المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
تـشكيـل اتـجاهات المـستـهلك والعوامـل المؤثـرة عليـها
2024-11-27
النـماذج النـظريـة لاتـجاهـات المـستـهلـك
2024-11-27
{اصبروا وصابروا ورابطوا }
2024-11-27
الله لا يضيع اجر عامل
2024-11-27
ذكر الله
2024-11-27
الاختبار في ذبل الأموال والأنفس
2024-11-27



الخلاف بين البحتريِّ وأصحاب التَّصنيع  
  
3734   02:06 مساءً   التاريخ: 4-10-2015
المؤلف : شوقي ضيف
الكتاب أو المصدر : الفن ومذاهبه في الشعر العربي
الجزء والصفحة : ص193-196
القسم : الأدب الــعربــي / النقد / النقد القديم /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 19-1-2020 2301
التاريخ: 18-1-2020 3065
التاريخ: 26-7-2017 2215
التاريخ: 19-1-2020 1398

كان البحتري يستخدم أحيانًا بعض أدوات التصنيع ولكن في يسر وسهولة ودون أن يعقد فيها كما نرى عند جماعة المصنعين، فهو من أصحاب الصنعة وهو لذلك لا يستطيع أن ينهض بشعره إلى الغاية التي حققها أصحاب التصنيع، فقد كانوا لا يكتفون -على نحو ما سنرى عند أبي تمام- باستخدام أدوات هذا التصنيع استخدامًا ساذجًا؛ بل هم يحققون لها صورًا غريبة من التعقيد؛ وهم لا يكتفون أيضًا بذلك؛ إذ نراهم يدخلون ألوانًا ثقافية قاتمة، سرعان ما تتحول عنده إلى ألوان فنية زاهية.
لم يعد التصنيع في القرن الثالث على الصورة التي خلَّفها مسلم، ونحن نجد تصنيعه يتسرب إلى أصحاب الصنعة ويسقط إليهم دون تجديد فيه أو تعقيد؛ فهم يستخدمون -كما يستخدم البحتري- التصوير والجناس والطباق؛ ولكنه استخدام ساذج يخالف ما سنجده عند أبي تمام. ويتبين ذلك في وضوح إذ قارنا بين أهم لون كان يستخدمه البحتري وهو لون الطباق وبين نفس هذا اللون عند أبي تمام، واقرأ هذه الأبيات التي تذيع سر المهنة عند البحتري.
مني وصلٌ ومنك هجرٌ ... وفي ذلُّ وفيك كِبر
وما سواءٌ إذا التقينا ... سهل على خلَّة ووعر
قد كنت حرًّا وأنت عبدٌ ... فصرت عبدًا وأنت حرُّ
برَّح بي حبك المعنَّى ... وغرني منك ما يغرُّ
أنت نعيمي وأنت بؤسي ... وقد يسوء الذي يسرُّ
فإنك تجد فيها هذا الطباق الذي عرف به البحتري؛ ولكنه طباق ساذج لا تعقيد فيه ولا تعب ولا عناء ولا مشقة، طباق ضحل بسيط، هو أشبه ما يكون بتداعي المعاني، فلا خيال ولا عمق ولا فكرة؛ إنما وصل وهجر، وذلٌّ وكبر، وسهل ووعر، وعبد وحر، ونعيم وبؤس، وإساءة وسرور، ولكن هل تحس في هذه المعاني المتقابلة شيئًا من اللذة سوى ما فيها من تقطيع صوتي يدفعها عن السقوط؟
ونفس بناء هذه الأبيات ليس فيه مشقة ولا صعوبة، فالبحتري لم يكن يعرف -كما يعرف المصنعون- أن الشعر نحت وصقل وألوان معقدة؛ إذ كان يقف عند ظاهر هذا العمل فينقل الشكل، وقلما نفذ إلى الباطن وما يتغلغل فيه من تفكير بعيد، وما يستغرقه من خيال معقد وصور مركبة، لم يكن البحتري ليستطيع التعمق في فهم المذهب الجديد، فهو بدوي، وهو لذلك لا يحسن فهم أدوات الصناعة كما يفهمها صناع المدن في القرن الثالث، فإن استعمل أداة منها استعملها استعمالًا ساذجًا لا صعوبة فيه ولا تركيب، كما نرى في هذا الطباق؛ فإنه لم يكد يخرج به إلى صورة معقدة؛ إذ هو يفهم الطباق هذا الفهم البسيط الذي لا يضيف إلى الشعر جمالًا عقليًّا خاصًّا، ولكن انظر إلى استخدام هذا الطباق عند أبي تمام، فإنك تراه يستخرج منه أصباغًا تحيِّر وتعجب، واقرأ لأبي تمام هذا البيت الذي يصف فيه بعيره وما أصابه من نحول وسقم لكثرة أسفاره؛ إذ يقول:
رعته الفيافي بعد ما كان حِقْبَةً ... رعاها وماءُ الرَّوضِ ينهلُّ ساكبُهْ
فإنك تحس غرابة في الأداة، وكأنها تخالف مخالفة تامة تلك الأداة من الطباق التي رأيناها عند البحتري؛ ذلك أن أبا تمام لا يلجأ إلى المطابقة والمقابلة بين الأشياء، كما توحي الذاكرة بل هو يعود إلى عقله وفلسفته فيعمل فكره، ويُكدُّ ذهنه، حتى يستخرج هذه الصورة الغريبة من التضاد؛ فإذا بعيره يَرعى ويُرعى، يرعى الفيافي، وهو رعي غريب استحوذ على جهد عنيف من الشاعر، حتى استطاع أن يستخرج هذه الصورة المتناقضة أو المتضادة، والتي يحسُّ الإنسان بإزائها إحساسًا واضحًا أنها من نوع آخر غير طباق البحتري؛ فطباقه ليس فيه فلسفة وليس فيه عمق وليس فيه تفكير بعيد؛ هو طباق ساذج لا صعوبة فيه ولا تعقيد، هو طباق الذاكرة إن صح هذا التعبير؛ فهو يذكر الوصل فيأتي الهجر، وهو يذكر الذل فيأتي الكبر، وهو يذكر السهل فيأتي الوعر. وعلي هذا النظام ما يزال يصوغ طباقه فلا تحس فيه جمالًا إلا حين يخرج به إلى الملاءمة بين الأصوات؛ غير أننا إذا رجعنا إلى أبي تمام رأينا صبغًا حديثًا من الطباق على هذا النحو الذي رأينا فيه دابته تَرعى وتُرعى رعيًا غريبًا، وهي طباق فلسفي إن صح هذا التعبير، بل لقد كان أبو تمام -كما سنرى- يفصله عن الطباق القديم ويسميه: نوافر الأضداد، وقد استخرج هذه النوافر من ثقافته الفلسفية، وذهب يستخدمها استخدامًا فنيًّا واسعًا في شعره.
كان أبو تمام يستخدم الطباق استخدامًا فلسفيا، وهذا ما يفرق بين طباقه وطباق البحتري، بل هو نفسه الذي يفرق بين مواد الصناعة عند كل منهما.
فأبو تمام يدخل الفلسفة في العمل الفني على أنها شيء أساسي؛ فالشعر لا يخاطب الشعور فقط بل هو يخاطب العقل قبل كل شيء، وهو لذلك قد يعدل في أدوات التصنيع التي يستخدمها غيره، وهو تعديل يرضينا ويرضي عقولنا، ومن لا يروعه هذا الطباق الفلسفي الذي يقيمه أبو تمام على قانون الأضداد المعروف في الفلسفة؛ فإذا هو لا يعتمد على العبث اللفظي ولا على هذه المعاني التي تتوالي في الذهن حين نذكر الليل فيأتي النهار أو الضوء فيأتي الظلام أو غير ذلك من مقابلات تخرج من وعاء الذاكرة، بل هو يعقد هذا الطباق ويجعله عملًا عقليًّا واسعًا؛ ففيه خيال وفيه تناقض وتضاد، وفيه هذه الدابة التي لا تزال تَرعى وتُرعى، ترعى الفيافي وترعاها الفيافي! .
 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.