مجملة لما تحوي عليه من تفصيل الدقائق والثواني والثوالث الى ما شاء اللّه سبحانه ، مما يظهره في خلقه الى يوم القيامة ، وسمي هذا القلم الكاتب .
ثـم إن اللّه سـبـحـانـه وتعالى أمر أن يولى على عالم الخلق اثنا عشر والياً ، يكون مقرهم في الفلك الأقـصـى مـنـا فـي بروج ، فقسم الفلك الأقصى اثني عشر قسماً ، جعل كل قسم برجاً لسكنى هؤلاء الولاة ، مثل أبراج سور المدينة ، فأنزلهم اللّه اليها فنزلوا فيها ، كل والٍ على تخت في برجه ، ورفع اللّه الـحـجـاب الذي بينهم وبين اللوح المحفوظ ، فرأوا فيه مُسطراً اسماؤهم ومراتبهم وما شاء الـحـق ان يـجريه على ايديهم في عالم الخلق الى يوم القيامة ، فارتقم ذلك كله في نفوسهم وعلموه عـلـما محفوظا لا يتبدل ولا يتغير(14) ) وقال في الباب الثاني الذي وضعه لمعرفة مراتب الحروف ـ الفصل الاول ـ :
(ثم انه في نفس النون الرقمية (ن) التي هي شطر الفلك من العجائب ما لا يقدر على سماعها الا من شـد عـلـيه مئزر التسليم ، و تحقق بروح الموت الذي لا يتصور ممن قام به اعتراض ولا تطلع ، وكـذلـك في نفس نقطة النون أول دلالة النون الروحانية المعقولة فوق شكل النون السفلية ، التي هي الـنـصف من الدائرة ، والنقطة الموصولة بالنون المرقومة الموضوعة ، أول الشكل ، التي هي مركز الالف المعقولة ، التي بها يتميز قطر الدائرة ، والنقطة الاخيرة التي ينقطع بها شكل النون ، وينتهي بـها هي رأس هذا الالف المعقولة المتوهمة ، فتقدر قيامها من رقدتها فترتكز لك على النون ، فيظهر مـن ذلـك حـرف الـلام ، والنون نصفها زاي مع وجود الالف المذكورة ، فتكون النون بهذا الاعتبار تـعطيك الازل الانساني ، كما اعطاك الالف والزاي واللام في الحق غير انه في الحق ظاهر ، لانه بذاته أزلي لا أول له ، ولا مفتتح لوجوده في ذاته ، بلا ريب ولا شك .
ولـبـعـض المحققين كلام في الانسان الأزلي ، فنسب الانسان الى الازل ، فالانسان خفي فيه الأزل فـجُـهِـل ، لأن الأزل ليس ظاهراً في ذاته ، وإنما صح فيه الأزل لوجه ما من وجوه وجوده ، منها أن الـمـوجود يُطلق عليه الوجود في أربع مراتب : وجود في الذهن ، ووجود في العين ، ووجود في الـلفظ ، ووجود في الرقم فمن جهة وجوده على صورته التي وجد عليها في عينه ، في العلم القديم الأزلـي الـمـتـعلق به في حال ثبوته ، فهو موجود أزلاً ايضاً ، كانه بعناية العلم المتعلق به ، كالتحيز للعرض بسبب قيامه بالجوهر ، فصار متحيزاً بالتبعية ، فلهذا خفي فيه الأزل ، ولحقائقه ايضاً الازلية المجردة عن الصورة المعينة المعقولة التي تقبل القدم والحدوث (15) .
و قال في الباب (351) في معرفة اشتراك النفوس والأرواح :
القلم واللوح أول عالم التدوين والتسطير ، وحقيقتهما ساريتان في جميع الموجودات علواً وسفلاً ومعنى وحساً ، وبهما حفظ اللّه العلم على العالم ، ولهذا ورد في الخبر عنه (صلى الله عليه واله وسلم ) : (قيدوا العلم بـالـكـتـابـة) ومن هنا كتب اللّه التوراة بيده ، ومن هذه الحضرة اتخذ رسول اللّه (صلى الله عليه واله وسلم) وجميع الـرسـل (عليهم السلام) كتاب الوحي ، وقال : {كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار : 11، 12] ، و قال : {مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } [الكهف : 49] وقال : {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس : 12] .
و قـال : {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة : 78] ، وقال : {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} [عبس : 13 - 15] ، وقـال : {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس : 12] و الكتب : الضم ، ومنه سـميت الكتيبة كتيبة ، لانضمام الأجناد بعضهم الى بعض وبانضمام الزوجين وقع النكاح في المعاني والاجسام ، فظهرت النتائج في الاعيان ، فمن حفظ عليها هذا الضم الخاص افادته علوما لم تكن عنده ، ومن لم يحفظ هذا الضم الخاص المفيد علم لم يحصل على طائل ، وكان كلامه غير مفيد (16) .
وقال في ديوانه ابياتا بشان النون والقلم نذكر منها :
اذا جاء بالإجمال نونٌ فإنه ـــــ يفصله العلّام بالقلم الأعلى .
فيلقيه في اللوح الحفيظ مفصلاً ـــــ حروفاً وأشكالاً وآياته تُتلى .
وما فصّل الإجمال منه بعلمه ـــــ وما كان إلا كاتباً حينما يُتلى .
عليه الذي ألقاه فيه مسطر ـــــ لتبلى به أكوانه وهو لا يبلى .
هو العقل حقاً حين يعقل ذاته ـــــ له الكشف والتحقيق بالمشهد الأعلى (17) .
واشـنع تفسير رأيته في كلامه ما ذكره بشأن إخفائه تعالى اولياءه في صفة أعدائه ، فكانوا اولياءه في صـورة اعداء ، وعباداً مخلصين في زي عتاة متمردين . يقول في تفسير قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة : 6 ، 7] : إيجاز البيان فيه ، يا محمد! إن الذين كفروا ستروا محبتهم فـي ، دعـهـم فـسـواء عـلـيـهم أأنذرتهم بوعيدك الذي أرسلتك به أم لم تنذرهم لا يؤمنون بكلامك ، فـانـهم لا يعقلون غيري ، وانت تنذرهم بخلقي وهم ما عقلوه ولا شاهدوه ، وكيف يؤمنون بك وقد ختمت على قلوبهم فلم اجعل فيها متسعا لغيري ، وعلى سمعهم ، فلا يسمعون كلاماً في العالم الا مني . وعـلـى أبـصارهم غشاوة ، من بهائي عند مشاهدتي فلا يبصرون سواي ، ولهم عذاب عظيم عندي اردهـم بـعد هذا المشهد السنى الى إنذارك ، وأحجبهم عني ، كما فعلت بك بعد قاب قوسين أو أدنى قـرباً ، أنزلتك الى من يكذبك ويرد ما جئت به اليه مني في وجهك ، وتسمع في ما يضيق له صدرك ، فأين ذلك الشرح الذي شاهدته في اسرائك فهكذا امنائي على خلقي الذين اخفيتهم رضاي عنهم ، فلا أسخط عليهم أبداً (18) .
وإليك من تفاسير ابن عربي معتمدة على نظرية وحدة الوجود ، جاءت في سائر كتبه :
قـال فـي تـفسير قوله تعالى : {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء : 80] : لأنه لا ينطق إلا عن اللّه ، بل لا ينطق الا باللّه ، بل لا ينطق الا اللّه منه ، فإنه صورته (19) .
وفـي تـفـسير قوله تعالى : {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي } [الفجر : 27 - 30] ، يقول : وادخلي جنتي التي هي ستري ، وليست جنتي سواك ، فـأنت تسترني بذاتك الإنسانية ، فلا أعرف إلا بك ، كما انك لا تكون الا بي ، فمن عرفك عرفني ، وأنـا لا أعرف فأنت لا تعرف ، فإذا دخلت جنته دخلت نفسك فتعرف نفسك معرفة أخرى غير المعرفة الـتـي عرفتها حين عرفت ربك بمعرفتك إياها ، فتكون صاحب معرفتين ، معرفة به من حيث أنت ، و مـعرفة به بك من حيث هو لا من حيث انت ، فأنت عبد وأنت رب لمن له فيه انت عبد ، وانت رب وانت عبد لمن له في الخطاب عهد (20) .
و فـي تـفسير قوله تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس : 9، 10] يقول : إن النفس لا تـزكـو إلا بربها ، فيه تشرف وتعظم في ذاتها ، لأن الزكاة ربو ، فمن كان الحق سمعه وبصره وجـمـيع قواه ، والصورة في الشاهد صورة خلق ، فقد زكت نفس من هذا نعته وربت وأنبتت من كل زوج بـهـيج ، كالأسماء الإلهية للّه ، والخلق كله بهذا النعت في نفس الأمر ، ولولا أنه هكذا في نفس الأمـر مـا صح لصورة الخلق ظهور ولا وجود ، ولذلك خاب من دساها ، لأنه جهل ذلك فتخيل أنه دسـها في هذا النعت ، وما علم ان هذا النعت لنفسه نعت ذاتي لا ينفك عنه يستحيل زواله ، لذلك وصفه بـالـخيبة ، حيث لم يعلم هذا ، ولذلك قال : قد أفلح ، ففرض له البقاء والبقاء ليس الا للّه او لما كان عند اللّه ، ومـا ثـم الا اللّه او ما هو عنده ، فخزائنه غير نافدة ، فليس الا صور تعقب صوراً ، والعلم بها يسترسل عليها استرسالاً (21) .
وبعد فاذا كانت النزعات أو الشطحات التي كان الشيخ الاستاذ محمد عبده يستوحشها ويستغرب أن تـكـون صـادرة مـن مـثل ابن عربي ، ومن ثم استنكر انتساب التفسير اليه ، فها هي مثلها او أشد غرابةً ، مبثوثة في كتبه ولا سيما الفتوحات ، فأين موضع الاستغراب ومن ثم فالأرجح صحة النسبة ولا سـيـمـا مـع شهرتها وعدم وجود ما ينافي هذه النسبة ، نظراً لشدة المشابهة بين محتويات هذا التفسير وسائر مؤلفات ابن عربي .
و امـا مـا ذكـره الاسـتاذ الذهبي ـ لوجه المنافاة ـ من السماع من نور الدين عبد الصمد النطنزي الاصـفهاني المتوفى في أواخر القرن السابع ، حيث يصلح أن يكون شيخاً للمولى عبد الرزاق الكاشي المتوفى سنة (730 هـ) لا لابن عربي المتوفى سنة (638هـ).
فـيـمـكـن توجيهه ، بأن الناسخ وهو المولى عبد الرزاق الكاشي زاد هذا الكلام هنا او جعله على الهامش ، ثم ادخل في المتن على يد النساخ المتأخرين ، فلا منافاة .
___________________________
1- راجع : رحمة من الرحمان في تفسير وإشارات القرآن لمحمود الغراب ، ج1 ، ص378 .
2- راجع : رحمة من الرحمان في تفسير وإشارات القرآن (المقدمة) ، ص5 .
3- المنار ، ج1 ، ص18 .
4- كشف الظنون ، ج1 ، ص187 .
5- رحمة من الرحمان (المقدمة) ، ج1 ، ص4 .
6- التفسير المنسوب الى ابن عربي ، ج2 ، ص228 .
7- راجع : التفسير والمفسرون ، ج2 ، ص436-438 (ط بيروت) .
8- تفسير ابن عربي ، ج1 ، ص241-242 .
9- تفسير ابن عربي ، ج2 ، ص593 .
10- تفسير ابن عربي ، ج2 ، ص599 .
11- تفسير ابن عربي ، ج2 ، ص612 .
12- تفسير ابن عربي ، ج2 ، ص720-721 .
13- راجع الفتوحات المكية ، ج1 ، ص279 .
14- الفتوحات المكية ، ج1 ، ص294-295 .
15- المصدر نفسه ، ص53-54 .
16- الفتوحات المكية ، ج3 ، ص221 .
17- رحمة من الرحمان ، ج4 ، ص364 نقلاً عن ديوان ابن عربي ، ص 164 .
18- الفتوحات المكية ،ج1 ، ص115 .
19- الفتوحات المكية ، ج4 ، ص122 .
20- فصوص الحكم ، ج1 ، ص 191-193 (التفسير والمفسرون ،ج2 ، ص342) .
21- الفتوحات المكية ، ج4 ، ص119 .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|