المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

الأخلاق والأدعية والزيارات
عدد المواضيع في هذا القسم 6417 موضوعاً
الفضائل
آداب
الرذائل وعلاجاتها
قصص أخلاقية

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية

مسألة الوصية
20-4-2020
مجمل اللغة لابن فارس
17-4-2019
أنواع الاتزان الحراري
8-12-2015
تعريفات تضيء لنا الطريق
11-6-2019
الإلزام (قاعدة الإلزام)
22-9-2016
بوهر ، اجه
20-10-2015


حسن الخلق وسوء الخلق  
  
33   08:48 صباحاً   التاريخ: 2025-01-17
المؤلف : الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
الكتاب أو المصدر : الأخلاق في القرآن
الجزء والصفحة : ج3/ ص109-144
القسم : الأخلاق والأدعية والزيارات / الفضائل / حسن الخلق و الكمال /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-06-05 699
التاريخ: 23-8-2016 2157
التاريخ: 23-8-2016 1743
التاريخ: 2025-01-17 44

تنويه :

حسن الخلق بمعناه الخاص هو أن يعيش الإنسان في تفاعله الاجتماعي وعلاقاته مع الآخرين بصورة حسنة وكلام طيب ووجه بشوش وسلوكيات قابلة للمرونة والتلاؤم مع الآخرين ويتحدّث معهم من موقع المحبّة واللطف وترتسم على شفتيه الابتسامة والانفتاح ، وكل هذه تعتبر من الفضائل الأخلاقية المؤثرة إيجابياً في تعميق الروابط الاجتماعية.

(وعلى العكس من ذلك سوء الخلق ومواجهة الآخرين بوجه خشن والتقطيب في وجوههم والجفاف في معاملتهم والخشونة في التحدّث معهم ، فهو من الرذائل الأخلاقية التي تمتد في جذورها إلى أعماق النفس الإنسانية وتبعث على تنفّر الآخرين وابتعادهم عن هذا الشخص وتؤدّي بالتالي إلى إرباك العلاقات الاجتماعية وضعف الروابط الأخوية بين الأفراد.

وهناك مطالب كثيرة في هذا المجال في القرآن الكريم والروايات الشريفة وسيرة المعصومين (عليهم ‌السلام) تحكي عن الأهمية البالغة لهذه الفضيلة وتلك الرذيلة على مستوى الفرد والمجتمع.

ومن المعلوم أنّ جانباً مهمّاً من نجاح الرسول الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) في مهمّته ورسالته ، وكذلك سائر المعصومين وكبار العلماء والقادة المصلحين مدين لهذه الخلّة الحسنة في تعاملهم مع أفراد المجتمع وهي (حسن الخلق) ، ومن الأسباب المهمّة في عدم موفقيّة بعض القادة والعظماء في التاريخ البشري رهين لسوء خلقهم أيضاً ، إنّ تاريخ الأنبياء والأولياء والمعصومين وسائر القادة المصلحين في العالم مليء بشواهد حيّة على هذا الموضوع.

وبهذه الإشارة نعود إلى القرآن الكريم لنستوحي من آياته الشريفة ما يرشدنا في هذا الطريق ويسلّط الضوء على زواياه المعتّمة :

1 ـ (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ)([1]).

2 ـ (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)([2]).

3 ـ (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ* وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)([3]).

4 ـ (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ)([4]).

5 ـ (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى)([5])

6 ـ (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)([6]).

تفسير واستنتاج :

«الآية الاولى» وردت مسألة (حسن الخلق) بعنوان أنّها أحد الخصوصيات للنبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) وأحد العوامل المهمّة لتقدّم وتكامل الدعوة الإسلامية في المجتمع العربي آنذاك فتقول الآية : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ...).

وعلى هذا الأساس فانّ حسن خلق النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) هو في الحقيقة رحمة إلهية له ولأُمّته ، وبديهي أنّ هذا الخلق الحسن وقابلية الانعطاف ومداراة الآخرين تعد من البركات والمواهب الإلهية على كل إنسان يتحلّى بهذه الخصال والسلوكيات الحميدة.

ومن التعبير أعلاه في الآية الشريفة نجد النقطة المقابلة لهذا السلوك ، وهو أن يكون الإنسان غليظ القلب وسيئ الخلق وخشناً في التعامل مع الآخرين حيث تشير الآية إلى نتائج مثل هذا السلوك السلبي ، وهي تفرّق الناس وانفضاضهم عن هذا الإنسان الخشن وابتعادهم عنه ، وبعبارة اخرى أنّ (حسن الخلق) يمثّل اللبنة الاساسية في شد أوصال المجتمع وتقوية وشائج المحبّة بينهم ، وسوء الخلق عامل لتفرّق الأفراد وإيجاد الخلل في العلاقات الاجتماعية ويؤدّي إلى نفور الناس.

إنّ كلمة (فظ) و (غليظ القلب) يأتيان بمعنى واحد ويراد بذلك التأكيد ، ويمكن أن يكون لهما معنى مختلف عن الآخر ، ويقول (الطبرسي) في مجمع البيان في كلمة جامعة : «وقيل إنّما جمع بين الفظاظة والغلظة وإن كانا متقاربين لأنّ الفظاظة في الكلام فنفي الجفاء عن لسانه والقسوة عن قلبه» وعليه فكلا الكلمتين تردان بمعنى الخشونة والجفاء ، وأحدهما في الكلام ، والاخرى في السلوك والفعل.

وعلى أي حال فانّ الله تعالى قد وهب نبيّه الكريم حالة اللّيونة والانعطاف والبشاشة وحسن التعامل مع الآخرين بحيث أنّه كان يسلك هذا السلوك مع أعتى الناس وأخشنهم وأقساهم قلباً ، وبهذه الطريقة جذب هؤلاء القساة إلى الإسلام فاعتنقوا الإسلام من موقع الرغبة والشوق والانجذاب لهذا الخلق الرفيع.

وبتبع ذلك توجّه الآية سلسلة إرشادات وأوامر عملية تخرج حالة (حسن الخلق) والبشاشة من صورتها الظاهرة وتلبسها ثياباً عملية على مستوى الممارسة والتطبيق وتقول : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).

وعلى هذا الأساس استقطب رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أبعد الناس عن الله تعالى والدين والأخلاق وجذبهم إليه وأصبح قدوتهم وأسوتهم في حسن الأخلاق.

إنّ سياق هذه الآيات يشير إلى أنّ هذه الآية متعلقة بالآيات النازلة في معركة أحد حيث كان النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) والمسلمين يعيشون أشدّ الظروف وأقسى الحالات النفسية طيلة هذه الحرب ، وبديهي إنّ عملية العفو والاستغفار والانفتاح على الآخرين من موقع المحبّة واللطف جعلت النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) في أسمى مراتب حسن الخلق وحسن التعامل الكريم مع الغير ، وقلّما نجد إنساناً يتمكّن في مثل تلك الظروف الصعبة والتحديّات الشرسة أن يحافظ على حسن أخلاقه ولا ينفعل أمام تحديّات الواقع الصعب.

وتأتي «الآية الثانية» لتشير إلى حسن الخلق العجيب للنبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) حيث تعبّر عنه بالخلق العظيم وتقول : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

(خُلُق) على وزن افق ، مفرد وهو مع كلمة خُلْق (على وزن كُفر) بمعنى واحد ، ويستفاد من مفردات الراغب أنّ خَلْق (على وزن حلق) تشترك في جذر واحد معها غاية الأمر أنّ (خَلْق) تطلق على الصفات الظاهرية ، و (خُلْق) تطلق على الصفات الباطنية.

ويرى بعض أرباب اللغة أنّ كلمة (خُلْق) و (خُلُق) تردان بمعنى الدين والطبع والسجية حيث يقصد بها الصورة الباطنية للإنسان ([7]).

وعلى أيّة حال فانّ وصف النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) بأنّه ذو خلق عظيم يدلّ على أنّ هذه الصفة الأخلاقية من أعظم صفات الأنبياء ، ويرى بعض المفسّرين أن الخلق العظيم للنبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) يتمثّل في صبره وتحمّله في طريق الحق وسعة بذله وكرمه ، وتدبير امور الرسالة والدعوة ، والرفق والمداراة للناس وتحمّل الصعوبات الكبيرة في مواجهة تحدّيات الواقع الصعب في طريق الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله وترك الحرص والحسد والتعامل مع الأعداء والأصدقاء من موقع العفو واللطف والمحبّة ([8]) وكل هذه الامور تشير إلى أنّ الخلق العظيم لا ينحصر بالبشاشة والانعطاف في مواجهة الآخر ، بل هو مجموعة من الصفات الإنسانية السامية والقيم الأخلاقية الرفيعة ، وبعبارة اخرى : يمكن القول بأنّ جميع الأخلاق الحسنة الرفيعة جُمعت في عبارة (خلق عظيم).

وممّا يؤيد هذا المعنى ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) أنّه قال : «إنّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَدّبَ نَبِيَّهُ فَأَحسَنَ أَدَبَهُ فَلَمّا أَكمَلَ لَهُ الأَدَبَ قَالَ (إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)» ([9]).

وعند ما نقرأ في بعض الروايات أنّ الخلق العظيم يراد به الإسلام أو الآداب القرآنية إنّما هو لأنّ الإسلام والقرآن يحويان جميع الفضائل الأخلاقية ، في حين أنّ بعض الروايات الواردة في تفسير هذه الآية فسّرت (حسن الخلق) بالبشاشة والمداراة ومن ذلك الحديث الذي أورده (نور الثقلين) في ذيل هذه الآية عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) حيث سئل عن حسن الخلق في هذه الآية فقال : «تَلِينُ جانِبَكَ وَتُطَيِّبُ كَلامَكَ وَتلِقى أَخاكَ ببُشرِ حسنٍ» ([10]).

ولكن الظاهر عدم التنافي بين هذين المعنيين.

وآخر ما يقال في هذا المورد والجدير بالتأمل في هذه الآية هو أنّ بعض المفسّرين إستفادوا من كلمة (على) في قوله (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) والتي تفيد مفهوم التسلّط والقدرة أنّ النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) له تسلط كامل على الفضائل الأخلاقية وكأنّ الأخلاق والقيم الإنسانية جزء من كيانه الشريف حيث يتحرّك من هذا الموقع بدون تكلّف وتصنّع.

وتستعرض «الآية الثالثة» وصايا ونصائح (لقمان الحكيم) لولده حيث يذكر له أربعة امور مؤكّداً عليها :

الأول : قول : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ).

ثم أضاف (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ)

وفي الثالث والرابع من هذه النصائح القيمة يوصي لقمان ابنه بالاعتدال في المشي وعدم رفع الصوت ويقول : (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ).

وهذه الامور الأخلاقية تمثّل جزءاً مهمّاً من (حسن الخلق) في التعامل مع الآخرين وطريقة السلوك الاجتماعي بين الناس والمقترنة بالبشاشة والتواضع والاتّزان في الكلام والسلوك ، ونستوحي من ذلك أنّ الله تعالى قد إهّتم بكلمات لقمان الحكيم هذه بحيث ضمّنها في كتابه الكريم.

(تصعر) من مادة (صَعَرَ) على وزن خطر ، وهي في الأصل نوع من الأمراض التي تصيب الابل فتلوي أعناقها ، ثم اطلقت على أي نوع من ميل العنق ، وهذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى وهو أنّ سوء الخلق نوع من المرض الذي يشبه في سلوكه سلوك الحيوان ، والملفت للنظر أنّ هذا النهي عن هذا العمل لا يقتصر على المؤمنين بل يستوعب جميع أفراد البشر ويقول : (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ). وعلى أيّة حال فإنّ جعل هذه الصفة الرذيلة إلى جانب التكبّر والافراط في المشي والصوت يبيّن أنّ جميع الصفات الرذيلة تؤدّي بشكل من الأشكال إلى نفور الناس وامتعاضهم.

وفي الرواية الواردة عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) في تفسير عبارة (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) قال : «أَي لا تَذُل للنَّاسِ طَمعاً فِيما عِندَهُم وَلا تَمشِي فِي الأَرضِ مِرَحاً أي فَرحاً» ([11]).

«الآية الرابعة» من هذه الآيات محل البحث نقرأ خطاباً إلهياً لبني اسرائيل على أساس من العهد الإلهي للمخاطبين بعد التأكيد على التوحيد الخالص والاحسان للوالدين والأقربين واليتامى والمساكين ، يقول تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ).

فهذا الخطاب يبيّن التوحيد من جهة وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة من جهة اخرى يبيّن أهميّة حسن المعاملة ومداراة الناس والتعامل بالأخلاق الحسنة ، وبهذا يكون حسن الخلق في عملية التفاعل الاجتماعي وعلى مستوى الروابط الأخلاقية الحسنة للآخرين في عداد أهم التشريعات الإسلامية والمقرّرات الدينية.

وفي الواقع بما أنّ مال الإنسان محدود ولا يمكن أن يصل بإحسانه المادي إلى المحتاجين كافة من الأقرباء والأصدقاء وسائر الفقراء فقد ورد جبران ذلك بالبشاشة وحسن الخلق مع الناس حيث يمثّل كنزاً لا يفنى كما ورد في الحديث المعروف عن النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال : «إِنّكُم لا تَسَعُونَ النّاسَ بِأَموالِكُم وَلَكن يَسَعُهُم مِنكُم بَسطَ الَوجهِ وَحُسنِ الخُلقِ» ([12]).

وفي حديث آخر عن الإمام الباقر في تفسير هذه الآية أنّه قال : «قُولُوا للنّاسِ أَحسَنِ ما تُحِبُّونَ أَن يُقالُ لَكُم» ([13]).

وصحيح أنّ المخاطبين بهذه الآية هم بنو اسرائيل ، ولكنّ خصوصية المورد لا تخصّص الآية بهؤلاء المخاطبين حيث إنّ هدف القرآن الكريم هو بيان أصل كلّي لجميع أفراد البشر.

«الآية الخامسة» تتحرّك من خلال بيان مسألة البشاشة والتعامل مع الآخرين حتّى لو كانوا أعداءاً ولا سيّما في مقام دعوتهم إلى الحق والطريق القويم ، ومن ذلك نجد أنّ الأمر الإلهي لموسى (عليه‌ السلام) بإيصال الرسالة الإلهية إلى فرعون الطاغية الذي استعبد بني اسرائيل وأنّ الآية تتحدّث عن خطاب الله تعالى لموسى وهارون (عليهما ‌السلام) : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى * فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى).

هذا التعبير يبيّن أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الحق لا بدّ أن تكون مقرونة باللّيونة واللطف والتعامل من موقع المحبّة والرحمة لا سيما مع الاشخاص المنحرفين بأمل أن يؤثر هذا السلوك الأخلاقي والإنساني في قلوبهم.

وهنا يثار هذا السؤال ، وهو ما الفرق بين قوله : (يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى

ويمكن القول بأنّ المقصود من ذلك أنّكما إذا حدثتماه بكلام ليّن وفي نفس الوقت ذكرتم له بصراحة ووضوح مضمون الدعوة الإلهيّة وبدلائل منطقيّة فلعله يقبل ويؤمن بها من أعماق قلبه ، ولو لم يؤمن فلا أقل فانه سيخاف من العقوبة الإلهية بسبب العناد والاصرار على الكفر والابتعاد عن طريق الحق :

ويقول (الفخر الرازي) : «نحن لا نعلم لماذا أرسل الله تعالى موسى إلى فرعون مع أنّه يعلم أنّه لا يؤمن أبداً؟ ثم يقول : في مثل هذه الموارد ليس لنا سوى التسليم في مقابل الآيات القرآنية ولا سبيل إلى الاعتراض» ([14]).

ولكن جواب هذا السؤال واضح ولا ينبغي أن يخفى على من مثل الفخر الرازي ، لأنّ الله تعالى يهدف إلى إتمام الحجة ، أي حتّى بالنسبة إلى الأشخاص الذين لا يؤمنون قطعاً فإنّ الله تعالى يتمّ الحجّة عليهم كي لا يقفوا في الآخرة موقف الاعتراض على العقاب الاخروي وأنّهم لم يصل إليهم النداء الإلهي ولم يجدوا رسولاً أو نبيّاً يخبرهم بالخبر كما ورد هذا المضمون في الآية 165 من سورة النساء حيث يقول تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).

وأمّا قوله لعله (يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) فهو بمعنى أنّ طبيعة التبليغ لا بدّ وأن تكون مقرونة باللين والمداراة ليصل الإنسان إلى النتيجة المتوخّاة ، رغم أنّه قد يواجه النبي الإلهي موانع صعبة تنبع من ذات الأفراد ، وبعبارة اخرى أنّ التبليغ المقرون باللّين والمحبّة هو مقتضي للقبول لا علّة تامّة.

وبديهي أنّه بالرغم من أنّ المخاطب في هذه الآية هو موسى وهارون فحسب ولكن مفهوم الآية شامل لجميع المبلّغين لرسالات الله والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ، وهكذا يتّضح أنّ الإنسان قد يتحرّك من موقع هداية الناس باللّين والعطف والمداراة ويحقّق نجاحاً أكبر بكثير ممّا لو استخدم طرق اخرى مقرونة بالخشونة والجفاء الروحي لتحقيق هذا الهدف، وهذا المعنى مجرّب على مستوى الممارسة بكثرة.

«الآية السادسة» والأخيرة من الآيات محل البحث تقرّر أنّ المداراة واللّين محبّذة حتى مع الأعداء الشرسين وتؤثر في أعماق نفوسهم تأثيراً بالغاً وتقول الآية : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).

وبالطبع فإنّ دفع السيئات بالحسنات له طرق ومصاديق مختلفة ، أحدها أن يتعامل الشخص من موقع المداراة والأدب والبشاشة مع عدوّه المعاند والحقود إلى درجة بحيث يمكن أن ينقلب هذا الإنسان الحقود إلى صديق محبّ ويتحوّل بصورة تامّة من حالة العداوة والبغضاء إلى حالة الصداقة والمحبّة.

والملفت للنظر أنّ الآية التي تليها تؤكد على أنّ هذه المرتبة هي من شأن الصابرين والذين يتمتّعون بحظ وافر من الإيمان والتقوى والتوفيق وتقول : (وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

وطبعاً فالوصول إلى هذه المرتبة من حسن الخلق بحيث يواجه الإنسان السيئات بعكسها من الحسنات ليست من شأن كلّ إنسان لأنها تحتاج إلى تسلط كامل على قوى النفس ولا يستطيع ذلك إلّا من اوتي حظاً عظيماً من سعة الصدر وتخلّص من عقدة الانتقام.

ومن مجموع الآيات محل البحث نستوحي هذا المفهوم القرآني في دائرة الأخلاق الإسلامية وهو أنّ القرآن الكريم دعا الناس إلى حسن الخلق والتعامل فيما بينهم من موقع المحبّة والمداراة ، وفي ذلك كان رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) اسوة ونموذجاً كاملاً في هذا السلوك الإنساني بحيث يمكن القول بأنّ أحد معجزات النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) هي سلوكه الأخلاقي العظيم.

أهميّة حسن الخلق في الروايات الإسلامية :

هناك روايات كثيرة مذكورة في المصادر الإسلامية حول حسن الخلق مع الناس وكيفية التعامل معهم في حركة التفاعل الاجتماعي ، والتعبيرات الواردة في هذه الروايات عن هذه الفضيلة الأخلاقية إلى درجة من الكثرة والتأكيد أننا قلّما نجد نظيراً لها في النصوص الإسلامية ، وهذا يبيّن مدى إهتمام الإسلام في هذه الخصلة الحميدة ، ونختار من بين الروايات الكثيرة ما يلي:

1 ـ ورد عن الرسول الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال : «الإِسلامُ حُسنُ الخُلُقِ» ([15]).

2 ـ ونقرأ عن الإمام علي (عليه‌ السلام) في حديث لطيف يقول : «عِنوانُ صَحِيفَةُ المُؤمنُ حُسنُ خُلُقِهُ» ([16]).

ونعلم أنّ ما يذكر في عنوان الصحيفة وكتاب عنوان أعمال الإنسان هو أفضل ما يمكن ذكره في هذه الصحيفة ، وبعبارة اخرى يكتب في العنوان القدر الجامع والمشترك لجميع مفردات الأعمال والسلوك الأخلاقي في واقع الإنسان ونفسه.

3 ـ وفي حديث عن الرسول الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال : «أَكثَرُ ما تَلِجُ امَّتِي الجَنَّةَ التّقوى وَحُسنُ الخُلُق» ([17]).

4 ـ وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) قال : «أَكْمَلُكُم إِيماناً أَحسَنَكُم خُلقاً» ([18]).

وما ذكر آنفاً من الأحاديث الشريفة هو بعض الروايات في أهميّة حسن الخلق.

والآن نستعرض قسماً آخر من الروايات التي تتحدّث عن النتائج والآثار الماديّة والمعنوية على هذا السلوك الأخلاقي :

1 ـ نقرأ في حديث عن الرسول الأعظم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال : «الخُلْقُ الحَسَنُ يُذِيبُ السَّيِّئَةَ» ([19]).

2 ـ وفي حديث آخر عنه (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) قال : «إِنَّ صاحِبَ الخُلقِ الحَسَنِ لَهُ مِثلُ أَجرِ الصَّائِمِ» ([20]).

3 ـ ورد في حديث ثالث عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) : «إِنَّ اللهَ تَبارَكَ وَتَعالى لَيُعطي العَبدَ مِنَ الثَّوابِ عَلى حُسنِ الخُلقِ كَما يُعطي المُجاهِدُ فِي سَبيلِ اللهِ» ([21]).

وبهذا يتبيّن أنّ صاحب الخلق الحسن يتميّز على من يقوم الليل في العبادة والمجاهد في سبيل الله ويضاهيهما في الثواب حيث يطهّر حسن الخلق النفس الإنسانية من أدران الذنوب وتلوثات الأهواء والنوازع الدنيوية ، هذا بالنسبة إلى النتائج المعنوية لحسن الخلق ، أمّا بالنسبة إلى الآثار والنتائج المادية والدنيوية فقد وردت تعبيرات مهمّة في النصوص الدينية منها :

4 ـ نقرأ في حديث عن النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال : «حسُنُ الخُلقِ يُثبِتُ المَوَدّةَ» ([22]).

5 ـ وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) قال : «لا عَيشَ أَهنَأَ مِنْ حُسنِ الخُلقِ» ([23]).

6 ـ ورد عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) أنّه قال : «البِرُّ وَحُسنُ الخُلقِ يَعمُران الدِّيارَ وَيَزِيدانِ فِي الأَعمارِ» ([24]).

7 ـ وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) قال : «حُسنُ الخُلقِ يُدِرُّ الأرزاقَ» ([25]).

8 ـ وفي حديث آخر عنه (عليه‌ السلام) قال : «فِي سَعَةِ الأخلاقِ كُنُوزُ الأرزَاقِ» ([26]).

ومن مجموع هذه الروايات الإسلامية المذكورة أعلاه ندرك جيداً الأهميّة البالغة لحسن الخلق في حركة الحياة المادية والمعنوية للإنسان ، ويتّضح من خلال ذلك تأكيد الإسلام على هذا الأمر المهم ، وفي الواقع أنّ جميع النتائج الإيجابية والبركات المادية والمعنوية مترتبة على حسن الخلق مع الناس بحيث يمكن القول بأنّ حسن الخلق أحد الاسس في دائرة المفاهيم الإسلامية والتعليمات الدينية.

وهنا ينبغي الإشارة إلى بعض النقاط :

تعريف حسن الخلق :

لعل من الامور الواضحة هو مفهوم حسن الخلق فلا حاجة إلى تعريفه لوضوح معناه ومداه لدى الناس ، ولكن لغرض استجلاء هذا المفهوم أكثر نقول : إنّ حسن الخلق عبارة عن مجموعة من الصفات والسلوكيات التي تتمثّل بمداراة الناس ، البشاشة ، الكلام الطيب وإظهار المحبّة ، ورعاية الأدب ، التبسّم ، والتحمّل والحلم مقابل أذى الآخرين وأمثال ذلك ، فلو امتزجت هذه الصفات مع العمل وترجمها الإنسان في حركة الواقع الخارجي سمّي ذلك حسن الخلق.

وفي حديث جامع جميل عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) في تعريف حسن الخلق ورد أنّ أحد أصحاب الإمام سأله : ما حَدُّ حُسنِ الخُلقِ؟

قال الإمام (عليه‌ السلام) : «تَلِينُ جانِبَكَ وَتُطَيِّبُ كَلامَكَ وَتلقى أَخاكَ ببُشرٍ حسنٍ» ([27]).

وفي حديث آخر عن رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) في تفسير حسن الخلق قال : «إِنَّما تَفسِيرُ حَسنُ الخُلقِ ما أَصابَ الدُّنيا يَرضى وَإِن لَم يُصِبهُ لَم يَسخَطْ» ([28]).

النتائج المترتبة على حسن الخلق :

قرأنا في الروايات المذكورة آنفاً نقاط مهمّة تتحدّث عن النتائج والآثار المادية والمعنوية لحسن الخلق في حركة الإنسان والواقع الاجتماعي وتحتاج إلى شيء من التفصيل والتحليل.

ومن الآثار الاجتماعية والدنيوية لهذه السمة الأخلاقية هو أنّ حسن الخلق يتسبب في كسب محبّة الآخرين وتعاطفهم مع صاحب هذا الخلق ، وهذه المسألة ثابتة بالتجربة للجميع تقريباً وأنّه يمكن اصطياد قلوب الناس من خلال التعامل معهم من موقع المحبّة وحسن الخلق ورعاية الأدب وليس فقط أنّ الأشخاص العاديين ينجذبون إلى حسن الخلق بل أهل النظر والمعرفة والعلم كذلك.

ومن النتائج الاخرى أنّ حسن الخلق والبشاشة تعمّر الديار وتطيل العمر ، لأنّ خراب الديار معلول للتضارب والنزاع وحالات الصراع بين الأفراد ، فإذا أخلى النزاع والصراع الاجتماعي مكانه لحسن الخلق والتعامل باللطف والمحبّة بين الأفراد ، فإنّ ذلك كفيل بتعميق أواصر الاخوة وتعميق عنصر التعاون بين الأفراد والذي يعتبر محور الخير وعامل مهم من عوامل البناء ، مضافاً إلى ذلك فإنّ حسن الخلق يورث الإنسان الهدوء النفسي والاطمئنان الروحي الذي يعتبر من النتائج المباشرة للتعامل الأخلاقي الحسن مع الناس وعاملاً مهمّاً من عوامل طول العمر ، لأنّ من الثابت علميّاً هو أنّ من العوامل المهمّة لسرعة الموت وكثرته هو عنصر القلق والاضطراب الروحي الذي يعيشه الإنسان في مقابل تحدّيات الواقع الصعبة وبالتالي تكون منشأ لكثير من الأمراض المختلفة ، ومن المسلّم أنّ حسن الخلق والتعامل باللّطف والمحبّة مع الناس يقللّ من شدّة الضغط العصبي والقلق النفسي وبالتالي يسبب طول العمر ، والشيء الآخر أنّ حسن الخلق يسبّب زيادة الرزق وكثرة العوائد المادية والموفقيّة في الكسب والتجارة ، لأنّ التاجر والكاسب أو الطبيب لا يكون موفّقاً في عمله إلّا بكسب المراجعين والمشترين ، وأحد عوامل كسب الثقة والاطمئنان بالشخص هو حسن خلقه وأدبه مع الطرف الآخر ، فالكثير من الأشخاص يفضّلون شراء البضاعة وما يحتاجونه من السوق من امور المعاش من الكاسب الحسن الاخلاق والمعاملة مع المشتري ويرجّحونه على الشخص العبوس والحاد المزاج ، ولهذا السبب فإنّ المؤسسات والشركات الاقتصادية الكبيرة تسعى إلى تعليم موظفيها على كيفية التعامل مع الزبائن بالصورة المطلوبة ، ومن خلال ذلك يتحرّكون في كسب ثقة الزبائن بمؤسساته التجارية وشركاته الصناعية.

وقد رأينا كثيراً في الرحلات الجوية أنّ بعض الشركات تقدّم لزبائنها ومسافريها بعض لعب الأطفال وقطع الحلوى مجّاناً لأطفالهم المسافرين معهم ، ولعلّ قيمة هذه اللّعب ليست بكثيرة ولكنّها ذات أثر عميق في نفسيّة الأفراد وهذه الطريقة من التعامل مع الزبائن تورث في أنفسهم حسن الظن والثقة للطرف الآخر.

وطبعاً فالإسلام يؤيّد حسن الخلق من موقع الصفاء الذاتي والتعامل الإنساني لا كما هو السائد من الرياء والتظاهر في العالم المادي المعاصر ، ولكن في نفس الوقت فانّه يعتبر أنّ حسن الخلق له آثار مادية ودنيوية كثيرة تمثّل في زيادة النعمة والبركة في حركة الحياة والواقع المادي.

وبالنسبة إلى البعد المعنوي فإنّ الثواب المترتّب على حسن الخلق يعادل ثواب المجاهدين في سبيل الله ، ودليل ذلك واضح لأنّ المجاهد يسعى لنشر راية الإسلام ويتحرّك في هذا السبيل لأعلاء كلمة الله ، وصاحب الخلق الحسن أيضاً يتسبب في تعميق الثقة والانفتاح على الإسلاك في قلوب الناس ، وقد ورد في الروايات الشريفة أيضاً أنّ أجر صاحب الخلق الحسن مثل أجر الصائم القائم ، لأنّ الصائم القائم يتحرّك في هذا السلوك العبادي من موقع تهذيب النفس وتصفيتها ، فكذلك الأشخاص الذين يتعاملون في مواجهة تحدّيات الواقع الصعب من موقع غلبة الأهواء وحفظ النفس في اطار الضوابط الأخلاقية والشرعية في سبيل الله تعالى.

والخلاصة أنّ صاحب الخلق الحسن يكون محبوباً عند الله تعالى وعند الخلق كذلك ، ويكون موفقاً في حياته الشخصية والفرديّة وكذلك موفّقاً في حياته الاجتماعية.

ومن المعلوم أنّ حسن الخلق يعدّ أحد أركان عناصر الإدارة ولو أنّ عشرات من الشروط المتوفّرة في المدير المدبّر من دون عنصر حسن الخلق لما تسنىَ لهذا المدير أن يكون موفّقاً في عمله وتدبيره في حين أنّه لو كان حسن الخلق فانّ هذه الصفة بإمكانها العمل على ستر الكثير من نقاط الضعف أو جبرانها.

منابع حسن الخلق :

إنّ بعض الناس يتمتعون بحسن الخلق بشكل طبيعي ، وهذا يعدّ من المواهب الإلهية للإنسان التي لا تكاد تكون من نصيب كل شخص ، وعلى هذا الإنسان أن يشكر الله تعالى بجميع وجوده على هذه الموهبة العظيمة.

ولكن الكثير من الناس ليسوا كذلك ، فعليهم أن يقوموا بتعميق وتوكيد حسن الخلق في نفوسهم من خلال التمرين والممارسة على أرض الواقع العملي بحيث يكتسبوا طبيعة ثانية لهم ويكون حسن الخلق نافذاً وراسخاً في وجودهم وواقعهم النفسي ، وأفضل طريق إلى نيل هذه الصفة الأخلاقية والمرتبة الكمالية هو أن يتفكّر الإنسان في الآثار المعنوية والمادية لهذه الصفة الأخلاقية ويطالع الروايات الشريفة المذكورة سابقاً في هذا الباب ويتأمل فيها ويقوم بتكرارها بين الحين والآخر لتترسخ مضامينها في أعماق نفسه.

ومن جهة اخرى يجب أن يتحرّك الإنسان على المستوى العملي لتطبيق وترجمة هذه الصفة في سلوكه الخارجي ، لأنّ الفضائل الأخلاقية كالقابليات البدنية تقوى وتشتد بالتمرين والتكرار كما نرى في الرياضين أنّهم بعد مدّة من التمرين يتمتعون بأبدان قوية وجميلة فكذلك الرياضة الأخلاقية بإمكانها أن تقوّي روح الإنسان.

ويقول علماء الأخلاق في صدد تربية الأفراد البخلاء على صفة الكرم أنّ الإنسان البخيل يجب أن يضغط على ميوله النفسي وحرصه على الأموال ، ويتحرّك على مستوى بذل المال للآخرين في البداية ، ورغم أنّ هذا العمل يكون عسيراً في البداية إلّا أنّه تدريجياً يصبح ميسوراً وبالتالي يعتاد الإنسان على حاله البذل والكرم بحيث أنّه لو لم يبذل من أمواله يوماً لوجد في نفسه امتعاضاً.

وكذلك يوصي علماء الأخلاق الشخص الجبان بأن يحضر إلى ميادين القتال والمواجهة مع العدو حتى تزول عنه حالة الخوف والجبن بالتدريج ويحل محلّها صفة الشجاعة والجرأة والإقدام.

وهكذا بالنسبة لأصحاب الخلق السيء ، فإنّهم من خلال التمرين والممارسة المستمرة لموارد ومصاديق حسن الخلق فإنّهم سيتمكّنون في المستقبل من توفير رأس مال كبير من هذه الصفة الإنسانية وينتفعون من بركاتها ونتائجها الإيجابية في حياتهم النفسية والاجتماعية.

ومضافاً إلى كل ذلك ونظراً إلى أنّ أحد عوامل سوء الخلق هو التكبّر والغرور وكذلك الحدّة والغضب وروح الانتقام وأحياناً يكون بسبب الحرص والبخل والحسد ، فلو أنّ الإنسان أراد أن يكون حسن الخلق في جميع موارد الحياة الفردية والاجتماعية لوجب عليه أن يدفع ويزيل هذه الصفات والحالات السلبية عن واقعه النفسي.

عليه أن يراعي حدّ الاعتدال في القوّة الغضبيّة والشهوية وأن تكون له سعة الافق وشرح الصدر ليتمكّن بذلك من تطهير قلبه وروحه من الأنانية والحسد والبخل وبالتالي يورثه ذلك حسن الأخلاق ويكون في أمان من سوء الخلق مع الناس.

وعليه فإنّ تحصيل هذه الفضيلة الأخلاقية الكبيرة تتطلب وجود وتوّفر مجموعة من الصفات الحسنة في واقع الإنسان النفسي حيث إنّه بدونها لا يكون حسن الخلق في سلوكه الأخلاقي.

ويقول (الغزالي) في هذا الصدد : كما أنّ صاحب الوجه الحسن لا يكون كذلك بجمال العين فقط بل لا بدّ أن يضم إليه جمال الأنف والفم وجميع أعضاء الوجه ، ليكون جميلاً وكاملاً في مجال الجمال البدني والمادي ، فكذلك حال الجمال الباطني والمعنوي فما لم يصل الإنسان إلى حد الاعتدال في قواه الأربعة ... العلم والغضب والشهوة والعدالة ، فإنّه لا يصل إلى مقام الجمال الباطني.

ولا شك أنّ عامل (الوراثة) يوثّر في سلوك الإنسان الأخلاقي حيث يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) : «حُسنُ الخُلقِ بُرهانُ كَرمِ الأعراقِ» ([29]).

ويقول (عليه‌ السلام) في مكان آخر : «أطهَرُ النّاسِ أَعراقَاً أَحسَنُهُم أَخلاقاً» ([30]).

وهناك ملاحظة ينبغي الالتفات إليها في البحوث الأخلاقية وهي ، أنّ الفضائل الأخلاقية لا يمكن اكتسابها وتحصيلها من دون التوفيق الإلهي والامداد الربّاني ، فيجب الاستمداد من الله تعالى في سبيل تحصيل هذه الملكات الأخلاقية الفاضلة وغرسها وتنميتها في واقع الإنسان وروحه.

ونقرأ في حديث شريف عن رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) أنّه قال : «الأخلاقُ مَنائِحُ مِن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإذا أَحَبَّ عَبداً مَنَحَهُ خُلُقاً حَسَناً وَإِذا أَبغَضَ عَبدَاً مَنَحَهُ خُلقاً سَيِّئاً» ([31]).

سيرة الأولياء :

ومن أفضل الطرق لكسب فضيلة حسن الخلق وملاحظة نتائجها الإيجابية على واقع الإنسان هو التحقيق في سيرة الأولياء العظام.

1 ـ نقرأ في حديث عن الإمام الحسين (عليه‌ السلام) أنّه قال : «كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) دَائِمُ البُشر ، سَهلُ الخُلق ، لَينُ الجَانبِ ، لَيسَ بِفَظٍّ ولا غلِيظٍ ولا سَخّابٍ ، ولا فَحّاشٍ ، ولا عيّابٍ ، ولا مَدّاحٍ ، ولا يَتَغافَلُ عَمّا لا يَشتَهِي ، ولا يُؤيس مِنهُ ، قَد تَركَ نَفسَهُ مِنْ ثَلاث : كَانَ لا يَذُمُّ أَحداً ، ولا يُعيّرُه ، ولا يَطلُبُ عَورَتَهُ ، ولا يَتَكَلَّمُ إِلّا فَيما يَرجُو ثَوابَهُ ، إِذا تَكَلَّمَ أَرقَ جُلساؤُهُ كَأَنّما عَلى رُؤوسِهِم الطَّيرُ ، وإذا تَكَلَّمَ سَكَتُوا وإذا سَكَتَ تَكَلَّمُوا لا يُسارِعُون عِندَهُ بِالحَديثِ ، مَن تَكَلَّمَ نَصتُوا لَهُ حَتّى يَفرَغَ حَدِيثُهُم عِندَهُ حَديث إِلَيهم ، يَضحَكُ ممّا يَضحَكُونَ مِنهُ ، وَيَتَعَجَّبُ ممّا يَتَعَجَّبُونَ مِنهُ ، يُصبِّرُ الغريبَ عَلى الجَفوةِ فِي المنطِقِ ، وَيَقُولُ : (إِذا رَأَيتُم صاحِبَ الحَاجَة يَطلُبُها فَأَرفِدُهُ) ، ولا يَقبَلُ الثَّناءَ إلّا مِنْ مُكافئ ، ولا يَقطَعُ عَلَى أَحدٍ حَدِيثَهُ حَتّى يَجُوزَهُ فَيَقطَعُهُ بِانتهاء أَو قِيام» ([32]).

2 ـ ونقرأ في حالات الإمام علي (عليه‌ السلام) في الرواية المعروفة أنّ الإمام كان قاصداً الكوفة فصاحب رجلاً ذميّاً فقال له الذمّي : أين تريد يا عبد الله ، قال : اريد الكوفة ، فلما عدل الطريق

بالذمّي عدل معه علي (عليه‌ السلام) ، فقال له الذمي : أليس زعمت تريد الكوفة؟ قال: بلى.

فقال له الذمي : فقد تركت الطريق ، فقال (عليه‌ السلام) : قد علمت ، فقال له : فلم عدلت معي وقد علمت ذلك؟

فقال له علي (عليه‌ السلام) : «هذا مِن تمام الصُّحبةِ أَن يُشيِّعَ الرّجلُ صاحِبهُ هُنيئةً إذا فارَقَهُ وَكَذلِكَ أَمرنا نَبيِّنُا».

فقال له الذمي : هكذا أمركم نبيّكم؟ فقال : نعم ، فقال له الذمّي : لا جرم إنّما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة ، وأنا أشهد على دينك ، فرجع الذمّي مع الإمام علي (عليه‌ السلام) ، فلما عرفه أسلم» ([33]).

3 ـ وفي حديث آخر في تفسير الإمام الحسن العسكري أنّه قال : حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء (عليها ‌السلام) فقالت : إنّ لي والدة ضعيفة وقد لبس عليها في أمر صلاتها شيء وقد بعثتني إليكِ فأجابتها فاطمة (عليها ‌السلام) عن ذلك فثنت فأجابت ثم ثلثت إلى عشرة فأجابت ثم خجلت في الكثرة فقالت : لا أشق عليك يا ابنة رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) قالت فاطمة : هاتي وسلي عمّا بدا لك ، أرأيت من اكترى يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل وكراه مائة ألف دينار يثقل عليه؟ فقالت : لا ، فقالت : اكتريت أنا لكل مسألة بأكثر من ملأ ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً فأحرى أن لا يثقل عليَّ ، سمعت أبي (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) يقول : «علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدهم في إرشاد عباد الله ..» ([34]).

وهذا الصبر العجيب والتعامل المليء بالمحبّة واللطف وهذا التشبيه الجميل الباعث على إزالة الحياء من السائل من كثرة سؤاله كل واحدة منها مثال جميل على حسن خلق الأولياء العظام حيث ينبغي أن يكون درساً بليغاً وعبرة نافعة في طريق إرشاد الناس إلى سلوك مثل هذه الممارسات الأخلاقية.

4 ـ وممّا ورد عن حلم الإمام الحسن (عليه‌ السلام) أنّ شامياً رآه راكباً (في بعض أزقة المدينة) فجعل يلعنه والحسن لا يردّ ، فلمّا فرغ أقبل الحسن (عليه‌ السلام) فسلّم عليه وضحك فقال : «أيُّها الشّيخ أَظُنُّك غَريباً ، وَلَعلَّك شُبّهت ، فَلَو استَعتَبتَنا أَعتَبناكَ ، وَلَو سَأَلتَنا أَعطَيناكَ ، وَلَو استَرشَدتَنا أَرشدناك ، وَلَو استَحمَلتَنا أَحملناكَ ، وإن كُنتَ جائِعاً أَشبَعنَاك ، وَإِن كُنتَ عُرياناً كَسوناك ، وإِن كُنتَ مُحتاجاً أَغنَيناكَ ، وإِن كُنتَ طِريداً آويناكَ ، وإن كانَ لَكَ حاجَةً قَضيناها لَكَ ، فَلَو حَركتَ رَحلَكَ إِلينا وَكُنتَ ضَيفَنا إِلى وَقتِ إرتحالِك كانَ أَعود عَلَيكَ ، لأنَّ لَنا مَوضِعاً رَحِباً وَجاهاً عَريضاً وَمالاً كَثَيراً».

فلمّا سمع الرجل كلامه بكى ، ثم قال أَشهدُ أَنّك خَليفة الله في أرضه ، اللهُ أَعلَمُ حيثُ يَجعلُ رسالتهُ وكنتَ أَنت وأبوك أبغضُ خلق الله إليَّ ، والآن أَنت وأبُوكَ أحبُّ خلق اللهِ إليَّ ، وَحوّل رحله إليه ، وكان ضيفه إلى أن ارتحل ، وصار معتقداً لمحبتهم ([35]).

5 ـ وجاء في كتاب «تحف العقول» : أنّ رجلاً من الأنصار جاء إلى الإمام الحسين (عليه‌ السلام) يريد أن يسأله حاجة ، فقال (عليه‌ السلام) : «يا أخا الأنصار صُن وجَهك عَن بَذلِ المسألةِ وارفع حاجتَك فِي رقعةٍ فإنّي آت فِيها ما ساركَ إن شاء الله» ، فكتب الأنصاري : يا أبا عبد الله إنّ لفلان عليَّ خمسمائة دينار وقد الجّ بي فكلّمه ينظرني إلى ميسرة ، فلما قرأ الإمام الحسين (عليه‌ السلام) الرقعة ، دخل إلى منزله فأخرج صرّة فيها ألف دينار وقال (عليه‌ السلام) له : «أَما خمسمائة فاقض بِها دينك وأمّا خمسمائة فاستعن بِها على دَهرِكَ ولا تَرفع حاجتَكَ إلّا إِلى أحد ثلاث : إِلى ذِي دين ، أَو مروّة ، أو حسب ، فأمّا ذو الدين فَيصُون دِينُهُ ، وأَمّا ذو المُروة فإنّه يستحي لمروّته ، أَمّا ذو الحسب فيعلم أنّك لم تكرم وجهكَ أن تَبذلُه فِي حاجتِكَ فَهو يَصون وَجهكَ أن يردَك بِغير قضاءِ حاجتِك» ([36]).

6 ـ ونقرأ في حالات الإمام زين العابدين أنّه وقف على علي بن الحسين (عليه‌ السلام) رجل من أهل بيته فأسمعه وشتمه فلم يكلّمه ، فلما انصرف قال لجلسائه : قد سمعتم ما قال هذا الرجل وأنا احب أن تبلغوا معي إليه حتّى تسمعوا منّي ردي عليه.

فقالوا له : نفعل ولقد كنّا نحبّ أن تقوله له ونقول ، قال : فأخذ نعليه ومشى وهو يقول : (... وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)([37]).

فعلمنا أنّه لا يقول له شيئاً قال : فخرج إلينا متوثباً للشر وهو لا يشك أنّه إنّما جاءه مكافئاً له على بعض ما كان منه فقال له علي بن الحسين (عليه‌ السلام) : «يا أَخي إنَّكَ كُنتَ قَد وَقفتَ عليَّ آنفاً قُلتَ وَقُلتَ فإن كُنتَ قَد قُلتَ ما فيَّ فأنا استغفرُ اللهَ مِنهُ وإن كُنتَ قُلتَ ما لَيس فيَّ فَغفرَ اللهُ لَكَ».

قال (الراوي) فقبل الرجل بين عينيه وقال : بلى قلت فيك ما ليس فيك وأنا أحق به.

قال الراوي الحديث : والرجل هو الحسن بن الحسن (عليه‌ السلام) ([38]).

7 ـ ونقرأ في حالات الإمام الباقر : عن محمد بن سليمان عن أبيه قال : كان رجل من أهل الشام يختلف على أبي جعفر (عليه‌ السلام) (الإمام الباقر) وكان مركزه بالمدينة يختلف إلى مجلس أبي جعفر يقول له : يا محمد ألا ترى أنّي إنّما أغشى مجلسك حياء منك ولا أقول أنّ أحداً في الأرض أبغض إليَّ منكم أهل البيت ، وأعلم أنّ طاعة الله وطاعة رسوله وطاعة أمير المؤمنين في بغضكم ولكن أراك رجلاً فصيحاً لك أدب وحسن لفظ ، فإنّما اختلافي إليك لحسن أدبك.

وكان أبو جعفر (عليه‌ السلام) يقول له خيراً ويقول : لن تخفى على الله خافية فلم يلبث الشامي إلّا قليلاً حتى مرض واشتدّ وجعه ، فلمّا ثقل دعا وليّه وقال له : إذا أنت مددت عليَّ الثوب فأت محمد بن علي (عليه‌ السلام) وسله أن يصلّي عليَّ واعلمه إنّي أنا الذي أمرتك بذلك.

قال : فلمّا أن كان في نصف الليل ظنّوا أنّه قد برد وسجّوه ، فلمّا أن أصبح الناس خرج وليّه إلى المسجد ، فلمّا أن صلّى محمد بن علي (عليه‌ السلام) وتورّك وكان إذا صلّى عقب في مجلسه ، قال له : يا أبا جعفر إنّ فلان الشامي قد هلك وهو يسألك أن تصلي عليه.

فقال أبو جعفر (عليه‌ السلام) : كلّا إنّ بلاد الشام بلاد صرد والحجاز بلاد حر لهبها شديد انطلق فلا تعجلنّ على صاحبك حتى آتيكم ثم قام (عليه‌ السلام) من مجلسه فأخذ وضوءاً ثم عاد فصلّى ركعتين ثم مدّ يده تلقاء وجهه ما شاء الله ثمّ خرّ ساجداً حتّى طلعت الشمس ثم نهض فانتهى إلى منزل الشامي ، فدخل عليه فدعاه فأجابه ثم أجلسه وأسنده ودعا له بسويق فسقاه وقال لأهله : املؤوا جوفه وبرّدوا صدره بالطعام البارد. ثمّ انصرف (عليه‌ السلام) ، فلم يلبث إلّا قليلاً حتّى عوفي الشامي فأتى أبا جعفر (عليه‌ السلام) فقال : اخلني فأخلاه ، فقال : أشهد أنّك حجّة الله على خلقه وبابه الذي يؤتى منه فمن أتى من غيرك خاب وخسر وضلّ ضلالاً بعيداً.

قال له أبو جعفر (عليه‌ السلام) : وما بدا لك؟

قال : أشهد أنّي عهدت بروحي وعاينت بعيني فلم يتفاجأني إلّا ومناد ينادي اسمعه بأذني ينادي وما أنا بالنائم ردّوا عليه روحه فقد سألنا ذلك محمد بن علي.

فقال له أبو جعفر (عليه‌ السلام) : «أَما عَلِمتَ أَنّ اللهَ يُحبُّ العَبدَ ويُبغِضُ عَمَلهُ ويُبغض العبد ويحبّ علمه؟» ، (أي كما أنّك كنت مبغوضاً لدى الله لكنّ عملك وهو حبّنا مطلوباً عنده تعالى).

قال الراوي : فصار بعد ذلك من أصحاب أبي جعفر (عليه‌ السلام) ([39]).

8 ـ ورد في الحديث المعروف في حالات الإمام الصادق المذكور في مقدمة (توحيد المفضل) أنّ المفضل بن عمر قال كنت ذات يوم بعد العصر جالساً في الروضة وبين القبر والمنبر وأنا مفكّر فيما خصّ الله به سيّدنا محمداً من الشرف والفضائل ، وما منحه وأعطاه وشرّفه به وحباه لا يعرفه الجمهور من الامّة ، وما جهلوه من فضله وعظيم منزلته وخطر مرتبته ، فإنّي لك ذلك إذ أقبل ابن أبي العوجاء فجلس بحيث أسمع كلامه ، فلمّا استقرّ به المجلس إذا رجل من أصحابه قد جاء فجلس إليه فتكلّم ابن أبي العوجاء؟ فقال : لقد بلغ صاحب هذا القبر العزّ بكماله ، وحاز الشرف بجميع خصاله ، ونال الحظوة في كل أحواله ، فقال له صاحبه : إنّه كان فيلسوفاً ادّعى المرتبة العظمى والمنزلة الكبرى ، وأتى على ذلك بهجرات بهرت العقول ، وضلّت فيها الأحلام ، وغاصت الألباب على طلب علمها في بحار الفكر فرجعت خاسئات وهي حسير ، فلمّا استجاب لدعوته العقلاء والفصحاء والخطباء دخل الناس في دينه أفواجاً فقرن اسمه باسم ناموسه ، فصار يهتف به على رؤوس الصوامع في جميع البلدان ...

فقال ابن أبي العوجاء : دع ذكر محمد ، فقد تحيّر فيه عقلي ، وضلّ في أمره فكري ، وحدثنا في ذكر الأصل الذي يمشي به ، ثمّ ذكر ابتداء الأشياء وزعم أنّ ذلك بإهمال لا صنعة فيه ولا تقدير ، ولا صانع له ولا مدبّر ، بل الأشياء تتكوّن من ذاتها بلا مدبّر ، وعلى هذا كانت الدنيا لم تزل ولا تزال.

قال المفضّل : فلم أملك نفسي غضباً وغيظاً وحنقاً ، فقلت : يا عدوّ الله ألحدت في دين الله ، وأنكرت الباري جلّ قدسه الذي خلقك في أحسن تقويم ، وصوّرك في أتمّ صورة ، ونقلك في أحوالك حتى بلغ بك إلى حيث انتهيت.

فقال ابن أبي العوجاء : يا هذا إن كنت من أهل الكلام كلّمناك ، فإن ثبت لك حجّة تبعناك ، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك ، وإن كنت من أصحاب جعفر بن محمد (الصادق) ، فما هكذا يخاطبنا ، ولا بمثل دليلك يجادلنا ، ولقد سمع من كلامنا أكثر ممّا سمعت ، فما أفحش في خطابنا ولا تعدّى في جوابنا ، وإنّه للحلوم الرزين العاقل الرصين لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق ، ويسمع كلامنا ويصغي إلينا ويستعرف حجّتنا حتى إذا استفرغنا ما عندنا وظننا أن قد قطعناه أدحض حجّتنا بكلام يسير وخطاب قصير يلزمنا به الحجّة ، ويقطع العذر ، ولا نستطيع لجوابه ردّاً ، فان كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه ([40]).

9 ـ ونقرأ في حالات الإمام موسى بن جعفر أنّ رجلاً من ولد عمر بن الخطاب كان بالمدينة يؤذيه ويشتم علياً (عليه‌ السلام) قال : وكان قد قال له بعض حاشيته دعنا نقتله فنهاهم عن ذلك أشدّ النهي وزجرهم أشدّ الزجر وسأل عن العمري فذكر له أنّه يزرع بناحية من نواحي المدينة ، فركب إليه في مزرعته فوجده فيها فدخل المزرعة بحماره فصاح به العمري لا تطأ زرعنا فوطئه بالحمار حتى وصل إليه فنزل فجلس عنده وضاحكه وقال له : كم غرمت في زرعك هذا قال له : مائة دينار قال : فكم ترجو أن يصيب ، قال له : أنا لا أعلم الغيب ، قال : إنّما قلت لك كم ترجو أن يجيئك فيه قال : أرجو أن يجيئني مائتا دينار، قال : فأعطاه ثلاثمائة دينار ، وقال : هذا زرعك على حاله ، قال : فقام العمري فقبل رأسه وانصرف.

قال الراوي : فراح المسجد فوجد العمري جالساً فلمّا نظر إليه قال : الله أعلم حيث يجعل رسالته ، قال : فوثب أصحابه فقالوا له : ما قصتّك؟ قد كنت تقول خلاف هذا ، قال : فخاصمهم وشاتمهم ، قال : وجعل يدعو لأبي الحسن موسى كلّما دخل وخرج ، قال فقال أبو الحسن موسى الكاظم (عليه‌ السلام) لحاشيته الذين أرادوا قتل العمري : «أيما كان خير ما أردتم أو ما أردت أصلح أمره بهذا المقدار» ([41]).

10 ـ وهكذا ورد في سيرة الإمام علي بن موسى الرضا (عليه‌ السلام) وكيفية تعامله مع الناس من موقع المحبّة واللطف ، نقل عن اليسع بن حمزة ، قال : كنت في مجلس أبي الحسن الرضا (عليه‌ السلام) احدثه وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام ، إذ دخل عليه رجل طوال آدم فقال : السلام عليك يا بن رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) رجل من محبيك ومحبّي آبائك وأجدادك مصدري من الحج وقد افتقدت نفقتي وما معي ما أبلغ به مرحلة ، فإن رأيت أن تنهضني إلى بلدي ولله عليَّ نعمة ، فإذا بلغت بلدي تصدقت بالذي توليني عنك فلست بموضع صدقة.

فقال له الإمام (عليه‌ السلام) : اجلس يرحمك الله ، واقبل على الناس يحدثهم حتّى تفرقوا وبقي هو وسليمان الجعفري وخيثمة وأنا ، فقال : أتأذنون لي في الدخول؟

فقال له سليمان : قدم الله أمرك ، فقام ودخل الحجرة وبقي ساعة ثم خرج ورد الباب وأخرج يده من أعلى الباب ، وقال اين الخراساني؟ فقال : ها أنا ذا.

فقال (عليه‌ السلام) : خذ هذه المأتي دينار فاستعن بها في مؤنتك ونفقتك وتبرك بها ولا تصدق بها عنّي واخرج فلا أراك ولا تراني ، ثم خرج ، فقال سليمان الجعفري : جعلت فداك لقد اجزلت ورحمت فلما ذا استرت وجهك عنه؟

فقال (عليه‌ السلام) : مخافة أن أرى ذلّ السؤال في وجهه لقضائي حاجته ، أما سمعت حديث رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) : «المُستَترُ بِالحسنَةِ تَعدِلُ سَبعِينَ حِجَّةً ، وَالمُذِيعُ بِالسيئَةِ مَخذُولٍ ، وَالمُستَترُ بِها مَغفُورٌ لَهُ» ، أَما سمعت قول الأول :

متى آته يوماً اطالب حاجة
 

 

رجعت إلى أهلي ووجهي بمائه ([42]).
 

11 ـ ونقرأ في حالات الإمام الجواد (عليه‌ السلام) ، عن علي بن جرير قال : كنت عند أبي جعفر ابن الرضا (عليهما ‌السلام) جالساً وقد ذهبت شاة لمولاة له فأخذوا بعض الجيران يجرّونهم إليه ويقولون : أنتم سرقتم الشاة ، فقال أبو جعفر الإمام الجواد (عليه‌ السلام) : ويلكم خلّوا عن جيراننا فلم يسرقوا شاتكم الشاة في دار فلان ، فاذهبوا فأخرجوها من داره ، فخرجوا فوجدوها في داره ، وأخذوا الرجل وضربوه وخرقوا ثيابه ، وهو يحلف أنّه لم يسرق هذه الشاة إلى أن صاروا إلى أبي جعفر (عليه‌ السلام) فقال : ويحكم ظلمتم الرجل فإنّ الشاة دخلت داره وهو لا يعلم بها ، فدعاه فوهب شيئاً بدل ما خرق من ثيابه وضربه ([43]).

12 ـ وكذلك ورد في سيرة الإمام الهادي (عليه‌ السلام) عن أبي هاشم الجعفري قال : أصابني ضيقة شديدة فصرت إلى أبي الحسن علي بن محمد (الإمام الهادي (عليه‌ السلام)) فأذن لي فلمّا جلست قال : يا أبا هاشم أي نعم الله عز وجل عَلَيكَ تُريدُ أَن تُؤدّي شُكرَها؟ قال أبو هاشم : فوجمت فلم أدري ما أقول له.

فأبتدأ (عليه‌ السلام) فقال : «رَزقَك الإيمانَ فَحرَّمَ بَدَنَك عَلى النّارِ ، وَرَزَقَكَ العافِيةَ فَأعانَتكَ عَلَى الطَّاعَةِ ، وَرَزَقَكَ القنُوعَ فَصانَكَ عَن التَّبَذُّلِ ، يا أبا هاشم إِنَّما ابتدأتُكَ بِهذا لأَنّي ظننتُ تُريدُ أن تَشكُو لِي مَن فَعَلَ بِكَ هذا ، وَقَد أَمرتُ لَكَ بِمائةِ دينار فَخُذها» ([44]).

13 ـ وأورد (الكليني) في الجزء الأول من اصول الكافي ـ حول الإمام العسكري (عليه‌ السلام) ـ أنّه قال : «حُبِس أبو مَحمّد (الإمام العسكري) عِندَ عَلي بن نارمش وهو أنصب الناس وأشدّهم عَلى آل أبي طالب وَقِيلَ لَهُ : افعل به وافعل ـ يعني مِن السوء وَالاذى ـ فما أقام ـ الإمام ـ عِندَهُ إلّا يَوماً حَتّى وَضَعَ خديَّه لَه ، وَكانَ لا يَرفَع بَصره إليهِ إجلالاً وإعظاماً فَخرجَ مِن عِندِهِ وهو أحسنَ النّاسَ بَصيرة وَأحَسنهم فِيهِ قَولاً» ([45]).

14 ـ وجاء في الروايات عن الإمام المهدي أرواحنا فداه وحسن خلقه وعنايته بالأشخاص الذين يتشرفون بلقائه روايات وقصص كثيرة ، منها ما ذكره المرحوم (المحدّث النوري) في كتابه (جنّة المأوى) عن أحد علماء النجف الأشرف أنّه قال : كان في النجف الأشرف رجل مؤمن يسمّى الشيخ محمد حسن السريرة ، وكان في سلك أهل العلم ذا نية صادقة ، وكان معه مرض السعال إذا سعل يخرج من صدره مع الأخلاط دم ، وكان مع ذلك في غاية الفقر والاحتياج لا يملك قوت يومه ، وكان يخرج في أغلب أوقاته إلى البادية إلى الأعراب الذين في اطراف النجف الأشرف ليحصل له قوت ولو شعير وما يتيسر ذلك ، وكان يكفيه مع شدّة رجائه وكان مع ذلك قد تعلق قلبه بتزويج امرأة من أهل النجف ، وكان يطلبها من أهلها وما أجابوه إلى ذلك لقلّة ذات يده ، وكان في هم وغم شديد من جهة ابتلائه بذلك ، فلما اشتدّ به الفقر والمرض وأيس من تزوج البنت عزم على ما هو معروف عند أهل النجف من أنّه من أصابه أمر فواظب الرواح إلى مسجد الكوفة أربعين ليلة أربعاء ، فلا بدّ أن يرى صاحب الأمر عجّل الله فرجه من حيث لا يعلم ويقضي له مراده ، فواظب على ذلك أربعين ليلة أربعاء ، فلما كان الليلة الأخيرة وكانت ليلة شتاء مظلمة وقد هبّت ريح عاصفة فيها قليل من المطر وأنا جالس في الدكة التي هي داخل باب المسجد وكانت الدكة الشرقية المقابلة للباب الأول تكون على الطرف الأيسر عند دخول المسجد ولا أتمكن الدخول في المسجد من جهة سعال الدم ولا يمكن قذفه في المسجد وليس معي شيء اتقي فيه عن البرد وقد ضاق صدري واشتد عليَّ همّي وغمّي وضاقت الدنيا في عيني وافكر أن الليالي قد انقضت وهذه آخرها وما رأيت أحداً ولا ظهر لي شيء وقد تعبت هذا التعب العظيم وتحملت المشاق والخوف في أربعين ليلة أجيئ فيها من النجف إلى مسجد الكوفة ويكون لي الاياس من ذلك ، فبينما أنا افكر في ذلك وليس في المسجد أحد أبداً وقد أوقدت النار لأسخن عليها قهوة جئت بها من النجف لا أتمكن في تركها لتعودي عليها وكانت قليلة جدّاً إذا بشخص من جهة الباب الأول متوجهاً إليَّ ، فلما نظرته من بعيد تكدرت وقلت في نفسي هذا اعرابي من أطراف المسجد قد جاء إليَّ ليشرب من القهوة أبقى بلا قهوة في هذا الليل المظلم ويزيد عليَّ همّي وغمّي ، فبينما أنا افكر إذا به قد وصل إليَّ وسلّم عليَّ باسمي وجلس في مقابلي فتعجبت من معرفته باسمي وظننته من الذين أخرج إليهم في بعض الأوقات من أطراف النجف أسأله من أي العرب يكون؟ قال : من بعض العرب ، فصرت أذكر له الطوائف التي في أطراف النجف فيقول : لا لا وكلما ذكرت له طائفة قال : لا لست منها فاغضبني ، وقلت له : أجل أنت من طريطرة مستهزءاً هو لفظ بلا معنى ، فتبسّم (عليه‌ السلام) من قولي ذلك وقال : لا عليك من اين كنت ما الذي جاء بك إلى هنا ، فقلت : وأنت ما عليك السؤال عن هذه الامور؟

فقال : ما ضرّك لو أخبرتني فأعجبت من حسن أخلاقه وعذوبة منطقه فمال قلبي إليه وصار كلّما تكلم ازداد حبّي له فعملت له السبيل من التتن وأعطيته فقال : أنت اشرب فأنا لا أشرب وصببت في الفنجان قهوة وأعطيته فأخذه وشرب شيئاً قليلاً منه ثم ناولني الباقي وقال : أنت اشربه فأخذته وشربته ولم التفت إلى عدم شربه تمام الفنجان ، ولكن ازداد حبّي به آناً فآناً.

فقلت له : يا أخي قد ارسلك الله إليَّ في هذه الليلة تأتيني أفلا تروح معي إلى أن نجلس في حضرة مسلم (عليه‌ السلام) ونتحدّث؟ فقال : أروح معك فحدّث حديثك.

فقلت له : أحكي لك الواقع أنا في غاية الفقر والحاجة مذ شعرت على نفسي ومع ذلك معي سعال أتنخع الدم وأقذفه من صدري منذ سنين ولا أعرف علاجه وما عندي زوجة وقد علق قلبي بامرأة من أهل محلتنا في النجف ومن جهة قلّة ما في اليد ما تيسّر أخذها.

وقد غرّني هؤلاء الملائية وقالوا لي : اقصد في حوائجك صاحب الزمان وبت أربعين ليلة أربعاء في مسجد الكوفة فانك تراه ويقضي لك حاجتك وهذه آخر ليلة من الأربعين وما رأيت فيها شيئاً وقد تحملت هذه المشاق في هذه الليالي فهذا الذي جاءني هنا وهذه حوائجي.

فقال لي وأنا غافل غير ملتفت : أمّا صدرك فقد برأ وأمّا الامرأة فتأخذها عن قريب ، وأمّا فقرك فيبقى على حاله حتى تموت وأنا غير ملتفت إلى هذا البيان أبداً.

فقلت : ألا تروح إلى حضرة مسلم؟ قال : نعم فقمت وتوجّه أمامي فلّما وردنا أرض المسجد فقال : ألا تصلّي تحية المسجد ، فقلت : افعل فوقف هو قريباً من الشاخص الموضوع في المسجد وأنا خلفه بفاصلة فأحرمت الصلاة وصرت أقرأ الفاتحة.

فبينما أنا أقرأ وإذا يقرأ الفاتحة قراءة ما سمعت أحداً مثلها أبداً ، فمن حسن قراءته قلت في نفسي لعله هذا هو صاحب الزمان وذكرت بعض كلمات له تدل على ذلك ثم نظرت إليه بعد ما خطر في قلبي ذلك وهو في الصلاة وإذا به قد أحاطه نور عظيم منعني من تشخيص شخصه الشريف وهو مع ذلك يصلّي وأنا أسمع قراءته وقد ارتعدت فرائصي ولا استطيع قطع الصلاة خوفاً منه فأكملتها على أي وجه كان وقد علا النور من وجه الأرض فصرت اندبه وأبكي واتضجر واعتذر من سوء أدبي معه بباب المسجد وقلت له : أنت صادق الوعد وقد وعدتني الرواح معي إلى مسلم.

فبينما أنا اكلم النور وإذا بالنور قد توجّه إلى جهة مسلم فتبعته فدخل النور الحضرة وصار في جو القبة ولم يزل على ذلك ولم ازل أندبه وأبكي حتى إذا طلع الفجر عرج النور.

فلّما كان الصباح التفت إلى قوله ، أمّا صدرك فقد برأ وإذا أنا صحيح الصدر وليس معي سعال أبداً ، وما مضى اسبوع إلّا وسهّل الله علي أخذ البنت من حيث لا أحتسب وبقي فقري على ما كان كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين ([46]).

وما ذكر أعلاه نماذج ونقاط مضيئة من سيرة الأئمّة والأولياء العظام وبما يكون بمثابة تجلّيات نورانية لسلوكهم الأخلاقي السامي وحسن تعاملهم مع الصديق والعدو ، وهذه النماذج القليلة تدل على مدى تأكيد هؤلاء العظام والقادة على هذه السجية وأهميّتها في حياة الإنسان المعنوية ، وما ورد في القرآن الكريم حكاية عن النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) من حسن الخلق العظيم نجده مترجماً في سلوكيات الأئمّة الكرام (عليهم ‌السلام) في دائرة العمل والسلوك الأخلاقي ، نعم فإنّ الدعوة إلى حسن الخلق لا تكون باللسان فقط ومن خلال التوصيات والإرشادات الكلامية ، بل إنّ الممارسة الأخلاقية والتحرّك الأخلاقي العملي يمثّل أسمى نداء أخلاقي وإرشاد تربوي في عملية التكامل المعنوي والحضاري للبشرية.

نتائج سوء الخلق :

النقطة المقابلة لحسن الخلق في واقع الإنسان وسلوكه الأخلاقي هي (سوء الخلق) حيث يمكن أن يفسّر على مستوى الخشونة والحدّة وسوء الكلام.

الأشخاص الذين يعيشون سوء الخلق مع الناس هم بمثابة بلاء عظيم على أنفسهم واسرتهم ومجتمعهم الذي يعيشون فيه.

إنّ سوء الخلق من أهم عوامل إيجاد الكراهية والتنفّر والتفرّق بين أفراد المجتمع ، والأشخاص الذين يعيشون الابتلاء بهذه الحالة السيئة ، فإنّهم غالباً ما يعيشون الانزواء في المجتمع حيث يبتعد الناس عنهم ويتجنّبون معاشرتهم ، وحتى لو اجبروا على معاشرتهم بسبب بعض الواجبات الاجتماعية أو بسبب مقامهم ومكانتهم الاجتماعية فإنّهم يشعرون بالنفور منهم في قلوبهم ويجدون في أنفسهم الرغبة في الابتعاد عنهم مهما أمكنهم ذلك.

وعند ما يتوفّر هذا الخلق السيء والمرض النفسي لدى علماء الدين ورجال المذهب ، فإنّ ذلك يمثّل خطراً كبيراً على الدين والمجتمع ويتسبب في سوء ظن الناس بأساس الدين وفرارهم من التعاليم والإرشادات الدينية وهذا بحدّ ذاته ذنب عظيم جدّاً لا يمكن جبرانه.

ولهذا السبب ورد في الروايات تعبيرات شديدة تتحدّث عن سوء الخلق وأحياناً نقرأ فيها كلمات مذهلة ومخيفة عن النتائج الوخيمة والآثار السلبية لهذا المرض الأخلاقي ، ومن ذلك نقرأ ما ورد في بعض هذه الروايات :

1 ـ جاء في الحديث الشريف عن النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) : «إيّاكُم وَسُوءَ الخُلقِ فإَنَّ سُوءَ الخُلقِ فِي النَّارِ لا مَحَالَةَ» ([47]).

2 ـ وفي حديث آخر ـ عبرّ عنه بأنّه لا توبة لصاحب الخلق السيء ـ وعنه (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) قال : «أَبى اللهُ لِصاحِبِ الخُلقِ السَّيء بِالتَّوبَةِ»

قيل : وكيف يا رسول الله؟

قال : «لأنّهُ إذا تابَ مِنْ ذَنبٍ وَقَعَ فِي أَعْظَمَ مِنَ الذَّنبِ الَّذِي تابَ مِنهُ» ([48]).

ويمكن أن يكون المقصود من هذا الحديث الشريف أنّ الشخص السيء الخلق عند ما يتوب في مورد من الموارد ويقلع عن بعض الممارسات الأخلاقية ، فإنّ ذلك من شأنه أن يوقعه فيما هو أسوأ من ذلك ، لأنّ جذور هذا المرض لا زالت موجودةً في أعماق نفسه ممّا يزيد في عقدته النفسيّة ، ولهذا السبب فإنّه لا يوفّق للتوبة الكاملة إلّا بالإقلاع عن هذه الرذيلة الأخلاقية واجتثاث جذور من واقعه النفسي وباطنه المعنوي.

3 ـ وجاء عن الإمام علي (عليه‌ السلام) في تقريره لحالة سوء الخلق أنّ : «أشَدُّ المَصائِبِ سُوءُ الخُلقِ» ([49]).

وهل هناك مصيبة أعظم من أن يكون الإنسان منزوياً ومعزولاً في مجتمعه وبين أرحامه ومعارفه ويقطع الصلة بينه وبين الخلق والخالق على السواء.

4 ـ ونقرأ في الرواية الواردة عن هذا الإمام العظيم أنّه قال : «لا وَحشَةَ أَوحَشُ مِنْ سُوء الخُلقِ» ([50]).

ودليل ذلك واضح وهو أنّ الإنسان السيء الخلق يغرق في الوحدة الموحشة ويعيش وحيداً منقطعاً عن الآخرين ، ولهذا السبب ورد في حديث آخر أنّه قال : «لا عَيشَ لِسَّيِّء الخُلقِ» ([51]).

لأنّه يعيش دائماً حالة الضجر والتعب في نفسه ويودّي أيضاً إلى تعب المعاشرين له.

6 ـ وشبيه هذه الرواية مع اختلاف يسير ما ورد في الحديث الشريف عن الإمام أمير المؤمنين أيضاً أنّه قال : «لا سُؤدَدَ لِسَّيِّءِ الخُلقِ» ([52]).

فالإنسان السيء الخلق لا يكون كبيراً في مجتمعه ودليل ذلك واضح أيضاً ، لأنّ من أول شروط تحصيل المكانة الاجتماعية والسيادة والعزّة لدى الأهل والعشيرة هو التعامل الأخلاقي الحسن مع الآخرين ومراعاة الأدب واللّيونة واللطافة ، فمن افتقد رأس المال هذا فإنّه لا يصل إلى ذلك المقام.

7 ـ وورد عن الإمام أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) أيضاً قوله : «المُؤمِنُ لَيِّنُ الأرِيكَةَ، سَهلُ الخَلِيقَةَ ، والكَافِرُ شَرِسُ الخَلِيقَةَ سَيِّءُ الطَّرِيقَةَ» ([53]).

علاج سوء الخلق :

إنّ ما أوردنا في الروايات أعلاه وروايات اخرى كثيرة لم نذكرها حرصاً على الايجاز وعدم الإطالة هو شاهد على أنّ سوء الخلق يعتبر أحد أسوأ الصفات النفسية والأخلاقية في واقع الإنسان وسلوكه الاجتماعي حيث يترتب عليها نتائج وخيمة في حركة الإنسان والمجتمع ويفضي إلى تدمير افق الحياة السعيدة ويبدّل عناصر الخير والسعادة في حياة الإنسان إلى الشر والشقاء.

وعلى هذا فإنّ الأشخاص الذين يعيشون هذه الرذيلة الأخلاقية يجب عليهم علاج أنفسهم بأسرع ما يمكن ، والاستفادة من كلمات ونصائح علماء الأخلاق في هذا المجال ومنها قولهم:

إنّ من يبتلى بهذه الصفة الرذيلة يجب عليه أن يفكّر ويتدبّر في عواقبها الوخيمة في كل يوم ويقرأ باستمرار الروايات التي تتحدّث عن آثارها السلبية في الدنيا والآخرة كما تقدمت الإشارة إليها ، ويشاهد ما يجري في حياة المبتلين بهذا المرض وكيف أنّ الناس تنفر منهم وتبتعد عنهم وبذلك يعيشون حالة الوحشة والصعوبة في مقابل تحدّيات الواقع فلا يشاركهم أو يواسيهم أحد من الناس فيما يصيبهم من بأساء وضرّاء في حركة الحياة ، والخلاصة أنّه يتّعظ من حياة هؤلاء الذين يعيشون العزلة على الله والخلق.

وما يجدر ذكره هو أنّه ينبغي لغرض قلع جذور الصفات الأخلاقية القبيحة من واقع الإنسان وروحه أن يتحرّك الإنسان على مستوى التمرّن وممارسة الرياضة المعنوية والاصرار في سلوك هذا الطريق وإن كان بواسطة التصنّع ليكون حسن الخلق له بصورة عادة وملكة ، وفيما إذا وجد في نفسه عناصر وعوامل نفسية تبعث على سوء الخلق فانّه يتحرّك فوراً لإزالتها وتطهير نفسه منها وذلك من خلال ممارسة الصلاة والعبادة وزيارة المراقد المقدّسة أو يتحرّك من موقع الترفيه السليم والألعاب المسلّية المشروعة ليدرأ هذا المرض وهذه العوامل السلبية من كيانه وشخصيته.

وكذلك يتحرّك الإنسان في طريق تهديد نفسه من خلال التلقين ، وذلك بالإيحاء إلى نفسه بأنّه صاحب خلق حسن ويتّصف بحسن التعامل والطيبة واللطف مع الآخرين ، فمن شأن هذا التلقين أن يؤثّر أثره بالتدريج فيغرس في قلبه نبتة حسن الخلق ويعمل على تقويتها وتعميقها وإزالة عناصر الشر وعوامل سوء الخلق من ذاته.

وأحياناً يتحقّق سوء الخلق في النفس بسبب الجوع والعطش أو بعض الأمراض البدنية حيث ينبغي على هذا الإنسان أن يعالج هذه المسألة من الأساس والجذور ويحاول الابتعاد عن الناس والتعامل معهم في هذه الحالة الاستثنائية مهما أمكن.

وأحياناً تنقل هذه الرذيلة الأخلاقية الإنسان من رفاقه وأصدقائه من الأراذل والأخلاء السيّئ الخلق ، فينبغي عليه أن يقطع أواصر الصداقة مع هؤلاء ويحاول الارتباط من موقع الصداقة والمودّة مع من هم أهل لذلك ويعيشون الفضيلة وحسن الخلق مع الناس ، وهكذا فإنّ أسوأ الناس أخلاقاً إذا تحرّك في اصلاح نفسه في علاج مرضه الأخلاقي من خلال ممارسة هذه التعليمات المذكورة آنفاً وعزم على تحقيق هذه الملكات الأخلاقية في نفسه بإرادة قويّة وسعى لإصلاح نفسه بتصميم راسخ فإنّه سوف يحصل على النتائج المرجوّة حتماً.

المزاح :

لقد ورد في الروايات الإسلامية وكذلك كلمات علماء الأخلاق بحوث واسعة عن (المزاح) حيث يتوصّل الإنسان من خلال مطالعتها ودراستها إلى هذه النتيجة ، وهي أن المزاح إذا كان في حدّ الاعتدال ولم يكن ملوّثاً بالإثم والمعصية فإنّه ليس فقط غير قبيح ، بل يمكن اعتباره من مصاديق حسن الخلق والأخلاق الفاضلة وحسن المعاشرة مع الناس ، ولا شك أن الافراط في ذلك إمّا أن يوقع الإنسان في المعصية والإثم يتحول إلى أحد الرذائل الأخلاقية ، وأحياناً يكون خطره أكثر من خطره في الكلام إذا كان من موقع الجد ، لأنّ في المزاح نوع من الحرية لا توجد في الكلام الجدّي والذي ينطلق من موقع المسؤولية.

ويستفاد من سيرة النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) والأئمّة المعصومين (عليهم ‌السلام) وعلماء الدين أنّهم كانوا يمارسون المزاح بشكل معتدل في معاشرتهم مع الناس.

وبهذه الإشارة نستعرض بعض الروايات التي تقرر حسن المزاح بصورة عامّة ، ثم نستعرض الروايات التي تذم المزاح ، ثم نذكر طريق الجمع بين هاتين الطائفتين من الروايات الشريفة :

1 ـ ما ورد في الحديث عن الإمام علي (عليه‌ السلام) أنّه قال : «كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) لَيَسُرُّ الرَّجُلَ مِنْ أَصحابِهِ إِذا رَآهُ مَغمُوماً بِالمُدَاعَبَةِ» ([54]).

أجل فإنّ النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) كان يستخدم المزاح لتحقيق الأغراض الإنسانية وادخال السرور على القلوب المهمومة والنفوس الكئيبة.

2 ـ ونقرأ في حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) حيث قال لأحد أصحابه : «كَيفَ مُداعَبَةِ بَعضُكُم بَعضاً».

قلت : قليل.

فقال الإمام (عليه‌ السلام) : «أفَلا تَفعَلُوا فإنّ المُداعَبَةَ مِنْ حُسنُ الخُلقِ وَإنَّك لَتُدخلُ بِها السُّرورَ عَلى أَخِيكَ وَلَقَد كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) يُداعِبُ الرَّجُلَ يُريدُ أَن يَسُرَّهُ» ([55]).

3 ـ وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) أيضاً أنّه قال : «ما مِنْ مُؤمُنٍ إلّا وَفَيهِ دُعابَةٌ ، قلت : وَما الدُّعابَةُ؟ قال : المِزاح» ([56]).

ويستفاد من هذا التعبير أن المؤمن لا ينبغي أن يكون جافّاً ، بل إنّ أغصان حسن الخلق هو المزاح وطبعاً مقرون بالتقوى.

4 ـ ويستفاد من الروايات الشريفة أنّ المعصومين (عليهم ‌السلام) أحياناً كانوا يتحرّكون لحث الآخرين للتمازح في مجلسهم ليتمّ بذلك إدخال السرور على قلوب المؤمنين ، ففي كتاب الكافي للمرحوم الكليني (قدس ‌سره) نقرأ حديثاً شريفاً يرويه عن معمر بن خلّاد قال : سألت أبا الحسن (عليه‌ السلام) قلت : جعلت فداك الرجل يكون مع القوم فيجري بينهم كلام يمزحون ويضحكون؟

فقال (عليه‌ السلام) : «لا بأسَ ما لَم يَكُن ، فَظَننتُ أَنّه عنى الفحش ، ثُمَّ قال : إنّ رَسُولُ اللهِ (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) كانَ يَأتِيهِ الأعرابِي فَيَهدِي لَهُ الهديَّةَ ثُمَّ يَقُولُ مكانَهُ : أَعطِنا ثَمَنَ هَديتِنا فَيضحَكُ رَسُولُ اللهِ (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) وَكَانَ إِذا اغتَمَّ يَقُولُ : ما فَعَلَ الأَعرابي لَيتَهُ أتانا» ([57])

5 ـ وقد ورد في الأحاديث الشريفة نماذج من موارد مزاح النبي الأكرم (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) مع أصحابه منها ما ورد عن امرأة تدعى (ام أيمن) جاءت إلى رسول الله (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) فقالت : إنّ زوجي يدعوك ، فقال : ومن هو أهو الذي بعينه بياض ، فقالت : والله ما بعينه بياض ، فقال : بلى أنّ بعينه بياضاً ، فقالت : لا والله.

فقال (صلى ‌الله ‌عليه‌ وآله) : ما أحد إلّا وبعينه بياض ([58]).

وفي مقابل هذه الأحاديث هناك أحاديث كثيرة تنهى عن المزاح منها :

1 ـ في الحديث الوارد عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) أنّه قال : «إِيّاكُم وَالمَزاحَ فَإنَّهُ يَذهَبُ بِماءِ الوَجهِ وَمَهابَةِ الرِّجالِ» ([59]).

2 ـ وأيضاً في حديث آخر عن هذا الإمام أنّه قال : «إِذا أَحبَبتَ رَجُلاً فَلا تُمازِحهُ وَلا تُمارِهِ» ([60]).

3 ـ وفي حديث شريف عن الإمام أمير المؤمنين (عليه‌ السلام) أنّه قال : «إِيّاكُم وَالمَزاحَ فَإنَّهُ يَجُرُّ السَّخِيمَةَ وَيُورِثُ الضَّغِينَةَ وَهُو السَّبُّ الأصغَرُ» ([61]).

4 ـ وفي حديث آخر عن الإمام الصادق (عليه‌ السلام) أنّه قال : «لا تُمازِح فَيُجتَرَءُ عَلَيكَ» ([62]).

* * *

وعلى هذا الأساس يمكن القول أنّ المزاح يبعث على الذهاب بوقار الإنسان والحط من شخصيّته أمام الناس ويسبب العداوة والبغضاء بينهم ويوجب تجرّؤ الجهّال ويعرّض شخصية الإنسان إلى المهانة والضعف والاهتزاز.

ومن خلال مطالعة التعبيرات الواردة في روايات الطائفة الاولى المادحة للمزاح وروايات الطائفة الثانية الناهية عنه يمكن معرفة السبل إلى الجمع بين هاتين الطائفتين ، وتوضيح ذلك أنّ المزاح أمر معقّد وأحياناً يتّسم بأنّه أشدّ من حالة الجدية في الكلام وبعبارة اخرى أنّ المزاح أمر رقيق جدّاً بحيث أنّه إذا خرج قليلاً عن حدّ المقرّر ، فإنّ له آثار مخرّبة مدمّرة.

إذا كان المزاح في الإطار المقبول ولم يخرج عن حدّ الاعتدال وكان لغرض رفع السأم والتعب والحزن عنهم مع رعاية الجهات الشرعية فإنّه يقع مطلوباً ومورد رضا الله تعالى.

ولكن إذا كان المزاح لغرض الانتقام والسخرية بالطرف الآخر وبدافع الحقد والكراهية وخاصة إذا كان بلباس الجدّية فإنّه لا يحقق الامور المذكورة فحسب ، بل إنّ البعض قد يهدف إلى أغراض شيطانية من خلال المزاح فلا شك في أنّه يقع مبغوضاً ومنفوراً وأحياناً يكون أشدّ من السب والشتم.

وكذلك إذا استخدمت في المزاح كلمات واهنة ومبتذلة فلا شك أنّها تتسبب في هتك حرمة الإنسان وإزهاق شخصيته.

وهكذا إذا كان المزاح أمام أشخاص ليست لهم قابلية على تقبّله أو لا يحفظون حريم شخصيّة الإنسان ممّا يؤدّي إلى جرأتهم وتطاولهم على الكبير فيقولون من موقع المزاح ما يوهن شخصيته ويطعن في احترامه.

ومثل هذه الانحاء من المزاح ليست فقط غير مطلوبة بل أحياناً تقع في دائرة الذنوب الكبيرة أيضاً.

فعلى السالكين طريق الحق والذين يتحرّكون في تهذيب النفس وتزكيتها يجب عليهم الانتباه فلا يشطبون على المزاح تماماً ويحذفونه من حياتهم ويتحوّلوا إلى أشخاص جامدين ويعيشون الجفاف الروحي والعواطف البشرية واللطافة والمحبّة مع الآخرين ، ولا يتورّطون مقابل ذلك في الذنوب أو الأعمال المنافية للمروءة عند ممارسة المزاح ، فكثيراً ما رأينا بعض الأشخاص المتدينين حسب الظاهر عند ما يتحدّثون في مجالسهم ويتمازحون مع الآخرين يطلقون ألسنتهم بالحكايات المبتذلة التي يشمّ منها رائحة الغيبة أحياناً أو التهمة أو إشاعة الفحشاء أو يتسبب كلامهم في إهانة بعض المسلمين وجرح كرامتهم.

وحتى لو كان المزاح يخلو من أي مطلب منافي للشرع ، فإنّ الإكثار منه يسّبب آثار سلبية وكما يقول بعض العلماء(المَزاحُ فِي الكلامِ كَالمِلحِ فِي الطَّعامِ) ، فلو كان أكثر من اللازم أو أقل منه لما كان الطعام سائغاً وطيّباً.

ومضافاً إلى ذلك فإنّ من يكثر من المزاح فانّ كلامه الجدّي سوف يكون بدون قيمة ، ولا يقبل الناس كلامه الجدّي كما يرام ، وهذا المضمون ورد في الحديث الشريف عن أمير المؤمنين قال : «مَن كَثُرَ هَزَلُهُ بَطَلَ جِدُّهُ» ([63]).

والملاحظة الجديرة بالذكر أنّ المزاح أحياناً يهدف إلى أغراض معقولة ومهمّة ، فلو كانت هذه الأهداف الجديّة تدخل في المسائل التربوية والبنّاءة لكان مفيداً جدّاً ، مثلاً أن يسعى الشخص لإفهام الطرف الآخر من خلال المزاح أن يواظب على المسائل الدينية والقيم الأخلاقية ، فمثل هذا العمل مفيد جدّاً ، ولكن لو كان الهدف الجدّي المتضمّن للمزاح يؤدّي إلى مفسدة أو كان لغرض الانتقام وتخريب شخصية الآخرين ، فإنّ ذلك المزاح يكون مبغوضاً ومذموماً جدّاً وذلك بأن يقوم الإنسان بهتك حرمة الأشخاص في لباس المزاح ويهدم شخصيّتهم ويعمل على تسقيطهم بهذه الوسيلة.


[1] سورة آل عمران ، الآية 159.

[2] سورة قلم ، الآية 4.

[3] سورة لقمان ، الآية 18 و 19.

[4] سورة البقرة ، الآية 84.

[5] سورة طه ، الآية 43 و 44.

[6] سورة فصلت ، الآية 34 و 35.

[7] لسان العرب ، مادة خلق.

[8] مجمع البيان ، ج 10 ، ص 331 ، ذيل الآية المبحوثة.

[9] نور الثقلين ، ج 5 ، ص 389 ؛ اصول الكافي ، ج 1 ، ص 26 ، ح 4.

[10] نور الثقلين ، ج 5 ، ص 391.

[11] تفسير نور الثقلين ، ج 4 ، ص 207.

[12] كنز العمال ، ج 3 ، ح 6 ، وورد مثلها في المصادر الشيعية.

[13] تفسير البرهان ، ذيل الآية المبحوثة.

[14] تفسير الفخر الرازي ، ذيل الآية المبحوثة (ج 22 ، ص 59).

[15] كنز العمال ، ج 3 ، ص 17 ، ح 5225.

[16] بحار الانوار ، ج 68 ، ص 392 ، ح 59.

[17] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 100 ، ح 6.

[18] بحار الانوار ، ج 68 ، ص 387 ، 34.

[19] بحار الانوار ، ج 72 ، ص 321.

[20] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 100 ، ح 5.

[21] المصدر السابق ، ص 101.

[22] بحار الانوار ، ج 74 ، ص 148 ، 71.

[23] غرر الحكم ، ج 6 ، ص 399.

[24] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 100 ، ح 8.

[25] غرر الحكم.

[26] بحار الانوار ، ج 75 ، ص 53 ، ح 86.

[27] بحار الانوار ، ج 68 ، ص 389 ، ح 42.

[28] كنز العمال ، ج 3 ، ص 17 ، ح 5229.

[29] غرر الحكم ، ح 4855.

[30] المصدر السابق ، ح 3032.

[31] بحار الانوار ، ج 68 ، ص 394 ، ح 64.

[32] جلاء الأفهام ، لابن قيم الجوزي ، ص 92.

[33] سفينة البحار ، ج 2 ، ص 692 الطبعة الحديثة.

[34] بحار الانوار ، ج 2 ، ص 3.

[35] بحار الانوار ، ج 43 ، ص 344.

[36] تحف العقول ، ص 178.

[37] سورة آل عمران ، الآية 134.

[38] منتهى الآمال ،

[39] منتهى الآمال ، ص 63 (بتلخيص).

[40] بحار الانوار ، ج 3 ، ص 57 و 58 (مع التلخيص).

[41] أعيان الشيعة ، ج 2 ، ص 7.

[42] فروع الكافي ، ج 4 ، ص 23 ، ح 3 مع قليل من التلخيص.

[43] بحار الانوار ، ج 50 ، ص 47.

[44] المصدر السابق ، ص 129.

[45] اصول الكافي ، ج 1 ، ص 508 ، ح 8.

[46] جنّة المأوى ، المطبوع بضميمة ج 53 ، ص 240.

[47] بحار الانوار ، ج 68 ، ص 383.

[48] بحار الانوار ، ج 70 ، ص 299.

[49] عيون أخبار الرضا (عليه‌ السلام) ، ج 2 ، ص 37.

[50] غرر الحكم.

[51] المصدر السابق.

[52] غرر الحكم.

[53] المصدر السابق.

[54] مستدرك الوسائل ، ج 8 ، ص 408.

[55] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 663 ، ح 3.

[56] المصدر السابق ، ح 2.

[57] المصدر السابق ، ح 1

[58] تنبيه الخواطر ، ج 1 ، ص 112.

[59] اصول الكافي ، ج 2 ، ص 665 ، ح 16.

[60] المصدر السابق ، ص 664 ، ح 9.

[61] المصدر السابق ، ص 664 ، 12.

[62] المصدر السابق ، ص 665 ، ح 18.

[63] غرر الحكم.




جمع فضيلة والفضيلة امر حسن استحسنه العقل السليم على نظر الشارع المقدس من الدين والخلق ، فالفضائل هي كل درجة او مقام في الدين او الخلق او السلوك العلمي او العملي اتصف به صاحبها .
فالتحلي بالفضائل يعتبر سمة من سمات المؤمنين الموقنين الذين يسعون الى الكمال في الحياة الدنيا ليكونوا من الذين رضي الله عنهم ، فالتحلي بفضائل الاخلاق أمراً ميسورا للكثير من المؤمنين الذين يدأبون على ترويض انفسهم وابعادها عن مواطن الشبهة والرذيلة .
وكثيرة هي الفضائل منها: الصبر والشجاعة والعفة و الكرم والجود والعفو و الشكر و الورع وحسن الخلق و بر الوالدين و صلة الرحم و حسن الظن و الطهارة و الضيافةو الزهد وغيرها الكثير من الفضائل الموصلة الى جنان الله تعالى ورضوانه.





تعني الخصال الذميمة وهي تقابل الفضائل وهي عبارة عن هيأة نفسانية تصدر عنها الافعال القبيحة في سهولة ويسر وقيل هي ميل مكتسب من تكرار افعال يأباها القانون الاخلاقي والضمير فهي عادة فعل الشيء او هي عادة سيئة تميل للجبن والتردد والافراط والكذب والشح .
فيجب الابتعاد و التخلي عنها لما تحمله من مساوئ وآهات تودي بحاملها الى الابتعاد عن الله تعالى كما ان المتصف بها يخرج من دائرة الرحمة الالهية ويدخل الى دائرة الغفلة الشيطانية. والرذائل كثيرة منها : البخل و الحسد والرياء و الغيبة و النميمة والجبن و الجهل و الطمع و الشره و القسوة و الكبر و الكذب و السباب و الشماتة , وغيرها الكثير من الرذائل التي نهى الشارع المقدس عنها وذم المتصف بها .






هي ما تأخذ بها نفسك من محمود الخصال وحميد الفعال ، وهي حفظ الإنسان وضبط أعضائه وجوارحه وأقواله وأفعاله عن جميع انواع الخطأ والسوء وهي ملكة تعصم عما يُشين ، ورياضة النفس بالتعليم والتهذيب على ما ينبغي واستعمال ما يحمد قولاً وفعلاً والأخذ بمكارم الاخلاق والوقوف مع المستحسنات وحقيقة الأدب استعمال الخُلق الجميل ولهذا كان الأدب استخراجًا لما في الطبيعة من الكمال من القول إلى الفعل وقيل : هو عبارة عن معرفة ما يحترز به عن جميع أنواع الخطأ.
وورد عن ابن مسعود قوله : إنَّ هذا القرآن مأدبة الله تعالى ؛ فتعلموا من مأدبته ، فالقرآن هو منبع الفضائل والآداب المحمودة.