أقرأ أيضاً
التاريخ: 18-5-2016
2357
التاريخ: 23-11-2014
1999
التاريخ: 17-5-2016
15339
التاريخ: 13-11-2015
1781
|
إنَّ لكلِّ كائنٍ حيٍّ احتياجاتٍ من أجل استمرار حياته ، أو بتعبيرٍ آخر إنَّ النشاطات الحياتية تتطلب مواداً تولدُ الطاقةَ يجب أن تصل إلى الكائن الحيِّ دائماً ، ويُطلق عليها بالاصطلاح (التلافي) ، وتعويض ما يتحلل.
ويجب أن تكون هذه المواد ملائمة تماماً لذلك المخلوق من جميع الجوانب كي يتمكن من الاستفادة منها بُيسر.
إنَّ نظامَ الرزق في عالم الخَلق ، وكيفية إعدادهِ ، ثم كيفية وضعهِ في متناول كلِّ موجود ، وكذلك الاستفادة منها ، نظامٌ جميل ودقيقٌ للغاية ، ومليءٌ بالأسرار أحياناً ، حيث يختفي فيه جمع من الآيات المهمّة لتوحيد اللَّه وعلمه وقدرته ، لهذا استند عليه القرآن الكريم مراراً في مختلف الآيات.
... نعود إلى القرآن الكريم ونتأمل خاشعين في الآيات الآتية :
1- {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيرُ اللَّهِ يَرزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآ إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤفَكُونَ}. (فاطر/ 3)
2- {اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحِييْكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَّنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِّنْ شَىءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالىَ عَمَّا يُشْرِكُونَ}. (الروم/ 40)
3- {أَمَّنْ يَبدَؤُا الخَلّقَ ثُمَّ يُعِيْدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإِلهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}. (النمل/ 64)
4- {أَمَّنْ هَذَا الَّذِى يَرزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَّجُّوا فِى عُتُوٍّ وَنُفُورٍ}. (الملك/ 21)
5- {أَوَلَمْ يَرَوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ ويَقْدِرُ انَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤمِنُونَ}. (الروم/ 37)
6- {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِيْنُ}. (الذاريات/ 58)
7- {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ إِلَّا عَلىَ اللَّهِ رِزقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِى كِتَابٍ مُّبِينٍ}. (هود/ 6)
8- {قُلْ مَنْ يَرْزقُكُمْ مِّنَ السَّمواتِ والأرْضِ قُلِ اللَّهُ وإنَّا أَو إِيَّاكُمْ لَعَلىَ هُدىً أو فِى ضَلالٍ مُّبْينٍ}. (سبأ/ 24)
9- {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّماءِ مَآءً مُّبَارَكاً فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيْدِ* وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ * رِّزْقاً لِلْعِبَادِ}. (ق الآيات/ 9- 11)
10- {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلىَ طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا المَآءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وقَضْباً * وَزَيتُوْناً وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَّتَاعَاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ}. «1» (عبس الآيات/ 24- 32)
شرح المفردات :
«الرِزْق» : كما يقول الراغب في كتاب «المفردات» يعني البذل والعطاء المستمر ، دنيوياً كان أو أخروياً ، كما يُقال للحظ والنصيب رزقاً ، وكذلك للمواد الغذائية التي تصل إلى جوف الإنسان.
يقول «ابن منظور» في «لسان العرب» أيضاً : «الرزق» نوعان : ظاهر للأبدان كالأقوات ، وباطن للقلوب والنفوس ، كأنواع المعارف والعلوم.
وورد في كتاب «التحقيق» أيضاً أنَّ الرزقَ يَعني «العطاء الخاص الذي يناسبُ متطلبات وضع المقابل ويطابق حاجته لاستمرار حياته».
وفي القرآن الكريم استُعملَ في كلا المعنيين فنقرأ قوله تعالى : {هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُوْلًا فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وكُلُوا مِنْ رِّزْقِهِ}. (الملك/ 15)
وورد قوله تعالى في خصوص الشهداء : {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}. (آل عمران/ 169)
إلّا أنّه يُستخدم غالباً بخصوص الأرزاق المادّية ، بالرغم من أنَّ استعماله بخصوص الأرزاق المعنوية ليس قليلًا أيضاً ، وحيث إنّ اللَّه تعالى واهب جميع النعم المادّية والمعنوية فانَّ لفظ «الرزّاق» من صفاته الخاصة «2».
و«الطعام» : له معنىً مصدري واسم مصدري معاً ، أي أنّه يُطلقُ على «أكل الغذاء» ، وكذلك على نفس «الغذاء» ، وقد يُستعمل هذا اللفظ بخصوص الحنطة ، كما ورد في الرواية إنَّ النبي صلى الله عليه وآله أمرَ بإعطاء صاع من «الطعام» أو صاع من «الشعير» (وهنا استُخدمَ الطعام بمعنى الحنطةِ في مقابل الشعير).
وذَكر صاحب «لسان العرب» أنَّ الطعامَ اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يؤكل ، إلّا أنَّه هو والرّاغبُ في المفردات صَّرحا بانَّ هذا اللفظ قد يُستخدمُ للمشروبات أيضاً كما في : {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّى وَمَنْ لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنّى}. (البقرة/ 249)
يقول الخليل بن احمد في كتاب «العين» أيضاً : يقالُ الطعامُ في كلام العرب للبّر خاصة ، (إلّا أنّه يعود على ما يَبدو إلى أنَّ الطعام الأساس غالباً ما يكون من الخبز الذي يُصنعُ بدورهِ من الحنطة ، وإلّا فانَّ الكثير من أرباب اللغة ذكروا أنَّ للطعام مفهوماً عاماً) «3» ، وقال بعض اللغويين إنَّ الطعام يعني التمرَ أيضاً ، ويبدو أنَّ هذا الكلام يعود إلى أنَّ التمر كان هو الطعام الأساس في ذلك الزمان وتلك البيئة.
الكل يتنعم بهذه المائدة عدواً كان أم صديقاً :
لقد قلنا مراراً أنَّ مشركي العرب لم يعتبروا الأصنامَ كخالقٍ لهم أبداً ، إلّا أنّهم كانوا يعتقدون أنَّ الاوثان لها يدٌ في تدبير هذا العالم وحل مشكلات الناس فيبذلون العطاء لها ، لهذا يعتبرونها شفيعةً لدى اللَّه ، أو بسبب إناطة مسؤولية تدبير العالم في هذه الجوانب لها.
لذلك فقد تمّ التأكيد في الآيات القرآنية المذكورة على هذه المسألة بتعابير مختلفة من أجل رد هذه العقائد الخرافية ، والتأكيد بأنَّ الخالقَ والرازقَ واحدٌ ، وجميع أنواع الأرزاق تأتي من ناحيته.
من البديهي إذا ما دُعيَ الإنسان إلى مائدةٍ وكان فيها من الأطعمةِ ما لذَّ وطابَ ، أن يتقدمَ بالشكر قبل كل شيء إلى صاحب هذه النِعَم ، لذلك فهو يذهب وراء صاحب تلك المائدة لمعرفته ، فهلْ هناك مائدةٌ أوسعُ من مائدة الخالق؟ وهلّا يجب معرفة صاحب هذه المائدة التي يتنَعمُ بها العدو والصديق؟ وتقديم الشكر له لعطاياه التي غَمَرْتنا ظاهراً وباطناً من أعلى رؤوسنا وحتى أخمص أقدامنا؟
بناءً على ذلك فانَّ أهمَّ الدوافع «لمعرفة اللَّه» وكذلك أحد الطرق لمعرفته هي هذه الأرزاق.
لذلك خاطبَ القرآن في أول آية من البحث كافةَ النّاس قائلًا : {يَا أيُّها النَّاسُ اذكُروا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ». «هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ}.
فهو يُرسلُ لكم من السماء نور الشمس الذي يهبُ الحياة ، وقطرات المطر التي تُحيي الأرض ، والنسيم الذي يُنمي الأرواح ، ومن الأرض يُنبتُ لكم أنواع النباتات والفواكه والمواد الغذائية ، وفي باطنها أنواع المعادن والثروات.
مع هذا يجب أنْ تعرفوا أنْ لا معبودَ سواه ، وهو وحده الجدير بالعبادة ، فكيف تنحرفون عن الصراط المستقيم وتجعلون هذا الخالق العظيم واهب الرزق وراء ظهوركم ، وتسجدون
للأصنام : {لَآ إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤفَكُونَ} «4».
ويستند في الآية الثانية على أربعةِ أمورٍ لإثبات توحيد الربوبية : «وحدانية الخالق» ، وكذلك التوحيد في العبادة ، وهي : خلق الإنسان ، ورزقُهُ ، ومَوتُهُ ، وإعادة احيائه ، وقد تمَّ تعريفها من قبل اللَّه تعالى ، لأنَّها جميعاً ذات نظامٍ دقيقٍ حيث تُبرهنُ أنّها تصدرُ عن مبدأ العلم والقدرة ، فيقول : {اللَّهُ الَّذِى خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيْتَكُمْ ثُمَّ يُحْيِيْكُمْ}. {هَلْ مِنْ شُركَائِكُمْ مَّنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِّنْ شَىءٍ} بناءً على ذلك يجب أنْ تُسلِّموا لنزاهتهِ وعلوِّهِ عمّا يُشركون به : {سُبحَانَهُ وَتَعَالىَ عَمَّا يُشرِكُونَ}.
فحيثما نعلم أنَّ خلقَنا وموتنا وحياتنا بيده ، فلا معنى بأنْ نلهثَ وراء غيره ، ونخضع ونُسَلِّمَ لسواه.
والجدير بالذكر أنَّ الخلقَ يشملُ الرزقَ والموت والحياة ، لأنَّ كافة أنواع الرزق تعود إلى خلقِ اللَّه تعالى ، وكذلك فإنّ الحياة جزءٌ من الخلق وتعقبها الأرزاقُ والموت ، وعليهِ فانَّ الاستناد إلى هذهِ الجوانب الثلاثة ليس لكونها شيئاً منفصلًا عن الخلق ، بل لأنّها في الحقيقة توضحُ مصاديقَ مهمّةً عن ذلك الموضوع العام.
وهذه النكتة جديرةٌ بالتأمْلِ أيضاً ، إذ بالرغم من أنَّ الإحياء بعد الموت لم يَكن مقبولًا لدى مشركي العرب ، إلّا أنَّ هذه الآية تُعتبر إشارة لطيفةً لهذا الاستدلال ، وهو أنَّ الخلقَ الأول ونعمة الحياة في بداية الأمر دليلٌ واضحٌ على إمكانية تكراره يوم القيامةِ والبعث ، بل لو تأمّلنا جيداً فانَّ مسألة الموت والحياة مستمرةٌ في هذا العالم ، فوجود الإنسان يعتبر ساحةً للموت والحياة في كلٍّ عامٍ وشهر بل في كلِّ يوم وساعة ، تموت الملايين من الخلايا ، وتحلُ مكانها ملايينُ اخرى ، فتتجسدُ مسألةُ المعاد باستمرار في هذه الدنيا ، إذن ما العَجَبُ في أنْ يَرجعَ الامواتُ إلى الحياة من جديد في الآخرة؟
وفي الآية الثالثة حيث جاءت في ترتيب آيات «التوحيد» إذ تُحصي آياتِهِ المختلفة في السماء والأرض ، تمّ الاستناد أيضاً إلى ثلاث مسائل هي : بداية الخلق ، ورجوعه ، والرزق والاقوات التي تصل الإنسان من السماء والأرض فيقول : أيُّهما أفضل ... مَنْ تعبدون مِنْ دون اللَّه أم مَنْ بدأ الخلقَ ثم يُعيدُه ؟ {أَمَّنْ يبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ} «5» {وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}.
ويضيف في النهاية «أالَهٌ مَعَ اللَّه».
«قُلْ : لَقَد جِئتُكم بدليلٍ عَلى ربوبيّتهِ فَهَاتُوا دَليلَكُم إِنْ كُنتُم صَادِقينَ».
{قُلْ هَاتُوا بُرهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
وبتعبير آخر : «إنَّ هذه البركات تصدرُ عن الذات الإلهيّة المقدّسة ، أمّا هذه الأصنام فهي لا تملكُ شيئاً كي تستحق العبادة».
والتعبير ب «خَيْر» أي (أفضل) الذي حُذِفَ من هذه الآية والذي يتجلّى بقرينةِ الآيات السابقة ليس المقصود منه أنّ للأصنام خيراً وبركات قليلة قياساً إلى خيرِ اللَّه وبركاتهِ بل إنَّ هذا التعبير يُستعملُ أيضاً في الحالات التي لا يكون هنالك خيرٌ في الفعل أبداً ، فمثلًا يقال لك امتنع عن تناول طعام معين كي تحافظ على صحتك أو لَيسَ الصحةُ أفضل من المرض ؟
مِنَ المسلَّم به أنْ لا فضل في المرض بحيث تكون الصحةُ أفضلَ منه ، ونقرأ في القرآن الكريم أيضاً : {وَلَعَبْدٌ مُّؤمِنٌ خَيْرٌ مِّنْ مُّشْرِكٍ}. (البقرة/ 221)
ويقول في مكانٍ آخر : {قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ}. (الفرقان/ 15)
وخلاصة الأمر أنَّ لفظ «خير» بالرغم من أنّه من «افعل التفضيل» ويجب أنْ يستعملَ في مورد شيئين أحدهما حَسَنٌ والآخرُ أحسن منه إلّا أنّ الهدف في أغلب الحالات هو اغراقُ المخاطبِ في التفكر وجعلَهُ يشعرُ بأنَّ ما يختاره ليسَ منشأً لأي خيرٍ ومنفعة.
إنَّ الاستناد إلى قضية المعاد بالرغم من عدم إيمان المشركين بها إنّما هو لأجل كون الخلق أول دليل على المعاد.
وطُرحَ هذا المعنى في الآية الرابعة بنحوٍ آخر ، إذ يقول : {أَمَّنْ هَذَا الَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} «6».
تلميحاً إلى أنّه لو امتنعت السماء عن المطر بأمرِ اللَّه ، ولم ينمُ نباتٌ ما ، وعمَّ الجدب والقحطُ كلَّ مكان ، فهل تستطيع هذه الأصنام أو أيُّ موجودٍ آخر أن يرزقكُم ويُطعِمكُم؟ ولو انقطعت عنكم الأرزاق المعنوية والروحية بأمرٍ من اللَّه ، فهل مِنْ هادٍ يرشدكم؟ ينبغي القول أنَّ الجواب على كل هذه التساؤلات سلبيٌ ، فكيف اذن يتمادى الوثنيون في عملهم القبيح هذا؟ فهلْ منْ سبب هنا سوى العناد والتعصب ؟
لهذا يقول في خاتمة الآية : «بَلْ لَّجُّو فِى عُتوٍّ وَنُفُوْرٍ» «7».
وفي الآية الخامسة استند إلى أمرٍ آخر يتعلق بمسألةِ الأرزاق ، إذ يؤكد أنَّ بسط وقبضَ الرزق هو بمشيئة اللَّه ، فيقول : {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّه يَبْسُطُ الِّرزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}؟!
صحيحٌ أنَّ سعيَ ومثابرة الناس والمؤهلات والاستحقاقات تؤثرُ في تحصيل الرزق.
وصحيحٌ أنَّ العالَم ، عالم الأسباب ، وغالباً ما يستفيد المثابرون أكثر من الكسالى في تحصيل الأرزاق.
إلّا أننا نرى استثناءات كثيرة قبالة هذه القاعدة ، فقد نرى أناساً مُقعدين قد فُتحت أمامهم أبوابُ الرزق ، وبالعكس فقد نرى مثابرين ومستحقين أينما يولّوا وجوههم فانَّ الأبواب مغلقة أمامهم ، كما يقول الشاعر العربي المعروف :
كم عاقلٍ عاقلٍ أَعْيَتْ مذاهبُهُ وجاهلٍ جاهلٍ تلقاهُ مرزوقاً
وهذا من أجل أن لا يضيع الإنسان في عالم الأسباب وليعلمَ أنّ وراء هذا العالم ، يداً قادرةً تديرُهُ وتعلو قدرتها فوق جميع القدرات ، وكي لا يصيبَ الغرورُ المتنعمين والمستفيدين بسبب إمكانياتهم ، فيظلموا ويطغوا ، وحتى لا ييأس ذوو الإمكانيات المحدودة ، لأَنَّه من الممكن أن يتغيَر الوضعُ في كل لحظةٍ حسبَ الإرادة والمشيئةِ الإلهيّة.
وبتعبير آخر : من أجل توفر الرزق والقوت لكل إنسان تتظافر عشرات الأسباب أحدها سعي الإنسان ومثابرته ، حتى أنَّ اللَّه قد منح القدرة على السعي والمثابرة ودوافعهما أيضاً.
وهنا يتمكن الإنسان من فهم نفحات من الذات الإلهيّة المقدّسة من خلال مسألة سعة الرزق وضيقه ، فقد قال في نهاية الآية : {إِنَّ فِى ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} اولئك الذين لديهم استعدادٌ لقبول الحق بسبب إيمانهم ، ويتعرّفون أكثر على الذات المقدّسة من خلال مشاهدة هذه الميادين يومياً.
وفي الحقيقة أنَّ الأية أعلاه قد تكرر مضمونُها ومحتواها عشر مرات في القرآن الكريم تشبه ما نُقل عن أمير المؤمنين عليه السلام حيث يقول : «عَرَفْتُ اللَّه سبحانه بفسخ العزائم وحلِّ العقود ونقضِ الهِمَمِ» «8».
وتشابه ما نُقلَ عن بعض المفسِّرين أنَّ أحدَ العلماء سُئل عن الدليل على وحدانية اللَّه؟
فقال : «ثلاثة ادلّة : ذلُّ اللّبيب وفقرُ الأديب وسُقمُ الطبيب» «9».
والتعبير ب «اوَلَمْ يَرَوا» إشارة إلى أنْ لو تمعنَ الإنسان قليلًا في حياة الناس لرأى هذه الاختلافات جيداً.
ولابدّ من ذكر هذه النكتة وهي أنَّ إرتباط سعة وضيق الرزق بالإرادة الإلهيّة يعني الإرادة الممتزجة مع الحكمة وإلّا ليس للَّه مشيئةٌ بدونِ حكمه سواء كان هنا أم في باقي الموارد.
علماً أنَّ ضيق الرزق في هذه الآية (والآيات العشر) المذكورة لا يعني مُطلقَ الحرمان من الرزق ، حتى يتعارض مع الآيات الآتية التي تقول : {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ إِلَّا عَلى اللَّهِ رِزْقُهَا}. (هود/ 6)
بل المقصود قلةُ الرزق وفي نفس الوقت وجود الحد الادنى والكافي منه.
وفي الآية السادسة بعد أن يؤكّد على هذه النكتة وهي : أنَّ اللَّه لا يحتاجُ عبادَهُ وحينما يدعوهم إلى عبادته فليس بسببِ حاجته فيقول تعالى : {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَاقُ ذُو القُوَّةِ الْمَتِيْنُ}. (الذاريات/ 56- 57)
و«الرزّاق» : صيغةُ مبالغةٍ تعني كثير العطاء ، وهذا يصدقُ بخصوص ذاته المقدّسة فقط ، حيث جلست الكائنات الحية في كلِّ زاويةٍ من هذا العالم العريض : على الجبال ، في بطون الصخور ، في أعماق الوديان ، في قاع البحار ، وباختصارٍ في كلِّ زاويةٍ وجانبٍ من هذا العالم العظيم على مائدة احسانِه ، متنعمة بامداداته وفيضه.
وبما أنَّ مثل هذا العطاء والبذل الواسع وغير المحدود يحتاج إلى قدرةٍ وقوةٍ تامةٍ ، فقد ذَكر بعد هذا وصفين آخرين : «ذُو القُوةِ» و«الْمَتِيْنُ» وهي من مادة «متن» وتعني في الأصل العَضلتين اللتين تحيطان بالعمود الفقري ، وتقومان بشَدِّ عضلات ظهر الإنسان من أجل انجاز الأعمال الشاقة ، وهنا كنايةٌ عن القوة والاقتدار الخارق.
وفي الواقع أنَّ هذه الجملة وصفٌ للذات الإلهيّة المقدّسة في بذل الأرزاق ، لأنَّ هذه الصفة تخصُهُ فقط ، وأمّا الآخرون فكل ما يملكون فهو منه جلَّ وعلا ، وإذا استعمل وصف «الرزاق» لبعض الناس أو للأسباب الطبيعية فهو يعني في الحقيقة الواسطة في انتقال فيوضاتهِ وليس الفّياض وخالق النِّعم.
واستند في الآية السابعة إلى موضوعٍ آخر وهو شمول رزق اللَّه لكلِّ الدّواب ، هذا العمل الذي لا يمكن حصوله بدونِ احاطةٍ وعلمٍ كامل بجميع موجودات العالم ، فلابدّ أن يعرفَ المُضيِّفُ عددَ ضيوفهِ سلفاً ، وكذلك مقدار حاجاتهم وأذواقهم ، كي يتمكنَ من تقديم الطعام الملائم لهم ، لهذا يقول في هذه الآية : {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ الَّا عَلىَ اللَّهِ رِزْقُهَا}.
ويُشير هذا التعبير بجلاء إلى أنَّهُ قد تكفَّلَ برزق عباده ، كي يَحدَّ من حرص وطمع بعض الناس واضطراب وقلق بعضهم الآخر من جانب ، ومن جانبٍ آخر يبرهنُ على أنّه لو شوهدت شحةٌ في الأرزاق ، فهي مفتعلة ومن المؤكد أنّها حصلت نتيجة لظلم جماعةٍ من الناس وهضم الحقوق ، والاحتكار وافتعال الأزمات الكاذبة أو في النهاية بسبب عدم السعي للاستفادة من هذه المائدة الإلهيّة المبسوطة ، تلك هي الأسباب التي يؤدّي كلٌّ منها أو مجتمعة ، إلى حرمانِ بعض الناس من رزقهم وقوتهم ، وإلّا فانَّ اللَّه قد ضمنَ رزقَ كلّ الدَّواب.
وبما أنَّ ايصالَ الرزق لهم يُعدّ متعذراً بدونِ علمٍ كاملٍ بأماكنهم وخصائصهم فهو يقول في سياق الآية : {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا ومُسْتَوْدَعَهَا}.
وكلُّ ذلك مسجّلٌ في كتابٍ جلّيً (هو اللوح المحفوظ ، لوح علم الخالق) {كلٌّ فِى كِتابٍ مُبِيْنٍ}.
و«دابَّة» : من مادة «دبيب» «وتعني المشي البطيء» ويُطلقُ هذا اللفظ (دابّة) على البهائم والحيوانات والحشرات ، بالرغم من استعمالهِ بخصوص الخيل في بعض الموارد ، إلّا أنّ المسلَّم به هنا أنّه ذو معنىً واسعٍ وشاملٍ حيث يشمل جميع البهائم «10».
ولفظ «مُستَقَّر» يعني المقر ، والمكان الثابت ، وهو مأخوذ في الأصل من مادة «قُرّ» على وزن (حُرّ) وتعني البرد القارص الذي يجعلُ الإنسان جليسَ الدار.
و«مُستَوْدَع» : يعني المكان غير الثابت ، وهي من مادة «وديعة» وتعني في الأصل ترك واطلاق الشيء ، ولهذا يقال للأمور غير المستقرة «مستودع».
وهذه الألفاظ تلمّح إلى أنّه لا تظنّوا أنَّ اللَّه يوفرُ الرزقَ للموجودات في مستقرها فقط ، بل أينما تكون وفي أيّ نقطةٍ من الأرض والسماء ، فهو يعلمُ ويرى مكانها ويعطيها رزقها هناك !
روى بعض المفسّرين في ذيل هذه الآية حديثاً مفاده : «أنّ موسى عليه السلام عند نزول الوحي عليه وكان برفقة طفله وزوجته في ليلة ظلماء في وادٍ بطور سيناء ، حيث أمره اللَّه سبحانه وتعالى أن يذهب إلى فرعون ، فانصرف ذهنه إلى زوجته وطفله ، كيف سيكون مصيرهم بعده.
فأمره اللَّه تعالى أن يضرب بعصاه صخرة فانفلقت وخرجت منها صخرة ثانية؛ ثم ضربها بعصاه مرّة اخرى فانفلقت وخرجت صخرة ثالثة ، ثم ضربها بعصاه فانفلقت فخرجت منها دودة كأصغر ما تكون عليه النملة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها ، وعند ذاك رفع الحجاب عن سمع موسى عليه السلام فسمع الدودة تقول : سبحان من يراني ، ويسمع كلامي ، ويعرف مكاني ، ويذكرني ولا ينساني» «11».
كما ورد في حديثٍ أنَّ الإمام الحسين عليه السلام كان له سيفٌ كتبَ عليه : «الرزقُ مقسومٌ والحريصُ محرومٌ ، والبخيل مذمومٌ ، والحاسدُ مغمومٌ» «12».
ونختتم هذا الحديث بشعرٍ لأحد شعراء العرب ، إذ يقول :
وكيف أخافُ الفقرَ واللَّه رازقي ورازقُ هذا الخلق في العسرِ واليُسرِ
تكفَّلَ بالأرزاق للخلق كُلِّهِم وللضَّبِ في البيداء والحوتِ في البحرِ
وفي الآية الثامنة ، يبدو وكأنّه يحاكمُ المشركين ، ويبينُ بطلان عقائدهم عن طريق مسألة ايصال الرزق إلى الخلائق ، ويوضح وحدانية الرَّب ، فيقول : {قُلْ مَنْ يُرزُقُكُم مِنَ السَّموَاتِ وَالأَرضِ} من ضوء الشمس ، من قطرات المطر الذي يهب الحياة ، ومن هذا الهواء الذي يمد الكائنات بالحياة ، ومن أنواع المواد الغذائية الموجودة في أعماق الأرض وتظهر على هيئة ثمراتٍ وغلاةٍ وخضروات.
ثم لا يَدَعُ النبى صلى الله عليه وآله ينتظر جوابهم فيردّ الجواب قائلًا : {قُلِ اللَّه وَإِنَّا أَو إِيَّاكُم لَعَلى هُدىً أَو فِى ضَلالٍ مُبِينٍ}.
ولأنَه لا تجتمع عقيدتان متناقضتان ، وبما أنّكم لا تملكون دليلًا يثبتُ أنّ الأصنام هي منشأ البركات ، يتضح اذن أننا نتبع الحقَّ وأنتم في ضلالٍ مبينٍ.
ولو لاحظنا هنا أنَّ النبي صلى الله عليه وآله لم ينتظر جوابهم ، لأنَّهم في الواقع لا يملكون جواباً لهذا التساؤل ، سوى السكوت الممزوج بالخجل ، وعليه يجب على المتكلِّم الفصيح أن يُمسكَ بزمامِ الحديث في مثل هذه الحالات ويقدِّمَ الجوابَ بنفسِه.
وأحدُ فنون الفصاحةِ هو أنْ يُلقى الكلام الغامض على الخصوم من خلال الحوار ويترك الفصل لهمْ ، لهذا يقول هنا : {وَإِنَّا أَو إِيَّاكُم لَعَلى هُدىً او فِى ضَلالٍ مُّبِينٍ} ومن المسلَّم به أنَّ الضّالَ والمهتدي يتضحُ هنا ، ومن الأفضل أن تبقى العبارةُ غامضةً في الظاهر كي لا يتمادى هؤلاء في عنادهم ، وأن يُكلِّفوا أنفسهم عناء الاستنتاج.
والعجيب أنَّ بعضَ المفسِّرين يعتقدون أنَّ هذه العبارة من قَبيل «التقيّة» في الوقت الذي لا مجال للتقيّةِ هنا ، والأمرُ مكشوفٌ بجلاء- ولكن بشيء من اللطافة- ، وحيث يقول في البداية : «إنّا» ثم يقول : «أنتم» ويتابع قائلًا على «هدىً» أو على «ضلال» ، وهذا التسلسل يوضحُ الأمرَ أكثر.
وفي الآية التاسعة ، بعد أن أشارَ إلى نزول المطر المبارك من السماء ، استند إلى ثلاثة أصنافٍ من الارزاقِ التي يستفيد الجميع منها ، فيقول : {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُّبارَكاً فَأنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الحَصِيْدِ}.
{وَالنَّخلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيْدٌ} «13» «رِزْقاً لِلْعِبادِ».
وفي الواقع فقد استند في هذه الأية إلى الثمار والمحاصيل الغذائية لأنّها تمثلُ أهمَ وأَصلح جانبٍ من المواد الغذائية للناس ، واستند إلى التمر بالخصوص من بين الثمار ، بسبب أهميّته الغذائية الفائقة ، حيث بحثناه بالتفصيل في محلِّه «14».
والجدير بالذكر : إنَّ بعض المفسِّرين يعتقد أنَّ استناد القرآن إلى هذه الأنواع الثلاثة من الأرزاق جاء بسبب خصائص كلٍّ منها على حدة ، لأنَّ بعض النباتات يُثمرُ سنوياً ، دون الحاجة إلى بذر البذور ، كأنواع أشجار الفاكهة ، وبعضها يحتاج إلى بذر البذور سنوياً كالحنطة والشعير والرز والذرة وبعضها وسطاً بينهما كالنخيل الذي يكون أصلهُ ثابتاً إلّا أنّه يحتاج في كلِّ عامٍ إلى «التلقيح» ، بالنحو الذي يرفعون طلع الذكر وينثرونه على ثمار النخلةِ كي تحمل بشكلٍ كامل ، ومن الممكن أن تلقح بطريقة اخرى (عن طريق الرياح والحشرات) إلّا أنّها لن تكون غزيرة الثمار.
وهذه النكتة جديرة بالاهتمام أيضاً حيث إنّ في تعبير {رزقاً للعباد} ، «15» إشارة لطيفة إلى هذه الحقيقة وهي وجوب استثمار النعم الإلهيّة لسلوك طريق عبوديةِ اللَّهِ ، وهذه الموجودات مذعنةٌ ومطيعةٌ للإنسان كي ينال الرزق ولا يأكلُه غافلًا عن اللَّه ، كما قال الحكماء :
تعيش لتأكل وأنا آكل لأعيش وأذكر اللَّه.
وفي الآية العاشرة وآخر الآيات في بحثنا استند إلى الأنواع المتباينة من الاطعمة التي وضعها الباريء ، تعالى في متناول الإنسان والدَّواب ، ودعا الإنسان إلى التفحصِ فيها ، كي يُعدَّهُ لمعرفة المُنعم ومعرفة اللَّه من خلال تحريضه على الشعور بالشكر.
فيقول : «فَلْيَنْظُرِ الإِنْسانُ الىَ طَعَامِهِ».
ليرى كيف تظافرت مختلف العوامل من الشمس والأرض والهواء والمطركي تضع في خدمته هذه النَّعَم. فيجب أنْ ينظُر ويرى كيف : «أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقّاً * فَأنبَتنَا فِيهَا حَبّاً * وعِنَباً وقَضْباً «16» * وزَيْتُوْناً وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً» «17».
مع أنَ «فاكهة» تشمل جميع أنواع الثمار ، و«حدائق» تتضمن جميع البساتين ، إلّا أنَّ الاستناد إلى «العنب» و«الزيتون» و«التمر» يأتي بسبب مزاياها المهمّة للغاية التي ثبتت الآن في علم النبات بالنسبة لكلِّ منها.
وبالرغم من أنَ «طعام» تعني عادةً الغذاء المادي ، لا سيما بخصوص الآية التي تعقبها ، فقد ذُكرت موارد عديدة للأطعمة الماديّة ، الفواكه والحبوب ، إلّا أنّه وكما ورد في بعض الروايات ، يمكن أن يكون للطعام معنى واسع وشامل حيث يشمل الغذاء المعنوي أيضاً ، ويجب أن ينظرَ الإنسان جيداً ممَّ يكتسبُ العلمَ الذي هو غذاؤه الروحي ، فلا ينبغي أن يكون مشتملًا على علوم سامة وهدامة.
والكلام الأخير حول هذه الآية الشريفة ، هو من الممكن أن تكون عبارة «فَلْيَنْظُرِ» هي النظر من أجل إدراك أسرار المبدأ والمعاد ، وكذلك النظر لتمييز الصنف الطيِّب والطاهر ، من الخبيث والملوث ، والمشروع من اللامشروع والمفيد من الضّار.
يستفادُ جيداً من مجموع ما قيلَ في شرح هذه الآيات أنَّ أنواع الرزق الإلهي آياتٌ وآثارٌ على عظمتهِ ، وكيفية ظهورها ، والنظام المدهش الذي استُعملِ في بنائها ، والصفات المميزة لكل منها ، والمواد المعاشية الموجودة في كلٍّ منها ، وكذلك كيفية ايصالِ هذه الأرزاق إلى المحتاجين ومطابقتها لحاجتهم ، فكلٌّ منها آية ودليل عن حكمة وعظمة الذات الإلهيّة المقدّسة.
توضيحات
1- من عجائب عالم الأرزاق
حقاً لو تأملنا في النظام العجيب الموجود في ارتزاق مختلف الموجودات من المصادر الطبيعية ، لتجلَّت لنا امورٌ لطيفةٌ ومدهشة عن قدرة الخالق جلَّ وعلا.
الأمر الأول منها هو لماذا لا تتقلص كمية المواد الغذائية الموجودة على الأرض مع قلتها واستفادة الناس والحيوانات على مدى آلاف الآلاف من السنين؟! كيف لا تنتهي هذه المائدة الممتدة في كل مكانٍ؟!
حينما نتأمل جيداً نرى أنَّ المواد الغذائية في هذه الدنيا لها شكلٌ خاص بحيث لو استُفيدِ منها لملايين الملايين من السنين ، لم ينقص منها بقدر رأس الابرة ، وهذا بسبب «حركتها الدائرية» فمثلًا أنَّ المياه تتبخر من البحر ثم تظهر على هيئة غيومٍ وامطار ، فيهطل قسمٌ من ماء المطر إلى البحر ثانيةً ، والقسم الآخر يصبحُ جزءاً من جسم الإنسان والحيوانات والنباتات ويتبخر وينتشر في الجو ، وتستمر هذه الحركة الدائرية دائماً.
فالأشجار تمتص المواد الغذائية من الأرض وتتكون الفروع والأوراق ، ثم تتساقط الأوراق وتتفسخ وتتحول فيما بعد إلى سمادٍ ومواد غذائيةٍ لنفس الأشجار ، وتستفيد الحيوانات من المواد الغذائية ثم تُصبحُ تراباً ، وجزءاً من المواد الغذائية في الأرض.
ويتنفس الإنسان والحيوانات غازَ «الاوكسجين» ويطرح غاز «ثاني اوكسيد الكاربون» ، ولكن الأشجار على العكس من ذلك فهي تأخذ غاز «ثاني اوكسيد الكاربون» وتطرح غاز «الاوكسجين» ، ويتكرر هذا التبادل دائماً ، هنا نشاهد أنّ هذه المائدة الإلهيّة السرمدية مبسوطة باستمرار لتجلس كافة المخلوقات إليها للارتزاق منها دون أن يصيبها النقصان.
وكيفية إعداد الرزق للحيوانات عجيبةٌ أيضاً ، فالبعضُ يتغذى على النباتات والرطوبة الموجودة على الأرض ، وبعضٌ يحصل على غذائه من الماء «النباتات العائمة» وبعضٌ من الجو ، وبعضٌ عن طريق الالتحام بنباتاتٍ اخرى «كبعض الطفيليات» وتعيش حيوانات أعماق البحار في مكانٍ لا ينمو فيه نباتٌ أبداً ، لأنَّ اشعة الشمس تتلاشى تماماً في عمق 600- 700 م ثم يسود ماءَ البحر بعدها ليلٌ حالكٌ وسرمديٌّ ، إلّا أنّ الباري تعالى يهيء ويعدُّ رزقَها على سطح البحر ويرسلُه إليها في أعماق البحر فالنباتات التي تنمو بكثرة على سطح البحر وسط الأمواج تصبحُ ثقيلة وتهبط إلى قاعه بعد نضوجها وتخصيص قسم منها للموجودات الحيّة على سطحه ، وكذلك تنزل بقايا الموجودات التي تعيش على سطح البحر على هيئة مائدةٍ سماوية إلى الموجودات في قاعه.
فقد تُصبحُ الطيورُ طُعمةً لأسماك البحر ، واسماك البحر طعمةً للطيور ، وقد يجعل النباتاتِ غذاءً للحيوانات ، أو الحيوانات غذاءً للنباتات التي تأكل اللحوم! وقد يصنع من فضلات ولعاب بعض الموجودات غذاءً لذيذاً لموجودٍ آخر (كما في بعض حيتان البحر حيث تخرج إلى ساحل البحر بعد تغذّيها على أسماك البحر المختلفة ، فتبقى الفضلات بين أسنانها ، فتفتح فمَها الذي يشبه الغار ، فتدخلُ مجموعةٌ من طيور الساحل إلى فمها وتقوم بإخراج اللحوم المتبقية من بين اسنانها وتتخذها طعاماً لذيذاً لها ، فتقوم بدورِ المسواك في تنظيف أسنان هذا الحيوان ، الذي لا يسيء ردَّ الجميل ، فلا يُطبقُ فاهُ حتى خروج آخر طيرٍ من فمه ، وحينما ينتهي الأمر ويتخلص من المواد المزعجة ، وتمتليء بطون الطيور من الطعام حينئذ يُطبقُ فمَهُ ويتجه نحو أَعماقِ البحر «18».
وباختصار : كلّما دققنا في هذه المسألة أكثر ، سنحصل على نقاطٍ جديدة في مجال علمِ وحكمةِ الخالق جلَّ وعلا ، والتدبير الذي صُرفَ في مجال الأرزاق ، بشكلٍ لا يبقي مجالًا لأي نوع من الصدفة.
يكفينا التأمُل في وضع الإنسان خلال المراحل الثلاث : الجنين ، الرضاعة ، والأكل ، كيف أنَّ اللَّه تعالى وضعَ في متناولهِ ما يناسب حاله في كلِّ واحدةٍ من هذه المراحل الحساسة بدونِ نقصٍ ، فيتغذى طيلة مكوثه في رحم الام عن طريق جهاز الحبل السّري المعقّد والإرتباط المباشر بدم الام ، وبعده الولادة ، عندما لا توجدُ أسنانٌ لمضغ الطعام ، ومعدتُه وامعاؤهُ غير مستعدةٍ لاستقبال الطعام ، يهييء له ثدي امه المليء بالحليب ، غذاءً مناسباً ، غنياً بكافة المواد الغذائية ، معتدل الحرارة ، لا تغلب عليه الحلاوة أو الملوحة ، ولا يحتاج إلى مضغٍ ونشاطٍ لمعدتهِ كي تهضمه.
وفي المرحلة الثالثة ، يضع في متناوله أنواعاً من الاطعمة «المناسبة» ، فلو لم تكن أطعمة الإنسان وباقي الحيوانات «ملائمة» ويكون مجبوراً على تناولها كالأدوية المرّة ، فايٌّ مأزق سينشأ في حياته ، ألا يفنى معظمُ الناس بسبب عدم توفر الطعام السليم لهم؟
ومن جانبٍ آخر ، فقد أودعَ في الإنسان الشعورَ بالجوع والعطش ، كي ينجذب نحوهما بشكل آلي عندما يحسُ بالحاجةِ إلى هاتين المادتين الحيويتين ، فتأملوا ما يحصل لولا هذا الشعور؟!
وكما يقول الإمام الصادق عليه السلام في الحديث المعروف عن المفضّل :
«فكّر يا مفضل في الأفعال التي جُعلت في الإنسان من الطعم والنوم والجماع وما دبّر فيها فانّه جُعل لكل واحد منها في الطباع نفسه محرّك يقتضيه ويستحث به فالجوع يقتضي الطعم الذي به حياة البدن وقوامه والكرى تقتضي النوم الذي فيه راحة البدن وإجمام قواه والشبق يقتضي الجماع الذي فيه دوام النسل وبقاؤه ، ولو كان الإنسان إنّما يصير إلى أكل الطعام لمعرفته بحاجة بدنه إليه ولم يجد من طباعه شيئاً يضطره إلى ذلك كان خليقاً أن يتوانى عنه أحياناً بالتثقل والكسل حتى ينحل بدنه فيهلك ... ، فانظر كيف جُعل لكل واحد من هذه الأفعال التي بها قوام الإنسان وصلاحه محرك من نفس الطبع يحركه لذلك ويحدوه عليه» «19».
لهذا تُعتبر الرغبةُ في نوعٍ من الطعام بالنسبة للأصحاء من الناس دليلًا على حاجة الجسم إلى ذلك الغذاء على نحو الخصوص ، ويجب على مثل هؤلاء الأشخاص كذلك النزول عند هذه الرغبات الداخلية؛ يقول العالم الروسي المعروف «باولف» : «إنَّ الغذاءَ الطبيعي والمفيد ، هو الغذاء الذي يؤكل بشهيَّةٍ وتلذذ».
ولهذا أيضاً لا معنى للالتزامِ بنظامٍ خاصٍ في الامتناع عن الأطعمة التي يرغب الإنسان بتناولها لأنّ تلك الرغبة تعتبر بحد ذاتها أفضل دليلٍ على حاجةِ الجسمِ لها.
ما هذه التركيبات المحبوكة التي تحددُ بنفسها نوع حاجتها ، ووقودها ، وصنعها؟
وبمجرد أن يحصلَ نقصٌ توقظ شعورَ الإنسان وتدفعهُ نحو ذلك؟ هل يمكن حمل مثل هذه الامور على سبيل الصدفة؟ وهل هنالك إمكانية لوجود مثل هذا البرنامج المنظّم لولا وجود عقلٍ وتدبيرٍ واسعٍ؟
2- هل أنَّ الرزقَ مقسومٌ ؟
وردت هذه النكتة في بعض الآيات أعلاه وهي أنَّ رزقَ كلِّ دابةٍ على اللَّه ، وقد تكفَّلَ اللَّه به : «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ الَّا عَلى اللَّهِ رِزْقُهَا ...». (هود/ 6)
وورد في بعضٍ آخر أنّ سعة الرزق وضيقة مشيئة الهية. (الروم/ 37 وآيات اخرى).
واشير إلى هذا المعنى في الروايات أيضاً ، فيقول امير المؤمنين عليه السلام : «وَقَدَّر الأرزاقَ فكثَّرها وقلَّلها وقسَّمها على الضَّيق والسَّعة» «20».
وفي حديث آخر عنه عليه السلام نقرأ في حثِّه على طلب العلم إذ يقول :
«إنَّ طلبَ العلمِ أوجَبُ عليكم من طلبِ المال ، إنَّ المالَ مقسومٌ مضمونٌ لكم قد قسَّمَهُ عادلٌ بينكم وضَمِنَه وَسَيَفي لكم والعلمُ مخزونٌ عند أهلهِ قد امرتُم بطلبهِ» «21».
والآن يبرز هذا التساؤل وهو : لو كان الأمر كذلك فما هو مفهوم السعي والاجتهاد لطلب الرزق والتخطيط لتحسين الوضع الاقتصادي للمجتمع ؟
ولكن من خلال التمعُن في الآيات والروايات فيما إذا جُمعت مع بعضها يتضح الجواب على هذا السؤال بأنَّ المقصود من ضمان الرزق من قبل اللَّه تعالى وتكّفله والتزامه بتقسيمه هو اعداد الأرضية اللازمة ، ومتى ما تظافرت الأرضية الخارجة عن طاقة الإنسان ، والاستعدادات الموجودة في ذاتهِ ، يستلم الإنسان نصيبه من الرزق.
وهذا يشبه تماماً رواتب العاملين في مؤسسة ما والتي يحددها المدير إلّا أنَّه لا يجلبُ تلك الرواتب إلى بيوتهم بل يجب عليهم أن يعملوا ، ثم يذهب كلٌ منهم لملء بطاقةِ راتبه ليستلمه.
ولا يجب نسيان هذه الحقيقة بأنّ اللَّه تعالى ومن أجل أن لا يضيع الناس في «عالم الأسباب» ويعتبروا أنَّ حاصل الرزق يأتي عن طريق السعي والاجتهاد فقط ، فهو يوصل الرزق أحياناً لأناس لم يبذلوا جهداً جهيداً وقد يسلب الرزق من أشخاصٍ مجتهدين كي يوضح أنَّ وراء هذا العالم قدرةً اخرى (ولكن يجب أن لا ننسى أنَّ هذا مجرّد استثناء ، وأمّا القاعدة الأساسية فهي السعي والاجتهاد).
ولعلّه لهذا الأمر ورد في حديثٍ عن الرسول صلى الله عليه وآله أنّه قال :
«واعلموا أنَّ الرزقَ رزقان : فرزقٌ تطلبونه ورزقٌ يطلبكُم فاطلبوا أرزاقكم من حلال ، فانّكم إن طلبتموها من وجوهها أكلتموها حلالًا وإنْ طلبتموها من غير وجوهها أكلتموها حراماً» «22».
هذا الفارقُ في الرزق يعتبرُ في الواقع دليلًا على الجمع بين الآيات والروايات التي تعتبرُ الرزقَ مُقَسَّماً ومضموناً ، والروايات التي تعاكسها ، التي تعتبر الجد والاجتهادَ والمثابرة شرطاً للاستفادة من الرزق «23».
بالإضافة إلى أنَّ التعرف على هذا الاختلاف في الرزق يدفع الحريصين إلى التخلي عن حرصهم ، ولا يتلوث المؤمنون بتحصيل الرزق من الحرام ، ولا ييأس المحرومون أيضاً.
3- إذا كانَ الرزقُ مضموناً للجميع فلماذا يموتُ البعضُ جوعاً ؟
في الآيات أعلاه تتجسدُ هذه الحقيقة جيداً بأنَّ اللَّه تعالى قد تكفَّلَ برزق جميع الموجودات الحيّة ، وايصاله إليها أينما كانت ، ولكن يبرز هذا السؤال وهو : لماذا ماتت وتموت مجاميعُ من الناس جوعاً الآن وعلى طول التاريخ ؟ أَلَمْ يُؤَمَّنُ رزقُها ؟!.
في الرد على هذا التساؤل يجب أخذ النقاط الآتية بنظر الاعتبار : أولًا : إنَّ تأمين وضمان الرزق لا يعني اعدادَه للإنسان العاقل والمكلَّف وارساله إلى بيته ، أو وضعهِ في فمه كاللقمة ، بل قد اعدت الأرضية اللازمة ، وسعيُ الإنسان واجتهاده يعتبر شرطاً لتحقيق هذه الأرضية وايصالها إلى مرحلة الفعل ، حتى مريم (عليها السلام) عندما كانت في ذلك الوضع الصعب وفي تلك الصحراء القاحلة حيث هيأ لها اللَّهُ تعالى رزقها رطباً جنياً على جذع النخلة أمرها بأنْ تسعى وخاطبها : {وهزي الَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ}.
ثانياً : لو أنَّ الناسَ- في الماضي والمستقبل- يقومون بهضم حقوق الآخرين ويسلبون أرزاقهم ظلماً فهذا ليس دليلًا على عدم تأمين البارىء تعالى للرزق ، وبتعبير آخر : إضافة إلى مسألة السعي والاجتهاد فإنّ وجود العدالة الاجتماعية يعتبر سراً في التوزيع العادل للأرزاق ، وإذا قيل : لماذا لا يمنع اللَّهُ ظلمَ الظالمين؟ نقول : إنَّ أساس حياة البشر يقوم على الحرية وليس على الاجبار والاكراه كي يخضع الجميع للامتحان ، وإلّا فلا يحصل التكامل «فتأمل جيداً».
ثالثاً : هناك مصادر كثيرة لتأمين طعام البشر على هذه الكرة الأرضية ولكن يجب أن تكتشفَ وتُستخدمَ بذكائهم ومعرفتهم ، وإذا قصَّر الإنسان في هذا المجال فالذنبُ ذنبهُ.
لا يجب أن ننسى أنّ بعض مناطق افريقيا التي يموت شعبها جوعاً تعتبر من اغنى مناطق العالم ، إلّا أنّ العوامل المدمرّة التي أشرنا إليها آنفا جعلتهم يهيمون في ليلٍ مظلمٍ.
نختتم هذا البحث المختصر بحديثٍ عن الإمام علي عليه السلام ورد في نهج البلاغة ، يقول :
«انظروا إلى النملةِ في صِغرِ جُثتها ولطافةِ هيئتها لا تكادُ تُنالُ بلحظِ البَصرِ ولا بمُستدركِ الفكَرِ كيفَ دبَّت على أرضها ، وصُبَّت على رزقها تنقُلُ الحبَّةَ إلى جحرِها وتُعِدُّها في مستقرها ، تجمعُ في حَرِّها لبردها ، وفي وِردِها ، لصدرِها» «24».
4- سعةُ الرزق وضيقه
وردَ في الآيات أعلاه أنَّ اللَّه تعالى يبسطُ الرزقَ لمن يشاء ويُضيقَهُ على مَنْ يشاء ، وهذا التعبير الذي تكرَّر في آياتٍ عديدةٍ يمكنُ أن يُوجدَ هذا الخلط وهو أنَّ نظام الرزق خارجٌ عن إرادة الإنسان بشكلٍ كامل ، طبقاً لذلك فلو تَنَعَّمَ قومٌ وحُرمَ آخرون فهذه مشيئة اللَّه وليس ما كسبته أيدينا وليس لنا حول ولا قوّة! ويُمكن أن يكون هذا مكسباً جيداً لأولئك الذين يشكلون على أصل الدين ويعتبرونه وليداً للحركات والمشاريع الاستعمارية.
ولكن لو تأملنا في هذه الآيات والروايات وفكّرنا في أسباب ضيق الرزق وسعَته لتجلّى لنا تفسير هذه الآيات وأسرارها وسيتم القضاء على تلك الأفكار الهدّامة ، ونتوصل إلى امور مهمة وقيمّة للغاية.
لقد قلنا مراراً أنَّ التعبير ب «الارادة الإلهيّة» لا يعني الإرادة التي تخلو من الحساب والكتاب ، بل الإرادة الممتزجة ب «الحكمة».
إنَّ حكمة اللَّه تقتضي أنّ من يسعى ويجتهد ويُخلصُ ويُضحي أكثر ، يكون رزقه أوسعُ :
{وأَنْ لَّيْسَ للإنسان إِلَّا مَا سَعَى}. (النجم/ 39)
و{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِيْنَةٌ}. (المدثر/ 38)
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحتَسِبُ}. (الطلاق/ 2- 3)
فالتقوى تؤدّي إلى سيادة العدالة الاجتماعية ومن ثمَّ تؤدي إلى سعة الرزق ، كما أنّ السعي والمثابرة تُعِدُّ الأرضية اللازمة للازدهار الاقتصادي وتعتبر سبباً في سعة الرزق ، وبناءً على ذلك فانَّ التعاليم أعلاه ونظراً لجذورها واصولها لا تعتبر سبباً في الخمول وترك السعي ، بل إنّها من العوامل المؤثرة في السعي والاجتهاد.
والشاهد هو هذا الحديث القيّم الذي نُقل عن الإمام علي عليه السلام ، حيث يقول :
«إنَّ الأشياءَ لمّا ازْدَوَجَتْ إزْدَوَجَ الكَسَلُ والعَجْزُ فَنَتَجا بينهما الفَقْر» «25».
نعم .. ففقرُ كلِّ قومٍ ، نتيجة مباشرة لضعفهم وخُمولهم ، وقد اقتضت الحكمة الإلهيّة أنْ يضيق الرزقُ على مثل هؤلاء.
إنَّ التَأمُّلَ في أسباب ضيق وسعة الرزق في الروايات شاهدٌ ناطقٌ آخر على القول السابق.
ومن جملة الامور التي ذكرتها في الروايات كأسباب لسعة وبسط الرزق ما يلي :
صلة الرحم ، نظافة الدار والأواني والجسم ، مواساة المسلمين ، السعي مبكراً لطلب الرزق ، شكر النعمة ، الاقلاع عن البخل ، اجتناب اليمين الكاذبة ، الاستغفار والتوبة من الذنوب ، حسن النية في الأعمال ، الاحسان إلى الجيران وذكر اللَّه «26».
نقرأ في حديثٍ عن النبي صلى الله عليه وآله : طيبُ الكلام يزيدُ في الارزاق «27».
وجاء في حديثٍ عن أمير المؤمنين عليه السلام : «في سعةِ الاخلاقِ كنوز الأرزاق» «28».
وورد في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه السلام : «كَثرةُ السُحتِ يمحقُ الرزق» «29».
______________________________
(1) هناك آيات كثيرة اخرى وردت في هذا المجال لها شَبَهٌ بالآيات أعلاه منها 31 ، يونس؛ 172 ، البقرة؛ 28 ، الشورى؛ 26 ، الرعد؛ 12 ، الشورى ؛ 27 ، الشورى ؛ 22 ، البقرة ؛ 32 ، ابراهيم ؛ 73 ، النحل ؛ 17 ، العنكبوت ؛ 13 ، غافر.
(2) لسان العرب ؛ المفردات ؛ مجمع البحرين ؛ والتحقيق في كلمات القرآن الكريم.
(3) لسان العرب ؛ المفردات ؛ كتاب العين ؛ والنهاية لابن اثير.
(4) «تؤفكون» من مادة «إفْكْ» ، وتعني تغيير الشيء عن وضعهِ الحقيقي ، ولهذا يقال للكذب والاتهام والانحراف عن الحق نحو الباطل «إفْكْ» ، وكذلك يُطلقُ على الرياح التي تنحرف عن مسيرها المنظم (مؤفكة) (مفردات الراغب).
(5) هنالك جملةٌ محذوفةٌ حيث تتضح بقرينة الآيات الآنقة (الآية 59 من نفس السورة) وتَقَدَّر كما يلي «أمَّنْ يبدءُ الخلق ثم يُعيدهُ ... خيرٌ أمْ ما يشركون».
(6) بالرغم من احتمال بعضهم بتقدير محذوف من الآية إلَّا أنَّ ظاهر الأمر يشير إلى أن لا محذوف هناك فيكون المعنى كما يلي «إنْ امسَكَ اللَّه رزقهُ مَنْ هذا الذي يرزقكم» فتكون «أم» هنا بمعنى «بل» (فتأمل جيداً).
(7) «لجوا» من مادة اللجاجة و«العَتو» تعني الطغيان و«النفور» تعني الابتعاد والهروب من الشيء.
(8) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، الكلمة 250.
(9) تفسير روح البيان ، ج 7 ، ص 39.
(10) إنَّ «التاء» في «دابّة» لا تدل على التأنيث ، بل تشمل جميع الحيوانات مذكرها ومؤنثها ، وبتعبير آخر أنَّ تأنيثها لفظيٌ وليس حقيقياً (مفردات الراغب وتفسير الكبير ، ج 17 ، ص 185).
(11) تفسير الكبير؛ ج 17 ، ص 186؛ تفسير روح البيان ، ج 4 ، ص 97 ؛ وتفسير روح المعاني ، ج 12 ، ص 2.
(12) تفسير روح البيان ، ج 4 ، ص 97.
(13) «حصيد» تعني المحصود (أو الجاهز للحصاد) ، و«باسقات» جمع «باسقة» وتعني الطويلة و«طلع» تعني ثمرة النخيل في بداية تكوينها ، و«نضيد» تعني المتراكم والكثيف الذي يبعث على التعجب لا سيما في ثمار النخيل أي التمر.
(14) يُراجع التفسير الأمثل ، ذيل الآية 25 من سورة مريم.
(15) إنَّ نصبَ «رزقاً» جاء لكونه «مفعولًا لأجله» ، ويُستبعدُ احتمال كونه «مفعولًا مطلقاً» أو «حالًا».
(16) «قضب» على وزن (جذب) وتعني القطع والقطف ، وقد فسَّرها المفسِّرون بأنّها الخُضرُ التي تُقطعُ عدّة مرات.
(17) «حدائق» جمع «حديقة» وتعني البساتين المحصورة بين الجداران ، و«غُلب» جمع «اغلب» من مادة «غُلبة» وتعني الضخم الجُثّه ، و«أب» تعني النباتات الطبيعية والمراتع الطبيعية ، أو الثمار التي تُجفَّف وتحفظ. (والآية 31 من سورة عبس).
(18) يضيف الفخر الرازي في تفسيره ضمن إشارته المختصرة لهذا الموضوع ، أنّه على رأس هذا الطائر شيءٌ يشبه الشوك ، فلو قَرر التمساحُ ابتلاع هذا الطائر فسيؤلمه ذلك «تفسير الكبير ، ج 24 ، ص 11).
(19) بحار الأنوار ، ج 3 ، ص 78 و79 ، توحيد المفضّل.
(20) نهج البلاغة خطبة 91.
(21) معالم الدين ، ص 9.
(22) وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 47.
(23) من أجل التعرف على هذه الروايات يراجع ، وسائل الشيعة ج 12 ، كتاب التجارة ، ص 9 و16 و18 و22 و24 و26.
(24) نهج البلاغة خ 185.
(25) وسائل الشيعة ، ج 17 ، ص 60.
(26) بحار الأنوار ، ج 73 ، ص 314 (باب ما يورث الفقر والغنى) ، وسفينة البحار ، ج 1 ، ص 519 و520.
(27) المصدر السابق.
(28) المصدر السابق.
(29) المصدر السابق.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|