أقرأ أيضاً
التاريخ: 25-1-2017
7246
التاريخ: 19-6-2016
2012
التاريخ: 2023-04-08
1275
التاريخ: 16-8-2022
1473
|
إنه لموضوع شيق جداً ذلك الذي يبحث في كيفية نمونا كشخصيات وكيف أن ذلك النمو يعتمد على صلتنا المباشرة بشخص آخر يهتم بغذائنا ومطالبنا الأخرى إبان الفترة الحرجة من بدء حياتنا، بينما تكون قدرتنا على مواءمة أنفسنا مع الأشياء والناس ما تزال في طور النمو - والمشاكل المعروضة في غاية من التعقيد وليست مفهومة مطلقا حتى الآن.
كلما نمت شخصيتنا بعدنا تدريجياً عن أن نكون تحت رحمة جميع من يحيطون بنا مباشرة، وعن الطرق التي يؤثرون بها علينا، وكلما أصبحنا كذلك قادرين أكثر فأكثر على اختيار وخلق ما يحيط بنا، وقادرين على أن نخطط لما تحتاجه في المستقبل دائماً ولفترات طويلة، ومن بين الواجبات الأخرى علينا أن نتعلم كيف نفكر بطريقة مجردة في تدريب خيالنا وفي تقدير الأشياء أو النظر إلى الأمور التي تكون أبعد من مجرد إحساسات أو رغبات مباشرة أو عاجلة، وعندما يصل الفرد إلى هذه المرتبة يصبح قادراً على أن يتحكم في رغباته المباشرة لحساب مطالبه الجوهرية الطويلة الأمد.
يتوقع الإنسان من الطفل ذي السنوات الثلاث أو حتى الخمس أن يجري في الطريق للبحث عن كرته، إنه في تلك السن يكون غالباً تحت رحمة موقفه الراهن، وعندما يكبر ينتظر منه أن يأخذ في اعتباره أشياء أخرى، وأن يفكر فيما بعد ذلك - وفي سن العاشرة أو الحادية عشرة يستطيع أن يتقصى الأهداف لمدة شهور قادمة - وفي سن السادسة عشرة أو الثامنة عشرة يكون في قدرة الولد أو البنت الأكثر نضوحاً تأدية أعمال باهرة في التجريد سواء في الوقت أو في المسافة. هذه هي العملية التي يخلص الفرد بها نفسه من عبودية غرائزه ومن الانقياد إلى اللذة العاجلة، وبها يطور عملياته العقلية لتوائم مطالب الواقع.
وفي أثناء هذه العملية ننمي في أنفسنا طرق تنسيق مطالبنا المختلفة بل والمتضاربة، كما نبحث عن إشباعها في العالم الخارج عنا، فنبدأ في الموازنة بين الأشياء التي سنحتاج إليها في المستقبل ونقدر أيها ألزم لنا، ونتحقق من أن بعض الرغبات يجب أن تفسح الطريق لغيرها حتى يكون لأعمالنا هدف وحتى لا نتخبط خبط عشواء. ولما كان من بين مطالبنا المستقبلة الطويلة الأمد هو أن نظل على صلات طيبة ومتعاونين مع الآخرين وجب أن نجعل رغباتهم نصب أعيننا تماماً. ومن تقديرنا للأشياء التي تسر أو تسيء إلى الناس المحيطين بنا تتكون أسس الضمير.
لا نستطيع العمل في طور الرضاعة والطفولة المبكرة بهذه الطريقة المبنية على التفكير، للوصول إلى مطالبنا أو للتحقيق من مطالب الآخرين، ويجب أن تعمل الأم في تلك الفترة بدل الطفل في كلا هذين الطريقين فهي التي ترتب له أين سيكون، ومتى سيطعم وينام ويغتسل، وهي التي توفر له هذا بكل وسيلة. كما تسمح له بالقيام ببعض الأشياء وتمنعه عن غيرها، إذ هي له هنا شخصيته وضميره، ثم يتعلم الطفل بعد ذلك تدريجيا كيف يؤدي هذه الأعمال بنفسه.
وعندما يستطيع ذلك، يقوم الآباء المجربون بنقل الواجبات إليه. هذه عملية فيها بطء ودقة ومثابرة وتبدأ منذ بدء تعلمه المشي وتناول الغذاء بنفسه، ولا تنتهي تماما إلا عند بلوغه دور المراهقة، لكن الكشف عن نفسية الطفل وعن شعوره إنما تتم بصورة مرضية عندما تكون علاقاته الإنسانية الأولى مستمرة وسعيدة. هنا نصدم بالتشابه بين هذه العملية وبين عملية نمو الجنين، ففي الوقت الذي لا تظهر الأنسجة فيه صفات الأعضاء المختلفة لطفل المستقبل تكون تلك الصفات تحت تأثير كيماويات معينة تسمى المنظمات (مكونة الأعضاء)، فإذا ما تقدم النمو بيسر وسهولة فيجب إذا أن تكون الأنسجة قد تعرضت لتأثير المنظم المناسب في أوقات مضبوطة معينة - وبنفس الطريقة، إذا ما أريد للنمو العقلي أن يستمر في يسر، فإنه من الضروري للعقلية التي لم تتكون بعد أن تعرض في أوقات مضبوطة معينة لتأثير المنظم النفسي وهو الأم. ولهذا السبب إذا ما قدرنا الاضطراب الذي تتعرض له الشخصية والضمير، فيجب أن نراعي أطوار نمو طاقة الطفل نحو تكوين العلاقات الإنسانية وهي كثيرة ومتشابكة بطبيعتها - وبصورة عامة فإن أهم الأطوار هي ما يلي:
(أ) الطور الذي يأخذ فيه الطفل في تكوين علاقات بشخص معروف له تماما كأمه، وهذا يتم بطبيعة الحال في الشهر الخامس أو السادس من عمره.
(ب) الطور الذي يكون الطفل في أثنائه في حاجة إلى أن تلازمه أمه بلا انقطاع، وهذا يستمر عادة إلى العام الثالث من عمره.
(ج) الطور الذي يصبح الطفل فيه قادراً على تكوين علاقات معها في غيابها. ومثل هذه العلاقة يمكن إيجادها إبان العام الرابع أو الخامس إذا وجدت ظروف مناسبة ومورست مرة كل بضعة أيام أو بضعة أسابيع، ويمكن إيجاد العلاقة في العام السابع أو الثامن إذ مورست مرة كل عام أو أكثر، ولو أن ذلك يحتاج إلى مجهود.
وتتفاوت الأعمار التي تم فيها هذه الأطوار تفاوتاً واضحا من طفل إلى آخر بنفس الطريقة التي تتفاوت بها مراحل النضج الجسماني، فمثلا تتم المقدرة على المشي في أي وقت بين الشهر التاسع والرابع والعشرين، وربما يكون النمو الجسماني مساو لذلك في تغيره، وإذا كان هذا صحيحاً فإنه من الحكمة عند البحث أن نقدر العمر تبعا لمرحله النمو التي بلغها الطفل لا تبعا لطول المدة الحقيقية للعمر الزمني إذ يبدو أنه من المحقق تماما أن نوع ومقدار الاضطرابات النفسية التي تعقب الحرمان تعتمد على طور النمو الذي وصل إليه الطفل في ذلك الوقت، ومع الاستمرار في استعراض هذه النظرية فأن بعض القواعد المدعمة والمستمدة من دراسة الأجنة يمكن اتباعها أيضاً، فنحن نعلم أن:
التكوين غير الطبيعي للجنين إنما يحدث بسبب مهاجمة جزء منه يكون نشاط النمو فيه على درجة كبيرة. ويمكن تصنيف حالات التكوين غير الطبيعي إلى أقسام وأشكال مختلفة تبعاً للمراحل الحرجة التي يتم فيها النمو، فالأضرار التي تحدث مبكرة يترتب عليها بوجه عام اضطراب واسع بعيد المدى في النمو، ومن جهة أخرى فإن الأضرار المتأخرة قد تؤدي إلى عيوب موضعية ـ وعلاوة على ذلك: فإن ذلك النسيج العصبي غير المميز لا يمكنه الاستجابة للمنظم إلا في فترة محدودة فقط، إذ يجب أن يصل إلى درجة معينة من التمييز قبل أن يستجيب، وبعد ذلك يكون سلوكه ثابتاً حتى أنه لا يمكن أن يقدم إلا نمطاً محدوداً من الاستجابة فقط.
وبنفس الطريقة تستطيع الأم بمجرد وجودها فقط وبحنانها أن تعمل كمنظم لعقل الطفل في المراحل المبكرة التي لم يستكمل فيها نموه. والوقت الذي يمكن أن تتم فيه هذه العملية يكون كما هو الحال في المنظم الكيماوي محدداً بالوقت الذي لم تتكون فيه شخصية الطفل تماماً. والدليل واضح جداً بأنه إذا لم يتم الطور الأول للنمو، وهو تكوين علاقة بشخص معين معروف بطريقة مرضية. خلال الاثنى عشر شهراً الأولى أو نحوها، فستكون مهمة الإصلاح شاقة جداً، إذ أن سمات النسيج العقلي والنفسي تكون قد تحددت (قد يكون هذا التحديد بالنسبة إلى كثير من الأطفال مبكراً جداً عن هذا). كذلك يظهر أن هناك حدوداً يجب أن يتم فيها الطور الثاني والثالث إذا أريد للنمو أن يستمر، ولذا فإن عمليات النمو الحيوية هذه هي التي لا يمكن إصلاحها في حالة الحرمان. وبملاحظة الأطفال الذين حرموا بقوة يتضح أن شخصياتهم وضمائرهم لا تنمو، كما يقسم سلوكهم بالاندفاع والتهور، وكذلك لا يستطيعون تتبع الأهداف طويلة الأمد لأنهم فريسة الأهواء الوقتية، وجميع الرغبات بالنسبة إليهم متساوية والجهد الذي يبذل لتحقيقها متساو، قدرتهم على ضبط أنفسهم معدومة أو ضعيفة، ودون هذه القدرة لا يجد الناس طريقهم في الحياة بسهولة. إن أي دافع يجعلهم يتأرجحون بين الأمر ونقيضه، فهم إذا ضعاف الشخصية غير قادرين على الاستفادة من التجارب وهم لذلك ألد أعداء أنفسهم، ولا نستطيع في الواقع أن نوضح بجلاء كيف يؤدي الحرمان من رعاية الأم إلى هذه النتيجة، لكن ملاحظتين من الملاحظات السابقة ربما تقربنا من فهم المشكلة:
توجد أولا مكتشفات الدكتور (جولد فارب) عن الصعوبات التي يلاقيها أولئك المرضى في فهم الأشياء المعنوية وفي التعامل مع الصور الذهنية، فهي بالنسبة إليهم أصعب بكثير من الأشياء المتعلقة بالحواس مباشرة، وثانياً ملاحظات الأطباء الذين يحاولون إخراج أولئك المرضى من نطاق ذاتيتهم عن طريق محبة الغير وعن طريق الاهتمام بأشياء خارج نطاقهم.
أظهر جميع أطفال المؤسسة الذين درسهم الدكتور (جولد فارب) عجزاً معيناً وخطيراً عن التفكير المجرد - لقد شاهدنا الآن أن مثل هذا التفكير ضروري في بناء النفس والضمير، فيجب إذاً أن يتعلم الطفل تدريجياً أن يفكر قبل أن يعمل وأن يتخلص من الاستجابة الآلية لكل حدث أو صوت أو ضوء أو الاستجابة للجوع أو الألم، وبذلك فقط يمكنه أن يصبح شخصاً كاملا، ولذا فقد يكون القول بأنه إذا لم ينم التفكير المجرد نمواً سليما فإن الشخصية لا يمكن أن تنطلق انطلاقاً تاماً، ولكن يبقى مع هذا إشكال وهو لماذا يضر الحرمان قوة التفكير المجرد؟
إن الفشل في إنماء الشخصية بالنسبة إلى الأطفال المحرومين يكون أيسر في الفهم إذا أخذنا في الاعتبار أن الأم هي التي تقوم في بدء حياة الطفل مقام شخصيته وضميره، أما أطفال المؤسسات فإن هذه التجربة لا تمر بهم أبداً ولذا تفوتهم فرصة إتمام أول طور من أطوار النمو وهو تكوين علاقات مع أمهات واضحة المعالم معروفة لهم جيداً - وكل ما يمكنهم الحصول عليه هو تتابع العملاء لرفأ الصدع وكل منهم إنما يساعد في ناحية محدودة، ولكن ليس هناك من يمنحهم البقاء المستمر وهو دعامة من دعائم الشخصية. ربما لم تتح الفرصة إطلاقاً لأولئك الأطفال المحرومين حرماناً شديداً والذين لم يكونوا محل الرعاية الدائمة من شخص معين ليدركوا عملية التجريد (التفكير الذهني) وعملية تنظيم السلوك بالنسبة إلى المكان والزمان، إن ما أصابهم من تشوهات نفسية خطيرة إنما هو بلا شك أمثلة واضحة للمبدأ الدال على أن الأضرار المبكرة تحدث اضطرابات في النمو واسعة النطاق.
وزيادة على ذلك فإن إعداد المؤسسة لا يعطي إلا فرصة ضئيلة للطفل الذي تعلم التفكير في ممارسة هذه المهارة، بينما يشجع الطفل الصغير في نطاق أسرته وفي حدود معينة على أن يعبر عن نفسه اجتماعياً وفي أثناء اللعب، فابن الثمانية عشر شهراً أو العامين يصبح عضواً في الأسرة، ومن المعروف أنه يفضل أشياء ويكره أخرى، وقد تعودت الأسرة على احترام رغباته، وأكثر من هذا فإنه يبدأ في معرفة كيفية إغراء والديه وإخوته وأخواته على عمل ما يريد، وبهذه الطريقة يتعلم كيف يغير وسطه الاجتماعي إلى الشكل الذي يلائمه، ومثل هذا يحدث في لعبه حيث يقوم بطريقة مثالية بخلق وإعادة خلق عوالم جديدة لنفسه، وبهذا يضع الطفل أسس بناء شخصيته. والأوضاع في أية مؤسسة ينقصها الكثير من هذه الإمكانيات، وحيث تسوء الأوضاع فمن المحتمل أن تنقصها كل الإمكانيات، فلا يشجع الطفل على النشاط الفردي لأن هذا مقلق للراحة، والأسهل أن يظل حيث هو وأن يعمل ما يطلب منه، وحتى لو حاول تغيير وسطه فإنه لا يفلح. ولما كانت اللعب تنقصهم فإنهم غالباً ما يظلون جامدين أو يهتزون بصورة جماعية عدة ساعات. وفوق كل ذلك فإن الألعاب الصغيرة المحبوبة والأعمال التي تبتكرها الأم والطفل للتسلية مثل المشاركة في الاستيقاظ وفي الغسل واللبس وتناول الطعام والاستحمام والعودة إلى النوم - كل هذا لا يتوافر في المؤسسات ـ فليس لدى الطفل في هذه الحالة فرصة تعلم وممارسة الأعمال التي تعد ركيزة الحياة، مثل المشي والكلام.
إن حالة الطفل الذي يتمتع بعلاقة طيبة بأمه لمدة عام أو عامين ثم يقاسي بعد ذلك من الحرمان ربما تكون مختلفة نوعاً ما، إذ أنه مر بالطور الأول للنمو الاجتماعي، وهو طور تكوين العلاقات، ولكن صدمة الحرمان تؤثر في الطور الثاني الذي يكون وعي الطفل بنقص قدرته على ممارسة شئون الحياة منعكساً على علاقته الوثيقة بأمه التي يتطلع دائماً لمساعدتها، وذلك على الرغم من أن تكوين شخصيته يسير في طريق النمو، فإذا ما كانت الأم معه أو قريبة منه، فإنه يستطيع أن يسيطر على بيئته وعلى نفسه، أما إذا أبعد عنها فجأة إلى مصحة أو مؤسسة فإنه يواجه أعباء يشعر بأنها مستحيلة، وفي مثل هذا الموقف تتبخر عادة مثل هذه المهارة التي كان قد اكتسبها، وفي هذه الظروف يرجع الأطفال إلى طرق أكثر طفولة في تفكيرهم وسلوكهم، ويجدون أنه من الصعب جداً التخلص منها ثانية.
ومن أسس نظرية المعرفة أيضاً ما يدل على أن الفرد لا يستطيع اكتساب مهارة، إلا إذا كان يحس بالصداقة نحو مدرسته وأن يكون على استعداد لأن يعرف نفسه لها. والآن، فإن هذه الحالة الإيجابية نحو الأم، تكون مفقودة في العاقل الحروم أو إن وجدت فإنها تكون ممزوجة بالحنق الشديد. ولا يزال موضوع معرفة السن المبكرة التي يسبب الحرمان فيها هذه الحالة العدائية موضع جدل، ولكنها تكون دون شك واضحة للجميع في العام الثاني. كذلك فليست هناك ملاحظة أكثر شيوعاً من تلك التي تتعلق بالطفل المحروم لمدة أسابيع أو أشهر قليلة إبان العام الثاني أو الثالث أو الرابع إذ أنه يفشل في معرفة أمه عند العودة إليها، ويظهر أنه من المحتمل أن يكون هذا في بعض الأحيان فشل حقيقي في التمييز، مبني على فقدان المقدرة على التجريد والتحقق من الأشخاص.
وفي أحيان أخرى فإنه لمن المؤكد أن يكون ذلك رفضا للتعرف، إذ بدلا من أن يعامل الأطفال والديهم على أنهم غرباء فإنهم يصرون على تجنبهم، فقد أصبح الوالدان في عداد المكروهين، ويعبر الأطفال عن هذا العداء بعدة صور ربما يكون منها الحنق والعنف، وربما يعبر عنه بالكلمات إذا كان الأطفال أكبر سنا، وجميع من عاملوا مثل أولئك الأطفال قد تعودوا على ملاحظة نزواتهم الجامحة ضد الوالدين اللذين يشعران بأنهم هجروها. وليست هذه الحالة ومثيلاتها غير ملائمة فقط لرغبتهم في المحبة والسلام، بل يترتب عليها الصدام الحاد والقلق والانهيار، كما أنها بلا شك عائق لمعارفهم الاجتماعية في المستقبل، ومع كلف الأطفال بوالديهم ورغبتهم في أن يصبحوا مثلهم فإن فيهم جانباً من طبيعتهم يحمل الكراهية لهم ويرغب في تجنب أي شيء يتصل بهم، وهذا هو سبب العدوان السيء أو انحراف السلوك بل ربما يكون سبب الانتحار الذي يكون نتيجة لنفس الصراع بين النواحي المختلفة للنفس البشرية. وفي حالات أخرى يقاسي الطفل كثيراً من الآلام من جراء تكوين علاقات تنقطع بعد ذلك، حتى أنه ليتردد مرات في منح عواطفه لأي شخص خوفاً من أن يعبث بها. وليس خوفه مقصوراً على عواطفه هو ولكنه خائف أيضاً أن يعبث هو بعواطف أناس جدد ربما يكون قد أحبهم إذ قد يلجأ إلى صب نقمته عليهم. يخشى الأطفال الكبار هذا أحياناً ويصرحون للطبيب النفساني بقولهم (من المستحسن ألا نكون متآلفين أكثر مما ينبغي لأننا نخشى بعدئذ أن نكرهك): وهذا نوع من أنواع الشعور الذي يدفع الطفل إلى الانطواء على نفسه، فالابتعاد عن الاتصال بالناس هو تجنب لخيبة المسعى في المستقبل وتجنب للانهيار التام الذي يتحمله الإنسان نتيجة كراهيته لشخص كان يعزه ويحتاج إليه - ويعتبر الانسحاب في هذه الحالة هو الحل الأوفق بين اثنين يتبادلان الكراهية، وهو طريق مسدود لسوء الحظ إذ يصبح نمو العلاقات بعد ذلك غير ممكن. ويجب على الفرد لكي يحرز التقدم في العلاقات البشرية أن يسير في طريق آخر، بحيث يتعلم كيف يتحمل شعوره المتناقض وكيف يحتمل القلق والانهيار اللذين يصحبانه. لكن التجربة قد أظهرت أنه إذا ما احتمى الإنسان في عدم الألم النسبي الناتج عن الانسحاب فإنه في هذه الحالة يكون محجماً عن تغيير طريقه، وأنه يتفادى بذلك اضطراب شعوره وبؤسه اللذين نجما عن محاولة تكوين العلاقات. ونتيجة لهذا فإنه يفقد مقدرته على إيجاد علاقات صادقة، وأن يعرف نفسه بمن يحبهم، بل إنه ليقاوم أية محاولة للصداقة تعرض عليه، وعندئذ سيصبح ذئباً منفرداً يتتبع غاياته دون التفات إلى الآخرين - لكن رغبته في المحبة وإن كانت مكبوتة إلا أنها ما زالت مستمرة وتظهر في سلوكه، كسرقته لما يمتلكه الغير، كما يشتعل فيه الشعور بالانتقام مؤدياً إلى مسالك غير اجتماعية تكون عنيفة أحياناً.
ليس للحرمان بعد سن الثالثة، أو الرابعة أي في الطور الثالث، نفس التأثير المخرب لنمو الشخصية والقدرة على التفكير المجرد وإنما يظهر تأثيره في الرغبة الملحة للمحبة، وفي البواعث الزائدة للانتقام التي تسبب صراعاً داخلياً حاداً، كما تسبب شقاء وحالات نفسية سيئة جداً.
وفي كلا الطورين الثاني والثالث تكون حاسة الطفل المحدودة عن الوقت وكذلك ميله إلى إساءة فهم المواقف سبباً في زيادة متاعبه زيادة كبيرة. ومن الصعب جداً على الكبار أن يتصوروا أن تقدير الطفل الصغير للوقت ضعيف، فقد يكون في وسع الطفل ابن السنوات الثلاث أن يذكر حوادث بضعة أيام مضت، وأن يتوقع حوادث يومين بعد ذلك، أما أفكاره عن الأسبوع الماضي أو الشهر الماضي أو عن الأسبوع القادم أو الشهر القادم فكلها أمور غير مفهومة لديه، وحتى بالنسبة إلى الطفل ذي السنوات الخمس أو الست تكون الأسابيع طويلة والشهور لا نهاية لها. هذا القياس المحدود للزمن يمكن أن يصبح مفهوماً لو أمكن التحقق تماماً من القنوط الذي يشعر به الطفل الصغير من تركه وحيداً في مكان غريب عليه. فمع أن الوقت في نظر أمه ليس محدوداً فقط بل إنه قصير نسبياً، فإنه يكون في نظره هو الأبدية نفسها. إن عدم المقدرة هذه على تصور وقت الخلاص فضلا عن الشعور بالعجز، هما سبب طغيان طبيعة القلق واليأس عليه، وربما يكون أقرب شيء إلى ذلك يمكن أن يتصوره الشخص الكبير هو أنه قد صدر عليه حكم بالسجن لمدة غير محددة.
هذه المقارنة سليمة ما دامت فكرة العقوبة نفسها بعيدة عن عقول كثير من الأطفال على أنها تعليل للأحداث. فقد شاهد جميع أطباء الأمراض العقلية والنفسية أطفالا يعتقدون اعتقاداً جازماً بأنهم لم يطردوا من بيوتهم إلا عقاباً على أنهم مذنبون. وهذا سوء فهم غالباً ما يصبح مخيفاً ومتعباً إذا لم يوضح. وفي أحيان أخرى يتخيل الأطفال أن أخطاءهم هي السبب في انهيار بيوتهم وتحدث عادة حيرة وارتباك بشأن سير الحوادث التي تؤدي بالطفل إلى عدم القبول أو الاستجابة إلى الوسط الجديد أو إلى القوم الجدد الذين يعنون به. كما أنه من الطبيعي ألا يتأثر الطفل الذي قاسى ألم الحرمان الشديد في بدء طفولته أو الذي لعوامل أخرى لا يستطيع إيجاد صلات مع الغير بهذه الطرق، بل إنه ليرحب بكل تغيير دون اكتراث. أما الطفل الذي أتيحت له فرصة إيجاد علاقات، فليس من السهل عليه تغيير ولائه.
حقاً إن كثيراً من المشاكل الناجمة عن نقل الطفل الأكبر سناً إلى بيت رعاية، ما نشأت إلا عن الفشل في تقدير من الصلة الوثيقة التي تربط الطفل بأبويه حتى ولو كانوا على درجة كبيرة من السوء فلم يمنحوه إلا قليلا من المحبة، وما لم تمح هذه الارتباكات، وما لم يحترم هذا الولاء، فسيظل الطفل قابعاً في ماضٍ مؤلم لا يكف عن محاولة العثور على أمه، كما سيظل رافضاً المواءمة بينه وبين الوضع الجديد، بل ورافضاً أن يتقبله.
يحدث هذا بصورة تدل على التبرم وعدم الهدوء، مع عدم المقدرة على أن يجعل نفسه أو أي شخص آخر سعيداً.
|
|
لصحة القلب والأمعاء.. 8 أطعمة لا غنى عنها
|
|
|
|
|
حل سحري لخلايا البيروفسكايت الشمسية.. يرفع كفاءتها إلى 26%
|
|
|
|
|
جامعة الكفيل: شراكتنا مع المؤسّسات الرائدة تفتح آفاقًا جديدة للارتقاء بجودة التعليم الطبّي في العراق
|
|
|