أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-03-18
862
التاريخ: 19-7-2016
2063
التاريخ: 19-7-2016
1539
التاريخ: 9-5-2021
2438
|
قد دلّ كثير من الآيات والأخبار على أنّ الله يحبّ العبد أيضاً.
{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54].
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4].
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222].
وفي الحديث القدسي: «لايزال العبد يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى احبّه فإذا أحببته ... الحديث» (1).
وقال النبي صلى الله عليه وآله: «إذا أحبّ الله عبداً لم يضرّه ذنب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له والتائب حبيب الله» ثم تلا: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222] (2).
والمحبّة في أصل الوضع ميل النفس إلى الموافق والعشق هو الميل الغالب المفرط، فإطلاقها في العبد صحيح حقيقة، وأمّا في الله تعالى فمستحيل بهذا المعنى؛ لأنّه يتصوّر في نفس ناقصة (3) تستفيد كمالاً بنيل ما يوافقها وتستلذّ به، والواجب تعالى يجب أن يكون كلّ كمال وبهاء وجمال وجلال ممكن في الالهيّة حاصلاً له بالفعل أبداً وأزلاً... قلت: لا بدّ من التأويل وصرف اللفظ عن معناه الظاهر بعد البرهان القاطع على استحالته بأنّ المراد كشف الحجاب عن قلبه حتّى يراه به وتمكينه من التقرّب إليه وإرادته له في الأزل لا لحصول كمال له بذلك تعالى عن ذلك، بل كما أنّ الملك قد يقرّب عبداً له إليه لا للانتفاع به واستخدامه لحوائجه بل لكونه موصوفاً من مرضيّ الأخلاق ومستحسن الخصال بما يليق به أن يكون قريباً من حضرته من دون غرض يعود إليه في ذلك، فرفع الملك الحجاب بينه وبينه إذا اكتسب ما يقتضيه يسمّى حبّاً له، ويقال توصّل العبد وحبّب نفسه إلى الملك، والقرب المستعمل هنا ليس على حذو ما يستعمل في الأجسام من القرب في الجهة والمكان، تعالى الله عن تغيّرات المكان والجهة والزمان، بل لايزال تعالى شأنه في نعوت الجلال والجمال على ما كان عليه في أزل الآزال.
وكما أنّ القرب المحسوس بين الشخصين قد يحصل بتحرّكهما معاً وقد يكون بسكون الآخر مع تحرّك أحدهما فيحصل التغيّر في المتحرّك دون الساكن، وكذا في الصفات كتقرّب التلميذ إلى الاستاذ مع سكون الأستاذ في مرتبته الحاصلة له بالفعل، فكذا تقرّب العبد بالنسبة إلى الله تعالى بكمال العلم والإحاطة بحقائق الأشياء والتجرّد عن المادّيات والتشبّه به في صفاته وأفعاله، وإن كان يتصوّر في التلميذ بلوغه بل تجاوزه عن درجة الأستاذ لتناهيها، ولا يمكن هنا لتناهي كمالات العبد وعدم تناهي معلومات الله وكمالاته فلا مطمع في المساواة، ولذلك تتفاوت درجات القرب إلى ما لا نهاية لها لعدم انتهاء ما يتقرّب إليه. فهذا محبّة الله للعبد.
ويمكن أيضاً أن يراد معناه الحقيقي ويكون الإسناد مجازياً أي بالعرض، فإنّ محبّة الله لذاته حقيقة فمحبّة للعبد راجعة إلى محبّته لذاته، فيكون المراد محبّته للعبد من حيث إنّه رشحة من رشحاته، مظهر من مظاهر جماله وكماله، والفرق بين المعنيين أنّ التجوّز في الأول قد ارتكب في لفظ الحبّ، وفي الثاني في متعلقه أو في الإسناد، فتفطّن.
ثم لكلّ من الحبّين علامات:
فمن علامة حبّ الله للعبد ما قاله النبي صلى الله عليه وآله: «إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه، فإذا أحبّه الحبّ البالغ أفناه، قيل: وما أفناه؟ قال: لم يترك له مالاً ولا أهلاً» (4) فالعلامة أن يوحشه عن غيره ويحول بينه وبين غيره.
قيل لعيسى عليه السلام: لِمَ لا تشتري حماراً فتركبه؟ قال: أنا أعزّ على الله من أن يشغلني عن نفسه بحمار (5).
وفي الخبر: «إذا أحبّ الله عبداً ابتلاه فإن صبر اجتباه وإن رضي اصطفاه» (6).
ومن أخصّ علاماته حبّه لله تعالى، فإنّه يدلّ على حبّ الله له.
وقال النبي صلى الله عليه وآله: «إذا أحبّ الله عبداً جعل له واعظاً من نفسه وزاجراً من قلبه يأمره وينهاه» (7).
ومن علاماته أن يتولّى أموره ظاهراً وباطناً، سرّاً وجهراً فيكون هو الوكيل والمشير والمدبّر في أمره ومسدّد ظاهره وباطنه وجاعل همومه همّاً واحداً وكاشف الحجب بينه وبين معرفته.
وأمّا علامات حبّ العبد لله فهي كثيرة:
منها: حبّ لقاء الحبيب بطريق الكشف والمشاهدة في دار الخلود، فلا معنى لادّعاء الحبّ من عدم حب اللقاء.
فمن علم أنّه لا يمكن الوصول واللقاء الا بالموت والفناء أحبّ الموت لا محالة، إذ لا يثقل على المحبّ السفر عن الوطن إلى مستقرّ المحبوب ليتنعّم بمشاهدته، والموت مفتاح اللقاء.
قال النبي صلى الله عليه وآله: «من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقاءه» (8).
وقال السجّاد عليه السلام: «حبّب إليّ لقاءك وأحبب لقائي واجعل لي في لقائك الراحة والفرج والكرامة» (9).
ولذا قال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة: 6] فكراهة الموت غالباً إنّما يكون لحبّ الدنيا والعلاقة بها ولن يجتمع حبّان في قلب واحد كما عرفت {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] سيّما إذا فرض تنافيهما وتعاديهما وكونهما كالضرّتين لا يجتمعان، وقد علمت أنّ الدنيا عدوّة لله ولأوليائه، فكيف يجتمع حبّ المتعاديين في قلب واحد وبقدر حبّه للدنيا يكون خالياً عن حبّ الله، ويكون نعيمه بلقاء الله عند القدوم عليه على قدر حبّه، وعذابه بفراق الدنيا عند الموت على قدر حبّها وكثيراً ما يكره الموت لكثرة المعاصي وعدم الاستعداد للقاء.
فإن كان في هذا الحال سالكاً سبيل الآخرة ساعياً في تحصيل الزاد والاستعداد وكان كراهته للموت مخافة ألّا يكمل لقاءه للحبيب على النهج الذي يريده فهو لا ينافي الحبّ لله، بل هو كالمحبّ الذي وصل الخبر بقدوم حبيبه عليه فأحبّ أن يتأخّر ساعة ليهدي له داره ويعدّ أسبابه فيلقاه كما يهواه فارغ القلب عن المشاغل خفيف الظهر عن العوائق. وعلامته المواظبة على العمل واستغراق الهمّ في الاستعداد.
وإن كان مع بقاء الغفلة والذهول وتثقيل الظهر بالمعاصي الجديدة وتسويف النفس بالآمال من دون إنابة واستعداد، فمآل كراهته في الحقيقة إلى كراهة لقاء الله وعدم حبّه له، وحبّه للدنيا وأسره تحت حكم الشهوات أيضاً.
ومنها: إيثار محابّ الله على ما يحبّه في ظاهره وباطنه من الشهوات والكسل في الطاعات بالاجتهاد في الطاعة ولزوم المراقبة والمرابطة ومزايا الدرجات.
وبالجملة، يترك هوى لنفسه لهوى محبوبه.
أريد وصاله ويريد هجري ** فأترك ما أريد لما يريد
وقال آخر:
وأترك ما أهوى لما قد هويته ** وأرضى بما ترضى وإن سخطت نفسي
بل إذا غلب الحبّ قمع الهوى فلا يبقى له تنعّم بغير المحبوب.
روي أنّ زليخا لمّا تزوّجها يوسف كانت تسوّف وتهرب منه منقطعة إلى الله تعالى، متخلّية للعبادة، فلمّا أصرّ عليها قالت: إنّما كنت أحبّك قبل أن أعرفه، والآن ما أبقت محبّته محبّة لسواه، وما أريد به بدلاً (10).
وبالجملة: الصادق في الحبّ لا يعصي حبيبه.
تعصي الإله وأنت تظهر حبّه ** هذا لعمري في الفعال بديع
لو كان حبّك صادقاً لأطعته ** إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع
هذا، وقد قيل: إنّ العصيان لا ينافي أصل الحبّ، وإنّما ينافي كماله، فكم من مريض يأكل ما يضرّه مع حبّه لنفسه ضرورة، ولذا أنّ نعيمان لمّا حدّه رسول الله صلى الله عليه وآله مراراً لعنه رجل مرّة وقال: ما أكثر ما يؤتى به رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: لا تلعنه فإنّه يحبّ الله ورسوله (11)، فتأمّل.
ومنها: استهتاره بذكر الله تعالى بلا فتور في اللسان وفراغ القلب عنه فمن أحبّ شيئاً أكثر ذكره لا محالة.
فعلامة حبّ الله الإكثار من ذكره وقراءة كلامه وحبّ رسوله وكلّ ما ينسب إليه، فإنّ المحبّة إذا قويت تعدّت عنه إلى من ينتسب إليه ويتعلّق به وليس ذلك شركة في المحبّ لأنّه حبّ عرضيّ من حيث إنّه منتسب إليه فإنّه المقصود من الحبّ خاصّة في الحقيقة، وهذا دليل على كمال حبّه له، بل من غلب حبّه تعالى على قلبه أحبّ جميع خلقه؛ لأنّهم صنيعه [فكيف بخواصّهم الذين محبّتهم له محبّة خاصّة وبالعكس] (12).
ولذا قال تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31].
ومنها: استئناسه بالخلوة والمناجاة والعبادة، سيّما في هدوء الليل وصفاء الوقت بانقطاع العوائق، فأوّل مراتب الحبّ التلذّذ بالخلوة بالحبيب والتنعّم بمناجاته والاستيحاش من كلّ ما ينغّصها ويعوق عن لذّتها.
ومنها: ألا يتأسّف على فوت شيء من الدنيا ويعظم أسفه على فوت ساعة خلت عن ذكر الله وطاعته فيكثر بعد التذكّر من الاستغفار والتوبة وأن يتنعّم بالطاعة ولا يثقلها ويسقط عنه تعبها.
قال بعض الأكابر: علامة المحبّة دوام النشاط والدؤوب على العبادة بشهوة، يفتر بدنه ولا يفتر قلبه وكيف يستثقل العاشق السعي في هوى معشوقه ولا يستلذّ من خدمته الشاقّة على بدنه.
قيل لبعض المحبّين وقد بذل ماله ونفسه في سبيل الله حتّى لم يبقَ معه شيء: ما سبب حالك في هذه المحبّة قال: سمعت يوماً محبّاً يقول لمحبوبه: أحبّك والله بقلبي كلّه وتعرض عنّي بوجهك كله، فقال المحبوب: إن كنت صادقاً فماذا تنفق عليّ؟ فقال: أملكك ما أملك ثم أنفق روحي حتّى أهلك، فقلت: هذا خلق بخلق وعبد بعبد فكيف عبد بمعبود؟
أقول: بل هذا حال محبّ بمن لا يحبّه فكيف بمحبّ مع من هو أحبّ إليه منه.
ومنها: أن يكون مشفقاً على جميع عباد الله رحيماً عليهم شديداً على عداوة أعداء الله، أشدّاء على الكفّار رحماء فيما بينهم، لا تأخذه في الله لومة لائم.
ومنها: أن يكون في حبّه خائفاً متضائلاً تحت الهيبة والتعظيم، ومن ظنّ أن الحبّ ينافي الخوف فقد أخطأ، بل إدراك العظمة تورث الهيبة كما أنّ إدراك الجمال يورث الحبّ، ومخاوف المحبّين في مقام المحبّة أشدّ وأعظم من غيرها، وبعض منها أشدّ من بعض آخر.
فأوّلها: خوف الإعراض، وأشدّ منه خوف الحجاب، ثم خوف الإبعاد، وإنّما يعظم هيبة البعد وخوفه في قلب من وصل إلى القرب وألف به.
فالوزير الأعظم أشدّ خوفاً وهيبة من السلطان ممّن هو من عرض العسكر ومضطرب دائماً من أن يصدر عنه ما يزيله عن تقرّبه ويبعده عن حضرة الملك.
ثم خوف الوقوف وسلب المزيد، فإنّ درجات القرب غير متناهية كما أشرنا إليه، وحقّ السالك أن يجتهد في كلّ نفس حتى يزداد قرباً.
قال النبي صلى الله عليه وآله: «من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان يومه شرّاً من أمسه فهو ملعون» (13).
ولذا قال صلى الله عليه وآله: «وإنّه ليغان على قلبي حتّى استغفر الله في كلّ يوم سبعين مرّة» (14).
فكان استغفار من المقام الأوّل بعد وصوله إلى المقام الثاني.
ثمّ خوف ما لا يدرك بعد فوته، ثم التسلية بلطف جديد يعرضه فيتّكئ عليه فيقف أو يرجع والسلوّ يدخل عليه من حيث لا يشعر كما يدخل الحبّ كذلك، فإنّ لهذه التقلبات في القلب أسباب خفيّة سماوية ليس في قوّة البشر الاطّلاع عليها، وإذا أراد الله المكر والاستدراج أخفى عنه ما ورد عليه من التسلية فيقف مع الرجاء أو يغترّ بحسن الظنّ أو تغلبه الغفلة والنسيان، وكلّ ذلك من جنود الشيطان التي تغلب جنود الملائكة من العقل والعلم والذكر والبيان.
ثم خوف الاستبدال به من حبّه إلى حبّ غيره. وعلامته الانقباض عن دوام الذكر وملالته عن وظائف الأوراد وملازمة الخوف عن هذه الأمور والحذر منها بصفاء المراقبة دليل على صدق الحبّ، فإنّ من أحبّ شيئاً خاف فقده إذا كان المحبوب ممّن يمكن فواته.
ولذا قال بعض العرفاء: من عبد الله بمحض المحبّة من غير خوف هلك بالبسط والإدلال، ومن عبده من طريق الخوف دون المحبّة انقطع عنه بالبعد والاستيحاش ومن عبده بهما أحبّه الله فقرّبه ومكّنه وعلّمه، فالمحبّ لا يخلو عن الخوف والخائف لا يخلو عن الحبّ، وكان شوب الخوف يسكن قليلاً من سكر الحب، فلو غلب الحبّ واستولت المعرفة لم يثبت لها طاقة البشر فالخوف يعدله ويخفّف وقعه على القلب.
فقد روي أنّ بعض الصدّيقين سأله بعض الأبدال أن يسأل الله أن يرزقه ذرّة من معرفته، ففعل ذلك فهام في الجبال وحار عقله ووله لبّه وبقى سبعة أيّام شاخصاً لا ينتفع بشيء ولا ينتفع منه شيء فسأل الصدّيق أن ينقص بعض الذرّة، فأوحى الله إليه إنّما أعطيناه جزءاً من مائة ألف جزء من الذرّة، فإنّ مائة ألف عبد سألوني في ذلك الوقت الذي سأله أن أعطيهم ذرّة من المعرفة فقسمتها بينهم، فهذا ما أصابه منه فقال: سبحانك يا أحكم الحاكمين انقصه، فأذهب الله عنه جملة من الجزء وبقي فيه عشر معشاره أي جزء من عشرة ألف ألف جزء من الذرّة، فاعتدل خوفه وحبّه ورجاؤه وسكن وصار كسائر العارفين.
ومنها: كتمان الحبّ والتوقّي من إظهار الوجد والمحبّة تعظيماً للمحبوب وإجلالاً وغيرة على سرّه فإنّ الحبّ سرّ من أسرار الله تعالى ولأنّه قد يدخل في الدعوى ما يجاوز ويزيد على المعنى ويكون ذلك من الافتراء وتعظم العقوبة عليه في العقبى ويتعجّل عليه البلوى في الدنيا....
ولقد كان أكثر الشيعة من أصحاب الأئمّة عليهم السلام لا يطيقون لما يرونه من جمال أئمّتهم الصوري ممّا يدهش العقول والألباب. فربّما لاحظوا فيهم بعين الربوبية أو وقع في أوهامهم ذلك مع أنّه قليل من كثير ما هم فيه.
وكذا لا يطيقون لاستماع أصواتهم وألحانهم فضلاً عن مراتب معارفهم العالية.
وهذا هو السرّ في طعن جملة من علماء الرجال وقدماء الأصحاب في جملة من رواة أسرار أخبار الأئمّة الأطهار كمحمّد بن سنان والجعفي والمفضّل بن عمر والمعلى بن خنيس وأضرابهم، فإنّهم كانوا يحتملون ما لا يحتمله غيرهم كما صرّح به المفيد في إرشاده والسيّد الأجل ابن طاووس (15).
قال السيّد (ره): إنّ بعض أجلّاء الشيعة الذين رووا أسرار الأئمة عليهم السلام كان جلالة قدرهم وعلوّ مرتبتهم سبباً لانحطاطها عند أصحابنا حتى نسبوهم إلى ما لا يليق بجنابهم وعدّ منهم محمد بن سنان مع أنّ حديثه في الضعف عند أصحابنا أشهر من أن يذكر.
ولمّا كان قصور قوالبهم وضعف طاقتهم عن تحمّلها يفضي إلى الافشاء احياناً من غير اختيار، فربّما رخصّوا لهم الجنون والخروج عن زيّ العقلاء، وربّما منعوهم فلم ينتهوا وعصوا فخرج لعنهم من الأئمة عليهم السلام إمّا لمخالفتهم وعصيانهم أو لئلّاً يفتتن بهم الناس ويفشى سرّهم ويذيع بواطن الأمور عند من لا يليق به، وهذا أحد أسباب لعنهم، وربما افتتنوا ففهموا الزائد على ما أشرنا إليه فكفروا واقعاً، ولذلك لعنوا فإذا لم يكن لخواصّ الشيعة الواصلين إلى المراتب العليا ببركات أنفاس أولئك الأقطاب قوّة تحمّل قليل من كثير ممّا هم عليهم السلام فيه فكيف يطيق أحد يمكن أن يدّعي الطاقة في الوصول إلى مرتبة معرفة الله سبحانه وحبّه ويتظاهر به.
نعم قد يكون للمحبّ سكرة في حبّه حتى يدهش ويضطرب أحواله فيظهر شيئاً من غير اختيار واكتساب فهو معذور؛ لأنّه مقهور وليس طاقة الناس على نمط واحد، فالقادر على الكتمان يقول:
وقالوا قريب قلت ما أنا صانع ** بقرب شعاع الشمس لو كان في حجري
فمالي منه غير ذكر بخاطري ** يهيج نار الحبّ والشوق في صدري
والعاجز عنه يقول:
ومن قلبه مع غيره كيف حاله ** ومن سرّه في جنبه (16) كيف يكتم
على أنّ العارف لو كان صادقاً في عرفانه وعرف أحوال الملائكة في حبّهم الدائم وشوقهم اللازم الذي به يسبّحون الليل والنهار لا يفترون لاستنكف عن نفسه ومن إظهار حبّه وقطع بأنّه من أخسّ المحبّين في مملكته، وكذا لو عرف أحوال الأنبياء والأولياء وما اعترفوا به من العجز والقصور لخرس لسانه عن التظاهر بدعوى المحبّة، فسبحان مَن لا سبيل إلى معرفته الا بالعجز عن معرفته.
ومن علامات المحبّة: الرضا وقد تقدّم، والأنس وسيأتي.
وبالجملة؛ جميع محاسن الدين ومكارم الأخلاق من ثمرات الحبّ، وقد جمع بعض العرفاء علامات الحبّ في عدة أبيات فقال:
لا تخدعنّ فللمحبّ دلائل ** ولديه من تحف الحبيب وسائل
منها تنعّمه بمرّ بلائه ** وسروره في كلّ ما هو فاعل
فالمنع منه عطية مقبولة ** والفقر إكرام وبرّ عاجل
ومن الدلائل أن يرى من عزمه ** طوع الحبيب وإن ألحّ العاذل
ومن الدلائل أن يرى متبسّما ** والقلب فيه من الحبيب بلابل
ومن الدلائل أن يرى متفهّماً ** لكلام من يحظى لديه السائل
ومن الدلائل أن يرى متقشفا ** متحفّظاً عن كلّ ما هو قائل
وزاد آخر:
ومن الدلائل أن تراه مشمّراً ** في خرقتين على شطوط الساحل
ومن الدلائل حزنه ونحيبه ** جوف الظلام فما له من عاذل
ومن الدلائل أن تراه مسافراً ** نحو الجهاد وكلّ فعل فاضل
ومن الدلائل زهده فيما يرى ** من دار ذلّ والنعيم الزائل
ومن الدلائل أن تراه باكياً ** أن قد رآه على قبيح فعائل
ومن الدلائل أن تراه مسلّماً ** كلّ الأمور إلى المليك العادل
ومن الدلائل أن تراه راضياً ** بمليكه في كلّ حكم نازل
ومن الدلائل ضحكة بين الورى ** والقلب محزون كقلب الثاكل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) راجع الكافي: 2 / 352، كتاب الإيمان والكفر، باب من آذى المسلمين، ح 8.
(2) راجع المحجّة البيضاء: 7 / 7 و8 / 63 فالمصنّف (ره) جمع بين الروايتين ظاهراً.
(3) في «ألف» و «ب »: ناطقة.
(4) المحجّة البيضاء: 8 / 67، وفيه: «اقتناه، قيل: وما اقتناؤه؟».
(5) المحجّة البيضاء: 8 / 67.
(6) المحجّة البيضاء: 8 / 67.
(7) المحجّة البيضاء: 8 / 67.
(8) المحجّة البيضاء: 8 / 68.
(9) مفاتيح الجنان: دعاء أبي حمزة الثماليّ.
(10) إحياء العلوم: 4 / 331.
(11) المحجّة البيضاء: 8 / 70.
(12) ما بين المعقوفتين في «ج» فقط.
(13) المحجّة البيضاء: 8 / 75.
(14) المحجّة البيضاء: 7 / 17.
(15) لم يصرّح المفيد رحمه الله بأنّ محمد بن سنان كان يحتمل ما لا يحتمل غيره، نعم صرّح في إرشاده (ج2 / 248) بكونه من خاصّة الكاظم عليهالسلام مع أنّه ضعّفه في الرسالة العدديّة (ص 20 طبع المؤتمر) وقال: وهو (أي محمّد بن سنان) مطعون فيه لا تختلف العصابة في تهمته وضعفه.
وكذا لم يصرّح السيّد بما قاله المصنّف (ره) بل صرّح بجلالته وعلوّ شأنه ورئاسته ولقائه ثلاثة من الأئمّة: ومعجزة لأبي جعفر الثاني بالنسبة إليه فراجع فلاح السائل: 13.
(16) في الإحياء (4 / 337): جفنه.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|