أقرأ أيضاً
التاريخ: 2023-07-28
1717
التاريخ: 18-10-2016
1260
التاريخ: 25-10-2016
2110
التاريخ: 2023-06-26
942
|
وللحب في قلوب العباد درجات ومراحل.
فمن الحب حب ضحل ضئيل ، لا يكاد يُحسّ به صاحبه.
ومن الحب ما يملأ قلب العبد ، ولا يترك في قلبه فراغاً لشأن آخر ممّا يلهو به الناس ويشغلهم عن ذكر الله.
ومن الحبّ ما لا يرتوي معه العبد من ذكر الله ومناجاته والوقوف بين يديه ، ولا يُبدَّد ظمأُ فؤادِه من الذكر ، والدعاء ، والصلاة ، والعمل في سبيل الله ، مهما طال وقوفه ، وعمله ، وصلاته بين يدي الله.
وفي الدعاء عن الامام الصادق (عليه السلام) : « سيّدي أنا من حبّك جائع لا أشبع، وأنا من حبّك ظمآن لا أرویٰ ، واشوقاه إلىٰ من يراني ولا أراه ».
يقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في المناجاة : « وغُلّتي لا يُبردها إلّا وَصلُك ، ولوعَتي لا يطفئها إلّا لقاؤُك ، وشوقي إليك لا يَبُلُّه إلّا النظرُ إليك » ([1]).
ومن حب الله (الوله) و (الهيام) ، ففي (زيارة أمين الله) : « اللّهم إنّ قلوب المخبتين إليك والهة » ([2]).
وفي دعاء الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) : « إلهي بك هامت القلوب الوالهة .. فلا تطمئنّ القلوب إلّا بذكراك ، ولا تسكن النفوس إلّا عند رؤياك » ([3]).
وهذه خاصّة القلوب الوالهة والهائمة لا تسكن ولا تطمئن إلّا بذكر الله.
ومن أروع الحب وأبلغه ما تجده في كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الدعاء الذي علّمه لكميل بن زياد النخعي رحمه الله والمعروف بدعاء كميل :
« فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربّي صبرت علىٰ عذابك فكيف أصبر علىٰ فراقك ؛ وهبني صبرتُ علىٰ حرّ نارك فكيف أصبر عن النظر إلىٰ كرامتك ، أم كيف أسكن في النار ورجائي عفوك ؟! » ([4]).
وهو من أروع لفتات الحب وأصدقها. فهب أنّ العبد يصبر علىٰ عذاب نار مولاه ، فكيف يصبر علیٰ هجره وفراقه وغضبه ؟!
والمحب قد يتحمّل عقوبة مولاه ، ولكن لا يتحمّل غضبه ومقته له ، وقد يتحمّل النار وهي من أقسىٰ العقوبات ولكن لا يتحمّل هجر مولاه وفراقه.
وكيف يسكن العبد في نار جهنم وهو يرجو أن يعطف عليه مولاه وينقذه منها ؟
وهذان (الحب) و (الرجاء) اللذان لا يفارقان قلب العبد ـ وهو يصلىٰ في نار جهنم بغضب من الله تعالىٰ ـ من أروع صور هذا الدعاء الجليل.
فقد يحبّ العبد مولاه ، وهو ينعم بنعمته وفضله ، وهو بالتأكيد من الحب ، ولكن الحب الذي لا يزيد عليه حب أن لا يفارق الحب والرجاء قلب العبد وهو يصلىٰ بنار عذاب مولاه.
يقول الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) في دعاء الأسحار الّذي علّمه لأبي حمزة الثمالي رحمه الله : « فوعزّتك لو انتهرتني ما برحت من بابك ولا كففت عن تملّقك لما اُلهم قلبي من المعرفة بكرمك وسعة رحمتك. إلىٰ من يذهب العبد إلّا إلىٰ مولاه ؟! وإلىٰ من يلتجئ المخلوق إلّا إلىٰ خالقه ؟! إلهي لو قرنتني بالأصفاد ، ومنعتني سيبك من بين الأشهاد ، ودللت علىٰ فضائحي عيون العباد ، وأمرت بي إلیٰ النار ، وحلت بيني وبين الأبرار ما قطعت رجائي منك ، وما صرفت تأميلي للعفو عنك ، ولا خرج حبّك من قلبي » ([5]).
وهذا هو أصدق الحب ، والرجاء ، والأمل ، وأنقاه وأصفاه ، لا يكاد يخرج من قلب العبد حتىٰ لو قرنه مولاه بالأصفاد ، ومنعه سيبه من بين الأشهاد ، ودلّ علىٰ فضائحه عيون العباد.
ولنتابع استعراض هذه الصور الرائعة من الحب والرجاء التي يرسمها الامام علي (عليه السلام) في الدعاء الجليل « دعاء كميل » : « فبعزّتك يا سيدي ومولاي اُقسم صادقاً لئن تركتني ناطقاً لأضجنَّ إليك بين أهلها ضجيج الآملين ، ولأصرخنّ إليك صراخ المستصرخين ، ولأبكينّ عليك بكاء الفاقدين ، ولاُنادينك اين كنت يا وليّ المؤمنين ؛ يا غاية آمال العارفين ، يا غياث المستغيثين ، يا حبيب قلوب الصادقين ، ويا إله العالمين. أفتراك سبحانك يا إلهي وبحمدك تسمع فيها صوت عبد مسلم سجن فيها بمخالفته وذاق طعم عذابها بمعصيته ، وحبس بين اطباقها بجرمه وجريرته ، وهو يضجّ إليك ضجيج مؤملٍ لرحمتك ، ويناديك بلسان أهل توحيدك ، ويتوسل إليك بربوبيتك يا مولاي فكيف يبقیٰ في العذاب وهو يرجو ما سلف من حلمك ، أم كيف تؤلمه النار وهو يأمل فضلك ورحمتك ، أم كيف يحرقه لهيبها وأنت تسمع صوته وتریٰ مكانه ، ام كيف يشتمل عليه زفيرها وأنت تعلم ضعفه ، أم كيف يتغلغل بين أطباقها وأنت تعلم صدقه ، أم كيف تزجره زبانيتها وهو يناديك يا ربه ، أم كيف يرجو فضلك في عتقه منها فتتركه فيها. هيهات ، ما ذلك الظن بك ، ولا المعروف من فضلك ، ولا مشبه لما عاملت به الموحّدين من برّك وإحسانك ، فباليقين أقطع لو لا ما حكمت به من تعذيب جاحديك وقضيت به من إخلاد معانديك ، لجعلت النار كلّها برداً وسلاماً ، وما كان لأحدٍ فيها مقراً ولا مقاماً » ([6]).
يقول أحدهم : إن خصلة البطولة والشجاعة خصلة أصيلة في علي (عليه السلام) ، لا تفارقه حتىٰ في الدعاء بين يدي رب العالمين. فها هو في الدعاء الذي علّمه لكميل يتصوّر أن النار قد احتوت العبد المذنب ، وأحاطت به من كل جانب ، فلا يسكت ولا يسكن ولا يستسلم للعذاب والعقوبة ، كما هو مقتضىٰ الحال فيمن أطبق عليه العذاب واحتوشه زبانية النار ، وإنما يضج ويبكي ويصرخ ويهتف وينادي.
ألا تراه كيف يعبر عن هذه الحالة في دعاء الله ؟
« فبعزتك يا سيدي ومولاي اُقسم صادقاً لئن تركتني ناطقاً لأضجن إليك بين أهلها ضجيج الآملين ، ولأصرخن إليك صراخ المستصرخين ، ولأبكين عليك بكاء الفاقدين، ولاُنادينّك اين كنت يا ولي المؤمنين ».
قلت : لمْ تصب في تذوق كلام علي (عليه السلام) ، ولو كان (عليه السلام) بهذا الصددلم يقل في مقدمة هذا الخطاب « لو تركتني ناطقاً ». أما أنا فأتصور الحالة النفسية لعلي (عليه السلام) في هذه الكلمات بين يدي الله تعالىٰ حالة الطفل الصغير الذي لم يعرف في دنياه غير عطف اُمه ، ورحمتها ، وحبها ملجأً وملاذاً. فكلما داهمه أمر أو أضرّ به شيء لجأ إلىٰ اُمه ، واستغاث بها واستنجدها ، فإذا ارتكب مخالفة وتعرض لعقوبة من اُمه ، وأراد أن يلجأ إلىٰ طرف يحميه من عقوبتها لم يجد ملاذاً وملجأً غيرها ، فيحتمي بها ويستنجدها ويستغيث ويلوذ بها ، كما كان يفعل عندما يصيبه الأذىٰ من غيرها.
وهذا هو حال علي (عليه السلام) في هذا الدعاء. إنّه تعلَّم بقلبه الكبير ، واُفقه الواسع الرحب أن يلجأ إلىٰ الله ، ويستغيث به ، ويلوذ به ، ولا يعرف غيره ملجأً ولا ملاذاً.
فهو سبحانه وتعالىٰ ، ملجأُه وملاذه الوحيد الذي لا يعرف غيره. فإذا تصوّر أن الله تعالىٰ قد أحاطه بعذابه وعقوبته ([7]) فلا يتردد لحظة واحدة أن يلجأ إلىٰ الله ، ويلوذ به ، ويستنجد به ، ويستغيث به كما كان يفعل كل مرة.
أو ليس هو سبحانه ملاذه وملجأه الوحيد ؟ فلماذا يتردد هذه المرة أن يستنجد ويستغيث به ؟!
يقول زين العابدين علي بن الحسين (عليه السلام) في تصوير هذا المعنیٰ في المناجاة :
« فإن طردتني من بابك فبمن ألوذ ؛ وإن رددتني عن جنابك فبمن أعوذ. إلهي هل يرجع العبد الابق إلّا إلىٰ مولاه ؛ أم هل يجيره من سخطه أحد سواه » ([8]).
ويقول (عليه السلام) في الدعاء الذي علّمه لأبي حمزة الثمالي : « وأنا يا سيدي عائذ بفضلك هارب منك إليك » ([9]).
ويقول علي بن الحسين (عليه السلام) في نفس الدعاء : « إلىٰ من يذهب العبد إلّا إلىٰ مولاه : وإلىٰ من يذهب المخلوق إلّا إلىٰ خالقه » ([10]).
والهروب من الله إلىٰ الله من رقائق المعاني والأفكار في علاقة العبد بالله ، وهذه المشاعر التي يصورها علي (عليه السلام) في علاقة العبد بالله هي من أرقّ مشاعر (الحب) و (الرجاء) ، وأصدقها في نفوس المحبين.
وعلي (عليه السلام) لا يذهب مذهب الشعراء في هذه الفقرة من الدعاء في الاستعانة بالخيال في إكمال رسم هذه اللوحة الرائعة من الدعاء ، وإنما هو صادق كل الصدق في التعبير عن إحساسه وشعوره هذا بين يدي الله.
ولذلك فهو يعقب هذه اللوحة من (استغاثة العبد بربه) بلوحة اُخرىٰ في نجدة الله لعبده.
فليس يمكن فيما نعرف من رحمة الله وفضله أن الله تعالىٰ يخيب هذا الإحساس الصادق والصافي والنقي من العبد في الحب والرجاء ، فيردّ حبه ويخيّب رجاءه ، يقول (عليه السلام) : « فكيف يبقیٰ في العذاب وهو يرجو ما سلف من حلمك ؛ أم كيف تؤلمه النار وهو يأمل فضلك ورحمتك ؛ أم كيف يحرقه لهيبها وأنت تسمع صوته وتریٰ مكانه ؛ أم كيف يشتمل عليه زفيرها وأنت تعلم ضعفه ؛ أم كيف يتغلغل بين أطباقها وأنت تعلم صدقه ؛ أم كيف تزجره زبانيتها وهو يناديك يا ربه ».
فهل يمكن أن تقوده الزبانية إلىٰ النار وتزجره فيها ، وهو ينادي الله ، ويهتف به ، ويلوذ به بلسان أهل توحيده ؟ إنّ ما سبق من حلمه وفضله في حياتنا ينفي ذلك نفياً قاطعاً مطلقاً. والإمام يستدلّ بحلم الله علىٰ حلمه وفضله علىٰ فضله : « وهو يرجو ما سلف من حلمك ».
والإمام (عليه السلام) قاطع في هذا الجانب من القضية « الخط النازل » في علاقة الله بعبده كما كان قاطعاً وصريحاً في الطرف الآخر من القضية « الخط الصاعد » في علاقة العبد بالله.
فكما كان قاطعاً وصريحاً أنه حتىٰ في النار لا يفارقه حبه ورجاؤه ، ولن يستبدل بالله تعالىٰ ملجأً وملاذاً. كذلك هو قاطع وصريح أن الله تعالىٰ لا يخيّب مثل هذا الحب والرجاء الصادقين في قلب العبد.
تأمّلوا في هذا الجزم والقطع والصراحة في كلام علي (عليه السلام) : « هيهات ماذلك الظن بك ، ولا المعروف من فضلك ، ولا مشابه لما عاملت به الموحّدين من برّك وإحسانك ، فباليقين أقطع لو لا ما حكمت به من تعذيب جاحديك ، وقضيت به من إخلاد معانديك ، لجعلت النار كلّها برداً وسلاماً ، وما كانت لأحدٍ فيها مقراً ولا مقاماً » ([11]).
وهذا الجزم والقطع في علاقة العبد الذي أحب مولاه « الصاعدة » وعلاقة المولىٰ بعبده (النازلة) نجده في مواضع اُخرىٰ من كليات علي (عليه السلام). فها هو يخاطب الله تعالىٰ في مناجاته المشهورة : « إلهي وعزتك وجلالك لقد أحببتك محبةً استقرّت حلاوتها في قلبي ، وما تنعقد ضمائر موحديك علىٰ أنك تبغض محبيك » ([12]).
وفي مناجاة الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) : « إلهي نفسٌ أعززتها بتوحيدك كيف تذلّها بمهانة هجرانك ؛ وضمير انعقد علىٰ مودّتك كيف تحرقه بحرارة نيرانك » ([13]).
ويقول (عليه السلام) أيضاً في دعاء الأسحار من شهر رمضان الذي علّمه لأبي حمزة الثمالي رحمه الله : « أفتراك يا رب تخلف ظنوننا ، أو تخيّب آمالنا. كلّا يا كريم ، فليس هذا ظننا بك ، ولا هذا طمعنا فيك. يا رب إنّ لنا فيك أملاً طويلاً كثيراً ، إن لنا فيك رجاءً عظيماً ... » ([14]).
[1] بحار الأنوار 94 : 149.
[2] مفاتيح الجنان ، دعاء أبي حمزة الثمالي.
[3] بحار الأنوار 94 : 151.
[4] مفاتيح الجنان.
[5] مفاتيح الجنان ، دعاء أبي حمزة الثمالي.
[6] مفاتيح الجنان ، دعاء كميل.
[7] نحن نستعير هنا كلمات علي (عليه السلام) نفسه، ولو أنه لم يقل ذلك لم نجرؤ أن نتحدث عن العلاقة بينه وبين الله تعالىٰ بهذه الطريقة.
[8] بحار الأنوار 94 : 142.
[9] بحار الأنوار 98 : 84.
[10] بحار الأنوار 98 : 88.
[11] مفاتيح الجنان : دعاء كميل.
[12] مناجاة أهل البيت 68 ، 69.
[13] بحار الأنوار 94 : 143.
[14] مفاتيح الجنان ، دعاء ابي حمزة الثمالي.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|