أقرأ أيضاً
التاريخ: 24-5-2022
1930
التاريخ: 16-12-2014
3657
التاريخ: 6/12/2022
2519
التاريخ: 25/12/2022
1977
|
قال تعالى : ( ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين )[1].
عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) أنّه قال : " ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها مثلاً ضرب الله لفاطمة ( عليها السلام ) وقال : انّ فاطمة أحصنت فرجها فحرّم الله ذريتها على النار "[2].
وقبل ذلك ، لابد من التنبيه إلى قاعدة في باب المعارف أشارت إليها روايات أهل البيت ( عليهم السلام ) وهي أن ما ذكر في القرآن الكريم من الأنبياء والرسل والأوصياء والحجج وما لهم من مقامات ومناصب وشؤون إلهية ان من غاياته المهمة كونه مثلاً ضربه الله تعالى لمقامات وشؤون النبيّ وأهل بيته ( عليهم السلام ) ، وهذه القاعدة باب ينفتح منه أبواب عديدة .
فالمماثلة بين حالتي فاطمة ( عليها السلام ) وبين مريم ( عليها السلام ) تتم من وجوه قرآنية - قرآنية أي ستكون المقارنة بينهما على أساس استقراء قرآني للآيات الواردة في مقامات مريم ( عليها السلام ) وبين الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في مقامات فاطمة ( عليها السلام ) لنجد مدى الترابط الوثيق ووضوح المشتركات التي تؤهّل الباحث من متابعة أوجه التشابه بين المقامين .
مقامات السيدة مريم ( عليها السلام )
إذا كانت مريم ( عليها السلام ) قد فضّلها الله بكمالات تقارب كمالات الأنبياء والرسل وهي سيدة نساء عالمها فكيف بسيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين فاطمة بنت محمد صلوات الله عليها .
عن المفضل بن عمر قال : " قلت لأبي عبد الله ( عليه السلام ) أخبرني عن قول رسول الله في فاطمة : أنها سيدة نساء العالمين ، أهي سيدة نساء عالمها ؟ فقال : تلك مريم كانت سيدة نساء عالمها ، وفاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين "[3].
والمراد من قوله تعالى ( انّ اللّه اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين )[4] ليس مطلق العالمين إلى يوم القيامة ، بل هو عالم زمانها بقرينة نظير قوله تعالى في بني إسرائيل ( اذكروا
نعمتي التي أنعمت عليكم وأنّي فضلتكم على العالمين )[5] وقوله تعالى على لسان موسى خطاباً لبني إسرائيل ( قال أغير اللّه أبغيكم إلهاً وهو فضلّكم على العالمين )[6] وكذا قوله تعالى ( ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين )[7] وقوله تعالى ( ولقد اخترناهم على علم على العالمين )[8] فانّه ليس المراد تفضيلهم على كل الأمم وانّما المراد بها تفضيلهم على عالمين زمانهم لقوله تعالى ( كنتم خير أمّة أخرجت للناس )[9] وقوله تعالى ( وكذلك جعلناكم أمّة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً )[10] مما يعني أنّ هذه الأمة هي أفضل من بني إسرائيل مما يعني أنّ هذه الأمة وإن أريد منها بعض الأمة الاسلامية ، مضافاً إلى ما سيأتي من دلالة الآيات من أفضلية مقامات الزهراء ( عليها السلام ) على مريم ( عليها السلام ) .
فالمراد إذن من اصطفاء مريم على العالمين هو عوالم الأمم من العرقيات والأقوام والملل والنحل التي كانت تعيش في
زمانها من شرق الأرض وغربها .
ولكي نستقرأ مقامات فاطمة ( عليها السلام ) يجدر بنا أن نتعرض للإشارات القرآنية عن مقام مريم ( عليها السلام ) ليتبيّن لنا مقامات سيدة نساء العالمين ، عندها فلا تكون أية غرابة فيما تعتقده الامامية من مقامات فاطمة ( عليها السلام ) وسيتبين من النصوص القرآنية النازلة فيها انّ تلك المقامات حاصلة للصديقة ( عليها السلام ) ، بغض النظر عن الأولوية المتقدمة ويكون ما ورد في مريم ( عليها السلام ) ما هو إلا مبين ما قد ورد فيها ( عليها السلام ) وستكون الأولوية حاكمة في معرفة وبيان مقاماتها بعد ذلك .
أولاً : مريم وتحديث الملائكة لها
ان ما ذكرناه من الإشارة إلى مصحف فاطمة ( عليها السلام ) وكيفية نزول جبرئيل عليها ليسليها بمصاب أبيها بعدما دخلها من الحزن الشديد ، لم يكن ذلك إلا حالة من حالات الوحي ، إلا أنه وحي غير نبوي أثبته القرآن في مواضع عديدة لرجال ونساء كاملين في مقام الحجية لقوله ( ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً )[11] ( 1 ) ومعلوم أن ما وقع لمريم ( عليها السلام ) من وحي هو قسم أعظم من نزول جبرئيل ( عليه السلام ) وذلك لحصول القسم
الأول لها مضافاً إلى الثالث كما أن تقديم ذكره في الترتيب في قوله تعالى ( ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً ) لشرفيته على القسمين الثاني والثالث وهو الايحاء من وراء حجاب وارسال رسول يوحي بإذن الله تعالى ، والشاهد على حصول الأول لها قوله تعالى : ( قالت ربّ أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فانّما يقول له كن فيكون ويعلمه . . . . ) وفاعل قال ههنا هو الله تعالى لأنها وجهت قولها مخاطبة الله تعالى متصلاً بالآيات السابقة في سورة آل عمران ( إذ قالت الملائكة يا مريم ان اللّه يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهاً في الدنيا والآخرة . . . ) ففي الآيات السابقة الإشارة إلى نزول الملائكة عليها وقولها لها بالبشارة . ويشهد لكون الخطاب والقول هو من الله تعالى في الآية المزبورة ، أن القول لم يكن من جبرئيل كما قد يتوهم إذ أن تمثّل جبرئيل لها والذي تستعرضه سورة مريم كان بعد مدة زمنية فاصلة عن نزول الملائكة بالبشارة ، ويشهد لذلك أيضاً أن مريم ( عليها السلام ) أعادت تعجبها ( قالت أنّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيّاً قال كذلك قال ربّك هو عليّ هيّن ولأجعله آية للناس ورحمة منّا وكان أمراً مقضياً ) من دون توجيهه إلى الله تعالى ، وكانت إجابة جبرئيل لها بتذكيره لجواب الله تعالى المتصل ببشارة الملائكة
في سورة آل عمران . وعلى ذلك فيظهر من سورة آل عمران أن الوحي الذي حصل لمريم بُعيد الوحي بتوسط الملائكة بالبشارة ، هو من الوحي بدون وساطة الرسول الملائكي ولم يكن تكليماً من وراء حجاب أي أنه من النمط الأول من أقسام الوحي المشار اليه في سورة الشورى وهو أعلى أنماط الوحي كما يدلّ عليه الترتيب الذكري ، وهو لا يحصل في الغالب إلا للأنبياء المرسلين من طبقة أولي العزم وفي بعض حالاتهم . فهذه منقبة ومقام عظيم يتلوه القرآن الكريم لمريم بنت عمران . كما أن مفاد الوحي لمريم هو ابلاغها بنبوّة عيسى وبعثته بشريعة الإنجيل ، فكان تصديقها بكلمات الله وكتبه بتوسط الوحي الذي حصل لها ، لا عبر نبيّ مرسل وهو زكريا ( عليه السلام ) أو يحيى ( عليه السلام ) وقبل تولّد ابنها النبي عيسى ( عليه السلام ) ، فكانت قد أوكل إليها مسؤولية ابلاغ نبوة عيسى ( عليه السلام ) إلى الملأ من قومها ، وهذا نظير ما ورد في الصديقة الزهراء ( عليها السلام ) من نزول اللوح الأخضر عليها المتضمن لأسماء الأئمة ( عليهم السلام ) وما ورد من أن مصحفها ( عليها السلام ) متضمن للوصية بالإمامة في ذريتها . كما أنها كانت محدثة من قبل الملائكة كما كانت مريم مع أنها ليست بنبي ، وقد روى الصدوق في علل الشرائع عن أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) قال : " سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : انّما سميت فاطمة ( عليها السلام ) محدثة لأن الملائكة كانت تهبط من
السماء تناديها كما تنادي مريم بنت عمران فتقول : يا فاطمة انّ الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ، فتحدثهم ويحدثونها قالت لهم ذات ليلة : أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران ؟ فقالوا : ان مريم كانت سيدة نساء عالمها وان الله عزّ وجل جعلك سيدة نساء عالمك وعالمها وسيدة نساء الأولين والآخرين "[12] .
على أن مريم أوحي إليها وكلّمتها الملائكة ولم تكن نبيّاً ولا رسولاً ، فالتحديث لم يقتصر اذن على نبويّة الموحى اليه ، بل يكفي ذلك أن يكون من حجج الله تعالى كما هو الحال في مريم ( عليها السلام ) إذ كلّمتها الملائكة وحدّثتها بالبشارة ، وقد دلّت مجموعة آيات على تحديثها منها :
قوله تعالى : ( واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً ، فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سوياً ، قالت إنّي أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا ، قال انّما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماً زكياً ، قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا ، قال كذلك قال ربّك هو عليّ هيّن ولنجعله آية للناس ورحمة منّا وكان أمراً مقضياً )[13].
محاورة بين مريم وبين الوحي تُبيّن الاصطفاء الإلهي المقدس الذي حضيت به مريم ( عليها السلام ) ، فتمثّل جبرئيل بشراً سوياً ليُلقي لها البشارة من الله تعالى ويكشف ذلك عن الدرجة التي بلغتها مريم كحجة من حجج الله تعالى ، إذ التمثّل هذا نظير التمثّل الذي حدث لإبراهيم ( عليه السلام ) عند اتيانه البشارة كما في قوله تعالى : ( ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى )[14] فكان البشارتين كانتا في سياق واحد ، وهو منح إبراهيم إسحاق ويعقوب نبيين ، كما منحت مريم ( عليها السلام ) عيسى نبياً مرسلاً ، فالتشابه في مهمتي نبي الله إبراهيم لتلقيه البشرى في إسحاق ويعقوب كمهمة مريم في تلقيها البشارة الإلهية في عيسى ( عليه السلام ) ، وهذه البشارة الإلهية لها دلالاتها الخطيرة في مهام المبشر فضلاً عن المبشَّر به .
على أن حالتي التمثّل لدى نبي الله إبراهيم ( عليه السلام ) هي نفسها حالة التمثل التي حصلت لمريم ( عليها السلام ) ، والتمثل لم يكن تغيّراً في المتمثل حقيقة ، بل هو تغير في ظرف الادراك ، فلا تغير اذن في الخارج ولا في نفس الماهية الملكية للوحي .
ومن هنا سيتبيّن عِظَم مسؤولية مريم ( عليها السلام ) من كونها في مصافي الأنبياء ، وممن هداهم الله واجتباهم من غير النبيين وهي مريم ( عليها السلام ) التي تحتل مقام الحجية لله تعالى بما يقارب حجية
الأنبياء إلا في خصوصيات النبوّة والرسالة .
ولم تقتصر حالة التكليم للملائكة من قبل مريم ، بل تترقى إلى الوحي المباشر مع الله تعالى مع أن وحي الله تعالى كان قبل تمثّل جبرئيل لها .
قال تعالى حكاية عن مريم : ( قالت ربّي أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمراً فانّما يقول له كن فيكون )[15] ( 1 ) .
فالوحي الإلهي المباشر الذي حظيت به مريم ( عليها السلام ) يكشف عن خطورة المنزلة التي تحتلها مريم ( عليها السلام ) ، إذ الوحي الإلهي المباشر لا يختص به إلا بعض الأنبياء وفي أوقات خاصّة ، وهذا نظير ما حدث لزكريا ( عليه السلام ) حين كلّمته الملائكة وبشرته بيحيى ومن ثم كان وحي الله تعالى له مباشرة يكشف عن حقيقة مهمة ، وهي تشابه حالتي زكريا ومريم في تلقي البشارة وتكليم الملائكة لهما ومن ثم تكليمها الله تعالى ، فحالتا الاصطفاء والبشارة كما حدثت لنبي الله زكريا حدثت مثلها وفي ظرف زماني متقارب لحجة الله مريم ( عليها السلام ) ، دليل على التقارب بين مهمتي المقامين ، أي مقام النبوّة لزكريا ، ومقام الحجية لمريم ، والآيات التالية تتكفّل ببيان المقام ، قال تعالى : ( فنادته الملائكة
وهو قائم يصلي في المحراب انّ الله يُبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً في الصالحين ، قال ربّ أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء )[16].
فتوارد النظائر في الحالتين دليل على وجود ترابط ظاهر أو خفي بين حالتي نبوّة زكريّا وحجية مريم ( عليها السلام ) ، والنظائر الواردة في الآية للحالتين كما يلي :
اتيان البشارة لزكريا وتكليمه الملائكة أثناء عبادته لله تعالى فقال تعالى : ( فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب )[17].
كما أن البشارة لمريم وتكليمها الملائكة حين قيامها لله تعالى منتبذة قومها قائمة لله قال تعالى ( واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً ، فاتخذت من دونهم حجاباً فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سوياً )[18] .
وتكليم نبي الله زكريا لله تعالى بلا واسطة ، قال تعالى حكاية عن زكريا : ( قال ربّي انّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء )[19] وهو نظير ما حدث
لمريم ( عليها السلام ) ، قال تعالى حكاية عن مريم : ( قالت ربّ أنّى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء )[20].
فكلاهما عرضا مقتضي الامتناع عن قابليتهما لبشارة الغلام ، إذ احتج زكريا كون امرأته عاقراً غير مقتضية للحمل وهي في هذا السن المتقدم ، ومريم احتجت بكونها غير قابلة للحمل لعدم امكان ذلك من دون زوج ، وكان جوابه تعالى لهما واحداً : ( قال كذلك الله يفعل ما يشاء ) مما يدلل على وحدة المقام لكلا الحالتين حالة زكريا وحالة مريم فضلاً عن ارتباط المهمتين ، والتشابه بين البشارتين تتكفله سورة مريم ، قال تعالى : ( انّ الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله )[21]. على أنا لا نغفل عما تقدم من دعاء زكريا من كون دعائه في طلب الولد كان معللاً بخوفه الموالي من بعده أن لا يحسنوا خلافته ، إذ كان زكريا مشفقاً على دعوته أن لا يخلفها أحد من بعده ، فهو سيخلف من ورائه موالي سوء ، لا يحسنون خلافته في دعوته فضلاً عن وراثته مما ترك ، مما يعني أن يحيى سيواجه خطر التنافس على وراثة أبيه فضلاً عن عدم التصديق به من قبل قومه ومواليه ، وكون هؤلاء يتحينون موت زكريا ليتوثّبون على خلافته ، وسيكون لمريم وابنها أثراً
مهماً في تأييد دعوة يحيى وتصديقه ، إتماماً لرسالة زكريا ودعوته وحفظهما من الضياع الذي سيؤل اليه تنافس قومه ، فمريم ( عليها السلام ) سيكون موقفهما موقف المدافع والمصدّق لرسالة زكريا في حفظ يحيى من تكذيب قومه ووثوبهم على خلافته ، لكونهما يشتركان في نفس المهمة .
وسيأتي التماثل بين فاطمة وبين مريم في مقامي الحجية ، فانّ فاطمة ( عليها السلام ) أيضاً أثبتت بحجيتها خلافة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المتمثلة في علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) إبّان صراعها ومدافعتها المتوثبون للخلافة حيث تحفزوا أن يخرجوا وراثة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) من آله عليهم السلام ، تماماً كما تماثلت ظروف وراثة زكريا وما آلت اليه الخلافة الإلهية ليحيى حيث قتلوه ونكلوا به أخيراً .
حجية مريم بنت عمران ( عليها السلام )
وحجية مريم صرّح بها القرآن بقوله تعالى ( وجعلنا ابن مريم وأمّه آية )[22] والآية هي الحجة أي جعلنا عيسى وأمّه حجة ، عن يحيى بن أبي القاسم عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) في قول الله عزّ وجل ( وجعلنا ابن مريم وأمّه آية ) قال : " أي حجّة "[23] ، فحجيّتها ( عليها السلام ) في عرض حجية ولدها نبي الله ، بل حجيتها سبقت حجية عيسى ، كما أن حجية عيسى تلت حجيتها زماناً واقتضاءً .
فالترتب الزماني بين الحجتين ظاهر ، إذ كان تكليم الله لها وكذلك الملائكة قبل ولادة عيسى بفترة ، على أن السبق الزمني لا يكون بالضرورة لخصوصية معينة ، وانّما هي أشبه بحالات ارهاص لنبوّة عيسى ( عليه السلام ) ولا شك أنها خصوصية عظيمة ومنزلة رفيعة . فقوله تعالى ( وجعلنا ابن مريم وأمّه آية ) أي انّ المسيح وأمّه كليهما من أصول الديانة المسيحية بل من الاعتقادات اللازم الاعتقاد بها عند المسلمين أيضاً لوجوب الايمان بكل كلمات الله وآياته وكتبه ورسله وآياته وحججه لقوله تعالى ( آمن الرسول بما أُنزل اليه من ربّه والمؤمنون كلٌ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورُسله لا نُفرق بين أحد من رسله )[24] ، أي انّ مريم ( عليها السلام ) من الحجج الإلهية . كما سيأتي بيان الآيات الأخرى المفسرة لمعنى كونها آية .
كما أنها مقتض لنبوّة عيسى ( عليه السلام ) لكونها قد حضيت بتكليم الله تعالى فضلاً عن تحديث الملائكة لها ، وتلقيها البشارة كما أن تبتلها ومقامها وفضلها كان احدى مرتكزات بني إسرائيل كما
يشير إلى ذلك قوله تعالى ( وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم )[25] وقوله ( وأنبتها نباتاً حسناً وكفّلها زكريا كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا )[26] مما أكد على مصداقيتها لديهم فكان قبول معجزة عيسى ونبوّته بعد ذلك احدى موجبات حجيتها لديهم ، لذا فان أخيارهم وعقلائهم قبلوا المعجزة وسلّموا لها ، وبقي جهالهم وطغاتهم يخوضون في بهتانها وايذاءها وهو شأنهم .
فأمُر الله تعالى لها بتحمّل مسؤولية الانجاب بطريقة المعجزة من دون زوج احدى مقتضيات نبوّة عيسى وشريعته المباركة ، فحجيتها ( عليها السلام ) هي من حيث أنها المبلّغ الأول لبعثة النبي عيسى وشريعته المسيحية ، حيث أنها أمرت من قبل الله تعالى بتحمل مسؤلية الانجاب بطريقة المعجزة من دون فحل ليمهد الطريق لبيان المعجزة لنبوّة عيسى وشريعته ، ثم أمرت من قبله تعالى بحمله والمجيء به إلى بني إسرائيل وأن لا تكلمهم وأن تشير اليه ليستنطقوه فيتكلّم في المهد فهي قد قامت بكل هذه المسؤوليات الموظفة من قبله تعالى لها لتبليغ واظهار المعجزة الأولى على نبوّة عيسى ( عليه السلام ) وكان ذلك عن اعتقاد منها بنبوة
عيسى بتوسط ما أوحي لها من دون وساطة النبي زكريا أو غيره من الأنبياء في زمانه ، فهي ابتدأت بابلاغ شريعة جديدة من دون أخذ هذا الامر الإلهي ذو الشأن العظيم الخطير من نبي ولا رسول ولا بوساطة النبي عيسى أيضاً ، وهذا ما تعنيه الآية الكريمة ( وجعلنا ابن مريم وأمّه آية ) فلولا حجية مريم وحجية ما يوحى إليها لكان بامكانها ابطال المعجزة الإلهية وهي ولادة عيسيى من دون أب ، بأن تدعي - والعياذ بالله - أنه لقيط وجدته في الطريق أو أنها ولدته عن زوج غائب أو ما شابه ذلك ، فانظر إلى مقام كمال حجيتها ودورها في ابلاغ الرسالة في قوله تعالى ( فأشارت اليه فقالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا ) . فهذا النمط من المجاهدة والمخاطرة بالعرض بأمر من الله تعالى وتعيين منه ، فهو حكمة بالغة من الله تعالى في اختيار هذا النمط من الجهاد ، بحيث لا يتأدى إقامة الدين إلا بذلك من دون تدنس وابتذال في العِرضْ ولا زوال لطهارته وعصمة مناعته ، وانّما هي مخاطرة ظاهرية بالسمعة ، وهذا نظير ما وقع لعترة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد واقعة كربلاء المفجعة ، حيث كان فضح بني أمية وزيغهم ، عن الدين وعدائهم لصاحب الرسالة لا يتم إلا بالمخاطرة بعيالات النبوة وتعريضهم للسبي من قبل بني أمية ، ووقوف عقيلة بني هاشم وخفِرة الطالبيين في مجلس الطاغية ابن زياد ومجلس يزيد
والقاء خطبها لبيان حقانية سيد الشهداء ( عليه السلام ) وبطلان بني أمية وحزبهم .
اذن فما جرى للسيدة مريم ( عليها السلام ) من المخاطرة بحرمتها وقدسيتها قد جرى على حرمة وقدسية فاطمة ( عليها السلام ) إذ خاطرت بحرمتها وقدسها في الذب عن امامة علي ( عليه السلام ) وذلك بالتصدي للمهاجمين على بيته ( عليه السلام ) ، فكان في ذلك فضح لكل ستار يتخفى من ورائه أصحاب السقيفة لغصب الخلافة وتحريف مسيرتها في الأمة ، ومن ثَم أحس الخليفة الأول بانتصار قضية علي ( عليه السلام ) في الإمامة ، وادحاض دعواه وصحبه فلم يمسك غيضه حتى تكلم بهجين الكلام وهو على منبر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كما نقل ذلك ابن أبي الحديد[27].
فبلوغ مريم إلى مراتب الحجية كان سبباً في تأسيس الشريعة العيسوية واكتمالها .
كما أن حمل المولود المعجزة والمجيء به إلى قومها تُعد احدى أخطر مهامها وأصعبها تحمّلاً فهي مجاهدة ومخاطرة بالعِرض وهو أشد للغيارى من قتل النفس . إذ لم يكن من اليسير أن تتحمل أقدس عفيفة في زمانها مسؤولية التهمة والبهتان ومحاولة تحدي أمّة لم تصل إلى مستوى الرشد ، بل لازالت في حضيض الجهل والسوء فكانت معاناتها النفسية مما هي فيه من الاستحياء ومخافة اللوم ما ادّى بها إلى تمني الموت ( قالت يا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً )[28] ( 1 ) قال أبو عبد الله الصادق ( عليه السلام ) : " لأنها لم ترَ في قومها رشيداً ذا فراسة ينزّهها من السوء "[29] ( 2 ) مما يكشف شدة معاناتها ووطأة المهمة الملقاة على عاتقها ، الا أن ذلك لم يفتَّ في عضدها ، ولم يحبط همّتها ، ولم يزعزع تسليمها وانصياعها وطاعتها لله تعالى ولأمره شعرة ، بل ذهبت مع ما فيها من آلام التوجسات والخواطر ، تحمل ولدها المعجزة لتثبت بكل تسليم واقتدار تحمّل المسؤولية المباركة ، ويكشف في الوقت نفسه ما وصلت اليه من الاكتمال في التسليم والانصياع وتحمل المسؤولية من حين تحديثها الملائكة وقبولها لذلك ، ولم يصدر منها أدنى تردد أو اعتذار لقبول المهمة ، مما يعني بكل تأكيد كونها طرفاً مهماً في بلوغ الرسالة العيسوية هذا المبلغ من الاقتدار على تحدي طغام بني إسرائيل ولئامهم وزحفها مخترقة كل حواجز اليهودية المتربصة لرسالات السماء . فتلخص :
أولاً : أن الذي بدأ بإبلاغ بعثة النبي عيسى هي مريم ( عليها السلام ) وهو
نمط فريد في بعثة الرسالات الإلهية أن يكون الحامل الأول للبعثة هي امرأة .
ثانياً : انّه يدلل على كمال ايمان مريم بما أوحى لها من الأوامر الإلهية من دون توسط نبي فيما بينها وبين الله تعالى .
ثالثاً : انّه يدل على حجية الوحي للمرأة المصطفاة المطهرة ، ولو قدّر - العياذ بالله - أن مريم لم تؤمن بما أوحي إليها ولم تمتثل ما أمرت به مباشرة لكان في ذلك إحقاق للمعجزة الإلهية على نبوّة عيسى وبعثته بديانة ناسخة لشريعة موسى ( عليه السلام ) ، أي ولادته من غير أب ، فمن ثم كانت عصمة مريم وانها من الصفوة المنتجبة للحجية على العباد آية الهية مع ابنها ، على حقانية بعثة ونبوّة وشريعة النبي عيسى ( عليه السلام ) في زمانه ، فمن ثَم جُعلت من أصول الديانة والشريعة العيسوية كما قال تعالى ( وجعلنا ابن مريم وأمّه آية ) بل هذه الآية الإلهية واجبة الاعتقاد في الشريعة الاسلامية لوجوب الاعتقاد بكل آيات الله وكلماته وكتبه ورسله ، وسيأتي نظير هذا المقام للزهراء ( عليها السلام ) حيث احتج الله تعالى بها على حقانية نبوّة سيد المرسلين وبعثته وشريعته كما في آية المباهلة ، وأعطاها الله تعالى مقام ودور صاحب الدعوة للدين من قبله تعالى ، وأن الخمسة أصحاب الكساء صادقون فيما يبلغونه عن الله تعالى من شريعة الاسلام ونبوّة سيد الرسل .
كما أن حجية مريم ( عليها السلام ) اصلاً من أصول الديانة المسيحية ، إذ كونها هي وابنها آية ، أي حجة يجب على معتنقي المسيحية التسليم لها وقبولها والاعتقاد بها فهي المتمم لحجية عيسى ورسالته .
فنرى أن القرآن الكريم في السور العديدة لا يدحض اعتقاد المسيحيين والنصارى في جعلهم مريم وعيسى كليهما من أصول الاعتقاد والديانة بل يدحض تأليههم لهما ، فلا يخطّئهم في كونهما من أصول الدين بل غاية الأمر أنه يحدد غلوهم الذي هو في تأليههم في مريم وعيسى ، فيؤكد القرآن على بشريتهما مع تصريحه بكونهما معاً آية وحجّة .
قال تعالى : ( وإذ قال اللّه يا عيسى ابن مريم أأنت قُلتَ للناس اتخذوني وأُمّي إلهين من دون اللّه )[30] وقوله تعالى : ( ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمّه صديقة كانا يأكلان الطعام )[31].
مراحل الاعداد والاصطفاء
ولم تزل مريم ابنت عمران تحضى برعاية الرب ورضوانه طالما نذرت نفسها لطاعته وعبادته وانقطاعها اليه ، فيغدقها بالرحمة ويحبوها بالكرامة ومن ثم يصطفيها لحجيته ويطهرها على نساء العالمين .
ولم يكن الاصطفاء إلا بعد مراحل تتدرج فيها مريم ابنت عمران فقبولها من قبل الله قبولاً حسناً وانباتها إنباتاً حسناً ومن ثم فهي تحت قيمومة النبوّة ورعاية الرسالة ، أمر موجب لخصائص الاصطفاء والتطهير لتلك المرأة التي سلّمت ارادتها للمرأة الصالحة - امرأة عمران أمّها التقية - حين نذرت ما في بطنها محرراً لله تعالى ، وبالفعل تستجيب تلك الطاهرة لإرادة الله فتنقاد مسلّمة لطاعته وعبادته ، وهي أول مرحلة تظهر فيها مريم قابليتها على الاصطفاء وقدرتها على تلقي إرادات الله تعالى ، وإلا فمن غير اليسير أن تستجيب فتاة في الانقطاع عن الدنيا وملذاتها لتبتلها للوفاء بنذر أمّها حتى كانت تحت ارادتها طيّعة بارّة مطمئنة بقضاء الله تعالى عابدة متبتلة بكل ايمان وشوق وانقياد مما يكشف عن مكنون الايمان الذي أودع في مطاوي تلك النفس الكريمة واستحقاقها بكل جدارة تحمّل المسؤولية الإلهية في الحجية والاصطفاء قال تعالى : ( إذ قالت
امرأة عمران ربّ انّي نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبّل منّي انّك أنت السميع العليم ، فلما وضعتها قالت ربّ انّي وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإنّي سميتها مريم وانّي أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم . فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتاً حسناً وكفّلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يا مريم أنّى لك هذا قالت هو من عند الله انّ الله يرزق من يشاء بغير حساب )[32] ( 1 ) .
فالاعداد لكي تكون مريم محلاً صالحاً للحجية يجري تحت رعاية الله تعالى وبقيمومة زكريا نبي الله الذي أوكل بمهمة الاعداد هذه .
ومن هنا فستكون مراحل الاعداد لفاطمة الزهراء ( عليها السلام ) تشمل مرحلتين :
الأولى : اعداد النبي ( صلى الله عليه وآله ) لتلقي هذه الكرامة وقبولها .
والثانية : اعدادها ( عليها السلام ) تحت رعاية الرسالة وقيمومة النبوّة ، وقد قال تعالى في مناقب مريم ( وكفّلها زكريا ) ، وفاطمة ( عليها السلام ) قد كفّلها سيد الأنبياء فضلاً عن سيد الأوصياء ، فتلك المنقبة لها بنحو أرفع وأعظم .
اذن فبعدما بلغت مريم مراتب الكمال لقابلية الاصطفاء
نادتها الملائكة ببشارة الاصطفاء ( وإذ قالت الملائكة يا مريم انّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين )[33] والآية معطوفة على قوله تعالى ( انّ الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين )[34] مما يعني انّ اصطفاء مريم كان بمستوى اصطفاء الأنبياء من آدم ونوح وآل إبراهيم أي اصطفاءً نبوياً تختلف ماهيته بحسب حيثيات النبوّة والإمامة التي لا تكون إلا في سنخ الرجال بخصوصيات ليس هنا محل بحثها .
فاصطفاءها الأول هو قبولها لعبادة الله ومن ثم تطهيرها بعصمة الله وبالتالي اصطفائها لحجيته ، فمراحل الاصطفاء تتدرج من نشأتها وتترقّى بتطهيرها وتكتمل بحجيتها .
التشريك في النعمة . . . تشريك في الحجّية
وإذا خصّ الله عيسى برسالته وهو نبيّه ، فانّ مريم ابنت عمران اشتركت في نعم الله السابغة مع نبيّه ، أي تكون الاشتراك في النعمة دالّة على القرب إلى الله ورفيع المنزلة والكرامة لديه ، مما يعني وجود اشتراك في سنخية المهمة بين عيسى ومريم ابنت عمران ، قال تعالى ( إذ قال الله يا عيسى بن مريم اذكر نعمتي
عليك وعلى والدتك إذ أيّدتك بروح القدس تكلّم الناس في المهد وكهلاً وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير باذني فتنفخ فيها فتكون طيراً باذني وتُبريء الأكمه والأبرص باذنّي وإذ تخرج الموتى باذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم انّ هذا إلا سحر مبين )[35].
وهذه النعمة نعمة لدنيّة الهية خاصة بالمصطفين من أوليائه نظير قول سليمان ( ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ )[36] وهي النعمة التي أشار إليها تعالى عندما ادرج مريم في مصافي الأنبياء والرسل في سورة مريم حيث قال تعالى ( ذكر رحمة ربّك عبده زكريا ) وقال : ( واذكر في الكتاب مريم ) بعد ذكر يحيى ثم ذكر عيسى فقال ( واذكر في الكتاب إبراهيم انّه كان صديقاً نبيا ) ثم ذكر إسحاق ويعقوب ثم قال ( واذكر في الكتاب موسى انّه كان مخلصاً نبيا ) ثم قال ( واذكر في الكتاب إسماعيل انّه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبياً ) ثم قال ( واذكر في الكتاب إدريس انّه كان صديقاً نبياً ) وكان قد ذكر لكل واحد منهم ما وهب الله له ، فوهب لزكريا يحيى ووهب لمريم عيسى ،
ووهب لإبراهيم إسحاق ويعقوب ، ووهب لهم من رحمته وجعل لهم لسان صدق ووهب لموسى أخاه هارون نبيا ، ثم قال تعالى في نهاية المطاف ( أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممّن هدينا واجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً )[37] فأدرج مريم في من هدى واجتبى في مصافي الأنبياء ، وانّ نعمة الاجتباء والاصطفاء في مضاهاة نعمة النبوّة لكونهما من النعم اللدنية من نعم الله تعالى .
فتماثل النعمة دالّ عليه الذكر المشترك الذي عنى بهما القرآن لقوله تعالى ( إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ) فعدم اختصاصه بالنعمة واشتراك والدته بالذكر دليل على النعم المشتركة التي فضل الله بهما حجية عيسى ومريم ، فالامتنان الإلهي على كلا المذكورين يستوجب اشتراكهما بجميع ما أوردته الآية الكريمة .
الاعتقاد بحجية مريم ومقامها من خصوصيات الدين الاسلامي
على أننا نؤكد في الوقت نفسه أن هذا الاعتقاد بحجية مريم
ومقامها احدى خصوصيات دين الاسلام الحنيف ، الذي تؤكد تعظيم مقام المرأة وامكانها بلوغ الكمال والرشد ، وذلك بفضل الطاعة لله تعالى والتقوى والعفّة ، ولا يكتفي الاسلام بالشعارات التافهة التي ترفعها الحضارة الغربية والتي لم ترَ أدنى قابلية الرشد والكمال للمرأة كما تراه الاسلام في نماذجه الطاهرة العفيفة ، كمريم بنت عمران وفاطمة الزهراء عليهما السلام ، إذ دعوى الحضارة الغربية بالدفاع عن حقوق المرأة وتكريمها تتكاذب مع ممارساتها اللاانسانية في اضعاف مقام المرأة وتسقيطه إلى مستوى العبث والمتعة ، فضلاً عن الغاء اعتقادها بمقام مريم وعظمتها وشرف مسؤوليتها في انبثاق الديانة المسيحية لكمال حجيتها التي من المفترض أن تكون من دواعي الديانة المسيحية ، إلا أن الحضارة الغربية المطالبة بحقوق المرأة تغفل عما حضيت به المرأة من المقام السامي والشأن الكريم لدى الدين الاسلامي ، فالعقيدة الاسلامية بمقام السيدة مريم وجهدها في نشوء الرسالة العيسوية وحجيتها الإلهية ، فضلاً عن المسؤولية العظمى والحجية الكبرى التي تختص بها فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) احدى دواعي الاعتزاز بهذين المقامين الشامخين اللذين كرمهما الله تعالى بحجيته .
فالمطالبة بحقوق المرأة تكمن حقيقته في تحديد رسالتها
السامية بتربيتها للأمة تربية صالحة ، وباستطاعتها كذلك هدايتها للأمة هداية تتناسب وتوجهات سعادتها وكمالها كما هو الحال في شأن مريم بنت عمران ( عليها السلام ) وهدايتها للأمة من خلال حجيتها التي منحها الله تعالى تكريماً لها ، وكما في سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) التي أثبتت لياقتها التامة في تحمّلها مسؤولية تشخيص الانحرافات العقائدية والسياسية بُعيد وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) مستخدمة حجيتها التي منحها الله تعالى ، وهذا مالم تجده في أية حضارة أخرى تدّعي المطالبة بحقوق المرأة حتى تجعلها وسيلة لهو ومتعة تتداعى من خلالها كل شعارات الحرية الوضعية البعيدة عن النهج الرسالي القويم .
الوسط الاسلامي . . . والتطرف المسيحي
ولم تهتدِ المسيحية لابتعادها عن الحق في تشخصيص مقام مريم وابنها المسيح ، فتطرّفت في ذلك حتى جعلت المسيح ثالث ثلاثة ، وألّهت المسيح وأمّه ، وقد عالج الاسلام هذه المشكلة الفكرية التي وقعت بها المسيحية لابتعادها عن حقيقة تعاليمها السماوية ، وأبطل أول الأمر الألوهية لهذين العبدين القانتين لله تعالى ، وأكّد خضوع المسيح وعبوديته لله سبحانه ( وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربّي وربّكم انّه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنّة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار )[38] إذ حدد مهمة عيسى أولاً وهي العبودية المحضة والطاعة الخالصة لله الواحد الأحد ، ودون ذلك شرك وظلم يستحق معتقده النار ، ثم أشار إلى بشرية مريم وأمّه وأكد أنهما بشرين وأنهما نالا مقام الحجية لله تعالى بطاعتهما وعبادتهما له ، فأشار لأحدهما بالرسالة وللآخر بالحجّية بقوله ( ما المسيح ابن مريم إلا رسولاً قد خلت من قبله الرسل وأمّه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبيّن لهم الآيات ثم انظر أنّى يؤفكون )[39] ، فالاسلام أكد حدود بشريتهما أولاً ثم أشار إلى حجيتهما ثانياً بطاعتهما وعبوديتهما لله تعالى ، ومع ذلك كلّه لم يجد الكافرون غير التكذيب والأفك امّا معاداة أو علواً ومن ثم على الله تعالى بادعائهم ألوهيتهما ، لذا فانّ القرآن يصرّح بكل شدة إلى كفر من قال انّ المسيح هو الله ، ( لقد كفر الذين قالوا انّ الله هو المسيح ابن مريم )[40] ولم يكتفوا هؤلاء بغيّهم وكفرهم حتى جعلوا الله ثالث ثلاثة وأشار إلى كفرهم ( لقد كفر الذين قالوا انّ الله ثالث ثلاثة وما
من إله إلا اله واحد )[41] فقد دأب القرآن الكريم إلى كشف هذه الاعتقادات المزيّفة وفضحها لغرض تقنين المعتقد وعدم تسيّب الفكر بسبب الدوافع العاطفية والتي تؤول إلى فوضى فكرية حقيقية ، فحدد القرآن معالم هذا المعتقد وأطّره ضمن مبادئ ومسلّمات عقائدية والخروج عن هذه الدائرة الفكرية سيؤول إلى الغلو والضلال ( يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق انما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فأمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم انّما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلاً )[42].
فالقرآن كما استنكر على النصارى غلوهم في المسيح وأمّه ، كذلك استنكر على اليهود تقصيرهم في الاقرار بمقامهما والعداء لهما والخصومة ، فهو كما ينفي الغلو ينفي التقصير في التسليم لهما في الحجية ، فلا حجيتهما تستدعي الألوهية ولا بشريتهما تستدعي عدم الحجية وهذا ما يركز عليه القرآن الكريم في كثير من الأنبياء والرسل كما في قوله تعالى تعليماً لنبيّه ( صلى الله عليه وآله ) ( قل انّما أنا بشر مثلكم يوحى اليّ ) فالوحي لا ينفي البشرية ولا البشرية
تنفي تميزه واختصاصه بالوحي ، وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم ( يا أبت انّي قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً ) . وكذا بقية الأنبياء حسبما يذكره القرآن الكريم مع أقوامهم فإنهم في الغالب يقعون في أحد الطرفين اما التقصير وظن أن البشرية تنفي الحجية والارتباط بالغيب ، أو الغلو وأن الارتباط بالغيب ينفي البشرية ، كما حصل لليهود في عزيز ، فالطريقة الوسطى والمحجة الواضحة هو نفي كل منهما ، والتسليم بالحجية وأنهم بشر ينفي الافراط والتفريط ، كما ينفي المعاداة لأولياء الله ، فالوظيفة اتجاه حجج الله أن لا يكون الفرد من الغالين المفوضين ، ولا من الناصبين المعاديين ولا من المقصرين المرتابين ، كما ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة : " فالراغب عنكم مارق واللازم لكم لاحق والمقصّر في حقّكم زاهق " .
فبعد أن حدد ماهية المسيح البشرية وأشار إلى رسالته ، نهى الخروج عن دائرة هذا التشخيص والقول بخلاف هذه الحدود البشرية لرسول الله المسيح وأمّه الصديقة .
أما ما يشهد للتشريك بالحجية ، فضلاً عن اشتراكهما في ذكر النعم والمنن عليهما من قبل الله تعالى فلقوله تعالى ( وجعلنا ابن مريم وأمّه آية ) والآية هي الحجة كما هو معلوم عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) في قول الله عزّ وجل : ( وجعلنا ابن مريم وأمّه آية )
قال : " أي حجة "[43] ، فاقترانهما في ذكر كونهما آية دليل على تقارب حجيتهما واشتراكهما كذلك .
التشابه بين مقامي مريم وفاطمة ( عليهما السلام )
وغرضنا من الاسهاب في مقام مريم ( عليها السلام ) سيتضح إذا ما عرفنا أن وحدة المناط بين مقامي مريم وفاطمة عليهما السلام سيكون بالأولوية القطعية المسلّمة لدى الفريقين .
فإذا كانت مريم سيدة نساء زمانها قد حازت على تلك المقامات السامية التي شهد بها القرآن الكريم من الاصطفاء والعصمة ، فانّ فاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين[44] ستكون لها تلك المقامات التي تثبت حجيتها كذلك بل انّ تصريح القرآن بمقامات فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) يضاهي ويعظم عمّا صرّح به في مقامات مريم فيغنينا في الاستدلال عن الأولوية وان كانت هي حقيقة ثابتة في روايات الفريقين فليس بدعاً اذن
أن تعتقد الامامية ما تعتقده في فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) ، فصريح القرآن يثبت حجية مريم بما لها من المقامات الإلهية الثابتة وهي حجة لاحدى الشرائع السماوية فكيف بفاطمة الزهراء ( عليها السلام ) وقد أثبت لها صريح القرآن دخولها تحت عنوان أهل البيت الذي شمل نبي الشريعة الخاتمة ! مما يعني أن هناك مقامات يشترك بها أهل البيت تخصصها بعد ذلك رتبهم الإلهية .
قال تعالى : ( انّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً )[45].
اتفق الفريقان على نزولها في أهل البيت ، محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) .
أخرج السيوطي عن ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أمّ سلمة رضي الله عنها زوج النبي ( صلى الله عليه وآله ) : أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان ببيتها على منامة له عليه كساء خيبري ، فجاءت فاطمة رضي الله عنها ببرمة فيها حريرة فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : " ادعي زوجك وابنيك حسناً وحسيناً " فدعتهم ، فبينما هم يأكلون إذ نزلت على رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ( انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) فأخذ النبي ( صلى الله عليه وآله ) بفضلة ازاره فغشاهم إياها ، ثم اخرج يده من الكساء وأومأ بها إلى السماء ثم
قال : " اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً " قالها ثلاث مرات ، قالت أم سلمة رضي الله عنها فأدخلت رأسي في الستر فقلت : يا رسول الله وأنا معكم فقال : " انك إلى خير " مرتين[46] هذاما أخرجه أهل السنّة في شأن نزولها ولعلّ طرقها بلغت العشرات لتصل إلى حد التواتر دون أدنى ريب .
وما رواه الامامية من طرقهم كثير إلا أننا سنختصر على ما أورده صاحب البرهان في تفسيره من رواية عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) عن أبي بصير قال : " سألت أبا عبد الله عن قول الله عزّ وجل : ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) قال : نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين ( عليهم السلام ) فقلت له : انّ الناس يقولون فما له لم يسمّ علياً وأهل بيته ( عليهم السلام ) في كتاب الله عزّ وجل ؟ قال : قولوا لهم انّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نزلت عليه الصلاة ولم يسمّ الله لهم ثلاثاً ولا أربعاً حتى كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هو الذي فسر ذلك لهم ، ونزلت عليه الزكاة ولم يسمّ لهم من كل أربعين درهماً درهماً حتى كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هو الذي فسّر ذلك لهم ونزل الحج فلم يقل لهم طوفوا سبعاً وكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) هو الذي فسّر ذلك لهم ، ونزلت أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ونزلت في علي
والحسن والحسين عليهم السلام فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) في علي من كنت مولاه فعلي مولاه ، وقال ( عليه السلام ) : أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي فاني سألت الله عزّ وجل أن لا يفرق بينهما حتى يوردهما على الحوض فأعطاني ذلك ، وقال : لا تعلموهم فهم أعلم منكم وقال : ثم لن يخرجوكم من باب هدى ولن يدخلوكم في باب ضلالة فلو سكت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فلم يبيّن من أهل بيته لادعاها آل فلان وآل فلان ولكن الله عز وجل نزل في كتابه تصديقاً لنبيّه ( صلى الله عليه وآله ) ( انّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) فكان علي والحسن والحسين وفاطمة ( عليهم السلام ) فأدخلهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) تحت الكساء في بيت أمّ سلمة ثم قال : " اللهمّ انّ لكل نبيّ أهلاً وثقلاً وهؤلاء أهل بيتي وثقلي " فقالت أمّ سلمة ألست من أهلك ؟ فقال : " انّك إلى خير ولكن هؤلاء أهلي وثقلي " فلما قبض رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان عليّ أولى الناس بالناس لكثرة ما بلّغ فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأقامه للناس وأخذ بيده فلما مضى عليّ لم يكن يستطيع علي ولم يكن ليفعل ان يدخل محمد بن علي والعباس بن علي ولا أحداً من ولده اذاً لقال الحسن والحسين ان الله تبارك وتعالى أنزل فينا كما أنزل فيك وأمر بطاعتنا كما أمر بطاعتك وبلّغ فينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كما بلّغ فيك واذهب عنا الرجس كما أذهبه عنك . . .[47] ( 1 )
والذي يعنينا من هذه الرواية على طولها :
انّ هناك اشتراك في حيثيات الحجية لأهل الكساء الذين نزلت فيهم آية التطهير وخصصتهم الروايات المتواترة من قبل الفريقين بأنهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعلي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) ، لذا فقول الإمام ( عليه السلام ) " اذاً لقال الحسن والحسين انّ الله تبارك وتعالى أنزل فينا كما أنزل فيك ، وأمر بطاعتنا كما أمر بطاعتك وبلّغ فينا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كما بلّغ فيك واذهب عنّا الرجس كما أذهبه عنك . . . " مما يعني ان إذهاب الرجس عنهم له خصوصية في اثبات الحجية ، فكما سيحتج الحسنان لاثبات حجيتهما بآية التطهير فانّ لفاطة الحجية كذلك منتزعة من آية التطهير ولإذهاب الرجس عنها ( عليها السلام ) . وتلخّص من ذلك : أنه كما أُثبتت حجية السيدة مريم ( عليها السلام ) باصطفائها وتطهيرها لقوله تعالى ( وإذ قالت الملائكة يا مريم انّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين )[48] أمكن اثبات حجية السيدة فاطمة ( عليها السلام ) باصطفائها وتطهيرها للأولوية ، ووجه الأولوية أن فاطمة ( عليها السلام ) قد تم اصطفائها وتطهيرها بآية التطهير مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعلي والحسنان ( عليهم السلام ) الذين ثبتت حجيتهم القطعية لكون الآية مشيرة إلى اشتراك الحكم بين أهل البيت ( عليهم السلام ) الذين كانوا تحت الكساء
ومنهم فاطمة ( عليها السلام ) . وخصوص المطهّر في الأمّة الاسلامية في شريعة هذا الدين قد أثبت له القرآن وصف آخر وهو مس الكتاب المكنون الذي فيه حقيقة القرآن وذلك في قوله تعالى ( فلا أقسم بمواقع النجوم وأنه لقسم لو تعلمون عظيم انّه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون تنزيل من ربّ العالمين أفبهذا الحديث أنتم مدهنون وتجعلون رزقكم أن تكذّبون )[49] ففي الآية قد عظّم الله تعالى القسم فيها بوجوه عديدة لا تخفى على المتأمل في تركيب ألفاظ الآية التي قد تربو على السبعة وجوه كل ذلك لتأكيد القضية التي أراد القسم عليها ثم أكد القضية بوجهين آخرين أيضاً مما يدلّ على أن القضية خبرية وليست انشائية والمخبر به هو كون القرآن ذو حقيقة تكوينية مكنونة علوية ، وأن المصحف المنقوش بين الدفتين تنزيل لتلك الحقيقة من دون تجافي تلك الحقيقة التكوينية المحفوظة في كِن القرآن عن موقعها العلوي ، وأن تلك الحقيقة لا يصل إليها ولا يدركها الا المطهر في شرع الاسلام .
والكتاب المكنون هذا الذي فيه حقيقة القرآن قد وصف في سورة الأنعام بأنه الذي يُستطر فيه كل رطب ويابس ، وفيه ما من غائبة كما في قوله تعالى ( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو
ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين )[50] وقوله تعالى ( ويمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب )[51] وقوله تعالى ( وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين )[52] وقوله تعالى ( ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة )[53] وقوله تعالى : ( عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين )[54] وقوله تعالى ( وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ان ذلك على الله يسير )[55]. فقد وصف الكتاب بأوصاف جامعة محيطة بكل مغيبات الخلقة المستقبلية ، ما هو كائن وما يكون وما هو خفي في النشآت العلوية ، ومن ثم كان مصحف فاطمة ( عليها السلام ) مشتملاً على الأخبار بالأمور المستقبلية بما كان وما هو كائن ، الدال على أن احاطتها ( عليها السلام ) بذلك لاحاطتها بحقيقة القرآن العلوية في الكتاب
المكنون بعد دلالة آية التطهير كونها مطهرة من كل رجس ودلالة سورة الواقعة على أنّ كل مطهر في هذه الشريعة يمس الكتاب المكنون ، وهذا مقام لم تصل اليه مريم ، بل هو خاص كما ذكرنا بالمطهرين في شرع الاسلام دون المعصومين بل الشرائع السابقة .
فاطمة ( عليها السلام ) فوق مقام الأبرار
قال تعالى : ( انّ الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً ، عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً ، يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً ، ويُطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً ، انّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً )[56] ( 2 ) .
وصفٌ لحال الأبرار الذين نعموا برضوان الله تعالى وكرامته وبيان لمقامهم ، وأظهر مصاديق هذا المقام الكريم انّهم يشربون كأساً صفته ممزوج بكافور .
ثم تنتقل الآية إلى وصف هذه العين التي هي شراب المقربين ، وهي عين يتولى أمرها عباد الله إذ يفجرونها تفجيراً ، فمن هم هؤلاء الذين يتولون تفجير هذه العين وأمرها ، ومن ثَمَ يسقون منها الأبرار ؟
ان الآية تكفّلت ببيان هؤلاء المتولين لأمر هذه العين وهم عباد الله الذين صفاتهم :
1 - يوفون بالنذر .
2 - يخافون يوم القيامة الذي يكون شره مستطيراً مهولاً .
3 - يطعمون المسكين واليتيم والأسير لله تعالى عطاءً خالصاً لا يرجون من غيره جزاءً ولا شكوراً .
فمن هؤلاء اذن ؟
اتّفق الفريقان أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) .
فقد أورد الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل بأربع وعشرين طريقاً أنها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) وخلاصة القصة انّهم ( عليهم السلام ) السلام نذروا إن عوفي الحسنان أن يصوموا لله تعالى ثلاثاً ، فلمّا عوفيا ، وفوا بنذرهم فجاءهم في اليوم الأول مسكين فأعطوه طعامهم وسألهم في اليوم الثاني يتيم فأعطوه طعامهم ووقف ببابهم أسير فأعطوه طعامهم فباتوا ثلاثاً طاويين فانزل الله بهم هذه الآيات ، فثبتت صفة عباد الله الذين يفجرون هذه العين لهم ( عليهم السلام ) .
فاذن هم الذين يفجرون عين الكافور ويفيضون منها على الأبرار ليمتزج شرابهم بقليل من العين أي أنها واسطة فيض على
الأبرار ولهم القيمومة التامة على ذلك ، وهذا يطابق قيمومتهم على الأبرار وانّهم المقرّبون في قوله تعالى : ( كلا ان كتاب الأبرار لفي عليين ، وما ادراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون )[57] ( 1 ) .
فشهادة كتاب الأبرار من قبل المقربين دليل على قيمومة المقربين على الأبرار وشهادتهم عليهم ، فالمقربون هم الشهداء على كتاب الأبرار أي أعمالهم ، ولذلك ورد في الزيارة الجامعة الكبيرة " أنتم الصراط الأقوم وشهداء دار الفناء وشفعاء دار البقاء . . " وفي موضع اخر من الزيارة " شهداء على خلقه وأعلاماً لعباده " هذه هي شهادة المقربون وهيمنتهم على الأبرار ، والمقرّبون هؤلاء هم السابقون الذين وصفتهم الآية بقوله تعالى ( والسابقون السابقون أولئك المقربون )[58] ( 2 ) مع أن سورة الدهر لم تزل في سياقات وصف المقربين وهم الذين يوفون بالنذر ( يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً انّما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً انّا نخاف من ربّنا يوماً عبوساً قمطريرا فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً وجزاهم بما صبروا جنّة وحريراً متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذلّلت قطوفها تذليلا ، ويطاف عليهم بآنية من فضّة وأكواب كانت قواريرا قوارير من فضة قدروها تقديرا ويُسقونَ فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلا ، عيناً فيها تسمى سلسبيلاً )[59] ( 1 ) هذا حال المقربين ، ويطابق هذا الوصف لعباد الله وارتفاع مقامهم عن الأبرار ما في سورة المطففين من قوله تعالى ( كلا انّ كتاب الأبرار لفي عليين وما ادراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون انّ الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ومزاجه من تسنيم عيناً يشرب بها المقربون )[60] ( 2 ) فهذه الآيات تشير ايضاً إلى أن المقربين واسطة فيض للأبرار وهم الذين يمزجون شراب الأبرار بشيء من التسنيم ، ولأنهم وسطاء فيض فهم يشهدون اعمال الأبرار ، وهذا يتطابق مع ما تقدم من أن المطهرين في هذا الشرع المقدس ، المعصومين يمسون الكتاب في اللوح المحفوظ المكنون الذي يستطر فيه كل غائبة ، ومنها أعمال العباد ، فالمطهر هو المقرّب ، وهم عباد الله الذين يسقون الأبرار من عين يفجرونها تفجيرا ، وهذه العين هي عين الكافور ، وهي عين فوق مقام الأبرار ، والسلسبيل الذي هو مصدر
المقربين والعين التي يسقون منها هو رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) إذ هو القيّم على المقربين الذين هم أهل البيت ( عليهم السلام ) وهو مصدرهم .
فتلّخص اذن أن الأبرار يُسقون كأساً ممزوجة بالكافور ، والمقربون هم مصدر الأبرار ، والسلسبيل مصدر المقربين التي يسقون ويُسقوْنَ منها ، على أن السقاية من العين وتفجيرها ، تعني أن المقرّبين هم واسطة إفاضة على الأبرار ، الذين يفيضون بالنور والعلم والحكمة والهداية على الأبرار ، وهؤلاء المقرّبين وهم علي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) يُفاض عليهم من عين السلسبيل بواسطة رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فعلومهم وراثة من رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله ) كما في الروايات الواردة عنهم ، مما يعني أن المقربين هم في مقام الحجية والقيمومة المهيمنة على الخلق إذ قيمومتهم تصدر من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الذي ينص على حجيتهم وإمامتهم بأمر الله تعالى .
وبذلك يتّضح مقام فاطمة ( عليها السلام ) وكونها إحدى وسائط الإفاضة على الخلق النابعة من مصدر إلهي يمثله رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله ) وظهر أنّها شاهدة للّه على الخلق ، وأنّها هادية لهم ، وأنّها من الراسخين في العلم الذين يمسون الكتاب المكنون في اللوح المحفوظ ، فهي من الذين أوتوا العلم وأثبت في صدورهم وأنها ممّن يُعرض عليها أعمال العباد .
فاطمة ( عليها السلام ) من المطهرين الذين يمسون الكتاب
وإذا ثبت أن المطهرين هم محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) بحكم آية التطهير ( انّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) فانّ من خصوصيات المطهرين أنهم هم الذين يمسون كتاب الله تعالى ( انّه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون )[61] أي لا يعلمه إلا المطهرون ، ولا يعني المس هنا مس نفس الوجود الخطي والكتبي للقرآن الكريم ، إذ لا معنى لذلك والآية في مقام الإشارة إلى مكنونية هذا الكتاب بمثل هذا القسم المغلّظ الذي يتعلّق بالأمر الخبري لا الإنشائي ، فلفظ ( لا ) في الآية نافية لا ناهية بل يقصد الاخبار ، كما أنّه قد وصف الكتاب المكنون بأنّه الذي تنزل منه القرآن المصحف الذي بين الدفتين ، فالقرآن في الكتاب المكنون له حقيقة علوية لا يتناولها إلا المطهّرالمعصوم ، فالحقيقة العلوية بعيدة عن افهام الناس إلا بواسطة المطهرين ، فالمطهرون هم أهل بيانه وتفسيره ومعرفته ، وهم العالمون ببطونه وعلومه ( انّه في أمّ الكتاب لدينا لعليّ حكيم )[62] ولا يعلم تأويل الكتاب إلا الراسخون في العلم ( ولا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا وما يذكر الا أولوا الألباب )[63] ( 1 ) قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : " نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله " وإذا ثبت أن المطهرين هم المقربون كما تقدم ذكره من أن المقربين هم علي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) فانّ الكتاب المكنون لا يمسه إلا المطهرون ، أخرج السيوطي عن ابن مردويه بسند رواه عن ابن عباس عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) في قوله تعالى ( انّه لقرآن كريم في كتاب مكنون ) قال : عند الله في صحف مطهرة ( لا يمسه إلا المطهرون ) قال : المقربون[64].
وإذا كان المطهرون هم المقربون الذين يمسون الكتاب ويعلمون تأويل بواطنه فانّ لهم الحجية من الله تعالى على الخلق إذ الحجة هو الموصل لمعرفة الطريق إلى الله ومن هنا نعلم أن احاطتهم ( عليهم السلام ) بكل شيء دليل حجيتهم إذ علمهم بالكتاب يعمّ علمهم بكل شيء ، فالكتاب محفوظ فيه علم كل شيء لقوله تعالى : ( ولا حبّة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين )[65] فالحجية تعني ولايتهم على الخلق بقسميها ولايتهم التشريعية المنبعثة من مقام علمهم بالكتاب الذي يضم علم كل شيء ، إذ الولاية التشريعية لا تتم إلا بمعرفة أحكام كل شيء فهي من لوازم العلم ، وبحكم علمهم بكتاب الله فانّ لهم الولاية التكوينية على الخلق ، إذ هذا القرآن بحقيقته العلمية المكنونة التكوينية الملكوتية الذي لا يعلمه إلا المطهرون موصوف بقابلياته الإلهية المودعة فيه ( ولو أن قرآناً سُيّرت به الجبال أو قطّعت به الأرض أو كلّم به الموتى . . . )[66] وقوله تعالى ( وقال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك ) فالحجية هي المقام الإلهي المنبعثة منها ولايتهم ( عليهم السلام ) بقسميها .
وبهذا سيتم لنا معرفة مقام فاطمة ( عليها السلام ) من حيث معرفتها بكتاب الله وبواطنه وعلومه ، ومن حيث ولايتها التشريعية والتكوينية معاً .
وقد رويت في عرض ولايتها على الخلق كباقي ولاية أصحاب الكساء والأئمة المعصومين ( عليهم السلام ) روايات عديدة فلاحظ[67].
فاطمة ( عليها السلام ) وحجّيتها لدين الاسلام
وفيه جهتان :
الجهة الأولى :
تُعد آية المباهلة من أهم الآيات التي أثبتت حجية فاطمة ( عليها السلام ) ، إذ هذه الآية كانت مقام الفصل بين حقانية الدين الاسلامي ونسخ غيره من الأديان .
فالنصارى الذين احتج عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بكل حجة لم يذعنوا في الظاهر ، وتمادوا في تشكيكهم وتكذيبهم لدعوة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ولم يملكوا إلا الاذعان لما دعاهم النبي ( صلى الله عليه وآله ) للتباهل إلى الله تعالى ليلعن الكاذب ، ولم يجد النصارى بداً من القبول بذلك ، حتى إذا أراد النبي ( صلى الله عليه وآله ) مباهلتهم علموا صدق النبي ( صلى الله عليه وآله ) بالخروج بالمباهلة بنفسه وأهل بيته ، مما دعى النصارى إلى التسليم لصدق دعوته واذعانهم اليه ، قال تعالى : ( فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين )[68].
أخرج السيوطي في الدر المنثور عن جابر قال : " قدم على النبي ( صلى الله عليه وآله ) العاقب والسيد فدعاهما إلى الاسلام فقالا : أسلمنا يا محمد قال : كذبتما ان شئتما أخبرتكما بما يمنعكما من الاسلام ، قالا : فهات قال : حبّ الصليب ، وشرب الخمر ، وأكل لحم الخنزير قال جابر : فدعاهما إلى الملاعنة ، فدعواه إلى الغد ، فغدا رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم ارسل اليهما فأبيا أن يجيباه وأقرّا له فقال : والذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر الوادي عليهما ناراً قال لجابر : فيهم نزلت ( تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم . . . ) الآية قال جابر : ( أنفسنا وأنفسكم ) رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وعلي ، و ( أبناءنا ) الحسن والحسين ، و ( نساءنا ) فاطمة "[69].
وروى ذلك السيوطي بعدة طرق .
وأخرج الحاكم النيسابوري في شواهد التنزيل القصة في تسع طرق[70].
وروى ذلك ابن كثير في تفسيره عن جابر[71].
فمباهلة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بعلي وفاطمة والحسن والحسين يعني احتجاجه على النصارى بهؤلاء الذين هم الحجة على صدق دعوة النبي وبعثته . كما انّ المباهلة تعني بحسب ماهيتها أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) جعل هؤلاء المتباهل بهم شركاء في دعوته ، مما يعني أن مسؤولية الدعوة تقع على عاتقهم كذلك بحجيتهم ومقامهم ، مشيرة إلى وجود تعاضد وتقاسم بينهم وبين النبي ( صلى الله عليه وآله ) كما يفيد ذلك حديث المنزلة الذي رواه الفريقان ، عن سعد بن أبي وقاص أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال لعلي : " أنت منّي بمنزلة هارون من موسى ألا أنّه لا نبي بعدي "[72] فمنزلته ( عليه السلام ) بمنزلة هارون ، وصفٌ لحجيته ومشاركته في دعوته كما شارك هارون موسى في دعوته ، فهذه المقاسمة والمشاركة في المنزلة دليل حجيته ( عليه السلام ) كما أن مشاركة علي وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) في المباهلة مع النبي ( صلى الله عليه وآله ) دليل حجيتهم ومشاركتهم معه ( عليهم السلام ) في تبليغ صدق بعثته ( صلى الله عليه وآله ) هذا ما تبينه آية المباهلة من مقام فاطمة ( عليها السلام ) وحجيتها كذلك .
فهذه مقامات يمكن متابعتها في اصطلاحات القرآن تفسّر مقام الزهراء ( عليها السلام ) وأنها بنص القرآن حجة من حجج الله تعالى في مصاف الأنبياء والرسل .
وما روي عن أبي جعفر ( عليه السلام ) في حجية فاطمة ( عليه السلام ) قوله : " ولقد كانت فاطمة ( عليها السلام ) مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله من الجن والإنس والطير والوحش ، والأنبياء والملائكة "[73].
فتحصّل أن مؤدى آية المباهلة هو بنصب الله تعالى
فاطمة ( عليها السلام ) حجة على حقانية الاسلام ونبوّة نبيّه وشريعته ، لاحتجاجه تعالى بها على النصارى وأهل الكتاب ، فلم يحصر تعالى الحجية على الدين بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، بل جعل الخمسة كلهم حجة على دينه ، ومقتضى هذا الاحتجاج منه تعالى أن متابعة علي وفاطمة والحسنين ( عليهم السلام ) للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وتصديقهم به هو بنفسه دليل على صدق النبي ( صلى الله عليه وآله ) ورسالته ، نظير قوله تعالى ( كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب )[74] حيث جعل شهادة من عنده علم الكتاب دليل على صدق النبي ( صلى الله عليه وآله ) من سنخ شهادة معجزة القرآن التي هي شهادة الله لنبيّه والآية من سورة الرعد المكية نزولاً النازلة في علي ، حيث لم يسلم من أهل الكتاب في مكة أحد ، بل لا يخفى على اللبيب الفطن أن من عنده علم الكتاب شامل للمطهرين في شريعة الاسلام وهم أصحاب آية التطهير ، لأنهم هم الذين يمسون الكتاب المكنون كما أشارت اليه سورة الواقعة وتقدم مفصلاً فمنه يعلم أن قوله تعالى ( وكفى بالله شهيداً ) مفادها هو مفاد آية المباهلة في كونها حجة على بعثة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) ، وهذا المعنى هو الذي يشير اليه ما رواه الواقدي أن علياً ( عليه السلام ) كان من معجزات النبي ( صلى الله عليه وآله ) كالعصا لموسى واحياء الموتى لعيسى[75].
ففي مقام الاحتجاج على أهل الأديان لم يأمر الله تعالى نبيّه بدعوة زوجاته أمهات المؤمنين ولا أحد من الصحابة ولا سائر بني هاشم ، ولا يخفى أن تعيين الخمسة ( عليهم السلام ) للمباهلة لم يكن موكولاً للنبي ( صلى الله عليه وآله ) ، بل بأمر من الله وتعيين وتنصيص من الله في قرآنه النازل ، وان كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) مأموراً بدعوتهم للمباهلة .
وبمعنى آخر إن المباهلة في اللغة تعني الملاعنة ودعاء كل طرف على الاخر ، وهي انّما يتوسّل بها عند نفاد الحجة لكلا الطرفين ، أي لا لعدم وجود الحجة - ويشير إلى ذلك صدر الآية ( فمن حاجّك ) أي في مقام الاحتجاج وإقامة الحجّة من كل طرف على مدّعاه في قبال الآخر - ، بل لعدم استجابة أحد الطرفين لحجية الاخر فتكون المباهلة نوع من حكم الله بين الطرفين وكأنه استعجال لحكم الله وقضائه الأخروي إلى هذه النشأة الدنيوية ، ولا ريب انّ أهمية وخطورة المباهلة تتبع مورد المباهلة ، فكلما ازداد خطورة اختلفت أهمية حكم الله وفصل قضائه وبالتالي اختلفت نوعية حكمه تعالى ، كما انّ مقتضى ماهية المباهلة كون طرفي المباهلة هما المتداعيان أي كل منهما صاحب دعوة في قبال الاخر ، فكلٌ منهما هو صاحب دعوى
المتحمل لتلك الدعوى ، كما هو الحال في بقية النزاعات والخصومات أن يكون كل منهما على تقدير صدق دعواه وثبوتها هو صاحب الحق ومن له صلة بالحق ، كما لا معنى للنيابة في الخصومة في مقام الحلف وما هو من قبيله كالمباهلة ، وإذ تبينت ماهية المباهلة حكماً وموضوعاً ومتعلقاً ، يتبيّن أن الخمسة أصحاب الكساء صلوات الله عليهم ، هم أصحاب الدعوة للدين بالأصالة ، وأن كلاً منهم ذو صلة وشأن في حقانية الدين وصدق البعثة النبويّة ، ومعنى صدقهم في دعواهم أن كلاً منهم يخبر عن علمه بصدق الرسالة ونزول الوحي على النبي ( صلى الله عليه وآله ) وانبعاثه بدين الاسلام ، ومن ثَمَ لابد أن تكون علومهم لدنّيه تؤهلهم للتصدي لهذه الدعوة ، إذ بالعلم اللدني وحده يمكن الاطلاع على نزول الوحي ، وبالتالي فانّ مسؤولية حفظ الدين وحمايته تقع على الخمسة بنحو المشاركة ، مما يدلل على وحدة سنخ المقام والمنصب الشرعي - عدا النبوّة - فضلاً عن ولايتهم الشرعية على الدين .
الجهة الثانية :
ما ورد في الحديث القدسي : " لولاك ما خلقت الأفلاك ولولا عليّ لما خلقتك ولولا فاطمة لما خلقتكما جميعاً "
ولتفسير الحديث ثلاثة أوجه :
الأول : الوجه الكلامي :
وليس هنا معنى الحديث - كما قد يتوهّم في باديء النظر - هو أفضلية علي أو فاطمة ( عليهما السلام ) ، بل الرسول ( صلى الله عليه وآله ) أفضل الكائنات وسيد البرايا ( فدنى فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى ) دنواً واقتراباً من العليّ الأعلى ، وقال عليّ ( عليه السلام ) " أنا عبد من عبيد محمد ( صلى الله عليه وآله ) " أي المأمورين بطاعته ( صلى الله عليه وآله ) . بل مفاده نظير ما رواه الفريقين عن النبي ( صلى الله عليه وآله ) " عليّ منّي وأنا من عليّ " و " حسين منّي وأنا من حسين " وهو يحتمل أوجه من المعاني منها : انّ الغرض والغاية من خلق بدن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في النشأة الدنيوية وابتعاثه لا يكتمل إلا بالدور الذي يقوم به عليّ وفاطمة ( عليهما السلام ) من أعباء إقامة الدين وايضاح طريق الهداية ، نظير قوله تعالى النازل في أيام غدير خم يوم تنصيب النبي ( صلى الله عليه وآله ) عليّاً ( عليه السلام ) إماماً ( يا أيّها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته واللّه يعصمك من الناس إن اللّه لا يهدي القوم الكافرين ) فقد جعل تبليغ الرسالة
مرهوناً بنصب عليّاً إماماً ليقوم بالدور الذي يلي النبي ( صلى الله عليه وآله ) وكذا قوله تعالى ( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا ) وهو أيضاً نزل في أيام غدير خم فرضى الرب بالدين مشروط بما أقيم في ذلك اليوم حيث يئس الكفار من إزالة الدين الاسلامي والقضاء عليه ، لأن القيم على الدين وحفظه لن ينقطع بموت النبي ( صلى الله عليه وآله ) بل باق ما بقيت الدنيا . ونظير قوله تعالى ( قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ) فجعل الرسالة في كفّة ومودة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) في كفّة معادلة وقال تعالى ( ما سئلتكم من أجر فهو لكم ) و ( ما أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلاً ) فكانوا هم السبيل اليه تعالى والمسلك إلى رضوانه وانّ الدور الذي قامت به فاطمة ( عليها السلام ) من ايضاح محجة الحق وطريق الهداية في وقت عمّت الفتنة المسلمين ولم يكن من قالع لظلمتها ودافع للشبه إلا موقف الصديقة الطاهرة ( عليه السلام ) فقد كان ولا يزال حاسماً وبصيرة لكلّ المسلمين ولكل الأجبال . إذ هي التي نزلت في حقّها آية التطهير والدهر وهي أمّ أبيها ، إذ الأمومة للرسول ( صلى الله عليه وآله ) وهو مقام لا يقاس به الأمومة للمسلمين ، وهي روح النبي ( صلى الله عليه وآله ) الذي بين جنبيه ، فكل هذه الآيات والأحاديث النبويّة لم تزل حيّة وغضّة في آذان
المسلمين .
وهذا المعنى للحديث حينئذ يقرب من مفاد قوله تعالى ( ما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) أي ليعرفون ثم يعبدون وذلك بوساطة هداية الرسول والدين الحنيف بإقامة الأئمة ( عليهم السلام ) له بعده ( صلى الله عليه وآله ) .
الثاني : الوجه الفلسفي
قد حرر في علم المعقول تعدد الغاية ، فمنها غاية نهائية ومنها غايات متوسطة ، كما قد حرر أنّ العلل الغائية تكون بحسب مقام متعاكسة بحسب مقام آخر ، ولنمثل بذلك مثال يوضح هذا الأمر ، فقد يقول القائل : انّي أذهب إلى المدرسة لكي أتعلّم ، وانّي أتعلم لكي أحصل على الشهادة العيا ، كما يصح من هذا القائل قوله لولا ذهابي للمدرسة لما تعلّمت ولولا تعلّمي لما حصلت على الشهادة العليا ، كما يصح منه القول : لولا الرغبة للحصول على الشهادة العليا لما تعلّمت ولما ذهبت إلى المدرسة ، فالحاصل من قول هذا القائل ليس مفاده أفضلية الذهاب إلى المدرسة من التعلم ، ولا أفضلية التعلم من الدرجة العلمية الفائقة في حصول الشهادة ، بل هذا التعليل هو بيان لدور وتأثير الغايات المتوسطة من دون أن يعني ذلك كونها غايات
نهائية .
فما يوهمه ظاهر هذا الحديث من كون فاطمة ( عليها السلام ) علّة غائية نهائية وراء النبي ( صلى الله عليه وآله ) ليس بمراد ، بل حاصل ما يعنيه أنّها ( عليها السلام ) من الوسائط التي بمثابة غايات شريفة تتلو الغاية النهائية في المقام .
الثالث : الوجه العرفاني
ومحصّله هو التنويه بالذات النورية للخمسة أصحاب الكساء ، وأن بذواتهم النورية اشتّق اللّه خلق بقية المخلوقات وهو نظير ما ورد بروايات الفريقين ، " أول ما خلق اللّه نور نبيّك يا جابر " وفي رواية أخرى العقل ، وفي لسان القرآن الماء لقوله تعالى : ( وخلقنا من الماء كلّ شيء حي ) فهو نظير الروايات الواردة في اشتقاق النور ، وقد أسند اللفظ في صدر هذه الرواية ، وجُعل الشرط في الشرطية الأولى ذات النبي ( صلى الله عليه وآله ) الشريفة لا خلقته ، والمراد بها ذاته النورية التي هي من عالم الأمر أي المخلوقة بالمعنى الأعم لا المعنى الأخص كما يشير إلى ذلك قوله تعالى ( له الأمر وله الخلق ) وقوله تعالى ( انّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء واليه ترجعون ) فالمخلوقات على قسمين من عالم الأنوار ومن عالم التراب والمادة الغليظة وهي النشأة الدنياوية .
ففي الشرطية الأولى جعلت ذاته النورية واسطة لفيض خلق الأفلاك ، وفي الشرطية الثانية جعلت ذات علي النورية واسطة فيض لخلق البدن الجسدي للنبي ( صلى الله عليه وآله ) وفي الشرطية الثالثة جعلت ذات فاطمة النورية واسطة فيض لخلق بدن النبي ( صلى الله عليه وآله ) وبدن الوصي . فمع الدقّة والتأمّل في ظرافة التعبير حيث لم يُسند في الشرطية الثانية ولا الأولى ولا الثالثة ، ولم يُجعل الشرط في كل منها خلق الثلاثة الأطهار
بل جعل ذواتهم النورية ، وجعل الجزاء في الشرطيات الثلاث الخلق ، فليس التعبير " لولا خلقك لما خلقت الاهفلاك ولولا علي لما كنت ولولا خلق فاطمة لما خلقتكما " والمغزى في أسلوب هذا الحديث المثير للوهم ، هو التنبيه على مقامات فاطمة ( عليها السلام ) وأنّها تلو النبي ( صلى الله عليه وآله ) والوصي عليهما صلوات اللّه ، دون سائر الأنبياء والمرسلين كما تقدم إيضاحه فيما سبق .
فالمحصّل انّ أول المخلوقات نور النبي ( صلى الله عليه وآله ) ثم نور علي ( عليه السلام ) ثم نور فاطمة ( عليها السلام ) ثم بقية الأنوار ثم بقية عوالم ونشأت الخلقة التي تتضمن الأبدان الشريفة للمعصومين ، فنور علي وفاطمة يتوسط بين نور النبي ( صلى الله عليه وآله ) والأجساد الشريفة في تسلسل عوالم الخلقة ، وهذا هو المراد من قولنا انّ نور علي وفاطمة ( عليهما السلام ) واسطة فيض لخلق بدن النبي ( صلى الله عليه وآله ) كما انّ نور فاطمة ( عليها السلام ) واسطة لخلق بدنهما .
[1] التحريم : 12 .
[2] البرهان في تفسير القرآن : 3 : 245 .
[3] دلائل الإمامة للطبري 540 مؤسسة الأعلمي بيروت .
[4] آل عمران : 42 .
[5] البقرة : 7 و 122 .
[6] الأعراف : 140 .
[7] الجاثية : 16 .
[8] الدخان : 32 .
[9] آل عمران : 110 .
[10] البقرة : 143 .
[11] الشورى : 51 .
[12] علل الشرائع للصدوق : 183 .
[13] مريم : 16 - 21 .
[14] الشورى : 70 .
[15] آل عمران : 47 .
[16] آل عمران : 38 - 40
[17] آل عمران : 38 .
[18] مريم : 15 - 17 .
[19] آل عمران : 40 .
[20] آل عمران : 47 .
[21] آل عمران : 39 .
[22] المؤمنون : 50 .
[23] البرهان 3 : 113 .
[24] البقرة : 285 .
[25] آل عمران : 44 .
[26] آل عمران : 37 .
[27] شرح النهج 16 : 215 .
[28] مريم : 23 .
[29] كنز الدقائق 8 : 210 .
[30] المائدة : 116 .
[31] المائدة : 75 .
[32] آل عمران : 35 - 37 .
[33] آل عمران : 42 .
[34] آل عمران : 33 .
[35] المائدة : 110 .
[36] النمل : 19 .
[37] مريم : 58 .
[38] المائدة : 72 .
[39] المائدة 75 .
[40] المائدة : 72 .
[41] المائدة : 73 .
[42] النساء : 171 .
[43] البرهان : 3 : 113 .
[44] البخاري 4 : 248 ، وفي مناقب فاطمة ( عليها السلام ) نفس الحديث وكذلك في مجلد 8 : 79 ، وصحيح مسلم 4 : 1904 حديث 97 ، والحديث بلفظ سيدة نساء أهل الجنة ومعلوم ، وجامع الأصول 9 : 129 - 131 حديث 6677 وطبعة دار احياء التراث ح 6665 والترمذي 5 : 701 حديث 3872 - 3878 وسنن أبي داود 4 : 355 حديث 98 و 99 ، ومعلوم ان ذلك يؤول إلى انها سيّدة نساء العالمين من الأولين .
[45] الأحزاب : 33 .
[46] الدر المنثور 6 : 603 دار الفكر بيروت .
[47] البرهان في تفسير القرآن : 3 : 309 .
[48] آل عمران : 42 .
[49] الواقعة : 79 - 81 .
[50] الانعام : 59 .
[51] الرعد : 39 .
[52] النمل : 75 .
[53] النحل : 89 .
[54] سبأ : 3 .
[55] فاطر : 11 .
[56] الدهر : 5 - 9 .
[57] المطففين : 18 - 21 .
[58] الواقعة : 10 - 11 .
[59] الدهر : 7 - 17 .
[60] المطففين : 18 - 28 .
[61] الواقعة : 77 - 79 .
[62] الزخرف : 4 .
[63] آل عمران : 7 .
[64] الدر المنثور 8 : 27 .
[65] الانعام : 59 .
[66] الرعد : 31 .
[67] البحار 11 : 172 و 27 : 199 ، و 36 : 261 و 16 : 361 و 37 : 62 و 37 : 62 ، وفي معاني الأخبار 38 - 39 ، وفي غيبة النعماني : 93 - 94 .
[68] آل عمران : 61 .
[69] الدر النثور للسيوطي 2 : 230 .
[70] شواهد التنزيل 1 : 155 .
[71] تفسير ابن كثير 1 : 484 .
[72] ذخائر العقبى : 63 .
[73] عوالم العلوم : 190 وفي دلائل الإمامة : 30 .
[74] الرعد : 43 .
[75] الفهرست لابن النديم الفن الأول من المقالة الثالثة : 111
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|