أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-09-2014
4136
التاريخ: 15-1-2016
1573
التاريخ: 15-1-2016
11969
التاريخ: 6-11-2014
2165
|
قد سأل مخالفوا الصّرفة ، فقالوا :
إذا كنتم إنّما تعتمدون في إعجاز القرآن أنّ اللّه تعالى هو المؤيّد به لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، تصديقا له على خرقه لعادة الفصحاء من حيث قعدوا عن معارضته ونكلوا (1) عن مقابلته ، فاعملوا على أنّ خروجه عن العادة في الفصاحة مسلّم لكم على ما اقترحتموه ، من أين لكم أنّ الّذي خرق به عادتنا ، وألقاه إلى من ظهر عليه هو اللّه تعالى؟! وما أنكرتم أن يكون المظهر ذلك على يديه بعض الجنّ الّذين قد اعترفتم بوجودهم ، ويكون قصده به الإضلال لنا والتلبيس ؛ لأنّكم لا تحيطون علما بمبلغ فصاحتهم ، وهل انتهوا من الفصاحة إلى حدّ يجاوز ما نعهدهم أم لا ، بل كلّ ذلك مجوّز غير مقطوع على شيء منه؟! وإذا كان ما ذكرناه جائزا غير ممتنع بطل قطعكم على أنّه من قبل اللّه تعالى! (2).
وقد سئل عن هذا السؤال على وجه آخر آكد من الّذي ذكرناه :
قيل : إذا كان من ظهر القرآن على يديه لم يدّعه لنفسه ، ولا قال إنّه من كلامه ، بل ذكر أنّ ملكا ألقاه إليه وادّعى أنّه رسول اللّه عزّ وجلّ ، وأنتم- قبل أن يصحّ إعجاز القرآن ووجه دلالته على النّبوّة- تجوّزون على الملائكة فعل القبيح؛ لأنّكم إنّما ترجعون في عصمتها إلى الكتاب. ولا علم لكم أيضا بمقدار فصاحة الملائكة ونهاية ما يقدرون عليه من الكلام ، فكيف يصحّ قطعكم على أنّه من عند اللّه تعالى ، مع ما ذكرناه؟ ومن أين لكم أنّ الملك الّذي أتى به صادق في دعواه أنّه رسول اللّه ، ولعلّه من كلامه ، وإن فارق كلام البشر؟! وقد قام هذا السّؤال بالقوم وقعد ، وذهب بهم كلّ مذهب ، وتعاطوا في الجواب عنه طرقا ، كلّها غير صحيح ولا مستمرّ.
ونحن نذكر ما أجابوا به ، وما يمكن أن يجاب به ممّا لم يذكروه ، ونتكلّم بما عندنا فيه (3) :
ممّا أجيب به عنه ، أن قالوا :
قد ثبت أنّ القديم تعالى حكيم لا يجوز عليه استفساد خلقه ولا التلبيس على عباده ، فلو مكّن الجنّ أو الملائكة ممّا ذكرتموه ، لكان نهاية الاستفساد والتّضليل للمكلّفين. وفي ثبوت حكمته دلالة على أنّه يمنع ما طعنتم به ، ولا يمكن منه (4).
وليس الأمر في الاستفساد والتّضليل هو أن يلطف في القبيح ، أو يسلب المكلّفين الطّريق إلى الفرق بين الحجّة والشّبهة ، والدّلالة وما ليس بدلالة.
فأمّا المنع من الشّبهات وفعل القبائح ، فغير واجب عليه تعالى في دار المحنة والتكليف ، من حيث كان في المنع عن ذلك دفع لهما.
وليس يجب- إذا كان تعالى لا يفعل الشّبهات- أن يمنع منها ويحول بين فاعلها وبينها ، كما لا يجب إذا لم يفعل القبيح أن يمنع منه .
والاستفساد في هذا الموضع منسوب إلى من أظهر ما ليس بمعجز على يد من ليس برسول ، ولا يجوز نسبه إلى اللّه تعالى (5).
ومن انفسد به واشتبه عليه أمره ، فمن قبل تقصيره أتي؛ لأنّه لو شاء أن ينظر لعلم الفرق بين المعجز في الحقيقة وغيره؛ فإنّ ما يجوّز العقل وقوعه ممّن يجوز أن يفعل القبيح ، لا يصحّ إلحاقه بالمعجزات.
ونحن ننقض هذا المعنى عند مناقضتنا لصاحب الكتاب الملقّب ب «المغني» ، فلذلك أخّرنا بسط الكلام فيه هاهنا.
طريقة أخرى
قد أجيب عنه ، بأن قيل :
إنّ المراعى في دلالة المعجز على النّبوّة خرق العادة ، وظهور ما لو لم يكن المدّعي صادقا لم يظهر. وقد علمنا أنّ في ظهور القرآن- على الوجه الّذي ظهر عليه- خرقا للعادة ، وأنّه لا فرق في كونه خارقا لها بين أن يكون من فعل اللّه تعالى ، أو من فعل بعض ملائكته . وإنّما دلّ إذا كان من فعله تعالى من الوجه الذي ذكرناه- وهو خرق العادة- فيجب أن يدلّ وإن كان من فعل الملك؛ لاتّفاقهما في وجه الدّلالة. وبطل أن يكون التجويز الّذي ذكر قادحا في إعجازه (6).
وهذا في نهاية الضّعف؛ لأنّ الفعل الّذي يكون معجزا ودالّا على صدق من ظهر عليه لا بدّ فيه من شرائط :
أحدها : أن يكون خارقا للعادة.
ثمّ أن يكون من فعل اللّه تعالى.
ثمّ يكون واقعا موقع التّصديق للمدّعي ، قائما مقام القول له : إنّك صادق.
فليس خرق العادة وحده هو المعتبر؛ لأنّ الإخلال بما ذكرناه من الشّروط- مع ثبوت خرق العادة- كالإخلال بخرق العادة دون ما ذكرناه؟
ومعلوم أنّ المستدلّ متى لم يقطع على أنّ اللّه تعالى هو المصدّق له ، فلا بدّ أن يكون مجوّزا وقوع التّصديق من بعض من يجوز منه فعل القبيح ، ولا يؤمن من جهته تصديق الكذّاب ، ومع التجويز لذلك لا يحسن منه تصديق المدّعي ، فضلا عن أن يجب عليه .
ولم يدلّ الفعل الواقع من جهته تعالى على النّبوّة ، إذا كان خارقا للعادة من حيث خرقها فقط ، على ما توهّموه في الجواب ، بل بأن تكامل له الشّرطان جميعا (7).
وقولهم : لا فرق في باب خرق العادة- بين أن يكون من فعل اللّه تعالى أو من فعل الملك- صحيح ، غير أنّ الفرق وإن لم يكن بينهما من هاهنا فهو حاصل بينهما في الدّلالة على الصّدق الّتي هي مقصدنا.
فامّا قولهم في أوّل الكلام : إنّ المراعى خرق العادة ، وظهور ما لو لا صدق المدّعي لم يظهر؛ فهو المطلوب ، ولكن لا سبيل إليه مع (تجويز أن يقع) (8) التّصديق ممّن لا يؤمن منه فعل القبيح ؛ لأنّ مع التجويز لا نأمن أن يكون المدّعي غير صادق ، وإن ظهر الفعل المخصوص على يده .
وإنّما نأمن ذلك ونقطع على أنّ ظهوره يدلّ على الصّدق وأنّه لو لا صدقه لم يظهر ، إذا علمناه من فعل الحكيم الّذي لا يقع منه القبائح ، جلّ وتعالى علوّا كبيرا.
ونحن نزيد في استقصاء الكلام على هذا الموضع فيما بعد ، فقد تعلّق به صاحب الكتاب الّذي قدّمنا ذكره ، ووعدنا بتتبّعه .
طريقة أخرى
وقد أجيب عنه :
بأنّ العلم حاصل لكلّ عاقل بأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله هو الآتي بهذا القرآن والمظهر له ، على حدّ حصول العلم بوجوده عليه السّلام ، ودعائه إلى اللّه تعالى ، وتحدّيه العرب بالإتيان بمثل ما أتى به .
وإذا كان ما اعترض به من سؤال الجنّ يوجب رفع العلم الّذي ذكرناه ، وجب اطّراحه . وليس هذا بشيء؛ لأنّ الّذي وقع العلم به وارتفع الشكّ فيه هو أنّ القرآن لم يسمع إلّا من النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله ، ولم يظهر لنا إلّا من جهته .
فأمّا العلم بأنّه من فعله أو أنّه لم يأخذه من غيره ، فليس معلوما (9) ، بل المعلوم لنا خلافه؛ لأنّه عليه السّلام قد نفى أن يكون من كلامه ، وخبّرنا بأنّه لقنه من ملك ، هو رسول اللّه .
وفي هذا تأكيد الشّبهة على طريقة خصومنا؛ لأنّ للمخالف أن يقول : اعملوا على أنّي سلّمت أنّه ليس من كلامه ، من أين لكم أنّ الملك الّذي ألقاه إليه وادّعى أنّه رسول اللّه صادق؟ ولعلّه لم يأت عن أمر اللّه ولا برسالته ، فيعود الأمر إلى السؤال الّذي ذكرناه في صدر هذا الفصل ، ويحتاج في الجواب عنه إلى غير ما ذكرناه .
طريقة أخرى
وربّما أجاب بعضهم بأن يقول :
إنّما ثبت وجود الجنّ بعد ثبوت نبوّة نبيّنا صلّى اللّه عليه وآله ؛ لأنّا من جهته علمنا وجودهم ، فكيف يصحّ القدح في النّبوّة بما لا يصحّ إلّا بعد صحّتها ؟
وهذا في غاية الرّكاكة؛ لأنّ السّؤال الّذي أوردناه لا يفتقر في لزومه إلى القطع على وجود الجنّ وإثبات كونهم (10) ، بل لو سلّم أنّ جهة العلم بوجود الجنّ هي قول نبيّنا صلّى اللّه عليه وآله ، وما وردت به شريعتنا لكان الكلام لازما ؛ لأنّ العقل لا بدّ أن يكون مجوّزا لأن يكون للّه تعالى خلق هم جنّ ، ولو لا أنّ ذلك جائز في العقل لما صحّ ورود الشّرع به؛ لأنّ الشّرع لا يرد بإثبات ما يحيله العقل. وإذا جاز ذلك في العقل لزم الكلام.
وقال المخالف : إذا جاز في عقولكم أن يكون للّه تعالى خلق غائبون عن أبصاركم ، لا تبلغكم أخبارهم ، ولا تحيطون علما بمبلغ قواهم وعلومهم- كما تدّعون الإحاطة بذلك في الإنس- فلعلّ بعضهم صنع هذا الكتاب وأظهره على يد من ظهر من جهته ! وبعد ، فإنّ القطع على وجود الجنّ ليس موقوفا على شريعتنا كما ظنّوه ، بل هو موجود في شريعة اليهود والنّصارى والمجوس والمانويّة. وجميع طوائف الثّنويّة تعتقد أيضا وجودهم ، فشهرة ذلك- فيمن ذكرناه- تغني عن إقامة دلالة عليه .
وفي الجملة ، فإنّ من كان يثبت الجنّ- من طوائف النّاس- قبل شريعتنا ، أكثر ممّن كان ينفيهم ، فكيف يدّعي أنّ إثباتهم موقوف على شريعتنا ، لو لا الغفلة ؟!
طريقة أخرى
وممّا قيل في الجواب عمّا أوردناه :
إنّ القرآن لو كان من فعل الجنّ لم يخل من أن يكون من فعل عقلائهم ، أو من فعل ذوي النّقص منهم؛ فإن كان من جهة ناقصيهم ومن ليس بكامل العقل منهم ، فيجب أن يظهر فيه الاختلال والتّفاوت؛ لوجوب ظهور ذلك في أفعال ذوي النّقص.
وإن كان من فعل العقلاء لم يخل أن يكون فعله المؤمنون منهم ، أو الكفّار الفاسقون.
وليس يجوز أن يكون فعلا للمؤمنين ، والمقصود به التلبيس على المكلّفين والإضلال لهم ، وإدخال الشّبه عليهم.
ولو كان من فعل كفّارهم لوجب أن يعارضه المؤمنون ، ويتولّوا إظهار مثله على يد من يزيل عن النّاس الشّبهة به ، وذلك من أكبر قربهم إلى اللّه تعالى.
وإذا فسدت كلّ هذه الأقسام بطل أن يكون من صنيع الجنّ على وجه .
فيقال لمن تعلّق بهذا : ليس يجب لو كان من فعل النّاقص عن كمال العقل أن يظهر فيه الاضطراب والتّفاوت كما ظننت؛ لأنّ الحذق بأكثر الصّنائع لا يفتقر إلى كمال العقل ووفوره ، وإنّما يحتاج في الصّنعة المخصوصة إلى العلم بها ، فليس يضرّها- مع وجود العلم بها- فقد العلوم الّتي هي العقل ، ولهذا نجد كثيرا من أهل الحذق بالصّنائع والتّقدّم فيها بلها [غير] عقلاء ، ويقطع في أكثرهم على خروجه من جملة المكلّفين ، وبعده عن كمال العقل ! فمن أين لك أنّ فقد التّفاوت والاختلال يدلّ على أنّه ليس من فعل خارج عن الكمال ؟ ثمّ من أين أنّ المؤمنين من الجنّ لا يقع منهم استفساد لنا وتلبيس علينا ، ونحن نعلم أنّ الإيمان لا يمنع من المعاصي والفسوق ؟
وأكثر ما في هذا الفعل أن يكون معصية للّه تعالى ، والإيمان غير مانع من ذلك ، سواء [من] قبل مذهب أصحاب الإحباط (11) ، أو مذهب من نفاه؛ لأنّه على المذهبين معا جائز أن يعصي المؤمن. وإنّما الخلاف في زوال ثواب إيمانه بالمعصية ، أو ثبوته معها.
ثمّ من أين أنّ كفّار الجنّ لو كانوا صنعوه لوجب أن يعارضه المؤمنون ؟! وهذا إنّما يثبت لك بعد ثبوت أمرين :
أحدهما : أن مؤمني الجنّ لا بدّ أن يتمكّنوا من الفصاحة التي يتمكّن كفّارهم منها ، حتّى لا يزيدوا في ذلك عليهم.
والآخر : (أنّ المؤمنين لم يخلّوا) (12) بالواجب عليهم.
فكلّ واحد من الأمرين لا سبيل لك إلى إثباته .
أمّا الوجه الآخر : فقد بيّنا ما فيه ، وقلنا : إنّ الإيمان لا يمنع من مواقعة المعاصي ، فكذلك هو غير مانع من الإخلال بالواجب؛ لأنّ الإخلال بالواجب ضرب من المعاصي.
وأمّا الأوّل : فليس يمتنع أن يختصّ العلم بالفصاحة بالجيل الذين هم كافرون ؛ لأنّ العلم بالمهن والصّنائع قد يخصّ قبيلا دون قبيل وجيلا دون جيل ، وليس يجب في ذلك الشّمول والعموم. أ لا ترى أنّ العلم بالفصاحة قد اختصّ به العرب دون العجم ، ثمّ قبائل من العرب دون قبائل ، ثمّ سكّان ديار مخصوصة دون غيرها ، وضروب من الصّنائع كثيرة قد اختصّ بعلمها قوم ، حتّى لم يتعدّهم ، لو شئنا عددناها ؟
وإذا جاز هذا ، فما المانع من أن تكون الفصاحة- أو هذا الضرب منها- إنّما اختصّ به طوائف من الجنّ كافرون ، ولم يتّفق أن يكون في جملتهم مؤمن ؟! وجواز ذلك كاف فيما أوردناه ؛ فقد صحّ ضعف التعلّق بهذه الطريقة من كلّ وجه .
وممّا قيل في الجواب عنه :
إنّه لو كان من فعل الجنّ أو في مقدورهم لوجب مع تحدّيهم به وتقريعهم بالعجز عنه أن يأنفوا ، فيظهروا أمثالا على سبيل المعارضة.
ولو جاز أن يمسكوا عن (13) المعارضة ، وإظهار ما يدلّ على أنّه من فعلهم ومنقول من عندهم لجاز مثل ذلك في العرب ؛ فكنّا لا نأمن أن يكون أكثر العرب قادرين على المعارضة متمكّنين منها ، وإن كانت لم تقع منهم.
فلمّا فسد ذلك في العرب- من حيث علمنا أنّ التحدّي لا بدّ أن يبعثهم على إظهار ما عندهم ، بل وعلى تطلّب ما ليس عندهم- وجب مثله في الجنّ لو كانت قادرة على مثل القرآن؛ لعموم التحدّي للكلّ وتوجّهه إلى الجميع ، لا سيّما والقرآن مصحّح لدعوة من نهى عن اتّباع الشياطين والاغترار بهم ، وآمرنا بالاستعاذة منهم والبراءة من أفعالهم.
وهذا كلام في غاية البعد عن الصّواب؛ لأنّنا إنّما نوجب في العرب المسارعة إلى المعارضة لو كانوا قادرين عليها ، من حيث علمنا توفّر دواعيهم إليها ، وأنّهم قد قاربوا حدّ الإلجاء (14) إلى فعلها. ووجه ذلك ظاهر؛ لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله حملهم على مفارقة أديانهم ، وخلع آلهتهم ، وتعطيل رياستهم وعبادتهم ، وحرّم عليهم أكثر ما كانت جرت به عاداتهم من المآكل والمشارب والمناكح ووجوه المتصرّفات ، وألزمهم من العبادات والكلف ما يشقّ على نفوسهم ، ويثقل على طباعهم. هذا ، إلى تعجيزه لهم فيما كان إليه انتهاء فخرهم ، وبه علوّ كلمتهم من الفصاحة التي كانت مقصورة عليهم ، ومسلّمة إليهم. وليس هذا- ولا شيء منه- موجودا في الجنّ ، فيحمل حالهم على العرب ! وأمّا التّحدّي والتقريع فإنّما يأنف منهما من أثّر في حاله وحطّ من منزلته ، فيبادر إلى المعارضة إشفاقا من الضّرر النازل به . فأمّا من لا يشفق من تغيّر حال فينا ، وانخفاض مرتبة عندنا ، وليس مخالطا لنا فيحفل بذمّنا أو مدحنا ، فليس يجب فيه شيء ممّا أوجبناه في غيره .
ولا ضرر أيضا على الجنّ في النّهي عن اتّباعهم ، واستماع غرورهم (15).
ولو سلّم في ذلك ضررا ، لكان ما يعود على الجنّ- من الشّرف وشفاء الغيظ ، بإدخال الشّبهة علينا ، ونفوذ حيلتهم ومكيدتهم فينا- يزيد عليه ويوفي ، من حيث كان في طباعهم عداوة البشر والسّعي في الإضرار بهم. والضّرر اليسير قد يتحمّل في مثل ما ذكرناه ، وهذا كاف.
طريقة أخرى
وممّا ذكر في جوابه :
أنّ القرآن لو جاز أن يكون من فعل الجنّ وممّا يتمكّن من إلقائه إلينا وإظهاره على يد بعضنا لكانت العرب تواقف على ذلك النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله ، وتحتجّ به عليه ، وتقول له : ما أتيتنا به واحتججت علينا بالعجز عنه ليس يجب أن يكون من فعل ربّك على جهة التّصديق لك ؛ لأنّ الجنّ جائز أن يقدروا عليه ، فلا أمان لنا من أن يكون من فعلهم. وإنّما ألقوه إليك طلبا لإدخال الشّبهة علينا ، فلا نبوّة لك بذلك ، ولا فضيلة! (16) وليس يجوز أن يغفلوا عن الاحتجاج بمثل هذا- لو كان جائزا- مع علمنا بتغافلهم في رفع أمره صلّى اللّه عليه وآله إلى كلّ باطل ، وطرحهم أنفسهم كلّ مطرح.
والحازم العاقل لا يعدل عن أقوى الحجّتين وأوضح الطريقتين ، إلى الأضعف الأغمض ، والجميع معرض له (17).
وإذا كنّا قد أحطنا علما بأنّ ذلك ما لم يحتجّ به العرب ، ولم يتفوّهوا (18) بشيء منه ، قطعنا على أنّه لم يكن.
وهذا أضعف من كثير ممّا تقدّم ؛ لأنّه يوجب أن تكون العرب عارفة بكلّ شبهة يمكن إيرادها في إعجاز القرآن ، حتّى لا يخطر ببال أحد من المتكلّمين شيء في هذا المعنى إلّا وقد سبق خطوره لهم. وقد علمنا أنّ ذلك ليس بواجب (19).
[و] لو كان مثل هذا الاحتجاج صحيحا لوجب أن يستعمل في الجواب عن كلّ شبهة يوردها المخالفون في القرآن ، فيقال في كلّ ما يرد من ذلك :
لو كانت هذه الشّبهة قادحة في إعجاز القرآن ومؤثّرة في صحّة دلالته على النّبوّة ، لوجب [أن] تواقف العرب النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله على معناها ، وتحاجّه بها ، وتجعل علمنا بفقد موافقتهم على ذلك دليلا على بطلان التعلّق به . فيؤول الأمر إلى أنّ الجواب عن جميع شبه المخالفين في القرآن واحد لا يحتاج إلى أكثر منه ، ويصير جميع ما تكلّفه المتكلّمون- من الأجوبة والطرق ، وما خصّوا به كلّ شبهة من القدح (20) - عيبا (21) وفضلا وعدولا عن الطريق الواضح إلى الوعر الشاسع.
وإنّما يحتجّ بمثل هذه الطّريقة من يحتجّ بها فيما يعلم أنّ العرب به أبصر منّا ، وأهدى إلى استخراجه من جميعنا ، بشروط الفصاحة ومراتبها ، ومبلغ ما جرت به العادات فيها ، وكيفيّة التفاضل في صناعتها (22).
فنقول : لو كانت فضيلة القرآن في الفصاحة على سائر كلام العرب كفضيلة بعض الشّعراء على غيره ، أو لو كانت مرتبته في الفصاحة ممّا قد جرت به العادة بالبلوغ إليها- لكن باستعمال التكلّف الشديد والتعمّل الطويل- لوجب أن تواقف العرب على ذلك وتبين عنه ، وذلك إذا ادّعى من ذهب في إعجازه إلى النّظم أنّ جهة إعجازه بنظم غير مسبوق إليه .
يمكن أن يقال له : لو كان ما ظننته صحيحا لوقفت العرب على أنّ ذلك ليس بمعجز ، من حيث كانوا يعلمون من أنفسهم أنّهم قد سبقوا إلى ضروب من النّظوم كثيرة ، وأنّ حال بعض من سبق إلى بعض النّظوم لا يزيد على بعض في معنى السّبق.
وكلّ هذا إنّما أمكن الرّجوع فيه إلى هذه الطريقة ؛ لأنّه ممّا لا بدّ أن يقف عليه العرب ، ولأنّ مرجع غيرهم في العلم به إليهم ، فيجعل إمساكهم عن ذكره دليلا على أنّه لم يكن ، ويحيل (23) عليهم بما لا بدّ (24) أن يزيد حالهم فيه على حالنا ، وبما إن خفي علينا فلا بدّ أن يكون ظاهرا لهم.
وليس كلّ الشّبه تجري هذا المجرى ، أ لا ترى أنّا إذا سئلنا ، فقيل :
لعلّ القرآن وإن كان من فعل اللّه تعالى ، فإنّه لا يدلّ على تصديق من ظهر على يديه؛ لأنّه غير ممتنع أن يكون اللّه تعالى فعله لا للتصديق ، بل للمحنة وتغليظ البلوى ، أو لوجه أخر من المصلحة.
أو قيل لنا على طريقتنا في الصّرفة : اعملوا على أنّ اللّه تعالى صرف عن معارضة القرآن ، من أين لكم أنّه فعل ذلك تصديقا للرسول صلّى اللّه عليه وآله ؟
لم نفزع إلى أن نقول : الدّليل على أنّه لم يرد إلّا التّصديق أنّه لو احتمل خلافه لوقفت العرب على ذلك ، ولقالت كيت وكيت.
وكذلك لو سئلنا ، فقيل لنا :
ما أنكرتم أن يكون القرآن غير معجز ولا دالّ على التّصديق؛ لأنّه من جنس مقدور البشر. والمعجز لا يكون إلّا بما ينفرد اللّه تعالى بالقدرة عليه . وبيّن أن يكون ممّا يقدر العباد على جنسه أنّ العرب لم تواقف عليه ، ولم تحتجّ به ، وأنّه لو كان بين الأمرين فرق في معنى الدّلالة لوجب أن تقع منها المواقفة ، بل كنّا نعدل في الجواب عن جميع هذه الشّبه إلى ذكر ما يبطلها ، من غير أن نحيل بذلك على غيرنا ، ولا يجري الكلّ مجرى واحد.
ثمّ يقال للمتعلّق بما حكيناه : أيجوز عندك أن يخطر لمن تأخّر من المتكلّمين أو لبعض مخالفي الملّة ، شبهة في القرآن لم تخطر للعرب ؟
فإن قال : يجوز ذلك ولا يمتنع.
قيل له : فلعلّ هذه الشّبهة لم تخطر للعرب ، فلهذا لم يواقفوا عليها.
وإن قال : لا يجوز أن يخطر لأحد في هذا المعنى ما لم يخطر للعرب.
قيل له : ولم قلت ذلك ؟ وكيف ظننت أنّ العرب لا بدّ أن تعرف كلّ شيء ، ويخطر ببالها دقيق هذا الباب وجليله ؟! وهذا يوجب أن يكون جميع ما زاده المتكلّمون على نفوسهم من الشّبه في القرآن وأجابوا عنه ، وكلّ ما استدركه بعضهم على بعض ، وفرّعوه على مذاهبهم ، وملئوا به الدّروس (25) ، واستنفدوا فيه الأعمار ، كان مستقرّا عند العرب ومجموعا علمه لهم. وليس يظنّ مثل هذا الأمر ذو العقل فضلا عن أن يعتقده .
وكيف يتوهّم هذا ، ونحن نعلم أنّ شبهة الجنّ إنّما زادها متكلّموا الإسلام على أنفسهم قريبا ، ولقنها منهم المخالفون في الملّة ، واتّخذوها شبهة وعمدة. وأنّها لم توجد في كتب من تقدّم من المتكلّمين وفي جملة ما زادوه على نفوسهم في القرآن ، مع ما أنّهم قد استقصوا ذلك بجهدهم ، وبحسب مبلغ علمهم؟! ولا سمعت أيضا فيما تقدّم [من] أحد من المخالفين ، مع تعلّقهم بكلّ باطل وتوصّلهم إلى كلّ ضعيف من الشّبه . وما يغرب استدراكه على حذّاق المتكلّمين ووجوه النظّارين ، ثمّ على أهل الخلاف في اللّه (26) - وفيهم من له حذق بالنّظر وخواطر قريبة فيه- أولى وأحرى بأن يذهب على العرب ، ولا يخطر لهم ببال ، وليس النظر من صنعتهم ، ولا استخراج ما جرى هذا المجرى في قولهم؟! ثمّ يقال لهم : إذا جعلتم ترك العرب المواقفة على ما ذكرتموه دليلا على أنّ القرآن ليس من فعل الجنّ ، ولا واردا من جهتهم ، فخبّرونا عنهم لو واقفوا على ذلك وادّعوه لكانت مواقفتهم دليلا على أنّه من فعل الجنّ! فإن قالوا : «نعم» قالوا ما يرغب بالعقلاء عن مثله ، وطولبوا بتأثير موافقتهم وتركها في الأمرين جميعا ، ووجه دلالتها ، فإنّهم لا يجدون متعلّقا.
فإن قالوا : لا تدلّ دعواهم على أنّه من فعل الجنّ ، ومواقفتهم على ذلك على أنّه من فعلهم في الحقيقة.
قيل لهم : فكيف لم تدلّ المواقفة على هذا ، ودلّ تركها على ما ادّعيتموه ؟!
وأيّ تأثير لتركها ليس (هو لفعلها) (27) ؟
فإن قالوا : لأنّه لو كان من فعل الجنّ لوجب أن يخطر ذلك ببال العرب ، مع اجتهادهم في التماس الشّبهات ، [و] لو خطر لهم لوقفوا عليه . وإذا لم يفعلوا فلأنّ ذلك ممتنع عندهم.
وليس دعواهم أنّه من فعل الجنّ بهذه المنزلة ؛ لأنّهم قد يجوز أن يكذبوا (28) بادّعاء ذلك ، ويحملهم القصور عن الحجّة ، وقلّة الحيلة على البهت والمكابرة (29).
قيل لهم : هذا رجوع إلى أنّ العرب يجب أن تعرف كلّ شيء ، وقد قلنا في ذلك ما فيه كفاية.
وبعد ، فليس يمكنكم أن تقولوا : إنّ الجنّ لو كانت فعلت القرآن لوجب أن تعلم العرب بحالهم؛ لأنّه لا دليل لهم على مثل هذا ، ولا طريق يوصلهم إلى العلم به .
وأكثر ما تدّعون أن تقولوا : إنّ العرب لا بدّ أن يخطر ببالها جواز كون مثل القرآن في مقدور الجنّ ، وإذا خطر لها ذلك ولم يؤمنها من أن تكون فعلته وأظهرته شيء ، لم يكن لها بدّ من المواقفة عليه! وهذا ممّا لا فرج لكم فيه ، لأنّا نقول عنده :
فاذكروا ما الّذي أمن العرب من أن يكون الجنّ فعلته- مع تجويزها أن يكون مقدورا- حتّى عدلت من أجله عن المواقفة؟ وأشيروا إليه بعينه؛ فإنّ هذا ممّا لا يحسن أن يقع الحوالة به على العرب ، فإنّ حالهم فيه إن لم ينقص عن حال النّظّارين المتكلّمين ، لم يزد! وما فينا إلّا من يجوّز أن يخطئ العرب ومن هو أثبت معرفة من العرب في مثل هذا ، ويعتقد فيه خلاف الحقّ (30) . فيعود الكلام إلى أنّ الجواب عن السّؤال يجب أن يذكر بعينه ، ليقع النظر فيه والتّصفّح له ، ويكون الحكم على صحّته أو فساده بحسب ما يوجبه النّظر. وأنّ (الحوالة في وقوعه) (31) على غائب لا تغني شيئاً .
طريقة أخرى
وممّا يمكن أن يقال في السّؤال الذي ذكرناه :
إنّ تجويز كون القرآن من صنع الجنّ وما ألقته إلينا- طلبا لإدخال الشّبهة- يؤدّي إلى الشّكّ في إضافة الشّعر إلى قائليه والكتب إلى مصنّفيها ، وجميع الصنائع إلى صنّاعها! وكنّا لا نأمن أن يكون الشّعر المضاف إلى امرئ القيس ليس له ، وإنّما هو من قول بعض الجنّ ألقاه إليه لبعض الأغراض ، وأن يكون امرؤ القيس من أعجز النّاس عن قول الشّعر ، وأبعدهم عن نظمه ورصفه ! وكذلك «الكتاب» المنسوب إلى سيبويه في جمعه وترتيبه ، ولا معرفة له بشيء منه .
فإذا كان الشّكّ فيما ذكرناه يقرب من مذاهب السّوفسطائيّة ، وإن لم يكن بينه وبين ما ألزمناه فرق ، وجب فساد الاعتراض بذكر الجنّ.
فأوّل ما نقوله في الكلام على من تعلّق بهذه الطريقة :
إنّ سائلها لم يجب عمّا سئل عنه ، ولا انفعل ممّا ألزمه ، وإنّما عارض بما ظنّ أنّه لا فصل بينه وبين ما أورد عليه .
ولو قيل له : أذكر ما يؤمن من الجميع ، وأظهر له الشّك في الكلّ لافتقر ضرورة إلى الجواب؛ اللّهمّ إلّا أن يقول : إنّني أعلم ضرورة صحّة إضافة هذه الأشعار والكتب إلى من أضيفت إليه ، ولا يعترض شكّ في ذلك.
فيقال له حينئذ : أفتعلم أيضا ضرورة أنّ القرآن ليس من فعل الجنّ ، ولا يعترضك شكّ فيه ؟
فإن قال : «نعم» ، كفى مئونة الاحتجاج ، ووجب عليه أن يجعل ذكر العلم الضّروريّ هو الجواب عمّا سئل عنه ، فلا يتشاغل بغيره ! ولو كان هذا معلوما ضرورة لما صحّ من العقلاء التّنازع فيه ، ولوجب أن يشتركوا في معرفته ، وليس هم كذلك.
فإن قال : لست أعلم ما ذكرتموه في القرآن ضرورة ، وإن كنت أعلم الأوّل.
قيل له : قد حججت نفسك ، لأنّ خصمك يقول لك : الفرق بين الموضعين هو العلم الضّروريّ الحاصل في أحدهما ، وتعذّره في الآخر.
على أنّ المعارضة أيضا موضوعة غير موضعها ؛ لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله لم يقل قطّ إنّ القرآن من فعله وإنّه المبتدئ به ، بل ذكر صلّى اللّه عليه وآله أنّ ملكا أنزله عليه بأمر ربّه- جلّت عظمته- على ما ذكرناه من قبل ، ولا ادّعى أحد من تابعيه أيضا له أنّه فعل القرآن.
وكيف يصحّ حمل ذلك على كتاب أو شعر ظهر من جهة رجل بعينه ادّعاه لنفسه ، وأنّه المتفرّد بنظمه ورصفه ، وسلّم إليه جميع النّاس في دعواه ، وأضافوا إليه ما أضافه إلى نفسه ، ولم يعثر في أمره على منازع ولا مخالف ؟! وإنّما تكون هذه المعارضة مشبهة للمعارضات لو كان النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله مضيفا للكتاب إلى نفسه ، وذاكرا أنّه من فعله ، فيسقط قول من نفاه عنه وشكّ في إضافته إليه بمثل ما ذكر.
فأمّا والأمر على ما ذكرناه لكان هذا المعارض يقول :
إذا جاز أن يكون القرآن- الذي لم يدّعه من ظهر على يديه ، ولا أضافه إلى نفسه- فعلا لغيره ، فليجوّزنّ أن يكون ما ادّعاه الشّعراء والمصنّفون من شعرهم وكتبهم أضيف إليهم ولم يظهر إلّا من جهتهم ، فعلا لغيرهم ؟! وليس يخفى بعد هذه المعارضة على هذا الوجه .
وبعد ، فمع التّجويز لوجود الجنّ وتمكينهم من التصرّف في ضروب العلوم والكلام ، [و] عدم ما يؤمن من إتيانهم في ذلك إلى حدّ مقطوع عليه ، لا بدّ من الشّكّ في جميع ما ذكر.
وكيف لا يشكّ فيه والشّعراء أنفسهم يدّعون أنّ لهم أصحابا من الجنّ يلقون الشّعر على ألسنتهم ، ويخطرونه بقلوبهم؟! وهذا حسّان بن ثابت يقول (32) :
ولي صاحب من بني الشّيصبان (33) |
فطورا أقول ، وطورا هوه ! |
وقصّة الفرزدق في قصيدته الفائيّة مشهورة ، وذلك أنّ الرّواية جاءت بأنّه كان جالسا في مسجد المدينة ، في جماعة فيهم كثير (34) عزّة ، يتناشدون الأشعار ، حتّى
طلع عليهم غلام ، فقال : أيّكم الفرزدق ؟
فقال له بعض الحاضرين : أهكذا تقول لسيّد العرب وشاعرها ؟
فقال : لو كان كذلك لم أقل له هذا ! قال له الفرزدق : من أنت ، لا أمّ لك ؟! قال : رجل من الأنصار من بني النّجّار ، ثمّ أنا ابن أبي بكر بن حزم ، بلغني أنّك تقول إنّي أشعر العرب ، وقد قال صاحبنا حسّان شعرا ، فأردت أن أعرضه عليك ، وأؤجّلك فيه سنة ، فإن قلت مثله فأنت أشعر النّاس ، وإلّا فأنت كذّاب منتحل ! ثمّ أنشده :
لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضّحى |
وأسيافنا يقطرن من نجدة دما (35) |
إلى آخر القصيدة. وقال له : قد أجّلتك فيه حولا.
ثمّ انصرف الفرزدق مغضبا يسحب رداءه حتّى خرج من المسجد ، فعجب الحاضرون ممّا جرى. فلمّا كان من الغد أتاهم الفرزدق وهم مجتمعون في مكانهم ، فقال : ما فعل الأنصاريّ؟ فنالوا منه وشتموه ، يريدون بذلك أن تطيب نفس الفرزدق. فقال : قاتله اللّه! ما رميت بمثله ، ولا سمعت بمثل شعره ! ثمّ قال لهم : إنّي فارقتكم بالأمس فأتيت منزلي ، فأقبلت أصعّد وأصوّب في كلّ فنّ من الشّعر ، وكأنّي مفحم لم أقل شعرا قطّ ، حتّى إذا نادى المنادي الفجر (36)
رحلت ناقتي ، ثمّ أخذت بزمامها. فقدت بها (37) حتّى أتيت ذبابا- وهو جبل بالمدينة- ثمّ ناديت بأعلى صوتي : أجيبوا أخاكم أبا لبينى ! فجاش صدري كما يجيش المرجل (38) فعقلت ناقتي ، وتوسّدت ذراعها ، فأقمت حتّى قلت مائة وأربع عشرة قافية! فبينا هو ينشدهم ، إذا طلع الأنصاريّ حتّى انتهى إليهم ، فقال :
أما إنّي لم آتك لأعجلك عن الأجل الذي وقّتّه لك ، ولكنّي أحببت ألّا أراك إلّا سألتك ما صنعت؟ فقال له الفرزدق : اجلس ، ثمّ أنشده .
عزفت بأعشاش ، وما كنت (39) تعزف |
فأنكرت (40) من حدراء ما كنت تعرف (41) |
و«أبو لبينى» الّذي ناداه الفرزدق في هذه القصيدة هو الذي يقال : إنّه شيطان الفرزدق والمظاهر له على قول الشّعر والملقية إليه ، كما قالوا : إنّ عمرا شيطان المخبّل السّعديّ (42) ، وإنّ مسحلا شيطان الأعشى. وأنشدوا في ذلك قول الأعشى :
دعوت خليلي مسحلا ، ودعوا له |
جهنّام ، جدعا للهجين المذمّم (43) |
وهو الّذي يعنيه بقوله في هذه القصيدة أيضا :
حباني أخي الجنّيّ ، نفسي فداؤه |
بأفيح جيّاش من الصوت خضرم (44) |
وأنشدوا أيضا في هذا المعنى لأعشى بني سليم :
وما كان جنّيّ الفرزدق بارعا |
|
وما كان فيهم مثل خافي المخبّل |
وما في الخوافي مثل عمرو وشيخه |
ولا بعد عمرو [شاعر] (45) مثل مسحل |
وأراد بقوله : «الخوافي» الجنّ ، وواحدهم خاف ، سمّوا بذلك لخفائهم.
وقد قيل أيضا : إنّ الجنّ قتلت حرب بن أميّة (46) ، ومرداس بن أبي عامر السّهميّ ، وأنّ السبب في ذلك إحراقهما شجرة بقرية (47) ، وأنّهما لمّا أحرقاها سمعا هاتفا يقول :
ويل لحرب فارسا |
قد لبسوا القوانسا |
|
لتقتلن بقتله |
جحاجحا عنابسا |
وهذا الخبر معروف. وكذلك سعد بن عبادة (48) ، قيل إنّ الجنّ قتلته ، وقالت في ذلك :
قد (49) قتلنا سيّد الخز |
رج سعد بن عباده |
|
ورميناه بسهمي |
ن فلم نخطئ فؤاده |
ونظائر ما ذكرناه كثيرة جدّا ، إن ذهبنا إلى تقصّيها خرجنا عن غرضنا.
ومذاهب العرب في هذا الباب مشهورة ، وما يدّعونه فيه معروف ، ولا سبيل معه إلى القطع على أنّ قصيدة بعينها من قول من أضيفت إليه ، وأنّه السّابق إلى نظمها والمتفرّد به من غير معين ولا ظهير ، على ما يحتاج إلى ذكر الجنّ ، والتعلّق بما تدّعيه العرب في بابهم.
ونحن نعلم أنّ مع نفيهم- أو نفي تمكّنهم من إظهار الشّعر وغيره على أيدي البشر- لا يمكن القطع على شيء ممّا ذكر أيضا؛ لأنّ الشّعر المضاف إلى الشّاعر نفسه يمكن أن لا يكون- أو أكثره- له ، بأن أعانه عليه معين لم يضفه إلى نفسه ، وأضافه هذا وادّعاه ، فروي عنه .
[أو] أن يكون قولا لخامل ، ظفر به من ادّعاه فأضافه (50) إليه دون قائله في الحقيقة ، ولبعد العهد في هذا الباب تأثير قويّ.
وممّا يشهد بصحّة ما ذكرناه أنّا قد وجدنا جماعة من مجوّدي الشّعراء قد أغاروا على شعر غيرهم فانتحلوه ، مع منازعة قائليه لهم ومجاذبتهم عليه . ولم يمنعهم ذلك من التّصميم على الدّعوى.
والفرزدق أحد المشتهرين بهذا الأمر ، والرّواية عنه مستفيضة بأنّه كان يصالت الشّعراء على شعرهم فيغالبهم عليه ، وكان يقول : «ضوالّ الشّعر أحبّ إليّ من ضوالّ الإبل ، وخير السّرقة ما لا يجب فيه القطع» ، يعني سرقة الشّعر.
وإذا استحسن الشّعراء هذا وأقدموا عليه فيما له قائل حاضر ينازع فيه ، فكيف بهم فيما قد انقطعت فيه الخصومة وزالت الشّنعة ، إمّا لدروس خبر قائله وانقطاع أثره ، أو لإمساكه ، أو لغير هذا من الأسباب ، وهي كثيرة.
وممّا يؤيّد كلامنا ما هو ظاهر من اختلاف الرّواة والعلماء بالشّعر في قصائد وأبيات من قصائد كثيرة؛ ففيهم من يروي القصيدة- أو الأبيات منها- لشاعر بعينه ، وآخرون يروونها لغيره ، وأقوالهم في ذلك كالمتكافئة؛ لأنّ كلّا منهم يسند قوله إلى رواية.
وقد روي عن الرّياشيّ (50) أنّه قال : يقال إنّ كثيرا من شعر امرئ القيس ليس له ، وإنّما هو لفتيان كانوا يكونون معه ، مثل عمرو بن قميئة (51) وغيره ، وزعم ابن سلّام (52) أنّ القصيدة المنسوبة إلى امرئ القيس التي أوّلها :
حيّ الحمول بجانب العزل (53) انّما رواها حمّاد (54) ، وهي لامرئ القيس بن عامر الكنديّ. وقد قيل : إنّها لابن الحُميِّر الباهليّ.
وقد نفى عنه هذه القصيدة أيضا المفضّل الضّبّيّ (55) الرواية. وروي أنّ أوّل بيت من اللاميّة المنسوبة إلى امرئ القيس ، وهو :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل (56) وقال قوم : هو وأبيات بعده من أوّل هذه القصيدة لامرئ القيس بن حمام- وقيل جذام- وإنّما علقمت على امرئ القيس بن حمام.
وروي عن ابن الكلبيّ (57) ، أنّه كان ينفي عن امرئ القيس :
تطاول ليلك بالإثمد |
ونام الخليّ ولم ترقد (58) |
ويضيفها إلى عمرو بن معد يكرب (59).
وكان الأصمعىّ (60) ينفي عنه قصيدته :
لا وأبيك ابنة العامريّ |
لا يدّعي القوم أنّي أفرّ (61) |
وروي عن أبي عبيدة (62) في نفيها عنه مثل ذلك ، وأنّه كان ينسبها إلى رجل من النّمر بن قاسط (63) ، يقال له ربيعة بن جشم ، ويروي أنّ أوّلها :
أحار بن عمرو كأنّي خمر |
ويعدو على المرء ما يأتمر |
وروى أبو العبّاس المبرّد (64) ، عن الثّوريّ (65) أنّه قال :
سمعت أبا عبيدة يحلف باللّه أنّ القصيدة المنسوبة إلى علقمة بن عبدة (66) :
طحا بك قلب في الحسان طروب إنّما هي للمثقّب العبديّ (67) ، قال : واسمه شاس بن بهار ، وفيها يقول :
وفي كلّ قوم قد خبطت بنعمة |
وحقّ لشأس من نداك ذنوب |
يعني نفسه . فقال له النّعمان : إي واللّه ، وأذنبه ! فقيل لأبي عبيدة : فمن ألقاها على علقمة وروى فيها كثيرا ؟
قال : صيرفيّ أهل الكوفة الذي تضرب عنده الأشعار ، وتولد منه الأخبار- يعني حمّادا ! وغير أبي عبيدة يروي هذه القصيدة لعلقمة ، ويقول : إنّ علقمة كان له أخ يقال له شاس ، أسرته غسّان (68) ، وحصل في يد الحارث بن أبي شمر الغسّانيّ ، وامتدح علقمة الحارث بن أبي شمر بهذه القصيدة ، وسأله إطلاق أخيه فأطلقه (69). وله معه خبر معروف.
والقول فيما نحوناه واسع ، وإنّما ذكرنا منه قليلا من كثير. ومن أراد استقصاءه واستيفاءه طلبه من مظانّه ، وفي الكتب المخصوصة به .
وكما أنّ الرّواة اختلفوا في الشّعر ، فأضاف قوم بعضها إلى رجل ، وخالف آخرون فأضافوها إلى غيره . واختلافهم في كتاب العين المنسوب إلى الخليل (70) والاغاني المنسوب إلى إسحاق (71) ، معروف.
غير أنّ الطريق الذي سلكناه لا يوجب علينا الشّكّ في علم سيبويه بالنّحو ، وقدرة امرئ القيس وأمثاله على قول الشّعر ، وتجويز كون هذا جاهلا بالنّحو ، وهذا مفحما (72) لا يستطيع نظم بيت من الشّعر؛ لأنّا إنّما سلكنا في إضافة القصيدة بعينها إلى الشّاعر ، من حيث لم يكن لنا طريق يوصلنا إلى العلم بأنّه قائلها أكثر من قوله ودعواه .
وليس كذلك حال العلم بأنّ رجلا بعينه يقدر على نظم الشّعر ويعلم النّحو؛ لأنّ الطريق إلى اختبار ذلك وامتحانه واضح لا ريب فيه ، أ لا ترى أنّ من أتانا بقصيدة منظومة أو كتاب مصنّف في النّحو ، يجوز فيما أتى به أن يكون من نظم غيره وإن ادّعاه لنفسه ، ولا سبيل لنا إلى العلم بصدقه من جهة قوله ، ولا من قول من أضاف ذلك إليه ممّن يجري مجراه في جواز الكذب عليه .
ولنا سبيل إلى اختبار حاله في المعرفة بالنّحو والقدرة على قول الشّعر بأن نسأله عن مسائل النّحو المشكلة ، فإذا رأيناه يتصرّف في الجواب عنها والحلّ لمشكلها قطعنا على علمه بالنّحو.
وإذا أردنا امتحانه في الشّعر اقترحنا عليه أوزانا بعينها (73) ، ومعاني مخصوصة ، فألزمناه أن ينظم ذلك بحضرتنا ، فإذا فعل وأردنا الاستظهار كرّرنا اقتراح أوزان ومعان أخر تقطع على أنّ الشّعر المأثور خال ممّا يجمع من المعنى والوزن ما اقترحناه؛ فإذا فعل فلا سبيل إلى تهمته .
ولهذه الأمور من الأمارات الدّالّة على المنتحل من الصّادق ما يعرف بمشاهدة الحال ، ولا يمكن الإخبار عنه ، فإنّ المتمكّن من قول الشّعر ، يظهر منه عند المباحثة والامتحان ما يضطرّ إلى صدقه . وكذلك المنتحل يظهر منه ما يضطرّ إلى كذبه .
وفي هذا الباب لطائف يشهد بها الحسّ ، ومن بلي باختباره وكانت له معرفة به ودربة ، علم بصحّة قولنا.
والشّعر وغيره من الكلام يجريان مجرى الصّنائع التي يظهر فيها الإتقان والإحكام في القطع على علم فاعلها أو الشّكّ فيه؛ لأنّ أحدنا لو أحضر غيره ثوبا منسوجا حسن الصّنعة متناسب الصّورة ، وادّعى أنّه صانعه وناسجه ، لم يجب تصديقه . ولو أنّه نسج مثل ذلك الثّوب بحضرته للزمه القطع على علمه بالنّساجة وخبره بها.
ولو كان- أيضا- المعتبر على هذا المدّعي صحّة قوله بعض أهل الحذق بالنّساجة ، حتّى يسأله عن لطائف تلك الصّنعة وخصائصها- وعلم بعلم النّسّاج أنّه لا يجيب فيه بالمرضيّ إلّا بصير (74) بالصّنعة- فأجاب من كلّ ذلك بالصّحيح لوجب القطع على بصيرته ، ولاستغنى بهذا القدر من (75) الامتحان عن تكليفه النساجة بحضرة ممتحنة.
وليس لأحد أن يقول : إنّ الشّعر وغيره من أجناس الكلام يخالف الصّنائع في أحد الوجهين اللّذين ذكرتموها؛ لأنّ الصّنعة المبتدأة بحضرتنا نقطع على حدوثها في الحال ؛ لأنّ النّقل لا يمكن فيها ، والكلام ممكن حفظه ونقله ، فيجوز في كلّ ما ادّعى الابتداء به أن يكون منقولا لا مبتدأ ؛ لأنّ الشّعر- وإن جاز فيه النّقل والحفظ- فمعلوم أنّ الاعتبار قد ينتهي إلى ما يمتنع معه تجويز مثل ذلك ؛ لأنّ الشّاعر أو الكاتب إذا طولب بوصف حال مخصوصة أو حادثة بعينها (76) مقطوع على أنّها لم يتقدّم مثلها على صنعتها وهيئتها ، وألزم تسمية حاضريها ، وذكر خصائصها ، واستظهره عليه باقتراح وزن معيّن وقافية مخصوصة ، علم ابتداؤه بما يأتي به ، كما يعلم ابتداء غيره .
والكتابة والنساجة [كذلك] وإن كان العلم أغمض طريقا من الثاني ، لأنّه مستند إلى العادات وما يجوز أن يتّفق فيها وما لا يتّفق.
وبعد ، فمعلوم عند أهل هذا الشّأن أمر الاعتبار على الشاعر طريقا يوصل إلى العلم بحقيقة أمره ، وهل هو متمكّن من نظم الشّعر أم لا ، ليس هو الرجوع إلى مجرّد دعواه لنفسه .
وإذا صحّت هذه الجملة الّتي أوردناها ، وعلمنا بالنّقل الشّائع الذّائع تصرّف سيبويه وأمثاله المشهّرين في علم النّحو ، وأنّهم كانوا يشرحون غامض المسائل ، ويوضحون مشكلها على البديهة وفي الحال من غير رجوع إلى كتاب أو غيره ، وأنّ خصومهم كانوا ربّما أعنتوهم وامتحنوهم بمسائل غريبة مفقودة من الكتب ، فتكون حالهم في الجواب بالصّحيح عنها واحدة لا تختلف.
وهذه حال من تقدّم في قول الشّعر واشتهر به ؛ لأنّه لا أحد منهم إلّا وقد امتحن واستظهر عليه ، حتّى عرف حقيقة أمره ؛ إمّا بامتحان مخصوص اتّصل بنا ، أو بأمر عرفناه على سبيل الجملة.
وقد كان كثير منهم يرتجل الشّعر في المقامات والمحافل المخصوصة ، ويصف في الوقت ما جرى فيها ممّا لم يتقدّم علمه به . وكذلك كانوا يصفون الحروب الّتي تجري بينهم ، ويرتجزون في الحال بذكر ما جرى فيها ، ويعيّرون بقتل من قتل ، وفرار من فرّ ، ونكول من نكل. وهذه الأمور إذا أضيف بعضها إلى بعض خرج منها ما أردناه .
وفي الجملة : إنّ كلّ من ظهر منه الشّعر وغيره ما لا يرجع في إضافته إليه إلّا إلى قوله ، دون دلالة أو أمارة توصلنا إلى صحّة قوله ، فالواجب الشّكّ في حاله .
ونهاية ما يصير إليه في أمره عند حسن الظّنّ به ، وقوّة أمارات صدقه ، أن يغلب في الظّنّ أنّه صادق.
فأمّا العلم اليقين فلا سبيل إليه إلّا بسلوك بعض ما قدّمناه . ومن ليس بقويّ البصيرة- إذا غلب ظنّه في هذه المواضع ، واستبعد أن يكون الأمر بخلاف ظنّه- يعتقد أنّه على علم يقين ، ولو تنبّه على بعض ما أوردناه لعرف أنّه الحقّ ، وهذا واضح لمن نصح نفسه .
*** فإن قال قائل : قد بيّنتم لزوم الاعتراض بالجنّ لمخالفيكم ، وكشفتم عن بطلان أجوبتهم عنه ، ولم يبق عليكم إلّا أن تبيّنوا أنّه غير لازم على مذهبكم ، ولا قادح في طريقتكم ، ليتمّ ما أجريتم إليه من الغرض.
قيل له : سقوط هذا السؤال عن مذهب الصّرفة لا إشكال فيه ، وذلك إنّا إذا كنّا قد دللنا على أنّ تعذّر المعارضة لم يكن لفرط الفصاحة ، وإنّما كان لأنّ العلوم الّتي يتمكّنون بها من المعارضة سلبوها في الحال ، فلا معنى للاعتراض بالملائكة والجنّ؛ لأنّ الأدلّة القاهرة قائمة على أنّ أحدا من المحدثين لا يتمكّن أن يفعل في قلب غيره شيئا من العلوم ولا من أضدادها ، بل لا يقدر أن يفعل فيه شيئا من أفعال القلوب جملة.
ولا فرق في هذا التّعذّر بين ملك وجنّيّ وبشر؛ لأنّه إنّما تعذّر علينا لكوننا قادرين بقدر ، فكلّ من شاركنا فيما به قدرنا لا بدّ أن يتعذّر عليه ذلك.
وليس يقدح (77) فيما ذكرناه ما يقوله البغداديّون من أنّ بعضنا يفعل في بعض العلوم. لأنّ مذهبهم هذا وإن كان واضح البطلان ، فإنّهم إنّما يقولون ذلك في العلوم التي يعتقدون أنّ لها أسبابا مخصوصة توجبها ، مثل العلوم بالمدركات. وليس للمعلوم بالفصاحة أسباب يشار إليها ، يدّعى أنّها توجبها. ولو ادّعي ذلك أيضا لم يمكن أن يدّعى أنّ أضداد العلوم بالفصاحة أو غيرها من سائر العلوم ، تقع موجبة عن أسباب من فعلنا. وهذا الموضع هو الذي يحتاج إليه .
فإذا صحّت هذه الجملة صحّ (78) أنّ السّؤال غير متوجّه إلينا ؛ لأنّا اعتمدنا في المعجز على أمر لا يقدر عليه غير اللّه تعالى .
وقد كان بعض المعتزلة قال لي ، وقد سمع منّي الكلام في مسألة الجنّ وبيان لزومها لمن عدل عن الصّرفة : هذا الّذي تسلكه يبطل جميع المعجزات؛ لأنّه لا شيء منها إلّا ويمكن أن يدّعى أنّ الجنّ صنعته (79) ، فيجب أن تترك هذه الطريقة للبراهمة ، ولا تعتمدها وأنت تصحّح المعجزات ! فقلت له : كيف تظنّ مثل ذلك ، والمعجزات على ضربين :
أحدهما : يختصّ القديم تعالى بالقدرة عليه ، نحو إحياء الميّت ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وخلق الجسم ، وفعل القدر والعلوم المخصوصة.
وهذا الوجه ينقسم :
فمنه : ما وقوع قليله كاف في الدّلالة كوقوع كثيره ، نحو إحياء الميّت ، وإبراء الأكمه والأبرص؛ لأنّ القليل منه والكثير لم تجر به العادة.
ومنه : ما يدلّ إذا وقع منه قدر مخصوص- كالقدر والعلوم- أو وقع منه تغيّر سبب ما ، العادة جارية بوقوعه ، لا يمكن أن يعترض فيه بالجنّ ، كما لا يمكن بالإنس ؛ لخروجه عن مقدور الجميع.
والضّرب الثّاني من الأوّلين : هو ما دخل جنسه تحت مقدور العباد.
وهذا الوجه إنّما يدلّ عندنا إذا علم أنّ القدر الواقع منه والوجه الّذي وقع عليه ممّا لا يتمكّن أحد من المحدثين منه ؛ فمتى لم يعلم ذلك لم يكن دالّا ، كما أنّه متى لم يعلم- عند خصومنا في الوجه أنّ الفعل ممّا لا يتمكّن البشر منه- لم يدلّ ، فنجري نحن اعتبار خروجه عن إمكان البشر (80).
وليس لك أن تقول : وكيف يمكنهم العلم بأنّه ليس في إمكان جميع المحدثين ، ولا سبيل لكم إلى ذلك؟! وهذا يردّكم إلى أنّ الوجه الّذي تصحّ منه المعجزات واحد ، وهو ما يختصّ القديم تعالى بالقدرة عليه (81).
وذلك أنّه ليس بمنكر أن يخبرنا اللّه تعالى على لسان بعض رسله- ممّن أيّده ببعض المعجزات الّتي يختصّ جلّ وعزّ بالقدرة عليها- بأنّ عادة الملائكة والجنّ مساوية لنا في كلّ الأفعال وفي بعضها ، وأنّ ما يتعذّر علينا من ذلك يتعذّر عليهم؛ فمتى ظهر على يد مدّعي النّبوّة- بعد تقرّر هذا عندنا- فعل قد تقدّم علمنا بأنّ عادة الملائكة والجنّ فيه مساوية لعادتنا ، وتعذّر علينا على وجه يخرق عادتنا ، لحق ذلك بالمعجزات المتقدّمة ، ودلّ كدلالتها. فقد وضح بطلان ما ظننته علينا من فساد طريق المعجزات (82).
فقال : ولم أنكرت أن يكون اللّه تعالى قد أجرى عادة الجنّ بأن يحيي الموتى بينهم عند إدناء جسم له طبيعة مخصوصة منه ، وكذلك في الأكمه والأبرص ، كما أجرى عادتنا- عند كثير من المتكلّمين- بتحرّك الحديد عند قرب حجر المقناطيس منه وانجذابه إليه . وكما العادة بما يظهر من التأثيرات عند تناول الأدوية ، وإن كانت غير موجبة لها.
وإذا جوّزنا ذلك لم يجب لنا تصديق من ظهر على يده إحياء الميّت ؛ لأنّا لا نأمن أن يكون الجنّيّ نقل إليه ذلك الجسم الّذي قد أجرى اللّه عادة الجنّ بأن يحيي عنده الموتى وسلّمه إليه ، فتأتّى منه لأجله ما تعذّر علينا. ولا يجب على اللّه تعالى المنع من ذلك ، لمثل ما ذكرتموه في الاحتجاج على خصومكم.
ويكون هذا السؤال مساويا لما سألتم عنه من خالفكم لمّا قلتم لهم :
فلعلّ عادة الجنّ جارية بمثل فصاحة القرآن ، ولعلّ بعضهم نقل هذا الكلام إلى من ظهر على يده؛ لأنّ كون عادتهم جارية به ، ونقلهم له (83) على سبيل الاستفساد مقدور ، ومنعهم منه غير واجب؛ فلا بدّ من أن ترجعوا إلى طريقتنا ، أو تدخلوا في جملة البراهمة ومبطلي النبوّات! (84) فقلت له : بين الأمرين فرق واضح لا يخفى على متأمّل؛ لأنّ إجراء عادة الجنّ بإحياء الميّت عند تقريب بعض الأجسام منه- قياسا على حجر المقناطيس- غير منكر ، إلّا أنّ الجنّيّ إذا نقل ذلك الجسم إلينا ، وسلّمه إلى بعضنا لم يحسن من اللّه تعالى أن يحيي عنده الميّت ، إذا احتجّ به كذّاب؛ لأنّه تعالى هو الخارق لعادتنا عند دعوة الكذّاب بما يجري مجرى التّصديق له ، وذلك قبيح لا يجوز عليه عزّ وجلّ ! أ لا ترى أنّه لو أراد أن يخرق العادة عند دعوته لم يزد على ما فعله من إحياء الميّت بحسب دعواه ، ولا معتبر بأنّ عادة الجنّ جارية به ؛ لأنّها إن كانت جرت بذلك فعلى وجه لا نقف (85) عليه ، لأنّ ما تجري به عاداتهم- أو لا تجري- غير داخل في عادتنا ، فلا بدّ من (86) أن يكون إحياء الميّت فيما بيننا (87) على الوجه الّذي ذكرناه خارقا لعادتنا؛ لأنّها لم تجر بمثله .
وحكم كلّ عادة مقصور (88) على أهلها ، ومختصّ بهم ، فغير ممتنع أن يكون ما هو خارق لعادة بعضهم غير خارق لعادة بعض.
وليس يشبه هذا ما سألتم عنه في نقل القرآن ؛ لأنّ الجنّيّ إذا كانت عادته جارية بمثل فصاحة القرآن ونقله إلى أحد البشر ، فبنفس نقله قد خرق عادتنا ، من غير أن يكون للّه تعالى في ذلك فعل يخالف ما أجرى به عادتنا.
والجنّيّ إذا نقل إلينا الجسم المختصّ بطبيعة- قد أجرى اللّه تعالى عادة الجنّ بإحياء الموتى عندها- فبنفس نقله للجسم لم يخرق عادتنا ، وإنّما الخارق لها من أحيى الميّت عند تقريب ذلك الجسم منه ، وفعل في عادتنا ما أجرى به عادة غيرنا.
فقد صار الفرق بين الموضعين هو الفرق بين أن يتولّى اللّه تعالى تصديق الكذّاب ، وبين أن لا يمنع من تصديقه ، وليس يخفى بعد ما بينهما (89).
فقال : هب أنّ الكلام مستقيم من هذا الوجه ، كيف يمكن الثّقة مع ما ذكرتموه في الجنّ بأنّ الميّت بعينه عاد حيّا ، وأنّ الجسم الّذي تدّعي أنّه مخترع في الحال كذلك ، دون أن يكون منقولا من موضع آخر؟ ونحن نعلم أنّ الجنّيّ مع خفاء رؤيته ، وسعة حيلته ، يمكنه إحضار حيّ ، وإبعاد ميّت عند دعوة المتنبّئ.
والقول في الجسم كمثله (90) ؛ لأنّه يتمكّن من إحضار أيّ جسم شاء في طرفة عين ، بغير زمان متراخ.
وهذا أيضا متأتّ في نقل الجبال واقتلاع المدن لو ادّعاه مدّع ؛ لأنّه إن أظهر تولّي ذلك بجوارحه أمكن الجنّيّ أن يتحمّل عنه النّقل ، ويكافئ ما في المحمول من الاعتمادات بأفعاله ، فلا يحصل على المظهر لحمله شيء من الكلفة.
وإن لم يتولّه المدّعي بنفسه ، بل ادّعى وقوعه وحصوله فقط ، فالجنّيّ يكفيه بوقوعه على حسب دعواه ، ويضيفه هو إلى ربّه .
فقد عادت الحال إلى الشّكّ في المعجزات واستعمال جوابنا الّذي أنكرتموه ، وهو أنّ القديم تعالى يمنع الجنّيّ من مثل هذا إذا كان جاريا مجرى الاستفساد ، وإلّا فما الجواب ؟! (91) فقلت له : أمّا اقتلاع المدن وحمل الجبال وما جرى مجراها ، فليس يجوز أن يكون فعلا لملك ولا لجنّيّ ، وهما على ما هما عليه من الرّقّة واللّطافة والتّخلخل ؛ لأنّ هذه الأفعال إذا وقعت ممّن ليس بقادر لنفسه احتاجت إلى قدر كثيرة بحسبها ، وزيادة القدر تحتاج إلى زيادة في البنية ، وصلابة أيضا مخصوصة ، ولهذا لا يجوز أن تحلّ النّملة من القدر ما يحلّ الفيل ، وإنّما نجيز ذلك بأن يزاد في بنيتها ، ويعظم من خلقتها.
فالجنّيّ إذا تمكّن من حمل جبل أو مدينة ، فلا بدّ أن تكثف بنيته ، وتكبر جثّته . وإذا حصل كذلك لم يخف على العيون السّليمة رؤيته ، ووجب أن يكون مشاهدا كما نشاهد سائر الأجسام الكثيفة.
وإذا اقتلع مدّع للنّبوّة مدينة ، أو ادّعى أنّه سينقلها (92) ، أو ينتقل من مكان إلى غيره ، ووقع ما ادّعاه من غير أن نشاهد جسما كثيفا تولّاه أو أعان عليه ، بطل أن يكون من فعل الجنّ.
ولا فرق في اعتبار هذه الحال بين الجنّ والبشر؛ لأنّ أحدنا لو ادّعى الإعجاز بحمل جسم ثقيل لا يقدر على النّهوض بمثله أحد منّا متفرّدا ، لم يكن بدّ في الاعتبار عليه من أن يمنعه من الاستعانة بغيره ، ويزيل كلّ حيلة (93) يمكن أن يستعان معها بالغير على وجه لا يظهر.
والجنّ في هذا الباب كالإنس؛ لأنّا إذا كنّا قد بيّنا أنّه لا يتمكّن من هذه الأفعال إلّا بأن يكون كثيفا مدركا ، فالطريق الّذي به نعلم أنّ الاستعانة لم تقع بإنسيّ ، به نعلم أنّها لم تقع بجنّيّ.
فأمّا إبدال الميّت بحيّ وإحضار جسم من بعد ، فليس يجوز أن يتولّاه أيضا إلّا من له قدر تحتاج إلى بنية كثيفة تقع (94) الرؤية عليها (95).
وأكثر ما يمكن أن يقال هاهنا : جوّزوا أن يكون الجسم الّذي ينقله لطيفا ، والحيّ الّذي يحضره (96) بدلا من الميتة صغير (97) الجثّة كالذّرّة والبعوضة؛ فليس بواجب أن يكون إنسانا أو حيوانا عظيم الجثّة؟! (98) وذلك ممّا لا يجدي أيضا في دفع كلامنا ؛ لأنّ أقلّ أحواله أن يكون مكافئا في القدر للذّرّة (99) والبعوضة ، حتّى يتمكّن من حمل أخفّ الحيوان وزنا.
ولو كان كذلك لوجب أن يساويهما في الجثّة والكثافة ، ويعود الأمر إلى أنّ رؤيته واجبة (100).
على أنّه إن لم يكن مرئيّا فلا بدّ من أن يكون ما يحضره وينقله مرئيّا متميّزا من غيره ، وإلّا لم يكن فرق بين حضوره وغيبته . [و] ما كان بهذه المنزلة لا يصحّ ادّعاء الإعجاز والإبانة به .
وإذا كان ما ينقله مرئيّا لم يخف على الحاضرين حاله ، وجب أن يفطنوا به ، وينبّهوا على (101) الحيلة فيه (102).
ويلحق هذا الوجه أيضا بالأوّل في مساواة الجنّ للبشر في الاعتبار عليهم والامتحان ، أ لا ترى أنّ كثيرا من المشعبذين وأصحاب الحقّة (103) يتمكّنون على سبيل الحيلة من ستر جسم وإظهار غيره ، وإبدال ميّت بحيّ ، وصغير بكبير ، وملوّن بملوّن يخالفه! وإذا اعتبر عليهم الحصفاء (104) ، وكشفوا عن مظانّ حيلهم ظهروا على أمرهم.
ولا بدّ في مدّعي النّبوّة من أن يؤمن في أمره ما جوّز في المشعبذ ، وليس يقع الأمان إلّا بالامتحان الشّديد والبحث الصّحيح. وكما أنّا لا نصدّق مدّعي النّبوّة والإعجاز بإحياء الميّت إلّا بعد أن نعلم أنّه لم يقع في أمره حيلة منه ولا من غيره من البشر ، فكذلك لا نصدّقه حتّى نعلم أنّ الحيلة- فيما جاء به- لم يقع (105) من بشر ، ولا ملك ، ولا جنّيّ. وطريق الاعتبار واحد على ما ذكرناه . فلمّا سمع ما أوردته ، أمسك مفكّرا فيه ، ومتدبّرا له (106).
سؤال عليهم آخر :
وقد سأل المخالفون أيضا ، فقالوا :
لو سلّم لكم جميع ما تدّعونه في القرآن من تعذّر معارضته على البشر ، فإنّ التعذّر إنّما كان لخروجه عن عادتهم ، وأنّ حكم الملائكة والجنّ وكلّ قادر من المحدثين في تعذّر المعارضة حكم البشر.
وسلّم أيضا أنّ القرآن من فعل القديم تعالى- وذلك نهاية أمركم- لم يصحّ الإعجاز الّذي تريدونه؛ لأنّه ليس بمنكر أن يكون اللّه تعالى أنزله (107) على نبيّ من أنبيائه ، فظفر به من ظهر من جهته ، فغلبه عليه وقتله من حيث لم يعلم حاله ، وادّعى الإعجاز به ؟! (108)
وإنّما ينفعكم ثبوت كونه فعلا للّه تعالى مع خرق العادة ، إذا أمكنكم أن تدلّوا على اختصاص من ظهر على يديه ، وأنّه إنّما فعل تصديقا له . ومع السّؤال الّذي أوردناه لا يمكن ذلك.
وليس لأحد أن يقول : إنّ معنى هذا السّؤال يرجع إلى معنى السّؤال المتقدّم؛ لأنّهما وإن كانا معا طاعنين في الطّريقة ، فبينهما مزيّة ظاهرة؛ لأنّ سؤال من اعترض بالجنّ يقدح في كون القرآن من فعل اللّه عزّ وجلّ ، وفي اختصاصه أيضا به لمن ظهر على يده .
والسّؤال الثّاني يتضمّن القدح في الاختصاص حسب ، مع تسليم كونه من فعله تعالى. ولسنا نعرف للقوم جوابا مستمرّا عن هذا السّؤال (109).
وقد كنّا أخرجنا جوابا عنه يستمرّ على أصولهم ، نحن نذكره بعد أن ننبّه على فساد ما تعلّقوا به في دفعه ، ثمّ نتلوه بذكر الجواب الّذي يختصّ به أصحاب الصّرفة لينكشف لزوم السّؤال لهم دوننا ، حسب ما استعملناه في السؤال المتقدّم. ونحن ذاكرون ما تعلّقوا به .
ربّما قالوا : إنّ القديم تعالى قد منع من ذلك ، من حيث يؤدّي إلى الاستفساد ، وأجروه مجرى أن يعلم اللّه تعالى أنّ بعض المموّهين (110) ينقل القرآن إلى بلد شاسع ، لم يتّصل بأهله خبر النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله ومعجزاته ، فيدّعي به الإعجاز. وادّعوا في الأمرين أنّ الواجب على اللّه تعالى المنع منهما.
وربّما قالوا : إنّ الّذي يؤمن منه حصول العلم الضّروريّ أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله هو المظهر للقرآن بالإتيان به ، وأنّه لم يسمع من جهة غيره .
وربّما تعلّقوا بأنّ الشكّ في ذلك تشكّك في إضافة الشّعر إلى الشّعراء ، والكتب إلى المصنّفين.
وهذه الوجوه الثّلاثة قد تقدّم الكلام عليها والنّقض لها ، على حدّ من البسط والشّرح لا يحوج إلى تكرار (111).
فأمّا قولهم : «إنّ العلم حاصل بأنّه لم يسمع من غيره» ، فهو صحيح مسلّم.
وكذلك إن قالوا : «إنّا نعلم أنّ المظهر له لم يأخذه من غيره» ، وأرادوا ممّن يقف على خبره ، ويجب أن تتّصل بنا أحواله .
فأمّا على كلّ وجه ، حتّى يدّعوا وقوع العلم بأنّه لم يوجد من أحد- ظهر على يده أم لم يظهر ، عرفناه أم لم نعرفه ، كان ممّن يجب أن تتّصل بنا أخباره أم لم يكن- فهو المكابرة الظّاهرة الّتي يعلمها كلّ من رجع إلى نفسه .
ولا بدّ أيضا أن يكون هذا العلم مخصوصا؛ لأنّهم إن ادّعوه على العموم خرجوا عن الإسلام؛ لأنّا قد بيّنا أنّ المعلوم نزول الملك به ، فيجب أن تقولوا على هذا : إنّا نعلم أنّه لم يوجد من أحد من البشر ويجوز ذلك في غيرهم. [و] من حاسب نفسه وسبر ما عندها لم يجد فيها فرقا فيما ادّعوا العلم به بين ملك وبشر ، إذا فرضنا أنّ المأخوذ منه لا يجب أن يتّصل بنا خبره (112).
وقد تعلّق بعضهم بأنّ المراعى هو خرق العادة ، ولو كان القرآن مأخوذا من الغير على الوجه الّذي ذكرتم لم يخرج من حصول خرق العادة به ، لا سيّما والعادة جارية بأنّ مثل ما ادّعيتموه لو وقع لظهر وانتشر. وإذا لم يظهر فليس ذلك إلّا لأنّ اللّه تعالى شغل النّاس عنه ، وعدل بهم عن ذكره .
قالوا : فقد حصل ما نريده من خرق العادة على كلّ وجه .
وهذا بعيد جدّا؛ لأنّ خرق العادة وإن كان حاصلا في القرآن فلم يحصل لنا اختصاص من ظهر على يده به على وجه يوجب أنّ العادة إنّما خرقت من أجله ، وعلى سبيل التّصديق له .
وخرق العادة غير كاف إذا لم تعلم ما ذكرناه من الاختصاص ، ألا ترى أنّ مدّعيا لو ادّعى النّبوّة وحصل علمه ببعض الحوادث البديعة الّتي قد تقادم وجودها ، ولم تقع مختصّة بدعوة أحد بعينه ، أو جعل (معجزته إحدى) (113) معجزات الأنبياء المتقدّمين وادّعى أنّه المخصوص بالتّصديق بذلك ، لم نحفل بقوله ، من حيث عدمنا فيما ادّعاه الاختصاص الّذي لا بدّ منه ، وإن كان خارقا للعادة.
هذا إذا نسبنا خرق العادة إلى اللّه عزّ وجلّ من حيث نزّل الكتاب. فإن نسبنا خرقها إلى من أظهره لنا ، وسمعناه من جهته ، وجعلنا إنزاله إلى من أنزل إليه غير معتدّ به في باب خرق العادة ، من حيث لم نقف عليه ، واعتبرنا في عادتنا ما اطّلعنا عليه وأحطنا علما به؛ فإنّ الكلام يكون أوضح (114) ، وسقوط الاحتجاج بما ذكروه أبين ؛ لزوال أن يكون الاختصاص وخرق العادة جميعا من قبل القديم تعالى.
فأمّا قولهم : إنّ مثل ذلك لو جرى لوجب ظهوره بالعادة ، وإذا لم يظهر فلأمر من قبل اللّه تعالى؛ فليس بصحيح ؛ لأنّ العادة إن اقتضت ظهور أمثال ما ذكرناه وانتشاره ، فإنّما تقتضيه فيما وقع في أصله ظاهرا. والإلزام بخلاف ذلك ؛ لأنّهم إنّما ألزموا أن يكون مأخوذا ممّن لم يظهر على يده ، ولا سمع من جهته ، ولا اطّلع أحد غير آخذه على حاله ، والعادة لا تقتضي ظهور مثل هذا ، فمن ادّعى اقتضاءها لظهوره- وإن كان على ما مثّلناه- طولب بالدّلالة على صحّة قوله ، ولن يجدها! وممّا تعلّقوا به أيضا ، أن قالوا : تجويز ما ألزمناه في القرآن يؤدّي إلى تجويز مثله في سائر معجزات الأنبياء صلوات اللّه عليهم ، ويقتضي الشّكّ في وقوع جميعها على هذا الوجه .
قالوا : فإن قيل لنا أنّ تلك المعجزات مباينة للقرآن من حيث علمت حادثة في الحال ، على وجه يوجب الاختصاص ويرفع الشّكّ.
قلنا : أ ليس من قبل أن ينكر المستدلّ ، فنعلم حدوثها في الوقت ، ووقوع الاختصاص التامّ بها ، يجوز فيها ما ذكرتموه ؟
وإذا جوّز ذلك كان تجويزه منفّرا له عن النّظر فيها. فإن كان لو نظر لعلم ما أمن من وقوع التّنفير عن النّظر في أعلام سائر الأنبياء ، يؤمن من حصول ما ألزمناه في القرآن.
وليس هذا بشيء ؛ لأنّ تجويز المستدلّ النّاظر في المعجزات- قبل أن يعلم حدوثها ، وثبوت الاختصاص بها- أن تكون غير حادثة ، ولا مقتضية للاختصاص ، لا يقتضي التّنفير عن النّظر فيها حسب ما ظنّوه . وكيف نظنّ مثل ذلك ونحن نعلم أنّ النّاظر في كلّ علم من أعلام (115) الأنبياء عليهم السّلام ، يجوّز قبل نظره فيه أن يكون مخرقة (116) وشعبذة ، وغير موجب لتصديق من ظهر عليه؛ لأنّه لو لم يكن مجوّزا لما ذكرناه لكان عالما بأنّه علم معجز. ولو كان عالما لم يصحّ أن ينظر فيه ليعلم أنّه معجز ، (و تجويزه أن يكون غير معجز في الحقيقة) (117).
فإن كان ظاهره الإعجاز لا يقتضي تنفيره (118) عن النّظر فيه ، بل نظره فيه واجب ، من جهة الخوف القائم ، وعدم الأمان من أن يكون المدّعي صادقا.
فكذلك حكم النّاظر في الأعلام- مع تجويزه أن تكون غير حادثة ولا مختصّة- لا يجب أن يكون تجويزه منفّرا عن النّظر؛ لأنّ الخوف الموجب للنّظر والبحث قائم (119).
وممّا يمكن أن يتعلّقوا به أن يقولوا : لو كان القرآن مأخوذا من نبيّ خصّه اللّه به وأنزله عليه لم يخل حاله من وجهين :
إمّا أن يكون قد أدّى الرسالة ، وصدع بالدّعوة ، وظهر أمره ، وانتشر خبره .
أو يكون لم يؤدّها.
فإن كان الأوّل : استحال أن يخفى أمره ، وتنطوي حال من قتله وغلبه على كتابه ، لا سيّما مع البحث الشّديد والتتبّع التامّ.
وإذا كنّا- مع ما ذكرناه من الفحص والبحث- لا نقف (120) على خبره من هذه صفته ، وجب القضاء ببطلانه .
وإن كان الثّاني : فالواجب على اللّه تعالى أن يمنع من قتله ليقوم بأداء الرّسالة؛ لأنّه إذا كان الغرض ببعثته تعريفنا مصالحنا ، وتنبيهنا على ما لا نقف عليه إلّا من جهته؛ فليس يجوز أن يمكّن اللّه تعالى من اقتطاعه عن ذلك ، كما لا يجوز أن يقتطعه هو عنه ، ولهذا يقال : إنّ النّبيّ إذا علم أنّ عليه شيئا من الرّسالة لم يؤدّه بعد ، فإنّه لا بدّ أن يكون قاطعا على أنّه سيبقى إلى أن يؤدّيه ، ويأمن القتل وغيره من القواطع عن الأداء.
وإذا فسد الوجهان جميعا ، بطل السّؤال (121).
وهذا أيضا غير صحيح ؛ لأنّه ليس بمنكر أن يكون ذلك النّبيّ مبعوثا إلى واحد من النّاس ، فإنّ جواز بعثة الرّسل إلى آحاد النّاس في العقول ، كجواز بعثتهم إلى جماعتهم . وإذا جاز أن يكون مبعوثا إلى الواحد ، فما الّذي تنكر من أن يقتل هو والّذي بعث إليه معا ، وينتزع الكتاب من يده بعد أدائه الرّسالة وقيامه بتكليفها ؟
أو يكون مبعوثا إلى الّذي قتله وأخذ الكتاب منه وحده ، ونقدّر أنّه أوقع القتل به بعد أداء الرّسالة ، حتّى لا يوجبوا على اللّه تعالى المنع من قتله .
وأمّا الجواب الّذي ابتدأناه ووعدنا بذكره واستمراره على أصول الجميع ، فهو (122) : أنّ القرآن نفسه يدلّ على أنّ نبيّنا صلّى اللّه عليه وآله هو المختصّ به دون غيره ، فممّا تضمّنه- ممّا يدلّ على ذلك- قوله تعالى في قصّة المجادلة :
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ واللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ * الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ} إلى قوله تعالى : {ولِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ} [سورة المجادلة : 1- 3] .
وقد جاءت الرّواية بأنّ جميلة زوجة أوس بن الصّامت (123) (وقيل : خولة بنت ثعلبة) ظاهر منها زوجها ، فقال : أنت عليّ كظهر أمّي! وكانت هذه الكلمة ممّا يطلق بها في الجاهلية ، فأتت المرأة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، وشكت حالها ، فقال عليه وآله السّلام : ما عندي في أمرك شيء! فشكت إلى اللّه تعالى.
وروي أنّها قالت للنّبيّ صلّى اللّه عليه وآله : إنّ لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا ، وإن ضممتهم إليّ جاعوا. فأنزل اللّه تعالى كفّارة الظّهار على ما نطق به القرآن (124).
ومن ذلك قوله مخبرا عن المنهزمين عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله في يوم أحد (125) :
{إِذْ تُصْعِدُونَ ولا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ والرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ} [سورة آل عمران : 153] .
وقد وردت الرّواية في هذه القصّة مطابقة للتّنزيل.
وقوله تعالى (126) : {ويَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [سورة التوبة : 24- 25] .
وقد جاءت الأخبار بأنّ بعض الصّحابة قال في ذلك اليوم : لن نغلب اليوم من قلّة! وهو الذي عني بقوله تعالى : {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} .
وأنّ النّاس جميعا تفرّقوا عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله ، فأسلموه (127) ، ولم يثبت معه في الحال غير أمير المؤمنين عليه السّلام ، والعبّاس بن عبد المطّلب رحمة اللّه عليه ، ونفر من بني هاشم.
ومن ذلك قوله تعالى (128) : {وإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ ومِنَ التِّجارَةِ واللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سورة الجمعة : 11].
ووردت الرّواية بأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله كان يخطب على المنبر يوم الجمعة ، إذ أقبلت إبل لدحية الكلبيّ ، وعليها تجارة له ، ومعها من يضرب بالطّبل ، فتفرّق النّاس عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله إلى الإبل لينظروا إليها ، وبقي صلّى اللّه عليه وآله في عدّة قليلة ، فنزلت الآية المذكورة.
ومن ذلك قوله تعالى (129) : {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ ولِلَّهِ الْعِزَّةُ ولِرَسُولِهِ ولِلْمُؤْمِنِينَ ولكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [سورة المنافقون : 8].
والقائل- حكي في الآية ، على ما أتت به الرّواية- عبد اللّه بن أبيّ بن سلول (130).
ومن ذلك قوله عزّ وجلّ (131) : {وإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [سورة التحريم : 3].
والقصّة الّتي أنزلت هذه الآية فيها ، مشهورة؛ لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله أسرّ إلى إحدى زوجاته سرّا ، فأظهرت عليه صاحبة لها من الأزواج أيضا ، وفشا من جهتها ، فأطلع اللّه تعالى على فعلهما النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله ، فعاتب المبتدئة بإظهاره ، فأجابته بما هو مذكور في الآية (132). وشرح الحال معروف ، وقد أتت به الأخبار.
ومن ذلك قوله تعالى (133) : {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} إلى قوله : {واللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة : 40] .
وما وردت به الرّواية من خروج النّبيّ صلّى اللّه عليه [و آله] خائفا من قريش واستتاره في الغار ، وأبو بكر معه ، ونهيه له عمّا ظهر منه من الجزع والخوف مطابق لظاهر القرآن.
ومن ذلك قوله تعالى (134) : {وإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ واتَّقِ اللَّهَ وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وتَخْشَى النَّاسَ واللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [سورة الأحزاب : 37].
وعلى ما تضمّنت الآية جرت الحال بين النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله وزيد بن حارثة.
فأمّا قوله تعالى : {وتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وتَخْشَى النَّاسَ واللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ} ، فتأويله الصّحيح أنّ اللّه تعالى كان أوحى إلى نبيّه صلّى اللّه عليه وآله بأن يتزوّج امرأة زيد ، وأعلمه أنّه سيطلّقها ، وأراد تعالى بذلك نسخ ما كانت الجاهليّة عليه من حظر نكاح أزواج أدعيائهم على نفوسهم.
و«الدّعيّ» هو الغلام الذي يربّيه أحدهم ويكفل به ، ويدعوه ولده ، وإن لم يكن ولده في الحقيقة .
فلمّا حضر زيد لطلاق زوجته أشفق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله من أن يحسّن له طلاقها ، أو يمسك عن وعظه ، وأمره بالتأنّي والتثبّت- مع ما عزم عليه من نكاح زوجته بعده ، فيرجف (135) به المنافقون ، وينسبوه (136) إلى ما قد نزّهه اللّه تعالى عنه وباعده منه- فقال له : «أمسك عليك زوجك» ، وأخفى في نفسه إرادته لطلاقها ، من حيث تعلّق عليه فرض نكاحها ، مراعاة لما ذكرناه .
وظاهر الآية يشهد بصحّة هذا التأويل شهادة تزيل الشّكّ وترفع الرّيب ، ولو لم يكن إلّا قوله تعالى : {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً}.
وإنّما أحوجنا (137) إلى ذكر تأويل الآية- وإن لم يكن ممّا نحن فيه- الخوف من أن يتعلّق به نفس ، فإنّ كثيرا من النّاس قد اشتبه عليه تأويلها ، ونسب إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله ما لا يليق به .
ولما ذكرناه من الآيات المطابقة للحوادث الواقعة والقصص الحادثة ، نظائر يطول ذكرها في كثير (138) من القرآن إن (139) لم يكن أكثره .
وأردنا (140) اقتصاص أخبار النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله في مغازيه ووقائعه وفتوحه ، وما لقي (141) من أعدائه والمتظاهرين بحربه من الأقوال والأفعال المخصوصة ، ثمّ من المنافقين والمختلفين به ممّن أظهر الولاية وأبطن العداوة.
وندلّ أيضا بذكر ما كان الرّسول يسأل عنه إمّا استرشادا أو إعناتا؛ كقصّة المجادلة الّتي حكيناها ، وكمسألتهم له صلّى اللّه عليه وآله عن الرّوح ، وكقولهم :
{لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ والْمَلائِكَةِ قَبِيلًا} [سورة الإسراء : 90- 92].
فلو كان القرآن مأخوذا من نبيّ مخصوص به ، ليس هو من ظهر إلينا من جهته ، لم يخل الحال في الأخبار الواردة المطابقة للقصص والحوادث- الّتي حكينا بعضها وأشرنا إلى جميعها- من أمرين :
إمّا أن تكون مخبراتها واقعة فيما تقدّم ، حتّى تكون مثل جميع القصص والوقائع والأفعال والأقوال المذكورة ، قد جرى لذلك النّبيّ.
أو يكون لم يجر ذلك فيما تقدّم ، بل جرى في الأوقات الّتي علمناها ، وورد الخبر بوقوعه فيها. وتكون الأخبار المذكورة- وإن كانت بلفظ الماضي- إخبارا عمّا يحدث في الاستقبال (142).
والقسم الأوّل يفسد من وجهين (143) :
أحدهما :
أنّ بعض هذه السّير والحوادث- فضلا عن جميعها- لو وقع متقدّما ، لوجب أن نعلمه نحن وكلّ عاقل سمع الأخبار وأحاط بأهلها علما لا تعترض فيه الشّكوك ، ولكان الخبر بذلك منتشرا مستفيضا كاستفاضة أمثاله .
وكيف لا يعلم حال (نبيّ للّه تعالى كثر أعوانه) (144) وأصحابه ، وكان منهم مهاجرون وأنصار ، ومناصحون ومنافقون. ونازل أعداءه ونازلوه ، وحاربهم (145) في مواطن أخر (146) وحاربوه ، وحاجّهم في مقامات معلومة وبأقوال مخصوصة وحاجّوه ، واستفتي ، وأنزلت به المعضلات ، واقترحت عليه الآيات والمعجزات ، وأظهر دينه وشرعه على سائر الأديان والشّرائع ، حسب ما تضمّنه القرآن ؟! فأيّ طريق للشّكّ على عاقل في خفاء مثل هذا ، وكلّ الأسباب الموجبة للظّهور والاستفاضة المتفرّقة مجتمعة فيه- وإن كان أعداء نبيّنا صلّى اللّه عليه وآله عن الظّهور على ما ادّعى ، والمواقفة (147) عليه والاحتجاج به وعهدهم به قريب ، وهو واقع في زمانهم وبلادهم ، وبأعينهم وأسماعهم ؟! (148) وهذا ممّا لا يتوهّمه إلّا ناقص العقل ، خال من الفطنة ! وكلامنا إنّما وقع فيمن لم يظهر له على خبر ولا أثر ، ولا علم له ولا وليّ ولا عدوّ ، وفرض نزول الكتاب عليه في فلاة من الأرض لا أنيس فيها له ولا صاحب غير من قدّرنا أنّه قتله وأخذ الكتاب من يده .
فاستحقّ السّؤال بهذا الترتيب والتقدير بعض الجواب ، ولو كان متضمّنا لما ذكرناه آنفا لم يستحقّ جوابا ، لكان (149) المتعلّق به مجنونا (150).
والوجه الثّاني من إفساد القسم الأوّل :
أنّ ما حكيناه من القصص والسّير والحوادث والوقائع ، لو كان جرى متقدّما لاستحال أن يتّفق حدوث أمثاله وما هو على سائر صفاته ؛ لأنّ استحالة ذلك في العادة معلوم لكلّ عاقل ضرورة ، بل معلوم عند العقلاء أنّ حدوث مثل قصّة واحدة تقدّمت في سائر صفاتها وخصائصها ، حتّى لا تغادر شيئا ، مستحيل. ولهذا نحيل أن يبتدئ الإنسان قصيدة من الشّعر أو كتابا مصنّفا ، فيتّفق لجماعة أو واحد مواردته في جميع قصيدته أو كتابه حرفا بحرف.
وإذا كنّا قد أحطنا علما بحدوث مخبرات الأخبار- الّتي أشرنا إليها- على يد نبيّنا صلّى اللّه عليه وآله ، ومتعلّقة به وبزمانه ، مطابقة للقرآن ، فقطعنا على أنّ أمثالها وما هو مختصّ بجميع صفاتها لم يقع فيما مضى. وكان ذلك في النّفوس أبعد من النّوادر في القصائد والكتب.
وليس يخفى على من كان له حظّ من العقل أنّ مثل وقعة بدر وحنين- في جميع أوصافهما ومكانهما ، وفرار من فرّ عنهما ، وثبات من ثبت ، إلى غير ذلك من أحوالهما الّتي جرت- لم يقع فيما مضى. وأنّه لم يكن على عهد نبيّنا صلّى اللّه عليه وآله نبيّ جاءته المجادلة تستفتيه في الظّهار ، وسئل عن الرّوح (151) ، وانفضاض (152) أصحابه عنه في يوم الجمعة طلب اللّهو ، وأسرّ إلى زوجته حديثا أفشته ، والتّستّر في الغار مع بعض أصحابه ، إلى سائر ما عددناه . ولا معنى للإسهاب فيما جرى هذا المجرى في الظّهور والوضوح (153).
وأمّا القسم الثّاني
وهو أن تكون هذه الأخبار إخبارا عمّا سيحدث في الوقت الّذي حدثت فيه ، ولا تكون مخبراتها واقعة فيما تقدّم ؛ ففاسد.
فإن عدلنا عن المضايقة في لفظ الأخبار ، ودلالة جميعها على الماضي الواقع ، وذلك أنّ جميع الأخبار الّتي تلوناها دالّة على تعظيم من ظهرت مخبراتها على يديه ، وتصديقه ونبوّته . أ لا ترى إلى توبيخه تعالى للمولّين عن نبيّه صلّى اللّه عليه وآله في يوم بدر (154) وحنين ، وتقريعه لهم من شهادته له بالرّسالة ، بقوله تعالى :
و{الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ} [سورة آل عمران : 153] ، وبقوله تعالى : {ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [سورة براءة (التوبة) : 26] ، وهكذا قوله تعالى : {ولِلَّهِ الْعِزَّةُ ولِرَسُولِهِ} [سورة المنافقون : 8] ، بعد حكايته عن عبد اللّه بن أبيّ المنافق قوله : {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ} [سورة المنافقون : 8] ، وقوله : {وإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً} [سورة التحريم : 3].
وجميع القصص إذا وجدتها شاهدة بما ذكرناه ودالّة عليه وأنّ الأمر على ما قلناه ، كيف كان يحسن بيان حكم ما سألت عنه المجادلة من الظّهار؟ وإنّما سألت- على دعوى الخصم- من ليس يتبيّن عمّا لا يجب بيانه (155) ، بل لا يحسن.
ومن تأمّل ما حكيناه وأمثاله من أخبار القرآن علم أنّ الّذي تعلّقت به هذه الأخبار معظّم مصدّق ، مشهود له بالنّبوّة.
وإذا كنّا (156) قد دللنا بما تقدّم على أنّها لم تكن أخبارا عن غير نبيّنا صلّى اللّه عليه وآله ، ولا نازلة إلّا في قصصه وحروبه والحوادث في أيّامه ؛ وجب أن يكون هو- عليه وعلى آله السّلام- المختصّ بالتّصديق والتّعظيم دون غيره (157).
وليس لأحد أن يقول : فلعلّ ما ذكرته من الأخبار الواردة في القصص المعنيّة ليست من جملة الكتاب المعجز الّذي أشرنا إليه ، بل من فعل البشر ، وإنّما ألحقت بالكتاب ، وأضيفت إليه (158) ؛ لأنّ الّذي يؤمن من ذلك علمنا بأنّ كلّ آية- أو آيات- اختصّت بالقصص والحوادث المذكورة تزيد (159) على مقدار أقصر سورة من القرآن كثيرا. ومن سبر ما قلناه عرف صحّته (160).
وإذا كنّا قد بيّنا أنّ التّحدّي وقع بسورة غير معيّنة ، وأنّ المعارضة تعذّرت ، فلا بدّ من القطع على أنّ مقدار أقصر سورة من سوره متعذّر (161) غير ممكن ، فكيف يجوز مع هذا أن يكون ما تلوناه من الآي- أو ما اختصّ بقصّة واحدة منه- ممكنا لأحد من البشر؟! ولو تأتّى ذلك من أحد لتأتّى للعرب مع اجتهادهم وحرصهم ! فإن قيل : فاذكروا الجواب الّذي يختصّ به أهل الصّرفة ، كما وعدتم.
قيل : أمّا الجواب عن السّؤال على مذهب الصّرفة ، فواضح قريب ؛ لأنّا إذا كنّا قد دللنا على أنّ تعذّر المعارضة على العرب لم يكن لشيء ممّا يدّعيه خصومنا ، وإنّما كان لأنّ اللّه تعالى سلبهم في الحال العلوم التي يتمكّنون بها من المعارضة ، وأنّ هذه كانت حال كلّ من رام المعارضة وقصدها ، فقد سقط السّؤال عنّا ؛ لأنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله لو لم يكن صادقا ، وكان ناقلا للكتاب عن غيره- كما ادّعوا- لم يحسن صرف من رام معارضته والرّدّ عليه؛ لأنّ ذلك نهاية التّصديق والشّهادة بالنبوّة ، لأنّه- صلوات اللّه عليه وآله- على مذهبنا إنّما تحدّاهم بهذا الوجه دون غيره ، فكأنّه على التقدير قال : الدّلالة على نبوّتي أنّ اللّه تعالى يصرفكم عن معارضتي متى رمتموها. فإذا صرفهم اللّه تعالى عن المعارضة فقد فعل ما التمسه ، وذلك غاية التّصديق.
وإنّما توجّه هذا السّؤال الّذي ذكرناه ، وصعب جوابه على طريقتهم ، من حيث جعلوا المعجز أمرا لا يعلم حدوثه في الحال ، ويمكن أن يكون منقولا. فأمّا من جعل المعجز ما يقطع على حدوثه في الحال ، وثبوت الاختصاص التامّ فيه ، فلا يوجّه السّؤال عليه جملة.
_________________
1. نكل : إذا أراد أن يصنع شيئا فهابه.
2. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 385 : « قد بيّنا في كتابنا في جهة إعجاز القرآن أنّ من لم يقل في جهته ما اخترناه من الصرفة يلزمه سؤالان لا جواب عنهما إلّا لمن ذهب إلى الصرفة.
السؤال الأوّل : أن يقال : ما أنكرتم أن يكون القرآن من فعل بعض الجنّ ألقاه إلى مدّعي النبوّة ، وخرق به عادتنا ، وقصد بنا إلى الإضلال لنا والتلبيس علينا ، وليس يمكن أن يدّعى الإحاطة بمبلغ فصاحة الجنّ وأنّها لا يجوز أن تتجاوز عن فصاحة العرب ، ومع هذا التجويز لا يحصل الثقة بأنّ اللّه تعالى هو المؤيّد بالقرآن لرسوله صلّى اللّه عليه وآله».
3. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 386 : « وقد يمكن إيراد معنى هذا السؤال على وجه آخر ، فيقال : إنّ محمّدا صلّى اللّه عليه وآله لم يدّع في القرآن أنّه كلامه ، وإنّما ذكر أن ملكا هبط به إليه ، وقد يجوز أن يكون ذلك الملك كاذبا فيه على ربّه ، وأن يكون القرآن الذي نزل به من كلامه لا من كلام خالقه؛ فإنّ عادة الملائكة في الفصاحة ممّا لا نعرفه ، وعصمة الملائكة قبل العلم بصحّة القرآن والنبوّة لا يمكن معرفتها ، فالسؤال متوجّه على ما ترويه.
وقد حكينا في كتابنا المشار إليه طرقا كثيرة لمخالفينا سلكوها في دفع هذا السؤال ، وبيّنا فسادها بما بسطناه وانتهينا فيه إلى أبعد الغايات».
4. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 386 : « قالوا : إنّ هذا استفساد للمتكلّمين ، وحكمته تعالى تقتضي المنع من الاستفساد».
5. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 386 : « وهذا غير صحيح ، لأنّ الذي يمنعه أن يفعل اللّه تعالى الاستفساد ، فأمّا أن يمنع منه فليس بواجب؛ لأنّ هذا يوجب أن يمنع اللّه تعالى كلّ ذي شبهة من شبهته ، وأن لا يمكّن المتعبّدين المنحرفين( المشعبذين المخرقين) من شيء دخلت منه شبهة على أحد. وقد علمنا أنّ المنع من الشّبهات وفعل القبائح في دار التكليف غير واجب. وليس يجب إذا كان تعالى لا يستفسد أن يمنع من الاستفساد ، كما لا يجب إذا لم يفعل القبيح أن يمنع منه في دار التكليف».
6. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة / 388 : « قالوا : إنّه لا فرق في خرق العادة بالقرآن ودلالته على الإعجاز ، بين أن يكون من فعله تعالى ، أو من فعل بعض الملائكة ؛ لأنّه إنّما دلّ إذا كانت من فعله تعالى لخرق العادة ، لا لأنّه من فعل تعالى ، فيجب أن يدلّ وإن كان من فعل الملك ، للاشتراك في خرق العادة».
7. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة / 388 : « إنّ خرق العادة غير كاف إذا جوّزنا أن يخرقها غير اللّه تعالى ممّن يجوز أن يفعل القبيح ويصدّق الكذّاب ، وإنّما دلّ خرق العادة من فعله تعالى لأنّنا نأمن فيه وقوعه على وجه يقبح. وإذا كنّا نجوّز على الملائكة- قبل العلم بصحّة النبوّة- أن يفعلوا القبيح ، فلا يجوز أن يجري تصديقهم لمن يصدّقوه ، وإن خرق العادة ، مجرى ما يفعله اللّه تعالى من ذلك.
وأيّ فرق بين ما نجوّز فيه أن يكون من فعلنا ، وبين ما نجوّز فيه أن يكون من فعل جنّيّ أو ملك في ارتفاع دلالته على النبوّة؟ وهل كان ما يجوز أن يكون من فعلنا غير دالّ على النبوّة إلّا من حيث جاز أن نفعل القبيح ونصدّق الكذّاب؟ وهذا بعينه قائم فيما نجوّز فيه أن يكون من فعل جنّيّ أو ملك ، وإن خرق العادة إذا جوّزنا أن يخرقها من لا يؤمن منه فعل القبيح».
8. في الأصل : التجويز أنّ وقوع ، وما أثبتناه مناسب للسياق.
9. في الأصل : معنا ، والظاهر ما أثبتناه.
10. أي كينونيّتهم ووجودهم.
11. الإحباط يراد به خروج الثواب والمدح المستحقّين بثواب ومديح ، عن كونهما مستحقّين بذمّ وعقاب أكثر منها لفاعل الطاعة.
ولا خلاف بين المسلمين في أنّ الكفر يزيل استحقاق ثواب الطاعات السابقة ، والإيمان يزيل استحقاق العقاب السابق ، وإنّما الخلاف في أنّه هل يجوز اجتماع استحقاق الثواب والعقاب من غير أن يحبط أحدهما الآخر أم لا؟ فمن يذهب إلى عدم جواز اجتماع الاستحقاقين يقول بالإحباط ، وهو مذهب الأشاعرة وجمهور المعتزلة. والإماميّة على خلافهم؛ فإنّهم يقولون بأنّ العقاب الطارئ لا يحبط الثواب الأوّل.
12. في الأصل : أنّهم لأخلّوا ، وما أثبتناه مناسب للسياق.
13. في الأصل : من ، والمناسب ما أثبتناه.
14. أي الاضطرار والإكراه على فعل الشيء.
15. أي جهالاتهم.
16. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 392 : « وممّا أجاب به القوم عن سؤال الجنّ : أنّ القرآن لو كان من فعل الجنّ لوقفت العرب النّبيّ صلّى اللّه عليه وآله على ذلك ، ولقالت له : ليس في عجزنا من مقابلتك دليل على نبوّتك ، لأنّه جائز أن يكون الجنّ ألقته إليك!».
17. كذا في الأصل.
18. في الأصل : يتفوّه ، والمناسب ما أثبتناه.
19. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 392 : « وهذا من ضعيف التعلّل؛ لأنّه ليس بواجب أن تعرف العرب هذا القدح ، ولا تهتدي إلى هذه الشبهة. وكم أورد المبطلون في القرآن من الشبهات التي لم تخطر للعرب ببال. ولا رأينا أحدا من المتكلّمين والمحصّلين جعل جواب هذه الشبهة أنّها لو كانت صحيحة لواقف عليها العرب».
20. في الأصل : القدم ، وما أثبتناه مناسب للسياق.
21. وردت في الأصل : عسا- غير منقوطة- والظاهر أنّها : عيبا ، أو عنتا.
22. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 392 : « وإنّما تحيل على العرب ، وتوجب أن يواقفوا عليه فيما يختصّ بالفصاحة ، وما يجوز فيها من التقدّم والتأخّر ، وجهات التفاضل ، وما أشبه ذلك ممّا المرجع فيه إليهم والمعوّل عليهم. فأمّا في الشبهات التي لا يخطر مثلها ببالهم ، ولا يهتدون إلى البحث عنها ، فلا معنى للحوالة عليهم بها».
23. وردت في الأصل : يحيل- غير منقوطة- والظاهر ما أثبتناه.
24. في الأصل : بالأبد ، وما أثبتناه مناسب للسياق.
25. هكذا في الأصل ، ولعلّها : الطّروس ، أي الأوراق.
26. كذا في الأصل.
27. في الأصل : هذا فعلها ، والمناسب ما أثبتناه مطابقا لما في الذخيرة/ 393.
28. في الأصل : يتكذّبوا ، والظاهر ما أثبتناه.
29. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 392- 393 : « خبّرنا لو واقفت العرب على ذلك وادّعت في القرآن أنّه من فعل الجنّ ، أ كان ذلك دالّا على أنّه من فعل الجنّ على الحقيقة ؟
فإن قال : نعم ، قيل له : كيف ؟ وكيف يدلّ على ذلك ، وأيّ تأثير لدعواهم في تحقيق هذا الأمر؟
وإن قال : لا يدلّ ، قيل له : كيف لم تدلّ المواقفة على أنّه من فعلهم ، ودلّ تركها على أنّه ليس من فعلهم ، وأيّ تأثير للترك ليس هو للفعل؟».
30. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة / 393 : « على أنّهم إذا جعلوا ترك المواقفة دليلا على أمان العرب من أن يكون القرآن من فعل الجنّ ، فإنّا نقول لهم : ما الّذي أمنت العرب من أن يكون القرآن من فعل الجنّ ، حتى أمسكت لأجله عن المواقفة ؟ أشيروا إليه بعينه حتّى نعلمه ، وتكون الحجّة به قائمة إن كان صحيحا ، فإنّ هذا ممّا لا يحسن الحوالة به على العرب ، وحال المتكلّمين فيه أقوى ، وهم إليه أهدى!!».
31. في الأصل : أحواله في وقعه ، والمناسب ما أثبتناه.
32. ديوان حسّان بن ثابت/ 258.
33. الشيصبان : قبيلة من الجنّ.
34. هو كثير بن عبد الرحمن بن الأسود الخزاعيّ ، أبو صخر ، شاعر مشهور من أهل المدينة ، وأكثر إقامته كانت بمصر ، كان شاعر بني مروان يعظّمونه ويكرمونه. كان دميما قصيرا متيّما بحبّ عزّة بنت جميل ، مات بالمدينة سنة 105 هـ .
35. ديوان حسّان بن ثابت/ 221. يفخر حسّان بهذا البيت وغيره من أبيات القصيدة بكرم قومه ونجدتهم. الجفنات : القصاع. الغرّ : البيض من كثرة الشحم الذي فيها ، وكثرته دليل على الكرم.
36. كذا في الأصل : وفي الأغاني 9/ 338 : بالفجر.
37. في الأغاني : فقدتها.
38. المرجل : قدر من نحاس ، وقيل : يطلق على كلّ قدر يطبخ فيها.
39. في الديوان والأغاني : كدت.
40. في الديوان : وأنكرت.
41. شرح ديوان الفرزدق لإيليا حاوي 2/ 113.
42. هو ربيعة بن مالك بن ربيعة بن عوف السّعديّ ، من بني تميم ، شاعر فحل من مخضرمي الجاهليّة والإسلام ، هاجر إلى البصرة وعمّر طويلا ، مات في حكومة عمر أو عثمان ، له شعر كثير جيّد.
43. ديوان الأعشى/ 183. جهنّام : تابع مسحل ، من الجنّ.
44. ديوان الأعشى/ 184. وفيه : بأفيح جيّاش العشيّات خضرم.
45. البيت ناقص ، وأكملناه من الحيوان 6/ 226- 227. والبيتان باختلاف في الأوّل.
46. هو حرب بن أميّة بن عبد شمس القرشيّ ، من سادات قومه ، وهو جدّ معاوية بن أبي سفيان. كان معاصرا لعبد المطّلب بن هاشم ، مات بالشام وتزعم العرب أنّ الجنّ قتلته بثأر حيّة.
47. في الأصل : شجرا بقربه ، والمناسب ما أثبتناه.
48. سعد بن عبادة بن دليم الخزرجيّ ، كان سيّد الخزرج وأحد الأمراء الأشراف في الجاهليّة ، شهد العقبة مع سبعين من الأنصار وأسلم ، وكان أحد النقباء الاثني عشر ، وشهد المواقف مع النبيّ صلّى اللّه عليه وآله. ولمّا توفّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله طمع في الخلافة خلافا لوصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله لعليّ عليه السّلام ، ولم يبايع أبا بكر ، وعاداه وعادى عمر ، وهاجر من المدينة إلى الشام ، فبعث إليه عمر بن الخطّاب من يقتله.
قال ابن عبد ربّه الأندلسيّ في العقد الفريد 5 / 14 : أبو المنذر هشام بن محمّد الكلبيّ ، قال :
بعث عمر رجلا إلى الشام ، فقال : ادعه إلى البيعة ، واحمل له بكلّ ما قدرت عليه ، فإن أبى فاستعن اللّه عليه. فقدم الرجل الشام ، فلقيه بحوران في حائط ، فدعاه إلى البيعة ، فقال : لا أبايع قرشيّا أبدا ... فرماه بسهم فقتله ... فبكته الجنّ ، فقالت :
وقتلنا سيّد الخز |
رج سعد بن عباده |
|
ورميناه بسهمي |
ن فلم نخطئ فؤاده ! |
49. في الأصل : نحن ، والمناسب ما أثبتناه وفقا لسير أعلام النبلاء 1/ 277 ، والبيتان في طبقات ابن سعد 7/ 274 ومختصر تاريخ ابن عساكر 9/ 227 باختلاف.
50. في الأصل : فأضاف ، والمناسب ما أثبتناه.
51. هو العبّاس بن الفرج بن علي الرياشيّ البصريّ ، كان من الموالي من أهل البصرة ، وهو لغويّ راوية عارف بأيّام العرب ، قتل في البصرة أيّام فتنة صاحب الزنج سنة 257 هـ ، له كتب عديدة.
52. عمرو بن قميئة بن ذريح بن سعد بن مالك ، ابن أخي المرقّش الأكبر ، وعمّ المرقّش الأصغر ، وعمّ والد طرفة بن العبد. كان في خدمة حجر بن الحارث والد امرئ القيس ، فلمّا أراد امرؤ القيس أن يذهب إلى بلاد الروم اصطحبه ، وتوفّي عمرو في أثناء الرحلة الى بلاد الروم نحو عام 84 ق هـ ، فسمّاه العرب عمرا الضائع. وابن قميئة شاعر فحل لكنّه مقلّ ، عدّة ابن سلّام في الطبقة الثامنة من الشعراء الجاهليّين.
53. هو محمّد بن سلّام الجمحيّ ، ولد بالبصرة نحو عام 140 هـ ، وسمع العلم والأدب من نفر كثيرين ، توفّي في بغداد سنة 231 هـ وقد أربى على التسعين. من رواة اللغة والأشعار ، إلّا أنّه أوسع شهرة وأثبت قدما في رواية الشعر ، وله عدد من الكتب. وشهرة ابن سلّام في تاريخ الأدب والنقد ترجع الى كتابه طبقات الشعراء الذي وصل الينا.
54. ديوان امرئ القيس/ 151.
55. المشتهر بحمّاد الرواية ، هو حمّاد بن سابور بن المبارك الديلميّ الكوفيّ ، كان أعلم الناس بأيّام العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها ولغاتها. كان محظيّا عند بني أميّة ، وهو الذي جمع المعلّقات. مات ببغداد سنة 155 هـ أيّام العبّاسيّين.
56. هو المفضّل بن محمّد بن يعلى الضّبيّ الكوفيّ ، علّامة بالشعر والأدب وأيّام العرب ، ويقال إنّه أوثق من روى الشعر من الكوفيّين ، صنّف للمهديّ العبّاسيّ كتاب المفضّليّات لعلّه توفّي سنة 168 هـ .
57. شرح المعلّقات السبع للزوزنيّ/ 7.
58. هو محمّد بن السائب بن بشر الكلبيّ الكوفيّ ، نسّابة وراوية وعالم بأخبار العرب وأيّامها ، له كتاب الأصنام. توفّي بالكوفة سنة 146 هـ .
59. ديوان امرئ القيس/ 84.
60. هو عمرو بن معد يكرب بن ربيعة بن عبد اللّه الزبيديّ ، فارس اليمن ، أسلم سنة 9 هـ ، وأخبار شجاعته كثيرة وله شعر جيّد ، توفّي سنة 21 هـ على مقربة من الرّيّ.
61. هو عبد الملك بن قريب بن عليّ بن أصمع الباهليّ البصريّ. يقال عنه إنّه راوية العرب ، كان أحد أئمّة العلم باللغة والشعر والأدب. كان يحفظ آلاف الأبيات الشعريّة ، له مصنّفات كثيرة ، توفّي بالبصرة سنة 216 هـ .
62. لم يرد هذا البيت في ديوان امرئ القيس ، طبعة دار صادر- بيروت.
63. هو معمر بن المثنّى التيميّ البصريّ ، من أئمّة العلم بالأدب واللغة ، يقال إنّه كان خارجيّا ، شعوبيّا ، يبغض العرب وصنّف في مثالبهم كتبا كثيرة. له نحو 200 مؤلّف ، توفّي بالبصرة سنة 209 هـ .
64. بطن من بطون بني حنيفة. راجع جمهرة النسب للكلبيّ/ 576.
65. هو محمّد بن يزيد بن عبد الأكبر الثماليّ الأزديّ ، إمام من أئمة الأدب واللغة في زمانه ، ولد بالبصرة سنة 210 هـ وتوفّي ببغداد سنة 286 هـ ، له مصنّفات عديدة ، منها : الكامل ، وشرح لاميّة العرب.
66. هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوريّ ، المضريّ. من أئمّة الحديث ، ولد بالكوفة سنة 97 هـ ونشأ بها. راوده المنصور العبّاسي على أن يلي الحكم والقضاء فأبى وخرج من الكوفة إلى مكّة وسكنها ، ثمّ طلبه المهديّ فتوارى ، فمات بالبصرة مستخفيا سنة 161 هـ .
له كتابان في الحديث.
67. هو علقمة بن عبدة بن ناشرة بن قيس ، من بني تميم ، شاعر جاهليّ من الطبقة الأولى ، وكان معاصرا لامرئ القيس وله معه مساجلات. توفّي نحو سنة 20 ق هـ .
68. هو العائذ بن محصن بن ثعلبة ، من بني عبد القيس من ربيعة ، شاعر جاهليّ من أهل البحرين ، وصف بجودة الشعر والحكمة ، توفّي نحو سنة 35 ق هـ .
69. هو الحارث بن أبي شمر الغسّانيّ الذي أسر شاس بن عبدة ، فشفع به علقمة بن عبدة ومدح الحارث بأبيات ، فأطلقه.
70. راجع : خزانة الأدب 1/ 565 ، الشعر والشعراء/ 58 ، سمط اللآلي/ 433.
71. هو الخليل بن أحمد الفراهيديّ ، صاحب كتاب العين ، وهو أشهر من أن يعرّف.
72. هو إسحاق بن إبراهيم الموصليّ ، نسب اليه كتاب الأغاني كما نسب إلى أبي الفرج الأصبهانيّ. وكان لإسحاق كتاب بهذا الاسم مفقود. راجع مقدّمة الأغاني/ 37- 38.
73. بعدها في الأصل : مكنا( غير منقوطة) ، ولم يتبيّن لنا ما هي.
74. في الأصل : بعينه ، والمناسب ما أثبتناه.
75. في الأصل : الأبصر ، والمناسب ما أثبتناه.
76. في الأصل : عن ، وما أثبتناه هو المناسب للسياق.
77. في الأصل : بعينه ، وما أثبتناه مناسب للسياق.
78. في الأصل : يقدم ، والظاهر ما أثبتناه.
79. في الأصل : وصحّ ، والمناسب ما أثبتناه.
80. قال المصنّف رحمه اللّه في الذخيرة/ 389 : « وممّا اعتمدوا عليه في دفع سؤال الجنّ أنّ هذا الطعن وإن قدح في إعجاز القرآن ، قدح في سائر المعجزات».
81. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 389 : « إنّ المعجزات على ضربين : ضرب يوصف القديم بالقدرة عليه ، نحو إحياء الميّت ، وإبراء الأكمه والأبرص ، واختراع الأجسام.
وهذا الوجه لا يمكن الاعتراض فيه بالجنّ والملائكة؛ لخروجه عن مقدور كلّ محدث.
والضرب الثاني من المعجزات : ما دخل جنسه تحت مقدور البشر. وهذا الوجه إنّما يدلّ إذا علم أنّ القدر الواقع منه ، أو الوجه الذي وقع عليه ، لا يتمكّن أحد من المحدّثين منه.
وإذا لا يعلم هذا فلا دليل فيه».
82. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 389 : « فإذا قيل : وما الطريق إلى العلم بأنّه ليس في إمكان جميع المحدثين؟».
83. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 389 : « قلنا : غير ممتنع أن يخبرنا اللّه تعالى ، على لسان رسول يؤيّده بمعجزة ، ويختصّ تعالى بالقدرة عليها ، ويعلمنا أنّ عادة الجنّ أو الملائكة مساوية لعادتنا ، وإنّما يتعذّر علينا ما يتعذّر عليهم ، فمتى ظهر أمر يخرق عادتنا علمنا أنّ ذلك معجز ، لعلمنا بمشاركة الملائكة والجنّ لنا».
84. في الأصل : وجائز نقلهم له ، وفيه اضطراب ظاهر.
85. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 389- 390 : « فإذا قيل : ما تنكرون من أن يكون اللّه تعالى أجرى عادة الجنّ أن يحيي الميّت عند إدناء أدنى جسم له صفة مخصوصة إليه ، كما أجرى العادة بحركة الحديد عند تقرّبه من الحجر المقناطيس. وإذا جوّزنا ذلك لم يكن في ظهور إحياء الميّت على يد مدّعي النبوّة دليل على صدقه؛ لأنّا لا نأمن أن يكون الجنّي نقل إلينا ذلك الجسم الّذي أجرى اللّه تعالى عادة الجنّ أن يحيي الموتى عنده. وهذا طعن في جميع المعجزات».
86. في الأصل : لا يقف ، والمناسب ما أثبتناه.
87. في الأصل : في ، والظاهر ما أثبتناه.
88. كذا في الأصل : والظاهر : فيما بيّنّا.
89. في الأصل : مقصورة ، وما أثبتناه مناسب للسياق.
90. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 390 : « قلنا : إحياء اللّه تعالى الميّت عند تقريب هذا الجسم بيننا وفي عادتنا خرق منه تعالى لعادتنا بما يجري مجرى تصديق الكذّاب. وهذا لا يجوز عليه تعالى.
وليس إذا أجرى اللّه تعالى عادة الجنّ ، بأن يحيى ميّتا عند تقريب جسم إليه ، من حيث لا نعلم ذلك ولا نعرفه ، جاز أن يفعله في عادتنا؛ لأنّه إذا فعله في عادتهم فلا وجه للقبح.
وإذا نقض عادتنا فهو صدّق الكذّاب.
وليس هذا يجري مجرى نقل الكلام ، لأنّ الجنّي إذا نقل إلينا كلاما ما جرت عادتنا بمثل فصاحته ، فبنفس نقله قد خرق عادتنا ، وليس للّه تعالى في ذلك فعل يخرق عادتنا. وإذا نقل الجسم المشار إليه ، فبنفس نقله الجسم لم يخرق عادتنا. وإنّما الخارق لها من إحياء الميّت عند تقريب الجسم منه. والفرق بين الأمرين غير خاف على المتأمّل».
91. في الأصل : كمثل.
92. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 390 : « فإن قيل : سؤال الجنّ يطرّق أن يجوز فيمن ظهر على يده إحياء ميّت أن لا يكون صادقا ، بل يكون الجنّي أحضر من بعد حيّا وأبعد هذا الميّت؛ لأنّ خفاء رؤيته وسعة حيلته يتمّ نعمها(؟) قبل ذلك ، وأنّ مدّعي النبوّة ادّعى معجزا له نقل جبل أو اقتلاع مدينة ، ووقع ذلك ، جوّزنا أن يكون الجنّ تولّوه وفعلوه.
ولو أنّ المدّعي تولّى ذلك بجوارحه جاز في الجنّي أن يتحمّل عنه ذلك النقل ولا يحصل عليه شيء من تكلّف ذلك النقل. وهذا قدح في جميع المعجزات ، أو الرجوع إلى أنّ اللّه تعالى يمنع من الاستفساد ، وأنتم لا ترتضون بذلك».
93. في الأصل : أنّها سينقله ، والصحيح ما أثبتناه.
94. في الأصل : حمله ، وما أثبتناه من الذخيرة ، ويقتضيه السياق.
95. في الأصل : تقطع ، والظاهر ما أثبتناه مقاربا لما في الذخيرة.
96. قال المصنّف رحمه اللّه في الذخيرة/ 391 : « قلنا : معلوم أنّ أجسام الملائكة والجنّ لطيفة رقيقة متخلخلة ، ولهذا لا نراهم بعيوننا إلّا بعد أن يكيّفوا. ومن كان متخلخل البنية لا يجوز أن تحلّه قدر كثيرة ، لحاجة القدر في كثرتها إلى الصلابة وزيادة البنية. ولهذه العلّة لا يجوز أن تحلّ النملة من القدر ما يحلّ الفيل. فلا يجوز على هذا الأصل أن يتمكّن ملك ولا جنّي من حمل جبل ولا قلع مدينة إلّا بعد أن يكثّف اللّه تعالى بنيته ويعظم جثّته.
وإذا حصل هذه الصفة رأته كلّ عين سليمة وميّزته.
فإذا ادّعى النبوّة من جعل معجزته إقلاع مدينة أو نقل جبل ، فوقع ما ادّعاه من غير أن يشاهد جسما كثيفا أعان عليه أو تولّاه يبطل التجويز لأن يكون من فعل جنّي وملك ، وخلص فعلا للّه تعالى.
ولا فرق في اعتبار هذه الحال بين الجنّ والبشر ، لأنّ مدّعي الإعجاز بحمل جبل ثقيل لا ينهض بحمله أحد منّا منفردا لا بدّ من الاعتبار عليه من أن يمنعه من الاستعانة بغيره ، ويسدّ باب كلّ حيلة يتمّ معها الاستعانة بالغير ، فالجنّي في هذا الباب كالإنسيّ إذا كنّا قد بيّنا أنّه لا بدّ من أن يكون كثيفا مدركا.
فأمّا إبدال ميّت بحيّ ، أو إحضار جسم من بعيد ، فليس يجوز أن يتمكّن منه أيضا إلّا من له قدر تحتاج إلى بنية كثيفة يتناولها الرؤية».
97. في الأصل : لا يحضره ، وهو من سهو الناسخ.
98. في الأصل : صغيرة ، والمناسب ما أثبتناه.
99. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 391 : « وأكثر ما يمكن أن يقال : جوّزوا أن يكون الحيّ الذي أبدله الجنّي بميّت من أصغر الحيوان جثّة كالذرّة والبعوضة».
100. في الأصل : الذرّة ، والمناسب ما أثبتناه.
101. قال المصنّف رحمه اللّه في الذخيرة/ 391 : « والجواب عن ذلك : أنّ أقلّ الأحوال أن يكون حامل هذا الحيوان مكافئا له في القدر ، ويجب تساويهما في الجثّة والكثافة ، فيجب رؤيته ولا يخفى حاله».
102. في الأصل : عن ، وما أثبتناه مناسب للسياق.
103. قال المصنّف رحمه اللّه في الذخيرة/ 392 : « وبعد ، فإن فرضنا أنّ رؤية هذا الحامل غير واجبة ، فلا بدّ من أن يكون ما يحمله وينقله مرئيّا متميّزا ، وإلّا لم يفرق بين حضوره وغيبته. وما هذه حاله لا يخفى على الحاضرين حاله ، ولا بدّ من أن يدركوه ويفطنوا بحاله ويتنبّهوا على وجه الحيلة فيه».
104. في الأصل : الحقّة : أي الداهية ، ولعلّها : الخفّة.
105. حصف ، حصافة : إذا كان جيّد الرأي ، محكم العقل.
106. في الأصل : لم يقطع ، وما أثبتناه مناسب للسياق.
107. قال المصنّف رحمه اللّه في الذخيرة/ 392 : « ويلحق هذا الوجه بالأوّل في مساواة الجنّ والبشر في الاعتبار عليهم والامتحان. ولهذا نجد كثيرا من المشعبذين وأصحاب الحقّة يسترون جسما ويظهرون آخر ، ويبدلون ميّتا بحيّ وصغيرا بكبير ، وإذا اعتبر عليهم المحصّلون ، ظهروا على مظانّ حيلهم ووجوهها. ولا بدّ في مدّعي النبوّة من أن يؤمن فيه ما جوّزناه في المشعبذ ، وليس يحصل الأمر إلّا بصادق البحث ، وقويّ الامتحان».
108. في الأصل : أنزل ، والمناسب ما أثبتناه.
109. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 393 : « إذا سلّم لكم تعذّر معارضة القرآن على كلّ بشر وجنّي وملك وكلّ قادر من المحدثين ، وسلّم أيضا أنّه من فعله تعالى على غاية اقتراحهم ، ما المنكر من أن يكون أنزل هذا الكتاب على نبيّ من الأنبياء ، غير من ظهر من جهة تغلّبه عليه ، وقتله الظاهر من جهته ، وادّعى الإعجاز به؟».
110. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 394 : « ولسنا نعرف للقوم جوابا سديدا عن هذا السؤال ...».
111. أي المشعبذين.
112. قال المصنّف رحمه اللّه في الذخيرة/ 394 : « ... إذا ذكروا الاستفساد وغيره ممّا حكيناه عنهم في جواب سؤال الجنّ ، فقد تكلّمنا بما فيه كفاية. وإذا قالوا : إنّ العلم الضروريّ حاصل بأنّه لم يسمع من غيره ، أو قالوا : نعلم ضرورة أنّ المظهر له لم يأخذ من غيره ...».
113. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 394 : « قلنا : أمّا العلم بأنّه لم يأخذ من أحد ظهر على يده وعرفت أخباره وانتشرت ، فثابت لا محالة. وهو على خلاف ما تضمّنه السؤال؛ لأنّه تضمّن أنّه أخذه ممّن لم يظهر له حال ، ولا وقف له على خبر سواه ، وكذلك العلم بأنّه لم يأخذه من غيره ، لا بدّ من أن يكون مشروطا بما ذكرناه ، وكيف يدّعي إطلاقا أنّه لم يأخذه من غيره ، وهو يذكر أنّ الملك نزل به عليه؟ فيجب أن يقولوا إنّه لم يؤخذ من أحد من البشر ، وإذا فرضنا أنّ المأخوذ منه ذلك من البشر لم يطّلع على حاله سواه ، لحق البشر في هذا بالملك».
114. في الأصل : معجزة أحد ، وما أثبتناه هو المناسب للسياق.
115. في الأصل : واضح ، وما أثبتناه مناسب للسياق.
116. في الأصل : علم ، والمناسب ما أثبتناه.
117. أي ادعاء وكذبا.
118. كذا في الأصل : وتبدو العبارة غير مستقيمة.
119. في الأصل : بتغيّره ، وما أثبتناه مناسب للسياق.
120. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 394 : « إنّ تجويز المستدلّ الناظر في المعجزات أن تكون غير حادثة ولا مختصّة لا يقتضي التنفير عن النظر فيها. وكيف يكون ذلك ويحسن أن كلّ ناظر في علم من أعلام الأنبياء عليهم السّلام يجوّز قبل نظره فيه أن يكون مخرقة وشعبذة ، ولم يقتض ذلك تنفيره عن النظر فيه ، بل واجب نظره لثبوت الخوف وعدم الأمان من أن يكون المدّعي صادقا».
121. في الأصل : لا يقف ، والمناسب ما ذكرناه.
122. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة / 395 : « وممّا يمكن أن يتعلّقوا به : أنّ القرآن لو كان مأخوذا من نبيّ خصّه اللّه تعالى به ، ولم يخل حاله من وجهين : إمّا أن يكون قد أدّى الرسالة ، وظهر أمره ، وانتشر خبره. أو لم يؤدّها.
وفي الوجه الأوّل : استحالة أن يخفى خبره وينطوي حال من قتله وغلبه على كتابه ، لا سيّما مع البحث الشديد والتنقير الطويل. وإن كان على الوجه الثاني : وجب على اللّه تعالى أن يمنع من قتله ، وإلّا انتقض الغرض في بعثته».
123. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 395 : « وقد كنّا ذكرنا في كتابنا الموضح عن إعجاز القرآن جوابا سديدا عن هذا السؤال ، يمكن أن نجيب من ذهب في القرآن إلى خرق العادة بفصاحته ، وإن كنّا ما قرأنا لهم في كتاب ، ولا سمعناه في مناظرة ولا مذاكرة ، وإنّما أخرجناه فكرة ، وهو أنّ القرآن عند التأمّل له يدلّ على أنّ نبيّنا صلّى اللّه عليه وآله هو المختصّ به ، والمظهر على يده دون غيره ، فما تضمّنه القرآن ممّا يدلّ على ذلك قوله تعالى في قصّة المجادلة ...».
124. هو أوس بن الصامت بن قيس بن أحرم الأنصاريّ الخزرجيّ ، وأمّه قرّة العين بنت عبادة ، وأخوه عبادة بن الصامت ، وزوجته خولة بنت ثعلبة الخزرجيّة. صحابيّ من الأنصار ، شاعر ، وكان به خفّة ومسّ من الجنون. وقصّة ظهاره مع زوجته التي كانت السبب في نزول آية الظهار معروفة مشهورة.
125. راجع : تفسير التبيان 9/ 541 ، تفسير مجمع البيان 9/ 247 ، تفسير الطبريّ 28/ 2.
126. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 396 : « ومن ذلك قوله مخبرا عمّن انهزم من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه وآله في يوم أحد عنه وولّى عن نصرته ...».
127. كذلك في كتاب الذخيرة/ 396.
128. أي تركوه.
129. كذلك في كتاب الذخيرة/ 396- 397.
130. كذلك في كتاب الذخيرة/ 397.
131. هو أبو الحبّاب ، عبد اللّه بن أبيّ بن مالك الأنصاريّ الخزرجيّ ، عاصر النبيّ صلّى اللّه عليه وآله في بدء الدعوة وكان يهوديّا ، وأصبح من أكثر المشركين إيذاء وحسدا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله ، حتّى صار رأس النفاق في المدينة. أظهر الإسلام بعد وقعة بدر الكبرى نفاقا وبغيا وخوفا ، فحاول أن يخذّل النبيّ صلّى اللّه عليه وآله والمسلمين ويشمت بهم إذا حلّت بهم نازلة وينشر كلّ سيّئة يسمعها عنهم ، ولم يزل على كفره ونفاقه حتّى أصيب بمرض قضى عليه في السنة التاسعة للهجرة.
132. كذلك في كتاب الذخيرة/ 397.
133. من الآيات النازلة بذمّ حفصة بنت عمر بن الخطّاب وعائشة بنت أبي بكر زوجتي النبيّ صلّى اللّه عليه وآله حيث خالفتا النبيّ وتظاهرتا عليه وأفشتا سرّه صلّى اللّه عليه وآله ، فعاتب عليه السّلام إحداهما وأعرض عن الثانية ، والقضية مشهورة ثابتة والأخبار الواردة فيها متواترة.
وإليك نصّ الخبر الذي يرويه البخاريّ 6/ 274 بسنده عن عائشة نفسها : « قالت : كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله يشرب عسلا عند زينب ابنة جحش ويمكث عندها ، فواطأت أنا وحفصة عن أيّتنا دخل عليها فلتقل له : أكلت مغافير ، [ مغافير جمع مغفور وهو صمغ حلو وله رائحة كريهة] إنّي أجد منك ريح مغافير! قال : لا ، ولكنّي كنت أشرب عسلا عند زينب ابنة جحش ، فلن أعود له ، وقد حلفت ، لا تخبري بذلك أحدا».
134. ورد الاستشهاد بالآية في كتاب الذخيرة/ 397.
135. ورد الاستشهاد بالآية كذلك في كتاب الذخيرة/ 397- 398.
136. أرجف القوم في الشيء : أي أكثروا من الأخبار السيّئة واختلاق الأقوال الكاذبة حتّى يضطرب الناس منها.
137. في الأصل : وينسبوها ، والمناسب ما أثبتناه.
138. في الأصل : أحرجنا ، والظاهر ما أثبتناه.
139. في الأصل : وكثير ، وما أثبتناه مناسب للسياق.
140. في الأصل : وإن ، ويبدو أن الواو زائدة.
141. كذلك في كتاب الذخيرة/ 398.
142. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 398 : « ولم تخل هذه الأخبار المطابقة القصص والوقائع والأفعال والأقوال والسؤالات والجوابات ، وقد جرى لذلك فيما تقدّم ، بل جرى في هذه الأوقات التي وردت الأخبار بوقوعها فيها. وتكون الأخبار- وإن كانت بلفظ الماضي- إخبارا عمّن يحدث في المستقبل ، فذلك جائز على مذهب أهل اللسان».
143. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 398- 399 : « والقسم الأوّل يبطل من وجهين :
أحدهما : أنّ ذلك لو جرى فيما مضى لوجب أن يعلمه كلّ عاقل سمع الأخبار؛ لأنّ وجوب استفاضته وانتشاره يقتضي عموم العلم. وكيف لا نعلم حال نبيّ كثر أعوانه ، وكان منهم مهاجرون وأنصار ، ومخلصون ومنافقون ، وحارب في وقعة بعد أخرى وحورب ، واستفتي في الأحكام ، واقترحت عليه الآيات والمعجزات ، ولكان أعداء النبيّ صلّى اللّه عليه وآله يواقفون على هذه الحال ، ويسارعون إلى الاحتجاج بها. وإنّما استحقّ هذا السؤال تكلّف الجواب عنه ، لمّا تضمّن أنّ الكتاب أخذ ممّن لا يعرف له خبر ، ولا وقف له على أثر ، ولا بعث إلّا إلى الذي أخذ الكتاب منه!».
144. في الأصل : نبيّ اللّه تعالى كثرة أعوانه ، والمناسب ما أثبتناه موافقا لما في الذخيرة.
145. في الأصل : وحاربه ، والمناسب ما أثبتناه.
146. في الأصل : في موطن آخر ، والظاهر ما أثبتناه.
147. في الأصل : والواقعة ، وما أثبتناه مناسب للسياق.
148. يبدو أنّ في العبارة اضطرابا أو سقطا.
149. في الأصل : ولعلّ ، والظاهر ما أثبتناه.
150. في الأصل : مجبنوبا.
151. في الأصل : الزوج ، والمناسب ما أثبتناه ، قال تعالى : { ويَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ...} .
152. في الأصل : نفوض ، والمناسب ما أثبتناه.
153. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 399 : « وأمّا الوجه الثاني في إبطال القسم الأوّل : أنّ العادات تقتضي باستحالة أن يتّفق نظائر وأمثال لتلك القصص الّتي حكيناها ، حتّى لا يخالفها في شيء ، ولا يغادر منها شيء شيئا. واستحالة ذلك كاستحالة أن يوافق شاعر شاعرا على سبيل المواردة في جميع شعره وفي قصيدة طويلة. ومن تأمّل هذا حقّ تأمله ، علم أنّ اتّفاق نظير لبعض هذه القصص محال ، فكيف أن يتّفق مثل جميعها».
154. كذا في الأصل ، والصحيح يوم أحد بدل بدر ، حيث إنّ الصحابة تركوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وحده- ولم يبق معه إلّا نفر قليل من أهل بيته- وانهزموا جميعا في معركتي أحد وحنين ، أمّا معركة بدر فإنّ النصر فيها كان حليف المسلمين وكانت الهزيمة للمشركين.
155. كذا في الأصل.
156. في الأصل : كان ، والمناسب ما أثبتناه.
157. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 399- 400 : « وأمّا القسم الثاني : وهو أن يكون هذه الأخبار إنّما هي عمّا يحدث مستقبلا في الأوقات التي حدثت ، والذي يبطله- إذا تجاوزنا عن المضايقة في أنّ لفظ الماضي لا يكون للمستقبل- أنّا إذا تأمّلنا وجدنا جميع الأخبار التي تلوناها دالّة على تعظيم من ظهرت مخبراتها على يديه وتصدّق دعوته ونبوّته. أ لا ترى إلى توبيخه تعالى للمولّين عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله يوم أحد وحنين ... فكلّ القصص إذا تؤمّلت ، علم أنّها شاهدة بنبوّة نبيّنا صلّى اللّه عليه وآله وصدقه».
158. قال المصنّف رحمه اللّه في كتابه الذخيرة/ 400 : « وليس لأحد أن يقول : فلعلّ هذه الآيات المقصوصة ليست من جملة الكتاب المعجز فيه ، وإنّما ألحقت وأضيفت إليه».
1569. في الأصل : ويزيد ، والمناسب ما أثبتناه وفقا لما في الذخيرة.
160. قال المؤلّف في الذخيرة/ 400 : « وذلك أنّ الذي يؤمن من هذا الطعن : أنّا قد علمنا أنّ كلّ آية أو آيات اختصّت بما ذكرناه من القصص والحوادث ، تزيد على مقدار سورة قصيرة ، وهي التي وقع التحدّي بها وتعذّرت معارضتها ، فلو تأتّى لملحق أن يلحق بالقرآن مثل هذه الآيات لكان ذلك من العرب الّذين تحدّوا به أشدّ تأتّيا وأقرب تسهّلا».
161. في الأصل : متعذّرة ، وهي لا تناسب السياق.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|