أقرأ أيضاً
التاريخ: 17-04-2015
4037
التاريخ: 3/12/2022
1706
التاريخ: 24/11/2022
2010
التاريخ: 17-04-2015
4062
|
ألف - مواجهة التيارات الإلحادية :
ومن الخطوات التي خطاها الإمام ( عليه السّلام ) هي مواجهة الافكار الالحادية سابقة الذكر حيث ناقشها بعدة أساليب حتى استفرغ محتواها ووقف امام تحقيقها لأهدافها .
نختار نماذج من تحرّك الإمام ونشاطه في هذا المجال .
1 - جرت بين الإمام وأحد أقطاب حركة الكفر والالحاد ( أبو شاكر الديصاني ) عدة مناظرات أفحمه الإمام فيها وأبطل مزاعمه الواهية وكان من بينها المناظرة التي وجّه فيها أبو شاكر السؤال التالي للإمام ( عليه السّلام ) : قائلا :
ما الدليل على أنّ لك صانعا ؟
فأجابه الإمام ( عليه السّلام ) : « وجدت نفسي لا تخلو من إحدى جهتين : إما أن أكون صنعتها أنا أو صنعها غيري . فان كنت صنعتها فلا أخلو من أحد معنيين : إما أن أكون صنعتها وكانت موجودة فقد استغنيت بوجودها عن صنعتها ، وإن كانت معدومة فإنك تعلم أنّ المعدوم لا يحدث شيئا ، فقد ثبت المعنى الثالث : أنّ لي صانعا وهو ربّ العالمين »[1] .
2 - دخل الديصاني على الإمام الصادق ( عليه السّلام ) فقال له : يا جعفر بن محمد دلّني على معبودي . . . وكان إلى جانب الإمام غلام بيده بيضة فأخذها منه ، وقال له : « يا ديصاني هذا حصن مكنون له جلد غليظ وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق ، وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضة ذائبة فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضة الذائبة ولا الفضة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة ، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها ، ولا دخل فيها داخل مفسد فيخبر عن فسادها ، لا يدرى للذكر خلقت أم للأنثى ، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس ، أترى لها مدبّرا ؟ » .
وأطرق الديصاني مليّا إلى الأرض ، واعلن التوبة والبراءة ممّا قاله[2].
3 - ووفد زنديق آخر على الإمام ( عليه السّلام ) وهو من الزنادقة البارزين في عصر الإمام الصادق ( عليه السّلام ) وقد قدّم للإمام عدة مسائل حسّاسة فأجاب عنها الإمام ( عليه السّلام ) نذكر بعضا منها :
1 - سأله : كيف يعبد اللّه الخلق ولم يروه ؟
فأجابه ( عليه السّلام ) : « رأته القلوب بنور الايمان ، وأثبتته العقول بيقظتها اثبات العيان وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف ، ثم الرسل وآياتها ، والكتب ومحكماتها ، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته »[3].
ويتضمّن جواب الإمام ( عليه السّلام ) بعض الأدلة الوجدانية على وجود الخالق من خلقه للمجرّات في الفضاء والتي لا تعتمد على شيء سوى قدرة اللّه تعالى . ثم إنّ العقول الواعية والقلوب المطمئنّة بالإيمان هي التي ترى اللّه بما تبصره من بدائع مخلوقاته ، إذ الأثر يدلّ على المؤثّر والمعلول يدلّ على علّته .
2 - وسأله : من أين أثبت أنبياء ورسلا ؟
فأجاب ( عليه السّلام ) : « إنا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقا ، صانعا ، متعاليا عنّا ، وعن جميع ما خلق وكان ذلك الصانع حكيما ، لم يجز أن يشاهده خلقه ، ولا أن يلامسوه ولا أن يباشرهم ويباشروه ، ويحاجّهم ويحاجّوه ، ثبت أنّ له سفراء في خلقه ، وعباد يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم ، وما به بقاؤهم ، وفي تركه فناؤهم . فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه ، وثبت عند ذلك أنّ له معبّرين هم أنبياء اللّه وصفوته من خلقه ، حكماء مؤدّبين بالحكمة مبعوثين عنه ، مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب ، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، فلا تخلو الأرض من حجة يكون معه علم يدلّ على صدق مقال الرسول ووجود عدالته .
وأضاف الإمام الصادق ( عليه السّلام ) قائلا : « نحن نزعم أنّ الأرض لا تخلو من حجة ولا تكون الحجة إلّا من عقب الأنبياء وما بعث اللّه نبيا قطّ من غير نسل الأنبياء ، وذلك أن اللّه شرع لبني آدم طريقا منيرا ، وأخرج من آدم نسلا طاهرا طيّبا ، أخرج منه الأنبياء والرسل ، هم صفوة اللّه وخلص الجوهر ، طهروا في الاصلاب ، وحفظوا في الارحام ، لم يصبهم سفاح الجاهلية ولا شاب أنسابهم ، لأنّ اللّه عزّ وجلّ جعلهم في موضع لا يكون أعلى درجة وشرفا منه ، فمن كان خازن علم اللّه ، وأمين غيبه ، ومستودع سرّه ، وحجّته على خلقه ، وترجمانه ولسانه لا يكون إلّا بهذه الصفة ، فالحجّة لا تكون إلّا من نسلهم ، يقوم مقام النبي ( صلّى اللّه عليه وآله ) في الخلق بالعلم الذي عنده وورثه عن الرسول ، إن جحده الناس سكت ، وكان بقاء ما عليه الناس قليلا ممّا في أيديهم من علم الرسول على اختلاف منهم فيه ، قد أقاموا بينهم الرأي والقياس ، وانّهم إن أقرّوا به وأطاعوه وأخذوا عنه ظهر العدل ، وذهب الاختلاف والتشاجر ، واستوى الأمر ، وأبان الدين ، وغلب على الشك اليقين ، ولا يكاد أن يقرّ الناس به ، ولا يطيعوا له ، أو يحفظوا له بعد فقد الرسول ، وما مضى رسول ولا نبيّ قط لم تختلف امّته من بعده » .
3 - وسأله : ما يصنع بالحجة إذا كان بهذه الصفة ؟
فأجابه ( عليه السّلام ) : « يقتدى به ، ويخرج عنه الشيء بعد الشيء ، مكانه منفعة الخلق ، وصلاحهم فإن أحدثوا في دين اللّه شيئا أعلمهم ، وإن زادوا فيه أخبرهم ، وإن نقصوا منه شيئا أفادهم »[4].
وبهذا المستوى من الحوار وعمقه يستمرّ الإمام ( عليه السّلام ) في أجوبته العملاقة حتى تصل الأسئلة والأجوبة إلى خمسة وتسعين[5] ، ونظرا لسعتها اقتصرنا على الثلاث الأول منها .
ب - مواجهة تيار الغلوّ
لقد كان موقف الإمام الصادق ( عليه السّلام ) من تيّار الغلوّ وحركة الغلاة حازما وصارما ، فقال لسدير : « يا سدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء براء ، برئ اللّه منهم ورسوله ما هؤلاء على ديني ودين آبائي واللّه لا يجمعني وايّاهم يوم إلا وهو عليهم ساخط »[6].
وقال ميسرة : ذكرت أبا الخطّاب عند أبي عبد اللّه ( عليه السّلام ) وكان متكأ فرفع إصبعه إلى السماء ثم قال : « على أبي الخطّاب لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين فأشهد باللّه أنه كافر فاسق مشرك ، وأنه يحشر مع فرعون في أشدّ العذاب غدوا وعشيّا ، ثم قال : واللّه واللّه إنّي لأنفس على أجساد أصيبت معه النار »[7].
وقال عيسى بن أبي منصور : سمعت أبا عبد اللّه ( عليه السّلام ) يقول - وقد ذكر أبا الخطّاب - : « اللّهم العن أبا الخطّاب فإنه خوّفني قائما وقاعدا وعلى فراشي اللّهم أذقه حر الحديد »[8].
وكان موقفه ( عليه السّلام ) صلبا أمام هذه الطائفة الخطيرة على الاسلام ، وما كان ليستريح طرفة عين حتى أحبط مؤامرتها وما ضمّته من الحقد اليهودي ودسائسه التأريخية على الاسلام ، ولو كان قد تراخى وفتر عنها لحظة لكانت تقصم ظهر التشيع .
ونلمس في الروايتين التاليتين حرقة الامام وألمه الشديد ومخافته من تأثير هذه الدعوة الضالّة على الامّة وشعارها المزيّف بحبّها لأهل البيت ( عليهم السّلام ) ، فعن عنبسة بن مصعب قال : قال لي أبو عبد اللّه ( عليه السّلام ) : « أي شيء سمعت من أبي الخطاب ؟ » قلت : سمعته يقول : انك وضعت يدك على صدره وقلت له : عه ولا تنس . وأنت تعلم الغيب . وأنك قلت هو عيبة علمنا وموضع سرّنا أمين على أحيائنا وأمواتنا .
فقال الإمام الصادق : « لا واللّه ما مسّ شيء من جسدي جسده ، وأما قوله أني قلت : إني اعلم الغيب فو اللّه الذي لا إله إلا هو ما أعلم الغيب[9] ولا آجرني اللّه في أمواتي ولا بارك لي في أحبّائي إن كنت قلت له ! وأمّا قوله إني قلت : هو عيبة علمنا وموضع سرّنا وأمين على أحيائنا وأمواتنا فلا آجرني اللّه في أمواتي ولا بارك لي في أحيائي إن كنت قلت له من هذا شيئا من هذا قط »[10].
وقال الإمام ( عليه السّلام ) لمرازم : « قل للغالية توبوا إلى اللّه فإنكم فسّاق كفّار مشركون » .
وقال ( عليه السّلام ) له : « إذا قدمت الكوفة فإت بشار الشعيري وقل له : يقول لك جعفر بن محمد : يا كافر يا فاسق أنا بريء منك . قال : مرازم فلمّا دخلت الكوفة قلت له : يقول لك جعفر بن محمد : يا كافر يا فاسق يا مشرك أنا بريء منك . قال بشار : وقد ذكرني سيدي ؟ ! قلت : نعم ذكرك بهذا . قال : جزاك اللّه خيرا »[11].
لاحظ الخبث وطول الأناة وعمق التخطيط حيث يذهب هذا الخبيث ليلتقي بالإمام ( عليه السّلام ) بعد كل الذي سمعه . ولما دخل بشار الشعيري على الإمام ( عليه السّلام ) قال له : « اخرج عني لعنك اللّه واللّه لا يظلّني وإيّاك سقف أبدا » . فلمّا خرج ، قال ( عليه السّلام ) : « ويله ما صغر اللّه أحدا تصغير هذا الفاجر ، إنّه شيطان خرج ليغوي أصحابي وشيعتي فاحذروه ، وليبلّغ الشاهد الغائب إني عبد اللّه وابن أمته ضمّتني الأصلاب والأرحام وإنّي لميّت ومبعوث ثم مسؤول »[12].
ج - طرح المنهج الصحيح لفهم الشريعة :
إنّ الإمام الصادق ( عليه السّلام ) في الوقت الذي كان يواجه هذه التيارات الالحادية الخطيرة على الامّة كان مشغولا أيضا بمواجهة التيّارات التي تتبنّى المناهج الفقهية التي تتنافى مع روح التشريع الاسلامي ، والتي تكمن خطورتها في كونها تعرّض الدين إلى المحق الداخلي والتغيير في محتواه ، من هنا كان الإمام ( عليه السّلام ) ينهى أصحابه عن العمل بها حتّى قال لأبان : « يا أبان ! إنّ السنة إذا قيست محق الدين »[13].
وكان للإمام نشاط واسع لإثبات بطلان هذه المناهج وبيان عدم شرعيتها .
لقد كان أبو حنيفة يتبنّى مذهب القياس ويعمل به كمصدر من مصادر التشريع في استنباط الاحكام ، لكنّ الإمام ( عليه السّلام ) كان ينكر عليه ذلك ويبيّن له بطلان مذهبه .
وإليك بعض المحاورات التي جرت بينه وبين الإمام ( عليه السّلام ) :
ذكروا أنه وفد ابن شبرمة مع أبي حنيفة على الإمام الصادق ( عليه السّلام ) فقال لابن شبرمة : « من هذا الذي معك ؟ »
فأجابه قائلا : رجل له بصر ، ونفاذ في أمر الدين .
فقال له ( عليه السّلام ) : « لعله الذي يقيس أمر الدين برأيه ؟ » فأجابه : نعم .
والتفت الإمام ( عليه السّلام ) إلى أبي حنيفة قائلا له : « ما اسمك ؟ » فقال : النعمان .
فسأله ( عليه السّلام ) : « يا نعمان ! هل قست رأسك ؟ »
فأجابه : كيف أقيس رأسي ؟ .
فقال له ( عليه السّلام ) : « ما أراك تحسن شيئا . هل علمت ما الملوحة في العينين ؟ والمرارة في الاذنين ، والبرودة في المنخرين والعذوبة في الشفتين ؟
فبهر أبو حنيفة وأنكر معرفة ذلك ووجّه الإمام إليه السؤال التالي : « هل علمت كلمة أوّلها كفر ، وآخرها إيمان ؟ » فقال : لا .
والتمس أبو حنيفة من الإمام أن يوضّح له هذه الأمور فقال له ( عليه السّلام ) :
« أخبرني أبي عن جدّي رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) أنّه قال : إن اللّه تعالى بفضله ومنّه جعل لابن آدم الملوحة في العينين ليلتقطا ما يقع فيهما من القذى ، وجعل المرارة في الاذنين حجابا من الدوابّ فإذا دخلت الرأس دابّة ، والتمست إلى الدماغ ، فإن ذاقت المرارة التمست الخروج ، وجعل اللّه البرودة في المنخرين يستنشق بهما الريح ولولا ذلك لأنتن الدماغ ، وجعل العذوبة في الشفتين ليجد لذة استطعام كل شيء » .
والتفت أبو حنيفة إلى الإمام ( عليه السّلام ) قائلا : أخبرني عن الكلمة التي أوّلها كفر وآخرها إيمان ؟
فقال له ( عليه السّلام ) : « إن العبد إذا قال : لا إله فقد كفر فإذا قال إلّا اللّه فهو الإيمان » .
وأقبل الإمام على أبي حنيفة ينهاه عن العمل بالقياس حيث قال له :
« يا نعمان حدثني أبي عن جدي رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) إنه قال : أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس ، قال له اللّه تعالى : اسجد لآدم فقال : أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * »[14].
والتقى أبو حنيفة مرّة أخرى بالإمام الصادق ( عليه السّلام ) فقال له الإمام :
« ما تقول في محرم كسر رباعية ظبي ؟ » .
فأجابه أبو حنيفة : يا ابن رسول اللّه ما أعلم ما فيه .
فقال له ( عليه السّلام ) : « ألا تعلم أن الظبي لا تكون له رباعية ، وهو ثني أبدا ؟ ! »[15].
ثم التقى أبو حنيفة مرّة ثالثة بالإمام الصادق ، وسأله الإمام ( عليه السّلام ) عن بعض المسائل ، فلم يجبه عنها .
وكان من بين ما سأله الإمام هو : « أيّهما أعظم عند اللّه القتل أو الزنا ؟ » فأجاب : بل القتل .
فقال ( عليه السّلام ) : « كيف رضي في القتل بشاهدين ، ولم يرض في الزنا إلّا بأربعة ؟ »
وهنا لم يمتلك أبو حنيفة جوابا حيث ردّ الإمام قياسه بشكل واضح .
ثم وجّه الإمام ( عليه السّلام ) إلى أبي حنيفة السؤال التالي : « الصلاة أفضل أم الصيام ؟ » فقال : بل الصلاة أفضل .
فقال الإمام ( عليه السّلام ) : « فيجب - على قياس قولك - على الحائض قضاء ما فاتها من الصلاة في حال حيضها دون الصيام ، وقد أوجب اللّه تعالى قضاء الصوم دون الصلاة ؟ ! » .
وبهذا أراد الإمام أن يثبت لأبي حنيفة أن الدين لا يدرك بالقياس والاستحسان . ثم أخذ الإمام يركّز على بطلان مسلكه القياسي فوجّه له سؤالا آخر هو : « البول أقذر أم المني ؟ » فقال له : البول أقذر .
فقال الإمام ( عليه السّلام ) : « يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول ؛ لأنه أقذر ، دون المنيّ ، وقد أوجب اللّه تعالى الغسل من المني دون البول » .
ثم استأنف الإمام ( عليه السّلام ) حديثه في الردّ عليه قائلا : « ما ترى في رجل كان له عبد فتزوّج ، وزوّج عبده في ليلة واحدة فدخلا بأمراتيهما في ليلة واحدة ، ثم سافرا وجعلا امرأتيهما في بيت واحد وولدتا غلامين فسقط البيت عليهم فقتلت المرأتان ، وبقي الغلامان أيهما في رأيك المالك ؟ وأيّهما المملوك وأيّهما الوارث ؟ وأيّهما الموروث ؟ » .
وهنا أيضا صرح أبو حنيفة بعجزه قائلا : إنما أنا صاحب حدود .
وهنا وجّه اليه الإمام السؤال التالي : « ما ترى في رجل أعمى فقأ عين صحيح ، وقطع يد رجل كيف يقام عليهما الحدّ ؟ » .
واعترف مرة أخرى بعجزه فقال : أنا رجل عالم بمباعث الأنبياء . . .
وهنا وجّه له الإمام السؤال التالي : « أخبرني عن قول اللّه لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [16] - ولعلّ منك شكّ ؟ ) فقال : نعم . فقال له الإمام ( عليه السّلام ) : « وكذلك من اللّه شكّ إذ قال : لعله ؟ ! » فقال : لا علم لي .
وأخذ الإمام باستفراغ كل ما في ذهن أبي حنيفة من القياس قائلا له :
« تزعم أنك تفتي بكتاب اللّه ، ولست ممّن ورثه ، وتزعم أنك صاحب قياس ، وأوّل من قاس إبليس لعنه اللّه ولم يبن دين الاسلام على القياس وتزعم أنك صاحب رأي ، وكان الرأي من رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) صوابا ومن دونه خطأ ، لأنّ اللّه تعالى قال : ( فاحكم بينهم بما أراك اللّه ) ولم يقل ذلك لغيره ، وتزعم أنك صاحب حدود ، ومن أنزلت عليه أولى بعلمها منك وتزعم أنك عالم بمباعث الأنبياء ، وخاتم الأنبياء أعلم بمباعثهم منك .
لولا أن يقال دخل على ابن رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) فلم يسأله عن شيء ما سألتك عن شيء . فقس إن كنت مقيسا .
وهنا قال أبو حنيفة للإمام ( عليه السّلام ) : لا أتكلم بالرأي والقياس في دين اللّه بعد هذا المجلس .
وأجابه الإمام ( عليه السّلام ) : « كلّا إنّ حبّ الرئاسة غير تاركك كما لم يترك من كان قبلك »[17].
وهكذا وقف الإمام ( عليه السّلام ) موقفا لا هوادة فيه ضدّ هذه التوجّهات الخطيرة على الاسلام فكثّف من نشاطه حولها ولا حق العناصر التي كانت تتبنّى هذه الافكار الدخيلة ليغيّر من قناعاتها .
ونجد للإمام ( عليه السّلام ) موقفا مع ابن أبي ليلى وهو القاضي الرسمي للحكومة الأموية وكان يفتي بالرأي قبل أبي حنيفة وقد قابل الإمام الصادق ( عليه السّلام ) وكان معه سعيد بن أبي الخضيب فقال ( عليه السّلام ) : « من هذا الذي معك ؟ » قال سعيد : ابن أبي ليلى قاضي المسلمين .
فسأله الإمام ( عليه السّلام ) قائلا : « تأخذ مال هذا فتعطيه هذا وتفرّق بين المرء وزوجه ولا تخاف في هذا أحدا ؟ ! » قال : نعم .
قال : « بأيّ شيء تقضي ؟ » قال : بما بلغني عن رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) وعن أبي بكر وعمر » .
قال : فبلغك أنّ رسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) قال : « أقضاكم عليّ بعدي ؟ » قال : نعم قال : « كيف تقضي بغير قضاء علي ، وقد بلغك هذا ؟ »
وهكذا عرف ابن أبي ليلى أنه قد جانب الحق فيما حكم وأفتى به .
ثم قال له الإمام ( عليه السّلام ) : « التمس مثلا لنفسك ، فو اللّه لا اكلّمك من رأسي كلمة أبدا »[18].
وقال نوح بن درّاج[19] لابن أبي ليلى : أكنت تاركا قولا قلته أو قضاء قضيته لقول أحد ؟ قال : لا ، إلّا رجل واحد ، قلت : من هو ؟ قال : جعفر بن محمد ( عليه السّلام )[20].
د - مواجهة التحريف والاستغلال السياسي للقرآن ومفاهيمه :
قام الإمام الصادق ( عليه السّلام ) بحماية القرآن وصيانته من عملية التوظيف السياسي التي تجعل النص القرآني خادما لأغراض سياسيّة مشبوهة تحاول إسباغ طابع شرعي على الحكم الظالم وشل روح الثورة واطفاء روح المقاومة في نفوس الامّة وبالتالي إسقاط شرعيّة القوى الرافضة لهذه النظم الظالمة حتى قيل في تفسير قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ * وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ [21].
« أنّها قد نزلت في علي بن أبي طالب » ( عليه السّلام )[22].
كما زيّف الإمام ( عليه السّلام ) النظرة الجامدة للنصّ القرآني والتي تحاول تعطيله عن المواكبة للواقع المتغيّر والمتطور وحبسه في حدود الظاهر ، ولم يسمح بالتأويل الباطني الفاسد . كما قاوم بعنف التفسير الذي يعتمد الرأي بعيدا عن الأحاديث الصحيحة الواردة عن الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله ) وأهل بيته المعصومين ( عليهم السّلام ) .
قال ( عليه السّلام ) : « من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر ، وإن أخطأ كان إثمه عليه »[23].
قال ( عليه السّلام ) : « الراسخون في العلم أمير المؤمنين والأئمة من بعده »[24] وقال أيضا :
« نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله »[25] وجاء عن زيد بن معاوية عن الإمام الصادق ( عليه السّلام ) في تفسير قول اللّه عزّ وجلّ : وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ[26] ، « فرسول اللّه ( صلّى اللّه عليه وآله ) أفضل الراسخين في العلم قد علّمه اللّه عزّ وجلّ جميع ما أنزل عليه من التنزيل والتأويل ، وما كان اللّه لينزل عليه شيئا لم يعلّمه تأويله وأوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه »[27].
وجاء عنه ( عليه السّلام ) في تفسير قوله تعالى : بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُور الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ[28] ، « أنّهم « هم الأئمة »[29].
ودخل عليه الحسن بن صالح بن حي فقال له : يا بن رسول اللّه ! ما تقول في قوله تعالى : أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ[30] ؟ من أولو الأمر الذين أمر اللّه بطاعتهم ؟ قال : « العلماء » .
فلما خرجوا قال الحسن : ما صنعنا ! ألا سألناه من هؤلاء العلماء ؟ !
فرجعوا إليه ، فسألوه فقال : « الأئمة منّا أهل البيت »[31].
لقد ثبّت ( عليه السّلام ) بأن فهم القرآن لا يتمّ إلّا بالرجوع إلى ما جاء عن الرسول ( صلّى اللّه عليه وآله ) وأهل بيته ( عليهم السّلام ) لأنه يضمن الفهم الصحيح لنصوص القرآن الكريم .
كما أنّه فتح آفاقا جديدة لفهم القرآن وعلومه وأحكامه فحدّد المحكم والمتشابه والتأويل والتفسير والمطلق والمقيّد والجري والانطباق . . . إلى غيرها من شؤون القرآن الكريم .
[1] بحار الأنوار : 3 / 50 عن التوحيد للصدوق .
[2] أصول الكافي : 1 / 80 ، والاحتجاج : 2 / 71 - 72 .
[3] الاحتجاج : 2 / 77 .
[4] الاحتجاج للطبرسي : 2 / 77 - 78 .
[5] الاحتجاج : 2 / 77 - 100 عن يونس بن ظبيان وعبد الدين سنان ، ولم يسمّيا الزنديق ولم يرويا توبته !
[6] أصول الكافي : 1 / 269 .
[7] اختيار معرفة الرجال للكشي : 269 ح 524 .
[8] اختيار معرفة الرجل : 290 ح 509 وعنه في عوالم العلوم والمعارف : 20 / 2 ح 1151 .
[9] والإمام ( عليه السّلام ) هنا في مقام نفي العلم بالغيب الاستقلالي الذي يدّعيه الغلاة ، لا العلم بالغيب الممنوح للنبي ( صلّى اللّه عليه وآله ) ولهم منه سبحانه .
[10] اختيار معرفة الرجال للكشي : 292 ح 515 وعنه في الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : 2 / 375 .
[11] اختيار معرفة الرجال للكشي : 398 ح 744 وعنه في الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : 2 / 375 .
[12] المصدر السابق : 400 ح 746 وعنه في الإمام الصادق والمذاهب الأربعة : 1 / 235 .
[13] بحار الأنوار : 104 / 405 عن المحاسن للبرقي .
[14] أصول الكافي : 1 / 58 ح 20 وعنه في بحار الأنوار : 47 / 226 ح 16 .
[15] مرآة الجنان : 1 / 304 ، ونزهة الجليس : 2 / 57 .
[16] طه ( 20 ) : 44 .
[17] الاحتجاج للطبرسي : 2 / 110 - 117 .
[18] الاحتجاج : 2 / 102 .
[19] نوح بن درّاج من أصحاب الإمام الصادق ( عليه السّلام ) / تنقيح المقال : 3 / 275 وابن أبي ليلى هو محمد بن عبد الرحمن مفتي الكوفة وقاضيها ، راجع سير أعلام النبلاء : 6 / 310 .
[20] حلية الأولياء : 3 / 193 .
[21] البقرة ( 2 ) : 204 - 205 .
[22] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 4 / 73 عن أبي جعفر الإسكافي : 240 .
[23] تفسير العياشي : 1 / 17 وعنه في تفسير الصافي : 1 / 21 .
[24] أصول الكافي : 1 / 213 .
[25] المصدر السابق .
[26] آل عمران ( 3 ) : 7 .
[27] أصول الكافي : 1 / 213 .
[28] العنكبوت ( 29 ) : 49 .
[29] تفسير الصافي : 1 / 12 .
[30] النساء ( 4 ) : 59 .
[31] بحار الأنوار : 47 / 29 .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|