المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 18282 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية



غزة الاحزاب  
  
44   03:17 مساءً   التاريخ: 2025-02-02
المؤلف : الشيخ ماجد ناصر الزبيدي
الكتاب أو المصدر : التيسير في التفسير للقرآن برواية أهل البيت ( عليهم السلام )
الجزء والصفحة : ج 6 ص69-86.
القسم : القرآن الكريم وعلومه / قصص قرآنية / مواضيع عامة في القصص القرآنية /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-02-12 1372
التاريخ: 2-06-2015 2442
التاريخ: 9-1-2023 1402
التاريخ: 2023-03-23 1744

غزة الاحزاب

قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } [الأحزاب: 9 - 22]

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام : « قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على التل الذي عليه مسجد الفتح في غزوة الأحزاب ، في ليلة ظلماء قرّة « 1 » ، فقال : من يذهب فيأتينا بخبرهم ، وله الجنّة ؟ فلم يقم أحد ، ثم أعادها ، فلم يقم أحد - فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام بيده - وما أراد القوم ، أرادوا أفضل من الجنة ؟ ! ثم قال : من هذا ؟ فقال : حذيفة . فقال : أما تسمع كلامي منذ الليلة ، ولا تكلم ؟

اقترب . فقام حذيفة ، وهو يقول : القرّ والضر - جعلني اللّه فداك - منعني أن أجيبك . فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : انطلق حتى تسمع كلامهم تأتيني بخبرهم . فلما ذهب قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، حتى تردّه - وقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم - يا حذيفة ، لا تحدث شيئا حتى تأتيني . فأخذ سيفه وقوسه وحجفته « 2 » . قال حذيفة : فخرجت ، وما بي من ضرّ ولا قرّ ، فمررت على باب الخندق ، وقد اعتراه المؤمنون والكفار .

فلما توجه حذيفة ، قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، ونادى : يا صريخ المكروبين ، ويا مجيب دعوة المضطرين ، اكشف همي وغمي وكربي ، فقد ترى حالي وحال أصحابي . فنزل عليه جبرئيل عليه السّلام ، فقال : يا رسول اللّه ، إن اللّه عز ذكره قد سمع مقالتك ، ودعاءك ، وقد أجابك ، وكفاك هول عدوك . فجثا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على ركبتيه ، وبسط يديه ، وأرسل عينيه ، ثم قال : شكرا ، شكرا كما رحمتني ، ورحمت أصحابي . ثم قال يا رسول اللّه ، قد بعث اللّه عزّ وجلّ عليهم ريحا من السماء الدنيا فيها حصى ، وريحا من السماء الرابعة فيها جندل « 3 » .

قال حذيفة : فخرجت ، فإذا أنا بنيران القوم ، وأقبل جند اللّه الأوّل ، ريح فيها حصى ، فما تركت لهم نارا إلا أذرتها ، ولا خباء إلا طرحته ، ولا رمحا إلا ألقته ، حتى جعلوا يتترسون من الحصى ، فجعلنا نسمع وقع الحصى في الترس . فجلس حذيفة بين رجلين من المشركين ، فقام إبليس في صورة رجل مطاع في المشركين ، فقال : أيّها الناس ، إنكم قد نزلتم بساحة هذا الساحر الكذّاب ، ألا وإنه لا يفوتكم من أمره شيء ، فإنه ليس سنة مقام ، قد هلك الخفّ والحافر ، فارجعوا ، ولينظر كلّ واحد منكم جليسه . قال حذيفة : فنظرت عن يميني ، فضربت بيدي ، فقلت : من أنت ؟ فقال : معاوية ، فقلت للذي عن يساري : من أنت ؟ فقال سهيل بن عمرو .

قال حذيفة : وأقبل جند اللّه الأعظم ، فقام أبو سفيان إلى راحلته ، فصاح في قريش : النجاء النجاء . وقال طلحة الأزدي : لقد زادكم محمد بشر ، ثم قام إلى راحلته ، وصاح في بني أشجع : النجاء النجاء : وفعل عيينة بن حصن مثلها ، ثم فعل الحارث بن عوف المرّي مثلها ، ثم فعل الأقرع بن حابس مثلها ، وذهب الأحزاب ، ورجع حذيفة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فأخبره الخبر » . قال أبو عبد اللّه عليه السّلام : « إنه كان أشبه بيوم القيامة » « 4 » .

وقال علي بن إبراهيم : إنها نزلت في قصة الأحزاب من قريش والعرب ، الذين تحزّبوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم . قال : وذلك أن قريشا تجمّعت في سنة خمس من الهجرة ، وساروا في العرب ، وجلبوا « 5 » ، واستنفروهم لحرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فوافوا في عشرة آلاف ، ومعهم كنانة ، وسليم ، وفزارة .

وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حين أجلى بني النّضير - وهم بطن من اليهود - من المدينة ، وكان رئيسهم حيّي بن أخطب ، وهم يهود من بني هارون عليه السّلام ، فلما أجلاهم من المدينة ، صاروا إلى خيبر ، وخرج حيي بن أخطب ، وهم إلى قريش بمكة ، وقال لهم : إن محمدا قد وتركم ووترنا ، وأجلانا من المدينة من ديارنا وأموالنا ، وأجلى بني عمّنا بني قينقاع ، فسيروا في الأرض ، وأجمعوا حلفاءكم وغيرهم ، حتى نسير إليهم ، فإنه قد بقي من قومي بيثرب سبع مائة مقاتل ، وهم بنو قريظة ، وبينهم وبين محمد عهد وميثاق ، وأنا أحملهم على نقض العهد بينهم وبين محمد ، ويكونون معنا عليهم ، فتأتونه أنتم من فوق ، وهم من أسفل .

وكان موضع بني قريظة من المدينة على قدر ميلين ، وهو الموضع الذي يسمى ( بئر المطلب ) « 6 » ، فلم يزل يسير معهم حيي بن أخطب في قبائل العرب حتى اجتمعوا قدر عشرة آلاف من قريش ، وكنانة ، والأقرع بن حابس في قومه ، والعباس بن مرداس في بني سليم .

فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، واستشار أصحابه ، وكانوا سبع مائة رجل ، فقال سلمان الفارسي : يا رسول اللّه ، إن القليل لا يقاوم الكثير في المطاولة .

قال : « فما نصنع ؟ » قال : نحفر خندقا يكون بيننا وبينهم حجابا فيمكنك منعهم في المطاولة ، ولا يمكنهم أن يأتونا من كل وجه ، فإنا كنا معاشر العجم في بلاد فارس إذا دهمنا دهم « 7 » من عدونا نحفر الخنادق ، فتكون الحرب من مواضع معروفة . فنزل جبرئيل عليه السّلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فقال : « أشار سلمان بصواب » . فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بمسحه « 8 » من ناحية أحد ، إلى راتج « 9 » ، وجعل على كل عشرين خطوة ، وثلاثين خطوة قوما من المهاجرين والأنصار يحفرونه ، فأمر ، فحملت المساحي والمعاول ، وبدأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فأخذ معولا ، فحفر في موضع المهاجرين بنفسه ، وأمير المؤمنين عليه السّلام ينقل التراب عن الحفرة ، حتى عرق رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وأعيا ، وقال : « لا عيش إلا عيش الآخرة ، اللهم اغفر للمهاجرين والأنصار » .

فلما نظر الناس إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يحفر ، اجتهدوا في الحفر ، ونقلوا التراب ، فلما كان في اليوم الثاني بكروا إلى الحفر ، وقعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في مسجد الفتح ، فبينا المهاجرون والأنصار يحفرون ، إذ عرض لهم جبل لم تعمل المعاول فيه ، فبعثا جابر بن عبد اللّه الأنصاري إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يعلمه بذلك . قال جابر : فجئت إلى المسجد ، ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم مستلق على قفاه ، ورداؤه تحت رأسه ، وقد شدّ على بطنه حجرا فقلت : يا رسول اللّه ، إنه قد عرض لنا جبل لم تعمل المعاول فيه . فقام مسرعا حتى جاءه ، ثم دعا بماء في إناء ، فغسل وجهه وذراعيه ، ومسح على رأسه ورجليه ، ثم شرب ، ومجّ من ذلك الماء في فيه ، ثم صبّه على ذلك الحجر ، ثم أخذ معولا فضرب ضربة ، فبرقت برقة ، فنظرنا فيها إلى قصور الشام ، ثم ضرب أخرى ، فبرقت أخرى ، فنظرنا فيها إلى قصور المدائن ، ثم ضرب أخرى فبرقت برقة أخرى ، فنظرنا فيها إلى قصور اليمن ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : « إن اللّه سيفتح عليكم هذه المواطن التي برق فيها البرق » . ثمّ انهال علينا الجبل كما ينهال الرمل .

فقال جابر : فعلمت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم مقو - أي جائع - لما رأيت على بطنه الحجر ، فقلت : يا رسول اللّه ، هل لك في الغذاء ؟ قال : « ما عندك ، يا جابر ؟ » فقلت : عناق « 9 » ، وصاع من شعير . فقال : « تقدّم ، وأصلح ما عندك » قال جابر : فجئت إلى أهلي ، فأمرتها ، فطحنت الشعير ، وذبحت العنز ، وسلختها ، وأمرتها أن تخبز ، وتطبخ ، وتشوي ، فلما فرغت من ذلك جئت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فقلت : بأبي أنت وأمي - يا رسول اللّه - قد فرغنا ، فاحضر مع من أحببت ، فقام صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلى شفير الخندق ، ثم قال : « يا معاشر المهاجرين والأنصار ، أجيبوا جابرا » قال جابر : وكان في الخندق سبع مائة رجل ، فخرجوا كلّهم ، ثم لم يمرّ بأحد من المهاجرين والأنصار إلا قال : « أجيبوا جابرا » . قال جابر : فتقدّمت ، وقلت لأهلي : قد - واللّه - أتاك محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بما لا قبل لك به . فقالت : أعلمته أنت بما عندنا ؟ قلت : نعم . قالت : فهو أعلم بما أتى .

قال جابر : فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فنظر في القدر ، ثم قال : « اغرفي ، وأبقي » . ثم نظر في التنّور ، ثم قال : « أخرجي ، وأبقي » ، ثم دعا بصحفة « 10 » ، فثرد فيها ، وغرف ، فقال : « يا جابر ، أدخل علي عشرة » . فأدخلت عشرة ، فأكلوا حتى تملؤوا ، وما يرى في القصعة إلا آثار أصابعهم ، ثم قال : « يا جابر ، عليّ بالذراع » . فأتيته بذراع ، فأكلوه ، ثم قال : « ادخل علي عشرة » .

فأدخلتهم ، فأكلوا حتى تملؤوا ، ولم ير في القصعة إلا آثار أصابعهم ، ثم قال : « عليّ بالذراع » فأكلوا ، ثم قال : « ادخل علي عشرة » . فأدخلتهم ، فأكلوا حتى تملؤوا ، ولم ير في القصعة إلا آثار أصابعهم ، ثم قال : « يا جابر ، عليّ بالذراع » . فأتيته ، فقلت : يا رسول اللّه ، كم للشاة من ذراع ؟ قال : « ذراعان » .

فقلت : والذي بعثك بالحق نبيا ، لقد أتيتك بثلاثة . فقال : « أما لو سكت - يا جابر - لأكل الناس كلهم من الذراع » . قال : « يا جابر ، أدخل عشرة » . فأقبلت أدخل عشرة عشرة ، فيأكلون ، حتى أكلوا كلهم ، وبقي لنا - واللّه - من ذلك الطعام ما عشنا به أياما .

قال : وحفر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم الخندق ، وجعل له ثمانية أبواب ، وجعل على كل باب رجلا من المهاجرين ، ورجلا من الأنصار ، مع جماعة يحفظونه ، وقدمت قريش ، وكنانة ، وسليم ، وهلال ، فنزلوا الزغابة « 11 » ، ففرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من حفر الخندق قبل قدوم قريش بثلاثة أيام .

وأقبلت قريش ، ومعهم حييّ بن أخطب ، فلما نزلوا العقيق جاء حيي بن أخطب إلى بني قريظة في جوف الليل ، وكانوا في حصنهم قد تمسّكوا بعهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فدقّ باب الحصن ، فسمع كعب بن أسد قرع الباب ، فقال لأهله : هذا أخوك قد شأم قومه ، وجاء الآن يشأمنا ، ويهلكنا ، ويأمرنا بنقض العهد بيننا وبين محمد ، وقد وفى لنا محمد ، وأحسن جوارنا . فنزل إليه من غرفته ، فقال له : من أنت ؟ قال : حيي بن أخطب ، قد جئتك بعز الدهر .

قال : كعب : بل جئتني بذل الدهر . فقال : يا كعب ، هذه قريش في قادتها وسادتها قد نزلت بالعقيق ، مع حلفائهم من كنانة ، وهذه فزارة ، مع قادتها وسادتها قد نزلت الزغابة ، وهذه سليم وغيرهم قد نزلوا حصن بني ذبيان ، ولا يفلت محمد وأصحابه من هذا الجمع أبدا ، فافتح الباب ، وانقض العهد الذي بينك وبين محمد . فقال كعب : لست بفاتح لك الباب ، ارجع من حيث جئت . فقال حيي : ما يمنعك من فتح الباب إلا جشيشتك « 12 » التي في التنور ، تخاف أن أشركك فيها ، فافتح فإنك آمن من ذلك . فقال له كعب : لعنك اللّه ، لقد دخلت علي من باب دقيق . ثم قال : افتحوا له الباب . ففتحوا له ، فقال :

ويلك - يا كعب - انقض العهد الذي بينك وبين محمد ، ولا ترد رأيي ، فإن محمدا لا يفلت من هذا الجمع أبدا ، فإن فاتك هذا الوقت لا تدرك مثله أبدا .

قال : فاجتمع كل من كان في الحصن من رؤساء اليهود ، مثل : غزال بن شمول ، وياسر بن قيس ، ورفاعة بن زيد ، والزبير بن باطا ، فقال لهم كعب :

ما ترون ؟ قالوا : أنت سيدنا ، والمطاع فينا ، وصاحب عهدنا وعقدنا ، فإن نقضت نقضنا ، وإن أقمت أقمنا معك ، وإن خرجت خرجنا معك . فقال الزبير بن باطا - وكان شيخا كبيرا مجرّبا ، قد ذهب بصره - : قد قرأت التوراة التي أنزلها اللّه في سفرنا بأنه يبعث نبي في آخر الزمان ، يكون مخرجه بمكة ، ومهاجرته إلى المدينة في هذه البحيرة « 13 » يركب الحمار العري « 14 » ، ويلبس الشملة « 15 » ، ويجتزىء بالكسيرات والتميرات ، وهو الضحوك القتّال ، في عينيه الحمرة ، وبين كتفيه خاتم النبوّة ، يضع سيفه على عاتقه ، لا يبالي من لاقى ، يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر ، فإن كان هذا هو فلا يهوّلنه هؤلاء وجمعهم ، ولو ناوأته هذه الجبال الرواسي لغلبها .

فقال حيي : ليس هذا ذاك ، ذاك النبي من بني إسرائيل ، وهذا من العرب ، من ولد إسماعيل ، ولا يكون بنو إسرائيل أتباعا لولد إسماعيل أبدا ، لأن اللّه قد فضّلهم على الناس جميعا ، وجعل فيهم النبوّة والملك ، وقد عهد إلينا موسى ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، وليس مع محمد آية ، وإنما جمعهم جمعا ، وسحرهم . ويريد أن يغلبهم بذلك ، فلم يزل يقلبهم عن رأيهم حتى أجابوه ، فقال لهم : أخرجوا الكتاب الذي بينكم وبين محمد . فأخرجوه ، فأخذه حيي بن أخطب ومزّقه ، وقال : قد وقع الأمر ، فتجهّزوا وتهيأوا للقتال .

وبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ذلك ، فغمّه غما شديدا . وفزع أصحابه ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لسعد بن معاذ ، وأسيد بن حضير ، وكانا من الأوس ، وكانت بنو قريظة حلفاء الأوس ، فقال لهما : « ائتيا بني قريظة ، فانظرا ما صنعوا ، فإن كانوا نقضوا العهد ، فلا تعلما أحدا إذا رجعتما إليّ ، وقولا : عضل والقارة » .

فجاء سعد بن معاذ وأسيد بن حضير إلى باب الحصن ، فأشرف عليهما كعب من الحصن ، فشتم سعدا ، وشتم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فقال له سعد : إنما أنت ثعلب في جحر ، لتولينّ قريش ، وليحاصرنك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، ولينزلنك على الصغر والقماءة « 16» ، وليضربن عنقك ، ثم رجعا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فقالا له : عضل والقارة . فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : « لعنا ، نحن أمرناهم بذلك » وذلك أنه كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عيون لقريش يتجسسون خبره ، وكانت عضل والقارة قبيلتان من العرب ، دخلتا في الإسلام ، ثم غدرتا ، فكان إذا غدر أحد ضرب بهما المثل ، فيقال : عضل والقارة . ورجع حيي بن أخطب إلى أبي سفيان وقريش ، وأخبرهم بنقض بني قريظة العهد بينهم وبين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، ففرحت قريش بذلك .

فلما كان في جوف الليل جاء نعيم بن مسعود الأشجعي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، وقد كان أسلم قبل قدوم قريش بثلاثة أيام ، فقال : يا رسول اللّه ، قد آمنت باللّه ، وصدقتك ، وكتمت إيماني عن الكفرة ، فإن أمرتني أن آتيك بنفسي فأنصرك فعلت ، وإن أمرتني أن أخذّل بين اليهود وقريش فعلت ، حتى لا يخرجوا من حصنهم . فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : « خذل بين اليهود وقريش ، فإنه أوقع عندي » . قال : أفتأذن لي أن أقول فيك ما أريد ؟ قال : « قل ما بدا لك » .

فجاء إلى أبي سفيان ، فقال له : تعرف مودّتي لكم ، ونصحي ، ومحبّتي أن ينصركم اللّه على عدوّكم ، وقد بلغني أن محمدا قد وافق اليهود أن يدخلوا بين عسكركم ، ويميلوا عليكم ، ووعدهم إذا فعلوا ذلك أن يرد عليهم جناحهم الذي قطعه : بني النضير ، وقينقاع ، فلا أرى أن تدعوهم يدخلوا عسكركم حتى تأخذوا منهم رهنا تبعثونهم إلى مكة ، فتأمنوا مكرهم وغدرهم . فقال له أبو سفيان : وفّقك اللّه ، وأحسن جزاك ، مثلك أهدى النصائح . ولم يعلم أبو سفيان بإسلام نعيم ، ولا أحد من اليهود .

ثم جاء من فوره ذلك إلى بني قريظة ، فقال : يا كعب ، تعلم مودتي لكم ، وقد بلغني أن أبا سفيان قال : نخرج بهؤلاء اليهود ، فنضعهم في نحر محمد ، فإن ظفروا كان الذكر لنا دونهم ، وإن كانت علينا كانوا هؤلاء مقاديم الحرب ، فلا أرى لكم أن تدعوهم يدخلوا عسكركم حتى تأخذوا منهم عشرة من أشرافهم يكونون في حصنكم ، إنهم إن لم يظفروا بمحمد لم يبرحوا حتى يردوا عليكم عهدكم وعقدكم بين محمد وبينكم ، لأنه إن ولت قريش ولم يظفروا بمحمد ، غزاكم محمد ، فيقتلكم . فقالوا : أحسنت ، نصحت وأبلغت في النصيحة ، لا نخرج من حصننا حتى نأخذ منهم رهنا يكونون في حصننا .

وأقبلت قريش ، فلما نظروا إلى الخندق ، قالوا : هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها قبل ذلك . فقيل لهم : هذا من تدبير الفارسي الذي معه . فوافى عمرو بن عبد ود ، وهبيرة بن وهب ، وضرار بن الخطاب إلى الخندق ، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قد صفّ أصحابه بين يديه ، فصاحوا بخيلهم حتى طفروا الخندق إلى جانب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، وصار أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كلهم خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، وقدموا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بين أيديهم ، وقال رجل من المهاجرين - وهو فلان - لرجل بجنبه من إخوانه : أما ترى هذا الشيطان - عمرو - لا واللّه ما يفلت من بين يديه أحد ، فهلموا ندفع إليه محمدا ليقتله ، ونلحق نحن بقومنا .

فأنزل اللّه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في ذلك الوقت قوله : {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا } [الأحزاب : 18، 19].

فركز عمرو بن عبد ود رمحه في الأرض ، وأقبل يجول حوله ، ويرتجز ، ويقول :

ولقد بححت من الندا * ء بجمعكم : هل من مبارز ؟

ووقفت إذ جبن الشّجا * ع مواقف القرن المناجز

إني كذلك لم أزل * متسرعا نحو الهزاهز

إن الشجاعة في الفتى * والجود من خير الغرائز

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : « من لهذا الكلب ؟ » فلم يجبه أحد ، فقام إليه أمير المؤمنين عليه السّلام ، فقال : « أنا له ، يا رسول اللّه » فقال : « يا علي ، هذا عمرو بن عبد ود فارس يليل » « 17 » فقال : « أنا علي بن أبي طالب » فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم :

« ادن مني » فدنا منه ، فعممه بيده ، ودفع إليه سيفه ذا الفقار ، وقال له :

« اذهب ، وقاتل بهذا » . وقال : « اللهم احفظه من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، ومن فوقه ، ومن تحته » .

فمر أمير المؤمنين عليه السّلام ، وهو يهرول في مشيه ، وهو يقول :

« لا تعجلنّ فقد أتا * ك مجيب صوتك غير عاجز

ذو نية وبصيرة * والصدق منجي كل فائز

إني لأرجو أن أقيم * عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يبقى * صوتها بعد الهزاهز »

فقال له عمرو : من أنت ؟ قال : « أنا علي بن أبي طالب ، ابن عم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، وختنه » . فقال : واللّه إن أباك كان لي صديقا ونديما ، وإني أكره أن أقتلك ، ما أمن ابن عمك حين بعثك إلي أن اختطفك برمحي هذا ، فأتركك شائلا بين السماء والأرض ، لا حي ولا ميت !

فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام : « قد علم ابن عمي أنك إن قتلتني دخلت الجنة ، وأنت في النار ، وأن قتلتك فأنت في النار ، وأنا في الجنة » . فقال عمرو : كلتاهما لك - يا علي - تلك إذن قسمة ضيزى « 18 » .

قال علي عليه السّلام : « دع هذا - يا عمرو - إني سمعت منك وأنت متعلق بأستار الكعبة تقول : لا يعرضن علي أحد في الحرب ثلاث خصال إلا أجبته إلى واحدة منها ، وأنا أعرض عليك ثلاث خصال ، فأجبني إلى واحدة » . قال :

هات ، يا علي . قال : « إحداها : تشهد أن لا إله إلا اللّه ، وأن محمدا رسول اللّه » قال : نحّ عني هذا ، هات الثانية . فقال : « أن ترجع ، وترد هذا الجيش عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، فإن يك صادقا فأنتم أعلى به عينا ، وإن يك كاذبا كفتكم ذؤبان العرب أمره » . فقال : إذن لا تتحدث نساء قريش بذلك ، ولا تنشد الشعراء في أشعارها أني جبنت ورجعت على عقبي من الحرب ، وخذلت قوما رأسوني عليهم ؟

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام : « فالثالثة : أن تنزل إلي ، فإنك راكب ، وأنا راجل ، حتى أنا بذك » فوثب عن فرسه وعرقبه ، وقال : هذه خصلة ما ظننت أن أحدا من العرب يسومني عليها . ثم بدأ فضرب أمير المؤمنين عليه السّلام بالسيف على رأسه ، فاتقاه أمير المؤمنين عليه السّلام بالدّرقة ، فقطعها ، وثبت السيف على

رأسه ، فقال له علي عليه السّلام : « يا عمرو ، أما كفاك أني بارزتك وأنت فارس العرب حتى استعنت علي بظهير ؟ ! » فالتفت عمرو إلى خلفه ، فضربه أمير المؤمنين عليه السّلام مسرعا على ساقيه ، فقطعهما جميعا ، وارتفعت بينهما عجاجة ، فقال المنافقون : قتل علي بن أبي طالب . ثم انكشفت العجاجة ، فنظروا ، فإذا أمير المؤمنين عليه السّلام على صدره ، قد أخذ بلحيته يريد أن يذبحه ، فذبحه ثم أخذ رأسه ، وأقبل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، والدماء تسيل على رأسه من ضربة عمرو ، وسيفه يقطر منه الدم ، وهو يقول ، والرأس بيده :

« أنا علي وابن عبد المطلب * الموت خير للفتى من الهرب »

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : « يا عليّ ، ما كرته ؟ » قال : « نعم - يا رسول اللّه - الحرب خديعة » .

وبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم الزبير إلى هبيرة بن وهب ، فضربه على رأسه ضربة فلق هامته ، وأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عمر بن الخطاب أن يبراز ضرار بن الخطاب ، فلما برز إليه ضرار انتزع له عمر سهما ، فقال له ضرار : ويحك - يا بن صهّاك - أترمي في مبارزة ؟ واللّه لئن رميتني لا تركت عدويّا بمكة إلا قتلته . فانهزم عند ذلك عمر ، ومر نحوه ضرار ، وضربه على رأسه بالقناة ، ثم قال : احفظها - يا عمر - فإني آليت ألا أقتل قرشيا ما قدرت عليه . فكان عمر يحفظ له ذلك بعد ما ولي ، فولّاه .

فبقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يحاربهم في الخندق خمسة عشر يوما ، فقال أبو سفيان لحيي بن أخطب : ويلك - يا يهودي - أين قومك ؟ فصار حيي بن أخطب إليهم ، فقال : ويلكم ، أخرجوا ، فقد نابذكم محمد الحرب ، فلا أنتم مع محمد ، ولا أنتم مع قريش . فقال كعب :

لسنا خارجين ، حتى تعطينا قريش عشرة من أشرافهم رهنا يكونون في حصننا ، إنهم إن لم يظفروا بمحمد لم يبرحوا حتى يرد محمد علينا عهدنا وعقدنا ، فإنا لا نأمن أن تفر قريش ونبقى نحن في عقر دارنا ، ويغزونا محمد ، فيقتل رجالنا ، ويسبي نساءنا وذرارينا ، وإن لم نخرج لعله يردّ علينا عهدنا .

فقال له حيي بن أخطب : تطمع في غير مطمع ، قد نابذت العرب محمدا الحرب ، فلا أنتم مع محمد ، ولا أنتم مع قريش .

فقال كعب : هذا من شؤمك ، إنما أنت طائر تطير مع قريش غدا وتتركنا في عقر دارنا ، ويغزونا محمد .

فقال له حييّ : لك عهد اللّه علي وعهد موسى إن لم تظفر قريش بمحمد أني أرجع معك إلى حصنك ، يصيبني ما يصيبك .

فقال كعب : هو الذي قد قلته لك ، إن أعطتنا قريش رهنا يكونون عندنا ، وإلا لم نخرج . فرجع حيي بن أخطب إلى قريش فأخبرهم ، فلما قال : يسألون الرّهن . قال أبو سفيان : هذا - واللّه - أوّل الغدر ، قد صدق نعيم بن مسعود ، لا حاجة لنا في إخوان القردة والخنازير .

فلما طال على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم الأمر ، اشتد عليهم الحصار ، وكانوا في وقت برد شديد ، وأصابتهم مجاعة ، وخافوا من اليهود خوفا شديدا ، وتكلم المنافقون بما حكى اللّه عنهم ، ولم يبق أحد من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم إلا نافق ، إلا القليل . وقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أخبر أصحابه : « أن العرب تتحزب ، ويجيئونا من فوق ، وتغدر اليهود ونخافهم من أسفل ، وأنه ليصيبهم جهد شديد ، ولكن تكون العاقبة لي عليهم » . فلما جاءت قريش ، وغدرت اليهود ، قال المنافقون : ما وعدنا اللّه ورسوله إلا غرورا . وكان قوم منهم لهم دور في أطراف المدينة ، فقالوا : يا رسول اللّه ، تأذن لنا أن نرجع إلى دورنا فإنها في أطراف المدينة ، وهي عورة ، ونخاف اليهود أن يغيروا عليها ؟ وقال قوم : هلموا فنهرب ونصير في البادية ، ونستجير بالأعراب ، فإن

الذي كان يعدنا محمد كان باطلا كله . وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أمر أصحابه أن يحرسوا المدينة بالليل ، وكان أمير المؤمنين عليه السّلام على العسكر كلّه بالليل يحرسهم ، فإن تحرّك أحد من قريش بارزهم ، وكان أمير المؤمنين عليه السّلام يجوز الخندق ، ويصير إلى قرب قريش حيث يراهم ، فلا يزال الليل كلّه قائما وحده يصلي ، فإذا أصبح رجع إلى مركزه ، ومسجد أمير المؤمنين عليه السّلام هناك معروف ، يأتيه من يعرفه فيصلي فيه ، وهو من مسجد الفتح إلى العقيق أكثر من غلوة « 19 » النشاب .

فلما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من أصحابه الجزع لطول الحصار صعد إلى مسجد الفتح ، وهو الجبل الذي عليه مسجد الفتح اليوم ، وناجاه فيما وعده ، وكان مما دعاه أن قال : « يا صريخ المكروبين ، ويا مجيب دعوة المضطرين ، ويا كاشف الكرب العظيم ، أنت مولاي ووليي وولي آبائي الأولين ، اكشف عنا غمنا وهمنا وكربنا ، واكشف عنا شر هؤلاء القوم بقوّتك ، وحولك ، وقدرتك » . فنزل عليه جبرئيل عليه السّلام ، فقال : « يا محمد ، إن اللّه قد سمع مقالتك ، وأجاب دعوتك ، وأمر الدّبور - وهي الريح - مع الملائكة أن تهزم قريشا والأحزاب » .

وبعث اللّه على قريش الدّبور ، فانهزموا ، وقلعت أخبيتهم ، فنزل جبرئيل عليه السّلام ، فأخبره بذلك ، فنادى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حذيفة بن اليمان ، وكان قريبا منه ، فلم يجبه ، ثم ناداه ثانيا فلم يجبه ، ثم ناداه الثالثة ، فقال : لبيك يا رسول اللّه . قال : « أدعوك فلا تجيبني ؟ » قال : يا رسول اللّه - بأبي أنت وأمي - من الخوف ، والبرد ، والجوع . فقال : « ادخل في القوم ، وائتني بأخبارهم ، ولا تحدثن حدثا حتى ترجع إليّ ، فإن اللّه قد أخبرني أنه قد أرسل الرياح على قريش ، وهزمهم » .

قال حذيفة : فمضيت وأنا انتفض من البرد ، فو اللّه ما كان إلا بقدر ما جزت الخندق حتى كأني في حمام ، فقصدت خباء عظيما فإذا نار تخبو وتوقد ، وإذا خيمة فيها أبو سفيان قد دلى خصيتيه على النار وهو ينتفض من شدة البرد ، ويقول : يا معشر قريش ، إن كنا نقاتل أهل السماء بزعم محمد فلا طاقة لنا بأهل السماء ، وإن كنا نقاتل أهل الأرض فنقدر عليهم ، ثم قال :

لينظر كل رجل منكم إلى جليسه لا يكون لمحمد عين فيما بيننا . قال حذيفة :

فبادرت أنا ، فقلت للذي عن يميني : من أنت ؟ فقال : أنا عمرو بن العاص .

ثم قلت للذي عن يساري : من أنت ؟ قال : أنا معاوية ، وإنما بادرت إلى ذلك لئلا يسألني أحد منهم من أنت .

ثم ركب أبو سفيان راحلته وهي معقولة ، ولولا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال :

« لا تحدثن حدثا حتى ترجع إلي » لقدرت أن أقتله ، ثم قال أبو سفيان لخالد بن الوليد : يا أبا سليمان ، لا بدّ من أن أقيم أنا وأنت على ضعفاء الناس . ثم قال لأصحابه : ارتحلوا ، إنا مرتحلون ، ففروا منهزمين ، فلما أصبح رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، قال لأصحابه : « لا تبرحوا » . فلما طلعت الشمس دخلوا المدينة ، وبقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في نفر يسير .

وكان ابن فرقد الكناني رمى سعد بن معاذ ( رحمه اللّه ) بسهم في الخندق فقطع أكحله « 20 » فنزفه الدم ، فقبض سعد على أكحله بيده ، ثم قال : اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها ، فلا أحد أحبّ إليّ من محاربة قوم حادّوا اللّه ورسوله ، وإن كانت الحرب قد وضعت أوزارها بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وبين قريش فاجعلها لي شهادة ، ولا تمتني حتى تقرّ عيني من بني

قريظة . فأمسك الدم ، وتورّمت يده ، وضرب له رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في المسجد خيمة ، وكان يتعاهده بنفسه ، فأنزل اللّه : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ } يعني بني قريظة حين غدروا ، وخافهم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ إلى قوله : إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً ، وهم الذين قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم : تأذن لنا أن نرجع إلى منازلنا ، فإنها في أطراف المدينة ، ونخاف اليهود عليها ، فأنزل اللّه فيهم : {إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا}  « 21 » .

وقال الطبرسيّ : في معنى قوله : وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ بل هي رفيعة السّمك « 22 » ، حصينة . عن الصادق عليه السّلام . إِنْ يُرِيدُونَ أي ما يريدون إِلَّا فِراراً « 23 » .

وفي رواية علي بن إبراهيم : نزلت هذه الآية في الثاني لما قال لعبد الرحمن بن عوف : هلمّ ندفع محمدا إلى قريش ونلحق نحن بقومنا :

{يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }« 24 » .

وقال الطّبرسي في ( الاحتجاج ) : عن موسى بن جعفر عليه السّلام ، عن أمير المؤمنين عليه السّلام ، مع بعض اليهود ، في حديث : « قال اليهودي : فإن هذا هودا قد انتصر اللّه له من أعدائه بالريح ، فهل فعل لمحمد شيئا من هذا ؟

قال له علي عليه السّلام : لقد كان كذلك ، ومحمد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أعطي ما هو أفضل من هذا ، إن اللّه عزّ وجلّ قد انتصر له من أعدائه بالريح يوم الخندق ، إذ أرسل عليهم ريحا تذرّ الحصى وجنودا لم يروها ، فزاد اللّه تبارك وتعالى محمدا صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على هود بثمانية آلاف ملك ، وفضّله على هود بأن ريح عاد ريح سخط ، وريح محمد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ريح رحمة ، قال اللّه تبارك وتعالى : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها } « 25 » .

وقال علي بن إبراهيم : ثم وصف اللّه المؤمنين المصدّقين بما أخبرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ما يصيبهم في الخندق من الجهد ، فقال : {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } « 26 » .

 

_______________

( 1 ) القرّ : البرد . « النهاية : ج 4 ، ص 38 » .

( 2 ) الحجفة : الترس . « الصحاح - حجف - ج 4 ، ص 1341 » .

( 3 ) الجندل : الحجارة . « لسان العرب - جندل - ج 11 ، ص 128 » .

( 4 ) الكافي : ج 8 ، ص 277 ، ح 420 .

( 5 ) أجلب الرجل الرجل : إذا توعده بشر ، وجمع الجمع عليه . « لسان العرب - جلب - ج 1 ، ص 272 » .
( 6 ) في « ج » : بئر بن أخطب .

( 7 ) يدهمهم : يفجأهم ، والدّهم : العدد الكثير . « النهاية : ج 2 ، ص 145 » .

( 8 ) مسح الأرض : ذرعها . « الصحاح - مسح - ج 1 ، ص 405 » . وفي المصدر بحفره .

( 9 ) راتج : أطمة - حصن - من آطام المدينة . « الروض المعطار : ص 266 » .

( 9 ) العناق : الأنثى من المعز . « لسان العرب - عنق - ج 10 ، ص 274 » .

( 10 ) الصحفة : إناء كالقصعة المبسوطة . « النهاية : ج 3 ، ص 13 » .

( 11) زغابة : موضع قرب المدينة . « معجم البلدان : ج 3 ، ص 141 » .

( 12 ) الجشيش : السويق ، الواحدة جشيشة . وحنطة تطحن جليلا فتجعل في قدر ، ويجعل فيها لحم أو تمر ، فيطبخ . « أقرب الموارد - جشّ - ج 1 ، ص 124 » .

( 13) البحرة : البلدة ، والبحيرة : مدينة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ، وهو تصغير البحرة . « النهاية : ج 1 ، ص 100 » .

( 14 ) أي الخالي من السرج .

( 15 ) الشملة : كساء يشتمل به الرجل . « مجمع البحرين - شمل - ج 5 ، ص 404 » .

( 16 ) الصغر : الذل والضيم . « أقرب الموارد - صغر - ج 1 ، ص 649 » . وقمأ الرجل قماءة : ذل وصغر . « لسان العرب - قمأ - ج 1 ، ص 134 » .

( 17) يليل : موضع ، وهو وادي ينبع ، أو وادي الصفراء دوين بدر . وفارس يليل : لقب عمرو بن عبد ود ، انظر : « لسان العرب - يليل - ج 11 ، ص 740 » .

( 18 ) قسمة ضيزى : أي جائرة . « لسان العرب - ضيز - ج 5 ، ص 368 » .

( 19 ) الغلوة : قدر رمية بسهم . « لسان العرب - غلا - ج 15 ، ص 132 » .

( 20) الأكحل : عرق في اليد . « لسان العرب - كحل - ج 11 ، ص 586 » .

( 21 ) تفسير القمي : ج 2 ، ص 176 ، ونحوه في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 19 ، ص 62 ، والفصول المهمة : ص 60 ، ومناقب الخوارزمي : ص 104 .

( 22 ) سمك البيت : سقفه . « الصحاح - سمك - ج 4 ، ص 1592 » .

( 23) مجمع البيان : ج 8 ، ص 545 .

( 24 ) تفسير القمي : ج 2 ، ص 188 .

( 25 ) الاحتجاج : ص 212 .

( 26 ) تفسير القمي : ج 2 ، ص 188 .

 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .