أقرأ أيضاً
التاريخ: 20-11-2014
796
التاريخ: 1-12-2018
852
التاريخ: ج1-ص291-295
695
التاريخ: 10-4-2018
886
|
من أكمل اللّه تعالى شروط التكليف فيه بأن أحياه وأقدره وأعطاه الآلة والعقل ونصب له الدليل ومكنه بسائر ضروب التمكين وخلق فيه الشهوة المتعلّقة بالقبائح والنفار عن المحسّنات من الواجبات والمندوبات ولم يغنه بالحسن عن القبيح، لا بدّ من أن يكلّفه ، وذلك لأنّه لا يخلو من أن يكون له تعالى في إكمال هذه الامور غرض أو لا يكون له فيه غرض . إن لم يكن له فيه غرض كان عبثا قبيحا لا يجوز أن يفعله تعالى ، وإذا كان له فيه غرض فغرضه لا يخلو من أن يكون إغراء من أكمل فيه هذه الأمور على القبيح والإخلال بالطاعات ، وهذا أيضا لا يجوز عليه تعالى لأنّه قبيح ، أو كان غرضه بعثه على الإقدام على الطاعات والإحجام عن المعاصي مع ما يلحقه من المشقّة في الإقدام والإحجام ليستحقّ به الثواب ، وهذا هو التكليف، فتحقّق ما أردناه من أنّه تعالى كلّف كلّ من أكمل شروط التكليف فيه.
فإن قيل: إذا كلّف اللّه تعالى المكلّف وغرضه تعريضه
لدرجة الثواب، فهلا اقتصر في تكليفه على المندوب الذي إذا أتى به استحقّ الثواب،
فإذا لم يفعله لم يستحقّ العقاب. فيكون ذلك إحسانا للنظر إليه ، دون أن يكلّفه فعل
الواجب والامتناع من القبيح اللذين إذا عصى فيهما يستحق العقاب ويعاقب عليه.
قلنا: الاقتصار
على تكليف المندوب لا يصحّ ولا يليق بالحكمة أيضا. أمّا بيان أنّه لا يصحّ: فهو
أنّه إذا كلّفه المندوب إليه وجب أن يكمل عقله ويقدره ويخلق له النفرة المتعلّقة
به ، ليشقّ عليه، فيستحقّ في مقابلته الثواب وقد خلق فيه الشهوة المتعلّقة به
بالمباحات لينتفع، وكمال العقل للعلم بوجوب الواجبات وقبح المقبّحات فيكون عالما
بهما. وقدرته على المندوب يكون قدرة على الواجب وعلى القبيح ... [لأن] القدرة
تتعلّق بالشيء وضدّه ومخالفه ممّا يدخل تحت مقدور القدرة فيكون قادرا على الواجب والقبيح
جميعا، والنفار المتعلّق بالمندوب متعلّق بالواجب أيضا. وكذلك شهوة المباح أيضا
تكون متعلّقة بالقبيح وذلك لأنّ الشهوة والنفار يتعلّقان بالأجناس، وضروب الأجناس ،
وليسا مقصورين في تعلّقهما على الأجناس، فعلى هذا التقدير يكون قد حصل فيه شروط
تكليفه فعل الواجب والامتناع من القبيح، وقد بيّنا انّه لا بدّ من أن يكلّف من
أكمل فيه شروط التكليف.
وأمّا بيان أنّ الحكمة تقتضي إلى أن لا يقتصر في تكليفه
على المندوب ، فهو أنّه إذا اقتصر في تكليفه على المندوب كان للمكلّف أن يفعل
المندوب ، فلا يكون تعريضه بليغا كاملا، بخلاف ما إذا كلّفه فعل الواجب والامتناع
من القبيح ، لأنّه لا يكون في تكليفهما خيرة فيتأكّد تعريضه لدرجة الثواب.
واعلم أنّ التكليف إمّا أن يكون بعثا على الفعل بحيث لا
يكون للمكلّف أن يخلّ به أو بما يقوم مقامه إن كان له بدل ، أو يكون بعثا عليه بأن
يبيّن له بأنّ الأولى فعله فيكون ذلك ترغيبا في الفعل وندبا إليه. وإمّا أن يكون
بعثا على أن لا يفعل، وذلك أيضا ينقسم إلى أن يكون بحيث لا يكون للمكلّف فعله بوجه
من الوجوه، فيكون ذلك التكليف حظرا وتحريما، وإمّا أن يكون للمكلّف رخصة في فعله ،
بأن يبيّن له أن الأولى أن لا يفعله كتقاضي الغريم فيكون ذلك تنزيها لا تحريما.
وجملة الأمر وعقد
الباب أنّ جميع ما كلّفناه، فعلا كان أو أن لا يفعل، إقداما أو احجاما، لا بدّ من
أن يكون ممّا يستحقّ به المدح والتعظيم، كفعل الواجب والمندوب إليه والامتناع من
القبيح ثمّ ينقسم إلى ما يستحقّ بالمخالفة فيه الذمّ فيكون كلّفناه وجوبا وإلى ما
يستحقّ الذّم بالمخالفة فيه فيكون رغبنا فيه وندبنا إليه. فعلى هذا يخرج المباح وفعل
الطفل والمجنون والساهي والنائم والملجأ من هذا الباب، لأنّ جميع ذلك ممّا لا مدخل
له في مدح ولا ذمّ لا في الفعل ولا في أن لا يفعل.
وجميع ما كلّفناه ينقسم إلى ما يتعلّق أفعال الجوارح وإلى
ما يتعلّق بالقلوب. وما يتعلّق بالجوارح تنحصر أجناسه في الاعتمادات والأصوات والأكوان
والآلام والتأليفات، وما يتعلّق بالقلوب ينحصر في الأنظار والاعتقادات والظنون والإرادات
والكراهات.
وجميع ذلك ينقسم إلى عقليّ وشرعيّ، فالشرعيّ ممّا يرجع
إلى ما يتعلّق بالقلوب العلوم بأصول الشريعة من أدلّتها المجملة والمفصّلة وبفروعها
والأنظار في أدلّة الشرع والظنون المتعلّقة بالشرعيّات كالتجرّي في جهة القبلة والظنون
في اروش الجنايات وقيم المتلقات وتقدير النفقات والإرادات المتعلّقة بالأعمال
الشرعيّة من النيّات والعزوم عليها والكراهات المتعلّقة بالمحظورات الشرعيّة، وما
يرجع إلى أعمال الجوارح في الشرعيّات فأمثلتها كثيرة ، كالصلاة والزكاة والحجّ وغير
ذلك. والعقليّ ممّا يرجع إلى ما يتعلّق بالقلب فالنظر في طريق معرفة اللّه تعالى والعزوم
والنيّات المتعلّقة بأداء الواجبات العقلية ومندوباتها العقلية من الظلم والكذب وغيرهما،
وما يتعلّق بأفعال الجوارح من العقليّات ، كردّ الوديعة وقضاء الدين وإظهار شكر
النعمة باللسان.
ثمّ لهذه التكاليف ترتيب فالتكاليف الشرعيّة بجملتها
مترتبة على التكليف العقليّ من معارف التوحيد والعدل والعبادات الشرعيّة، مترتّبة
على العلم بصورتها وكيفيّتها وعلى العلم بوجوبها وعلى العلم بالمعبود الذي يعيد
بها، وإن كان العلم بالمعبود لا يدخل في التكاليف الشرعيّة، فانّه من التكاليف
العقليّة.
ثمّ وللشرعيّات أسباب وشروط ، وهي منقسمة إلى ما لا
يتعلّق بالمكلّف فلا يدخل في غرضنا هذا، وإلى ما يتعلّق به ، وهو ينقسم أيضا إلى
ما لا يتعلّق به تكليف كتحصيل النصاب في الزكاة والاستطاعة في وجوب الحجّ وهذا
أيضا ساقط هاهنا، وإلى ما يتعلّق به تكليف ، كالطهارة في الصلاة والطواف ، فتكليف
المشروط في هذا القسم مرتّب على تكليف الشرط فيه أعني أنّه مكلّف بتقديم الطهارة
ثمّ ترتيب الصلاة عليها ، وإن كان الشرط في الغرض تابعا للمشروط ، إذ لولا وجوب
الصلاة لما وجبت عليه الطهارة.
وأمّا العقليات فالنظر في طريق معرفة اللّه تعالى مقدّم
في الوجوب وكونه مكلّفا به على سائرها وباقي العقليّات لا ترتيب فيها، فحصل من هذه
الجملة أنّ النظر في طريق معرفة اللّه تعالى أوّل فعل يجب على المكلّف. وإذا قد
عرض الكلام في وجوب النظر فلنوفّيه بعض حقّه ونقول: إنّه أوّل فعل يجب على المكلّف
ممّا لا يخلو مع كمال عقله منه لأنّه مقدّم على سائر العقليّات و... أنّ العقليّات
متقدّمة على الشرعيّات بأسرها، فتحقّق انّه أوّل فعل يجب على المكلّف ...
فإن قيل: لم قلتم إنّ النظر واجب، ثمّ لم قلتم إنّه أوّل
الواجبات؟
قلنا: إنّما قلنا إنّه واجب لوجهين اثنين: أحدهما يرجع
إلى نفس النظر والآخر يرجع إلى المعرفة. أمّا الوجه الأوّل الذي يرجع إلى نفس
النظر، فهو انّه بصفة دفع المضرّة، ودفع المضرّة معلوم وجوبه عقلا، سواء كانت
المضرّة معلومة أو مظنونة. وإنّما قلنا إنّه بصفة دفع المضرّة لأنّ العاقل يخاف في
ابتداء كمال عقله من إهماله ويرجو بفعله زوال ما يخافه، وما هذا حاله يكون دفعا
للمضرّة فيكون واجبا وأمّا الوجه الآخر الراجع إلى المعرفة، فهو أنّ معرفة اللّه
تعالى واجبة ولا تحصل إلّا بالنظر فيجب النظر بوجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به.
فإن قيل: على الوجه الأوّل إنّكم بنيتم وجوب النظر على
خوف العاقل من إهماله، فلم قلتم إنّه يخاف من إهماله؟ وما سبب خوفه؟ أ رأيتم لو لم
يحصل لبعض العقلاء هذا الخوف؟ أ ليس لا يجب عليه هذا النظر على ما ذكرتموه؟
فيكون قد خلا ذلك العاقل من وجوب النظر عليه، فيبطل
قولكم إنّه ممّا لا يخلو المكلّف مع كمال عقله من وجوبه.
قلنا: إنّه يخاف بأحد الأسباب المعروفة المذكورة في
الكتب التي هي إمّا أن يسمع اختلاف الناس في آرائهم وأديانهم وتضليل بعضهم بعضا وادّعاء
كلّ فريق منهم أن الحقّ معهم والباطل مع مخالفيهم إن كان ناشئا فيما بينهم أو بان
يسمع تذكير مذكّر أو وعظ واعظ يذكّر الناس بأيّام اللّه والثواب والعقاب، وإمّا أن
ينتبه من ذي قبل بأن يرى آثار النعمة على نفسه ظاهرة فيجوّز أن يكون له صانع صانعه
وأنعم عليه بتلك المنافع وأراد منه معرفة وشكره وأنّه لو عرفه وشكره ربما زاد في
نعمته وإن لم يعرفه أزال عنه نعمته، وربما أضرّه بنوع مضرّة، إذ قد تقرر في عقله
أن من لا يشكر النعم يستحقّ الذمّ، والذمّ ممّا يضرّ المذموم. وإن لم يتفق له أحد
هذين الوجهين، فلا بدّ من أن يخطر اللّه بباله ما يتضمّن هذا المعنى فيخوّفه به وينبّهه
على جهة الخوف وسببه، فيعلم عند ذلك وجوب النظر عليه.
أمّا قول السائل: أرأيتم لو لم يحصل له هذا الخوف؟
فالجواب عنه أن نقول لو لم يحصل للعاقل شيء من أسباب الخوف لم يكن مكلّفا جملة، وذلك
لأنّه إذا لم يخف لم يجب عليه النظر على ما ذكره السائل، وإذا لم يجب عليه النظر
فلا يكلّفه اللّه تعالى النظر، وإذا لم يكلّفه النظر لم يكلّفه المعرفة، إذ لا
يمكن تحصيل المعرفة الاستدلاليّة إلّا بالنظر، وإذا لم يكلّفه المعرفة مع كونها
لطفا لحاله فيما كلّفه لم يحسن منه تبارك وتعالى [أن] يكلّفه من حيث حرمة ما هو
لطف في تكليفه وهو ممكن الحصول: فلا يكون مكلّفا ...
فإن قيل: ما تقولون فيما لو عارض خاطره المخوّف له من
ترك النظر خاطر آخر يخوّفه من فعل النظر، كأن يقول له: «لا تأمن من انّك إن نظرت
أتبعت نفسك وتحمّلت المشقّة، وربما لا تحصل من نظرك على معرفة، فاختر الدعة والراحة
لنفسك»، أو يقول له: «لا تأمن من أنّك لو نظرت أو عرفت أنّ لك صانعا وأخذك بذلك وعاقبك
عليه، كالملك في الشاهد، فانّه ربما يعاقب ويعاقب من يريد تعرّفه وتعرّف أحواله والاطلاع
على أسراره وضمائره» أو يقول: «لا تأمن من أن يكون لك صانع سفيه فيعاقبك على نظرك
وتحصيل معرفتك به من دون وجه يقتضي ذلك»، أو يقول له: «إنّك الساعة تظن ثوابا وعقابا،
فيدعوك ذلك إلى أداء الواجبات واجتناب المقبّحات، فلا تأمن من أنّك إن نظرت أفصى بك
النظر إلى أن لا ثواب ولا عقاب، فتنهمك في القبائح والامتناع من الواجبات وتستحقّ
بذلك الذّم من العقلاء فيذمّوك ويؤذوك باللوم والذمّ».
قلنا: امّا الخاطر الأوّل، فلا يصلح أن يكون معارضا
لخاطره المخوف له من ترك النظر باعتبار أنّه قد عرف من طريق التجربة أن العاقل بأن
يتأمل ويجتنب عن الامور عند اشتباهها، يكون أقرب إلى الصواب وانكشاف الحال له منه
إذا أهمل التأمّل والبحث. كمن اعترضه في سفره طريقان، فيقول له مثلا زيد: إنّ هذا
الطريق أقرب وليس فيه خطر، والطريق الآخر أبعد وفيه خطر من سبع أو قاطع طريق؛ وعمرو
يقول له: عكس ذلك. أو كمن يريد إيداع ما له عند أحد شخصين يقول له بعض الناس: إنّ
الأمين منها واحد معين دون الآخر، ويقول بعضهم: عكس ذلك. وهو أن الأمين ذلك الآخر
دون الأوّل. أو كمن يريد حمل متاعه إلى بعض البلاد فيقول له زيد: إنّ ذلك المتاع غال
في بلد بعينه رخيص في غيره، وعمرو يقول عكسه، وهو انّه رخيص في ذلك البلد غال في
غيره.
فانّ هؤلاء يعلمون انّه يجب عليهم أن يتأملوا في ذلك ويبحثوا،
وانّهم بالتأمّل والبحث يكونون أقرب إلى السلامة منهم إذا أهملوا التأمّل وعملوا
على التبخيت. ولو كان بهذا الخاطر اعتداد وإليه التفات، لوجب أن لا ينظر في شيء
من الامور الدنيوية ، لا انّ مثل هذا الخاطر يمكن ويتصوّر وروده فيها.
فأمّا الخاطر الثاني فمدفوع أيضا ولا يصلح أن يكون
معارضا لخاطره المخوّف من ترك النظر من حيث أن المتقرّر في العقل والمعلوم عند
العقلاء هو أنّ المنعم عليه إذا عرف منعمه وشكره على نعمته كان أقرب إلى السلامة
من جانبه والزيادة في نعمه منه إذا أهمل معرفته وشكره.
فأمّا ما قاله من حديث الملك، فانّه إنّما يعاتب ... من
حيث انّه يستضرّ باطّلاع من اطّلع على أسراره وضمائره حتّى لو فرضناه انّه لا
يستضرّ بذلك ويعلم أنّ هذا الإنسان إنّما يعرفه ويتعرّف تفاصيل نعمه ليشكره عليها
على التفصيل، فانّه لا يعاقبه عليه، ولو عاقبه على ذلك لكان ذلك سفها.
وأمّا الخاطر الثالث، فليس بمعارض أيضا، لأنّ السفيه لا
حيلة معه لا بأن يعرف ولا بأن لا يعرف، فلا يكون ترك النظر والمعرفة دافعا
لمضرّته.
فأمّا ما ذكره في الخاطر الرابع، ففيه بعض الاشتباه. ولكنّه
أيضا مدفوع، بسبب أنّ التضرّر الذي يخافه بفعل النظر إنّما هو ذمّ العقلاء، ولا
نسبة لهذا الضرر إلى ضرر العقاب الذي يخافه في إهمال النظر، فيجب عليه العمل على
خاطره الأوّل وترك الالتفات إلى هذا الخاطر دفعا للضرر الأعلى بالضرر الأدنى.
فإن قيل: فما الجواب إذا فرض ورود هذا الخاطر على وجه
آخر، وهو أن يقول: لو انكشف لك أن لا صانع ولا ثواب ولا عقاب انهمكت في المعاصي والإخلال
بالواجب ، فيكون نظرك هذا مفسدة فيقبح منه الإقدام على النظر لتجويزه كونه مفسدة وتجويز
وجه القبح في الفعل كالقطع عليه في قبح الإقدام على الفعل.
قلنا: لو ورد له مثل هذا الخاطر، فانّه يجب على اللّه
دفعه عنه ليسلم له خاطره المخوّف من ترك النظر وإهماله ويصير النظر واجبا عليه . وجملة
الأمر انّه لو لم يخف من إهمال النظر وتركه لم يكن مكلّفا أصلا ...
فإن قيل: العاقل قبل أن ينظر ويحصل له بنظره العلم، لا
يكون عالما بأن نظره يفضي إلى العلم فيجوز أن يفضي به إلى الجهل، فيقبح منه
الإقدام عليه، لأنّ تجويز وجه القبح في الفعل كالقطع عليه من قبح الإقدام عليه.
قلنا: العاقل قد علم حسن جميع الأنظار عند اشتباه الامور
والتباسها، بل قد علم وجوب البعض، وهو الذي يخاف في إهماله الضرر فيأمن بذلك من
إفضاء النظر إلى جهل أو قبيح آخر، وكيف يجوّز قبح ما قد علم حسنه.
ثمّ نقول للسائل: يلزمك على هذا القول أن يحكم بقبح
النظر في الامور الدنيوية أيضا الذي قد علمنا ضرورة حسنه بمثل ما ذكرته في النظر
في طريق معرفة اللّه.
فإن قيل: لم قلتم إنّ العاقل لو لم يخف من ترك النظر في
ابتداء تكليفه ، للزم أن لا يكون مكلّفا جملة؟
قلنا: لما أشرنا إليه، وهو أنّه إذا كلّفه الحكيم لا بدّ
من أن يزيح علّته بالإقدار والتمكين واللطف أيضا، لأنّه داخل في جملة ازاحة علّة
المكلّف...
واللطف إذا كان من فعله تعالى وجب أن يفعله، وإذا كان من
مقدور العبد وجب عليه تعالى أن يكلّفه ذلك ويجري تكليفه ذلك الفعل الذي هو لطف
مجرى فعله اللطف إذا كان من مقدوره تعالى.
... فإن قيل: العاقل إنّما يخاف من إهمال النظر، لخوفه
من إهمال المعرفة، فإذا خاف من إهمال المعرفة وعلم أنّه لا يحصل إلّا بالنظر يصير
خائفا من إهمال النظر، وهذا الخوف إنّما يحصل لمن يكون عالما بأنّ النظر هو الطريق
إلى المعرفة، فكيف يعلم العاقل في هذا المقام كون النظر طريقا إلى العلم؟
قلنا: لا بدّ من أن يكون قد عرف أن النظر من مدارك العلم
وطرقه، وقد علم ذلك بالتجربة في استعماله عند اشتباه الامور والتباسها عليه في
متصرّفاته ومعاملاته الدنيويّة ... فلا استبعاد في ذلك.
فإن قيل: على الوجه الثاني الذي ذكرناه في وجوب النظر،
لم قلتم إنّ معرفة اللّه تعالى واجبة؟ ولم قلتم إنّها لا تحصل إلا بالنظر؟
قلنا: إنّما قلنا إنّ معرفة اللّه تعالى واجبة ، من حيث
ان ما هو لطف لنا وجار مجرى دفع الضرر من النفس من العلم بالثواب والعقاب الذي
علمنا وجوبه لا يحصل الّا بعد معرفة اللّه تعالى ومعرفة توحيده وعدله، فيجب معرفته
تعالى لوجوب ما لا يتمّ الواجب الّا به.
وإنّما قلنا: إنّ معرفة اللّه لا تحصل الّا بالنظر، من
حيث انّ علومنا منحصرة في أقسام أربعة : أوّلها العلوم البديهيّة الأوّليّة،
كعلمنا بنفوسنا والأحوال التي نجدها من نفوسنا، والعلم بأن الكلّ أعظم من الجزء
إلى اشباه ذلك.
وثانيها: ما نعلمه من طريق الإدراك بالحواسّ.
وثالثها: ما نعلمه بالأخبار المتواترة كالبلدان والوقائع
الكبار التي أخبرنا عنها.
ورابعها: ما نعلمه بالنظر.
ومعرفة اللّه تعالى ليست من البديهيات، لاختلاف العقلاء
فيها، ولإمكان دخول الشبهة، فيها، ولصحّة الاستدلال عليها، إذا لبديهيّ لا يتصوّر
فيه شيء من ذلك ؛ وليست هي من القسم الثاني، لأنّه تعالى ليس بمدرك، ولأنّ من
يطلب العلم به من طريق الإدراك لا يعلمه فينقطع طمعه في أن يحصل معرفته من طريق
الإدراك؛ وليست أيضا من القسم الثالث لأنّ ما يعلم بالأخبار المتواترة، لا بدّ من
أن يكون مدركا وأن يستند الخبر فيه إلى الإدراك. ألا ترى أنّ جماعة المسلمين
يخبرون الكفّار عن توحيد اللّه تعالى وعدله ونبوّة محمّد صلى اللّه عليه وآله، كما
يخبرونهم عن بلدانهم والأحوال الجارية فيما بينهم، فيحصل لهم العلم بالثاني دون
الأوّل، لما كان هو مدركا وذاك غير مدرك، وقد ذكرنا أنّه تعالى ليس بمدرك. فلم يبق
إلّا أن يكون من القسم الرابع، وهو أن يكون طريق معرفة النظر.
فإن قيل: ولم قلتم إنّ علومنا منحصرة في هذه الأقسام؟ ولم
لا يجوز أن يكون هاهنا قسم آخر؟
قلنا: لو كان هناك قسم آخر لتصوّر أنّ يعلم الواحد منّا
شيئا، لا بأن يعلمه علما أوّليّا ولا بأن يدركه ولا بأن يخبرها المتواترون عنه، ولا
بأن ينظر ويتفكّر في شيء، والمعلوم خلاف ذلك.
فإن قيل: أليس العلم بالمحفوظ الذي يسمّى حفظا يحصل لا
من شيء من هذه الطرق، بل بالتكرار وكذا العلم بالصناعات فانّه يستفاد من الممارسة
لا من شيء من هذه الطرق، وقد نعلم بالخبر ما لا يكون كما نعلمه بخبر اللّه تعالى
وخبر الرسول والمعصومين عليهم السلام، فكيف يصحّ قولكم: انّ ما نعلم بالخبر لا
يكون الا مدركا؟
قلنا: امّا العلم المحفوظ والعلم بالصناعات فيدخل فيما
يعلم من طريق الإدراك، لأنّه لا بدّ في الذي يحفظ شيئا من انّ يتكرر على سمعه
إدراك تلك العبارات حتّى يحفظها، وكذا الممارس للصناعة لا بدّ من أن يتكرّر رؤيته
لعمل تلك الصناعة حتى يتعلّم، فليس واحد من العلمين خارجا من طريق الإدراك بل
الإدراك فيهما متأكّد، إذ يحصلان عند تكرّره. وأمّا ما نعلمه بخبر الصادقين فهو
داخل فيما نعلمه بالنظر والاستدلال، من حيث انّا لو لم نستدلّ على صدقهم لما علمنا
بخبرهم شيئا. ومرادنا بقولنا: أنّ ما نعلمه لا بدّ أن يكون مدركا ما لم يعلم
بالأخبار المتواترة، وإلّا فما عداهما ممّا ذكرناه داخل فيما يعلم بالنظر والاستدلال.
فإن قيل: أليس أحدنا يعلم أشياء بطريق إدخال التفصيل على
الجملة؟
وذلك خارج عن الأقسام التي ذكرتموها.
قلنا: ذلك ليس خارجا عمّا يعلم من طريق الاستدلال، إذ
الصحيح في طريق النظر والاستدلال انّه ترتيب علوم أو ظنون ترتيبا مخصوصا يحصله منه
علم آخر أو ظنّ آخر، وهذا متحقّق في إدخال التفصيل على الجملة.
فإن قيل: فما تقولون فيما يفعله المتنبّه من رقدته في
أيّ قسم يدخل من الأقسام التي ذكرتموها؟
قلنا: هو أيضا داخل في الاستدلال، لأنّه يتذكّر كيفيّة
ترتيبه للعلوم التي رتّبها فيعلم ما علمه أوّلا، إلّا أنّ المدّة فيها تقصر عمّا
كان في الاوّل، ويمكن أن يحصر علومنا في قسمين، بأنّ يقال ما نعلمه إمّا أن يتوقف
العلم به على اختيارنا وفعلنا أو لا يتوقف، ولا ثالث. فان لم يتوقّف فهو الذي
يعبّر عنه بانّه ضروريّ وشأنه أن لا يتأتى فيه النظر والاستدلال ولا يمكن دفعه عن
النفس الا بشبهة، وإن توقف على اختيارنا فهو الذي نحصّله بالنظر والاستدلال لا
غير، إذ لو تصوّر خلاف ذلك لتأتّى منّا أن نحصل علما بشيء باختيارنا من دون أن
ننظر ونستدلّ ومعلوم خلاف ذلك، وقد علمنا أنّ معرفة اللّه تعالى ليست من القسم الأوّل
لصحّة دخول الشبهة فيها ولصحّة النظر والاستدلال فيها. فانّ ما نعلمه لا باختيارنا
لا يتأتى فيه شيء من ذلك. فتعيّن أنّها تحصل بالنظر والاستدلال.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يعرف تعالى بالتقليد على ما ذهب
إليه طائفة من الحشويّة وأهل الحيرة؟
قلنا: التقليد ليس طريقا إلى يحصل المعرفة، لأنّه قبول
قول الغير واعتقاد مضمونه من دون حجة وبينة، وما هذا حاله لا يتميّز فيه الحقّ من
الباطل.
ولو صرنا إلى التقليد لم يكن تقليد المقرّ بالصانع أولى
من تقليد نافيه ومنكره، وكان يجب أن يكون اليهود والنصارى وجميع أصناف الكفّار
معذورين في تقليدهم أسلافهم وأن تكون عقائدهم معارف. ومعلوم خلاف ذلك.
فإن قيل: تقليد المحقّ إنما هو طريق إلى المعرفة لا
تقليد المبطل، فلا يلزم ما ذكرتموه.
قلنا: وبما ذا نميّز بين تقليد المحقّ وتقليد المبطل؟ إن
قيل: بتقليد آخر، تسلسل؛ وإن قيل بالنظر في الدليل، قلنا: فقد ثبت أن المعرفة لا
تحصل إلّا بالنظر في الدليل وأنّ طالب المعرفة لا غنية له عن النظر والاستدلال.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يعرف تعالى بتعليم المعلّم
الصادق على ما يذهب إليه الباطنيّة؟
قلنا: جواب هذا ... هو أنّه بما ذا نعلم صدق المعلّم؟ إن
قالوا: بمعلّم آخر، تسلسل، وإن قالوا: بالنظر والاستدلال، قلنا فقد ثبت أنّ
المعرفة لا تحصل من دون النظر والاستدلال.
ثمّ يقال لهم: إذا ارجعتم إلى أنّ صدق المعلم إنّما يعلم
بالنظر والاستدلال فما الذي يدلّ على صدقه؟ فلا بدّ من أن يقولوا: إنّه المعجز
الظاهر عليه، فتقول:
والمعجز إنّما يدلّ على ذلك بعد أن يعلم أنّه من فعل
اللّه الحكيم الذي لا يجوز عليه تصديق الكذّاب. فعلى هذا ما لم يسبق العلم باللّه
وحكمته، لا يعلم، صدق من أظهر عليه المعجز، فكيف يعرف اللّه تعالى بصدقه، وهل هذا
إلّا إيقاف كلّ واحد من العلمين على الآخر، فلا يحصلان ولا واحد منهما.
فإن قيل: إذا لم يكن التعليم طريقا إلى تحصيل المعرفة
فلما ذا تدرسون وتتدرّسون وتعلّمون وتتعلّمون وتصنّفون الكتب وتحثّون على قراءتها
ودرايتها، وهل هذا إلّا مناقضة منكم وتعليم أنّه لا يجوز الاشتغال بالتعليم !
قلنا: هذا الذي ذكرتموه هل هو إلّا نظر واعتبار واستدلال،
لأنّكم تقولون لو لم يكن التعليم حقّا لما اشتغلتم بالتعليم وتلزمون خصومكم
المناقضة، وإلزام المناقضة ضرب من ضروب النظر والاستدلال؛ إذ هو استدلال على فساد
مذهب الخصم بلزوم المناقضة فيه، فهل أثمر استدلالكم هذا لكم علما ومعرفة أم لا؟ إن
قالوا: لا، قلنا: فقد أبطلتم معنى الكم، وإن قالوا: نعم، فقد أبطلوا مذهبهم في أنّ
النظر والاستدلال ليس طريقا إلى المعرفة، وظهر أنّهم هم المناقضون في هذا القول.
فهذا معارضة صحيحة لهم.
ثمّ نقول في الجواب: إنّ اشتغالنا بما ذكروه من التدريس
والتدرّس والتعليم والتعلّم ليس هو ليحصل العلم بمجرّد قول المدرّس والمعلّم، وإنّما
هو تسهيل الطريق والتنبيه على الأدلة، فقول المدرّس وتصنيف المصنّف وما أودعه
الكتّاب ينبّهنا على الدليل ويسهّل طريقنا إلى التوصل إليه فإن نحن نظرنا علمنا، وإن
لم ننظر لم نعلم بمجرّد قولهم الحقّ فبطل قولهم.
يزيد ما ذكرناه وضوحا أنّا لا نراعي صدق المدرّس والمصنّف
كما تراعون أنتم صدق المعلّم، وعلى هذا قد يتعلّم ويقرأ متعلّم من طائفة عند مدرّس
من طائفة أخرى، ولا شكّ في أنّ هذا بخلاف ما تذهبون إليه.
فإن قيل: كيف يعلم المكلّف وجوب معرفة اللّه تعالى عليه
وهو لا يعرف صفة المعرفة على التفصيل، إذ هل تكليفه المعرفة مع فقد علمه بصفته
تعيينا إلّا ملحقا بتكليف ما لا يطاق.
وبيان ذلك: إن علم
وجوب تحصيل المعرفة بأنّ له صانعا كان عالما بأنّه لا يقدر على تحصيل تلك المعرفة
المعيّنة، وعلمه بذلك يندرج تحته العلم بأنّ له صانعا فيستثني عن تحصيله ثانيا، إذ
لو لم يعلم أنّ له صانعا، لم يتصوّر أن يعلم أنّه يقدر ويمكنه تحصيل العلم بأنّ له
صانعا.
و الجواب من ذلك أن نقول: إنّ المكلّف وإن لم يعلم صفة
المعرفة الواجبة عليه على التعيين فانّه عرفها على الجملة وعرف سببها الذي هو
النظر على التعيين، وذلك يغني في إزاحة علّته عن العلم بتعيين المعرفة.
وبيان أنّه يعلم المعرفة على طريق الجملة أنّه قد علم
ببديهة العقل أنّ النفي والإثبات المتقابلين لا بدّ من أن يكون أحدهما حقّا فيعلّم
أن في مقدوره تحصيل العلم بما هو حقّ نفيا كان ذلك الحقّ أو إثباتا، فيعلم وجوب
تحصيل العلم الذي هو متعلّق بالحقّ ولا يلزم على هذا أن يكون عارفا باللّه تعالى،
لعلمه بما ذكرناه وتصوّر أن تكون المعرفة واجبة عليه ويكون مكلّفا بها، ولا يلزم
عليه فساد، وتزاح علّته بمعرفته بما هو سبب المعرفة على التعيين وهو النظر في طريق
المعرفة.
و تحقيق القول في المسألة أنّه إذا خاف بأحد الأسباب
التي تقدّم ذكرها فانّما يكون خوفه من إهمال المعرفة وتحقيق القول في أنّ له صانعا
وأنّه يستحق ثوابا وعقابا أم لا، وإذا لم يجد مطمعا في تحصيل المعرفة إلّا بالنظر
خاف من إهمال النظر.
و عند هذا ينكشف أنّ ما ذكرناه في وجوب النظر من الوجه
الأوّل، راجع إلى الوجه الثاني وأنّه ليس هاهنا وجهان في وجوبه أنّ خوفه من ترك
النظر لا يتصوّر إلّا بسبب خوفه من تلك المعرفة التي لا يرجو تحصيلها إلّا بالنظر،
فيخاف من ترك المعرفة أوّلا، ثمّ يسري خوفه من تركها الى خوفه من ترك النظر وإهماله
حيث يطمع في تحصيلها إلّا بالنظر.
وبالجملة التي
ذكرناها تبيّن أنّ وجه وجوب معرفة اللّه تعالى ومعرفة الثواب والعقاب علينا إنّما
هو كونها جارية مجرى دفع الضرر عن انفسنا، وأنّ ما يقوله المشايخ- من أنّ وجه وجوب
المعرفة كونها لطفا في أداء الطاعات واجتناب المقبّحات- تسامح منهم وتساهل. وذلك
لأنّ كون المعرفة لطفا إنّما هو وجه وجوب أن يكلّفنا اللّه تعالى المعرفة، وليس
ذلك وجها في وجوب فعل المعرفة علينا، إذ اللطف من حيث هو لطف إنّما يجب على
المكلّف إذا كان من فعله. وإذا كان من فعل المكلّف فإنّه يجب على المكلّف الحكيم
أن يكلّفه ذلك.
يبيّن ما ذكرناه أنّ اللطف إذا كان من فعلنا فانّما يجب
علينا إذا كان لطفا في أداء واجب أو امتناع من فعل قبيح لما جرى ذلك مجرى دفع ضرر
العقاب الذي يستحقّ على الإخلال بالواجب وارتكاب القبيح، ولا يجب علينا ما كان
لطفا لنا في فعل مندوب إليه. لم يحصل فيه هذا الوجه، ومعلوم أنّ ما يجب لكونه لطفا
يجب على المكلّف فعله، سواء كان لطفا في واجب ومندوب إليه.
فإن قيل: لم قلتم إنّ المعارف ليست ضروريّة على ما يقوله
الجاحظ وأصحاب المعارف.
قلنا: قد جرى في كلامنا ما هو جواب عن ذلك، وهو أنّها لو
كانت ضروريّة لما أمكننا دفعها عن أنفسنا بشبهة، ولما أمكننا النظر في طريقها والاستدلال
عليها.
ثمّ نقول لمن يدّعي انّ المعرفة ضروريّة: أتقول: إنّها
حاصلة فينا على حدّ علمنا بأنّ الكلّ أعظم من الجزء؟ وأنّ النفي والإثبات
المتقابلين يستحيل اجتماعهما، وعلى حدّ علمنا بالمدركات الجليّة؟ أو تقول: بأنّها لا
تحصل إلّا عند النظر، ولكنّها مع ذلك ضروريّة؟ إن قال بالأول ظهر مكابرته وعناده، إذ
المعلوم لنا وكلّ عاقل أنّ معرفة اللّه تعالى لم يحصل فينا كحصول تلك العلوم التي
ذكرناها، وإن قال بالثاني قلنا له فقد وافقتنا على أنّه يجب على المكلّف النظر في
طريق المعرفة بقي علينا أن نبيّن أنّ المعرفة الحاصلة عند النظر ليست فعل غيرنا، وإنّما
هي فعلنا...
فإن قيل: لم لا يجوز أن «تقوم المعرفة الضرورية مقام
الكسبيّة، فيستغني المكلّف عن النظر والاستدلال؟
قلنا: لو قامت المعرفة الضروريّة مقام الكسبيّة، لوجب أن
يفعلها اللّه تعالى فينا، لأنه المكلّف فاللطف يلزمه.
فإن قيل: إنّما لم يفعلها فينا لعلمه بأنّا نحصّلها
بالنظر والاستدلال ونستحقّ بذلك ثوابا ما كنّا نستحقّه لو لا نظرنا.
قلنا: فكان يجب أن يفعلها في الكفّار ان لو قامت
الضروريّة مقام الكسبيّة، لعلمه تعالى بأنّهم لا يفعلونها فلمّا لم يفعلها فيهم
دلّ على انّ المعرفة الضرورية لا تقوم مقام الكسبيّة.
فإن قيل: كيف تقولون إنّ النظر يجب على جميع المكلّفين؟
وانّه ممّا لا يخلو عن وجوبه عاقل إلى أن يفعله؟ والظاهر أنّ أكثر العوامّ وأهل
السواد لا يمكنهم النظر والاستدلال ولا حلّ الشبهات؟ ولا يهتدون إلى شيء من ذلك،
فكيف يكلّفهم اللّه تعالى النظر والاستدلال ؟ وهل تكليفهم ذلك إلّا تكليف ما لا
يطيقونه؟
قلنا: نحن لا نقول بأنّهم كلّفوا بالنظر في دقائق العلوم
وتلخيص العبارات عن الأدلة على ما يفعله المتكلّمون، وإنّما نقول بأنّهم كلّفوا
النظر في رءوس المسائل وأوائل الأدلّة التي يهتدي إليها كلّ عاقل وأن يحصّلوا
المعارف بها على طريق الجملة. وإذا ورد عليهم شبهة، فإن هم عرفوا تأثير تلك الشبهة
فيما استدلّوا به فهم يتمكّنون أيضا من حلّها وما هو جواب عنها. فإن فرضنا أنّهم
لا يمكنهم شيء من ذلك، فمن هذا حاله لا يكون مكلّفا البتة، وإنّما خلق لانتفاع
المكلّفين به.
إذا ثبت أنّ النظر واجب، فالذي يدلّ على أنّه أوّل فعل
يجب على المكلّف ممّا لا يخلو مع كمال عقله منه على ما ذكرناه هو: أنّ الواجبات
منقسمة إلى عقليّة وشرعيّة، وقد علمنا أنّ الشرعيّات متأخّرة عن العقليّات من حيث
انّه لا يمكننا العلم بصحّة الشرع إلّا بعد العلم باللّه تعالى وتوحيده وعدله، والعقليّات
تنقسم إلى أفعال وتروك. فالتروك نحو الامتناع من الظلم والكذب والعبث والمفسدة لا
ترد على ما ذكرناه، لأنّها ليست أفعالا، وكلامنا في أوّل فعل يجب على المكلّف والأفعال،
نحو ردّ الوديعة وقضاء الدين وشكر المنعم، وقد يخلو كثير من المكلّفين من وجوب ردّ
الوديعة وقضاء الدين عليه، بأن لا يكون لأحد عنده وديعة ولا في ذمّته دين لأحد.
ثمّ ومن يكون عنده وديعة أو في ذمّته دين فانّما يجب
عليه عقلا ما أودع عنه وهو كامل العقل ثمّ يطالب في الثاني بردّها، فيجب عليه
الردّ في الثالث، وكذا إنّما يجب عليه قضاء ما استدانه، وهو عاقل، ثمّ يطالب في
الثاني فيجب عليه قضاؤه في الثالث، والنظر يجب عليه في الثاني.
وأمّا شكر النعم فانّه لا يخلو من أنّ يكون شكر نعم
اللّه تعالى أو شكر نعم غيره.
وأمّا شكر نعم اللّه تعالى، فانّما يجب عليه من غير شرط
إذا عرفه تعالى، فانّه قصد بما فعل به الإحسان إليه وهذا متأخر عن معرفة اللّه
تعالى على ما ترى.
فأمّا قبل معرفته تعالى فانّه يكفيه أن يضمر وينطوي على
أنّه إن كانت هذه المنافع التي تصل إلي من فعل فاعل قصد بها وجه الإحسان فانّه
عظيم القدر بذلك، وإنّما اعظمه في مقابلة تلك النعم وأشكره. ومثل هذا الشرط لا
يحصل في وجوب النظر.
وأمّا نعم غير
اللّه تعالى، فأمّا أن يكون نعم الوالدين أو نعم غيرهما من الأجانب، ونعم الأجانب
قد يخلو منها أكثر المكلّفين، ونعم الوالدين قد خلا منها كثير من المكلّفين،
كالملائكة وآدم وحوّاء، صلوات اللّه عليهم، وكمن مات والداه قبل تربيتهم له. ثمّ ومن
ربّاه والداه فانّه إنّما يعلم كونهما منعمين عليه ووجوب شكره لهما بالسمع وإلّا
لو خلّي وعقله تجوّز أن يكون قصدهما بتربيته دفع الرّقة والحنين الذي يكون لهما
عليه عن أنفسهما، لا الإحسان إليه وإذا كان إنّما يعلم وجوب شكرهما عليه بالسمع،
فذلك يكون متأخّرا عن وجوب النظر، فتحقّق أنّ النظر أوّل فعل واجب على المكلّف ...
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون العلم بوجوب النظر المعيّن،
أو الإرادة له، أو الخوف الذي يبتني عليه وجوبه أوّل فعل يجب على المكلّف؟
قلنا: أمّا العلم بوجوبه، فالإنسان ملجأ إليه، فلا يدخل
تحت تكليفه، لأنّه قد علم ضرورة وجوب كلّ نظر بل كلّ فعل يخاف من إهماله وتركه ويرجو
زوال ما يخافه بفعله، فإذا علم أنّ النظر بهذه الصفة لا بدّ من أن يعلم وجوبه ولا
يبقى له تردّد في فعل هذا العلم ما هذا إلّا كمن يعلم أنّ الغيار زيّ أهل الذمّة وسمتهم
ثمّ رأى شخصا وعليه الغيار فانّه لا يمكنه أن لا يظنّ انّه من أهل الذمّة.
وأمّا الخوف الذي يقف عليه وجوب النظر، فانّه شرط في
وجوب النظر إن حصل وجب النظر، وإن لم يحصل لم يجب ولا يجب عليه تحصيله، كالنصاب في
وجوب الزكاة، ثمّ وهو ملجأ إلى هذا الخوف عند سبب من أسبابه.
فامّا إرادة النظر فإن كان المرجع بها إلى الداعي فهو
ملجأ أيضا إليه، لأنّه عالم بوجوبه عند الخوف وإن كان المرجع بها إلى معنى زائد
على الداعي على ما يذهب إليه الشيوخ البصريّون فانّه ليس لها وجه وجوب من حيث أنّ
النظر جنس الفعل، وجنس الفعل بمجرّده لا يحتاج إلى الإزاحة.
وإذا لم يحتج النظر إلى الإرادة فلا يكون للإرادة وجه
وجوب فلا تكون واجبة. فإذا لم تكن واجبة كيف يجوز أن يقال: هلا كانت هي أوّل
الواجبات.
وقد تحرّز سيّدنا المرتضى علم الهدى- رضي اللّه عنه- عن
إرادة النظر في أوّل الذخيرة بأن قال: «أوّل فعل مقصود يجب على المكلّف الكامل
العقل»، وفي هذا تسليم وجوب إرادة النظر. وقد ذكر شيخنا أبو جعفر قدّس اللّه روحه:
أنّه رضي اللّه عنه- يعني السيّد- كثيرا ما كان يقول في تدريسه: «إنّا لا نحتاج
إلى هذا التحرّز من حيث انّ العالم بما يفعله إذا فعله لغرض يخصّه وكان مخلّى بينه
وبين الإرادة، فانّه لا بدّ من أن يريده، فلا يتناول هذه الإرادة التكليف والحال
ما وصفناه، فلا نحتاج إلى التحرّز منه». وهذا ممّا يمكن أن يقال عليه:
إن عند المشايخ المثبتين للإرادة أنّ الداعي الذي يدعو
إلى الإرادة هو بعينه الداعي إلى المراد وليس للإرادة داع مفرد على حياله إذا كان
كذلك. فلو كان العاقل ملجا إلى إرادة النظر لكان ذلك باعتبار أنّ داعيه إليها لم
يعارضه صارف ولو كان كذلك لكان ملجا إلى فعل النظر أيضا كما كان ملجأ إلى إرادته،
لأنّ الداعي واحد وهو داعي الإلجاء على ما قالوه.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون ملجا إلى الإرادة؟ وإن لم
يكن ملجأ إلى النظر من حيث انّ في مقابلة دعوته إلى النظر صارفا وهو علمه بلحوق
المشقّة في فعل النظر، وهذا الصارف لا يحصل في فعل الإرادة لأنّه لا مشقّة في فعل
إرادة النظر. فعلى هذا لا يمتنع أن يكون ملجأ إلى الإرادة ولا يكون ملجا إلى النظر
وإن كان الداعي إليهما واحدا.
قلنا: إذا كان الداعي إلى الإرادة هو الداعي إلى المراد
وكان دعوته إلى الإرادة تبعا لدعوته إلى المراد، فمتى ضعفت دعوته إلى المراد
لمعارضة صارف له، وجب أن تضعف دعوته أيضا إلى الإرادة وإلّا بطل القول بأنّه إنّما
يدعو الى الإرادة تبعا لدعوته إلى المراد.
يبيّن ما ذكرناه
أنّ أحدنا إذا علم انّ له في تناول طعام مخصوص لذّة، ودعاه هذا العلم إلى تناوله وإلى
إرادة تناوله تبعا، على ما يقوله القوم، ثمّ فرضنا أنّه علم أو ظنّ أنّ في الطعام
سمّا، فصرفه هذا العلم أو الظنّ عن تناوله؛ فلا بدّ من أن يصرفه عن إرادة تناوله وهذا
معلوم موجود من النفس، إذ لا يمكن أن يقال: هو متردّد الدواعي في تناول الطعام، ولكنّه
مريد جزما لتناوله. وما اعتلّ به السائل قائم هاهنا، لأنّ المضرّة التي علمها
بوجود السمّ في الطعام إنما هو في تناول الطعام لا في إرادة تناوله كما في مسألتنا
أنّ المشقّة إنما هي في فعل النظر لا في إرادته.
فإن قيل: فما تقولون فيما يقدّر من دخول إنسان زرع غيره
أو جلوسه على صدر غيره ليقتله، قبل كمال عقله ثمّ بلوغه وكمال عقله في تلك الحالة؟
أتقولون بأنّه يجب أن ينظر أوّلا ثمّ ينزل عن صدر الغير
أو يخرج من الزرع؟ فهذا قبيح شنيع، أو تقولون بأنّه يجب عليه الخروج والنزول ثمّ
الاشتغال بالنظر؟
فهذا يقدح في قولكم إنّ النظر أوّل فعل يجب على المكلّف،
ولا يمكنكم أن تقولوا: إنّ الواجب عليه إنما هو الامتناع من الإضرار والمرجع به
إلى أن لا يفعل فلا يتوجّه على قولنا، وذلك لأنّ النزول والخروج فعلان.
قلنا: إن اتفق مثل هذا فانّه يجب أن ينظر بقلبه ويخرج
بجارحته، أو ينزل عن صدر الغير فلا يلزم تقدّم فعل في الوجوب على النظر ثمّ وقد
قيّدنا قولنا في النظر بأنّه أوّل فعل يجب على المكلّف ممّا لا يخلو مع كمال عقله
منه، فلا يتوجّه عليه ما ذكره السائل، لأنّ هذا ممّا قد يخلوا لعاقل منه، بل ربما
لم يتفق هذا قط وإنّما هو أمر مقدّر.
فإن قيل: قد جرى في كلامكم أنّ النظر يجب على العاقل في
ثاني حال كمال عقله، فلم قلتم ذلك؟ وهلّا جوزتم أن يتراخى وجوبه عن الثاني إلى
الثالث أو الرابع؟ بأن يتراخى سبب خوفه.
قلنا: هذا لا
يجوز. وذلك لأنّه يؤدّي إلى أنّ يفوت المكلّف لطف المعرفة في الوقت الذي يمكن
حصولها فيه، وذلك يقدح في إزاحة علّته، فلا يجوز ما ذكره السائل.
فإن قيل: يلزمكم على قولكم أنّ اللّه تعالى كلّفنا
اكتساب المعارف من طريق النظر والاستدلال إشكال، وهو: أنّه إذا كان مكلّفا باكتساب
المعارف من طريق النظر والاستدلال، ومعلوم أنّه لا يمكنه اكتسابها من هذا الطريق
إلّا في زمان ومهلة إمّا طويل أو قصير، بحسب ذكاء الناظر وبلادته وقوّة فهمه وضعفه؛
وجب أن يمهله اللّه تعالى ذلك الزمان وزمانا زائدا على ذلك ليحصل للمعارف حظّ
الدعوة إلى أداء الطاعات واجتناب المقبّحات وإلّا لم يكن مزاح العلة.
فما تقولون لو قصّر في النظر الأوّل كالنظر في طريق
إثبات الأعراض أيكون مكلّفا في الثاني بالنظر في حدوثها؟ فهذا تكليف بما لا يطيقه:
فلا يجوز أن يكون مكلّفا بالنظر في طريق إثبات الأعراض، فيلزمكم أن يزيد اللّه
تعالى في مهلته، لأنّه انّما كلّفه النظر في طريق إثبات الأعراض ليرتّب عليه النظر
في طريق حدوثها. وكذا النظر في طرق المسائل التي بعدها، ليصل بذلك إلى ما هو لطف
له، وهذا يقتضي أن يمهله اللّه تعالى أبدا لو قصر أبدا، فما حلّ هذا الإشكال.
قلنا: نحن نبين كيفيّة تكليف اللّه تعالى له النظر في
أدلّة هذه المسائل وترتيبه، ثمّ نبني عليه حلّ هذا الإشكال، فنقول: إنّ اللّه
تعالى كلّفه أن ينظر في طريق هذه المسائل مترتّبة على الوجه الذي يصحّ بمعنى أنّ
وقت تكليفه تعالى واحد ولكن تعلّق تكليفه بحدوث هذه الأنظار في أوقاتها المترتّبة،
لا أنّه كلّفه أوّلا النظر في طريق إثبات الأعراض فحسب، ثمّ لمّا بلغ إلى الوقت
الثاني تجدّد تكليف آخر متعلّق بالنظر في طريق حدوث الأعراض، بل في الوقت الأوّل
كلّفه النظرين في وقتيهما. وكذا القول في سائر أنظاره الباقية.
وهذا كما نقوله في
تكليف اللّه تعالى إيّانا الصلاة وخطابه تعالى لنا بها في أنّه لمّا نزل قوله: {َأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ} [البقرة: 43] عنانا في ذلك الوقت على أنّ نأتي بالصلاة في هذه
الأوقات.
فعلى هذا نقول: المقصر في النظر الأوّل لا يخلو من أن
يقتصر تبارك وتعالى في تكليفه على التكليف الأوّل أو يستأنف تكليفه. فإن اقتصر به
على التكليف الأوّل فانّه يكون في الوقت الثاني مكلّفا بالنظر في طريق حدوث
الأعراض باعتبار استمرار حكم تكليفه الأوّل عليه، لا بمعنى أن يتجدّد عليه تكليف
آخر ما كان من قبل.
أمّا قول السائل: «كيف يكون مكلّفا بالنظر في طريق حدوث
الأعراض وهو متعذّر عليه؟»، فجوابه أنّه أتى في ذلك التعذّر من قبل نفسه وقد كان
متمكّنا منه، وحاله كحال من بلغ آخر وقت الصلاة ولم يصلّ وهو غير متطهّر وبلغ
تضيّق الوقت إلى حدّ لو اشتغل بالتطهّر لخرج الوقت، في أنّه لا خلاف، في أنّه
مكلّف بأداء الصلاة المشروعة في ذلك الوقت مع تعذّرها عليه لما كان أتى في ذلك
التعذّر من قبل نفسه وتكليفه أداء الصلاة في ذلك الوقت إنّما هو باعتبار استمرار
حكمه الأوّل عليه لا أنّه تجدّد عليه خطاب وتكليف في ذلك الوقت. فعلى هذا لا يلزم
أن يزيد اللّه تعالى في مهلة هذا المقصر. وإن لم يقتصر في تكليفه على التكليف
الأوّل واستأنف عليه التكليف من الأوّل، وجب أن يزيد في مهلته، ولكن استئناف
التكليف عليه غير واجب، فلا يجب إمهاله أبدا، فاندفع الإشكال.
فإن قيل: كيف لا يكون مكلّفا بالنظر في طريق إثبات
الأعراض، والأسباب المخوّفة من ترك النظر ثابتة فيه.
قلنا: إذا لم يرد
اللّه تعالى استئناف التكليف عليه صرف أسباب الخوف عنه حتّى لا يلزم تكليفه.
فإن قيل: لم قلتم إنّ النظر يولّد العلم؟ وإنّ حصول
العلم عنده واجب على طريق التوليد والتسبيب؟ فقد وعدتم ببيان ذلك.
قلنا: بيان ذلك أنّ حصول العلم عند النظر الصحيح واجب ويقلّ
بقلّته ويكثر بكثرته، فلو لا انّه متولّد عنه لما وجبت هذه القضيّة فيه، وبمثل هذه
الطريقة علمنا أنّ الإصابة متولّدة عن الرمي والألم متولّد عن الوهي، ومعنى قولنا:
«يقع العلم بحسب النظر» أنّ العلم يحصل بمدلول الدليل الذي ينظر الناظر فيه لا
بمدلول آخر، وعنينا بقولنا: «يقلّ بقلّته ويكثر بكثرته» الأنظار المختلفة في
الأدلّة المختلفة ، لأنّ أحدنا إذا كثر نظره في الأدلة المختلفة كثرت علومه
بمدلولاتها، وإذا قلّ نظره في الادلة قلّت علومه ؛ وعنينا بـ «النظر الصحيح»، أن
يكون واقعا في الدليل على الوجه الذي يدلّ ، كأن ينظر في أنّ الجسم لا يخلو من
حوادث لها أوّل ثمّ يرتّب علمه هذا على علمه بأنّ ما لا يخلو من حوادث لها أوّل هو
محدث، فانّه عند ذلك يعلم حدوث الجسم من حيث وقع نظره هذا في الدليل على الوجه
الذي يدلّ، فكان صحيحا. بخلاف ما لو ضمّ إلى علمه الذي وصفناه علمه بأنّ الشمس
طالعة مثلا، لأنّ هذا لا يكون نظرا صحيحا من حيث لم يتعلّق هذا النظر بالدليل على
الوجه الذي يدلّ فلم يولّد علما به.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنّما يحصل عند نظرنا
العلم لقوّة دواعينا إلى فعله لا من حيث انّ النظر ولّده فقد علمنا أنّ ما يقوى
دواعينا إليه يجب وقوعه بحسب دواعينا.
قلنا: فرق بين وقوع العلم عند النظر الذي وصفناه وبين
وقوع ما يقع منا مبتدأ لقوّة دواعينا إليه. وذلك لانّا إذا جرّبنا أنفسنا فيما
نفعله لقوّة الدواعي، وجدنا من أنفسنا مكنة أن لا نفعله، وإذا جرّبناها في
الامتناع عند نظرنا الصحيح، فانّا لا نجد من أنفسنا مكنة الامتناع من العلم، ألا
ترى أنّ من علم أنّ الدخان لا يكون إلّا من نار في وقود، ثمّ رتّب عليه علمه بأنّ
في موضع دخانا من غير شك وريب ثمّ أراد تجربة لمحاله أن لا يعلم أنّ ثمّ نارا،
فانّه لا يمكنه الامتناع من هذا العلم، فعلمنا بهذا أنّ وقوع العلم عند النظر
الصحيح ليس على طريق الابتداء.
فإن قيل: فمخالفوكم ينظرون في أدلتكم كنظركم ولا يحصل
لهم العلم، فلو كان النظر مولّدا لعلم لوجب حصول العلم لهم.
قلنا: لهم: غير مسلّم أنّهم ينظرون كنظرنا، إذا لو نظروا
كنظرنا لحصل لهم العلم كحصوله لنا. ألا ترى أنّ راميين إذا رميا في سمت واحد فأصاب
أحدهما الغرض وأخطأه الآخر، فانّا نعلم أنّ المخطئ منهما أخلّ ببعض شروط الإصابة،
وإلّا أصاب كصاحبه وإن لم نعلم ذلك الشرط على طريق التعيين.
ثمّ نقول: إنّما لم يحصل للمخالف العلم من حيث انّه لم
يعلم مقدّمات دليلنا أو لم يرتبه الترتيب الصحيح. مثلا إذا فرضنا المخالف لنا في
حدوث الجسم، فهو إمّا أن لا يسلّم إثبات الأعراض أو لا يسلّم حدوثها أو لا يسلّم
استحالة خلوّ الجسم منها أو لا يسلّم أنّ لها أوّلا. فأمّا إذا سلّم هذه الأصول،
فلا يمكن أن لا يحصل له العلم بحدوث الجسم.
ثمّ نقول لمورد هذا الكلام إن أورده محتجّا مستدلا به
علينا: اعلمت بالاعتبار الذي ذكرته شيئا، أو ما علمت به شيئا؟ إن قال بالثاني- وهو
انّه ما علم به شيئا- بطل احتجاجه واستدلاله، وإن قال بالأوّل- وهو أنّه علم به
شيئا- بطل مذهبه في أنّ النظر لا يولّد العلم وناقض في قوله.
فإن قيل: لم قلتم إنّ الاعتقاد الحاصل عن النظر في
الدليل علم؟ وفي الناس من ذهب إلى انّه لا علم إلّا الضروريّ؟ وأنّ ما يفضي إليه
النظر لا يكون علما؟.
قلنا: قول من يقول
ذلك باطل. وبيانه أنه نقول له: علمك الذي ادّعيته بأنّ الحاصل عند النظر ليس علما
هو علم ضروريّ أو استدلالي؟ إن قال ضروريّ، قلنا قولك هذا ليس بأولى من قول من
يقول: «أنا أعلم ضرورة أنّه علم»، بل قوله أقرب في العقل من قولك. لأنّ من يقول:
إذا علمت أنّ الدخان لا يكون إلّا من نار وعلمت دخانا في موضع معيّن فاعتقدت أنّ
ثمّ نارا أنا أعلم ضرورة أنّ اعتقادي هذا علم»، يكون قوله أقرب في العقل من قول من
يقول: «أنا أعلم ضرورة أنّ ذلك الاعتقاد ليس علما». وإن قال: «أعلم ذلك استدلالا»،
قلنا فقد أقررت بأنّ النظر والاستدلال يحصل عنده العلم وأبطلت مذهبك في أنّ الحاصل
عن النظر في الدليل لا يكون علما. وبهذا نجيب كلّ من احتجّ وتمسّك بشبهة في أنّ
النظر لا يولّد العلم بأن نقول: نظرك واستدلالك هذا هل أثمر لك علما بما تقول أم
لا، إن قال: فما أثمر لي علما، فقد أبطل متمسّكه وحجّته ، وإن قال: نعم أثمر لي
علما، أبطل مذهبه وظهرت مناقضته.
فإن قيل: فما جواب المسترشد إذا قال: بم أعلم أنّ
الاعتقاد الحاصل عند النظر علم؟
قلنا: بأن يعلم أنّه متعلّق بدخول معيّن في جملة معلومة،
وبأنّ العين المطابقة لجنس لها من الحكم ما هو لازم للجنس، وذلك لا يكون إلّا
علما، وهذا معلوم ضرورة.
فان قيل: بم تبطلون قول الجاحظ: إنّ العلم إنّما يحصل
عند النظر بإيجاب الطبع له؟
قلنا: الطبع الذي قاله لا يخلو من أن يعنى به كون الحيّ
ناظرا في الدليل أو شيئا آخر. إن عني به الأوّل فهو الذي نقوله وإنّما يؤول خلافه
إلى العبارة، وإن قال بالثاني، قلنا: حصول العلم عند النظر معلوم ووقوعه بحسبه وكونه
تابعا لشيء آخر، غير معلوم بل ولا مظنون، فكيف نقطع تعلّقه عمّا علمناه واقعا
بحسبه وتعلّقه بما لا نعلمه تابعا له؟
فإن قيل: قولكم: «إنّ اعتقادنا في ضرر بعينه علمناه ظلما
أنّه قبيح هو علم لدخوله في الجملة التي علمناها ضرورة، وهو أنّ ما اختصّ بصفة
الظلم فهو قبيح. واستدلالكم بذلك على انّه علم يشعر بأنّكم تعلمون قبح الضرر
المعيّن بعلم مجدّد واقع عقيب النظر، وهذا غير صحيح. وذلك لأنّكم إذا علمتم قبح
كلّ ما اختصّ بصفة الظلم فانّه يدخل تحت هذا العلم قبح هذا المعيّن وغيره ممّا
يكون ظلما، فلا تحتاجون إلى علم مجدد تعلمون قبح هذا المعيّن.
قلنا: هذا سؤال من يظنّ بنا أنّا إذا قلنا: «نعلم قبح ما
اختصّ بصفة الظلم على الجملة»، فانّما علمنا ذلك من طريق الاستقراء وإن أتينا على
جزئيّات الظلم فوجدناها قبيحة فحكمنا عند ذلك بأنّ كلّ ما اختص بصفة الظلم فهو
قبيح. وليس كذلك، وذلك لأنّ هذا العلم ما حصل فينا من طريق الاستقراء، وإنّما هو
علم بأنّ جنس الظلم يلزمه القبح والعلم بالجنس لا تعلّق له بمعيّن ولا بمعيّنات لا
قليلة ولا كثيرة. فإذا كان كذلك فلا يكون له تعلّق بهذا المعيّن. والذي تجدّد لنا
هاهنا إنّما هو علم متعلّق بقبح هذا المعيّن وابتنى على علم آخر، بانّ هذا الضرر
المعيّن ظلم، فكيف يكون قبح هذا الظلم المعيّن معلوما بالعلم الأوّل بلى لسهولة
حصول العلم بقبح هذا الضرر المعيّن عند العلم بأنّه ظلم وترتّبه على العلم الأوّل
الذي هو على بقبح ما اختصّ بصفة الظلم وقربه من الوقوع ربما يظنّ أنّه معلوم
بالعلم الأوّل، ولهذا قال المنطقيّون أنّه موجود في العلم الأوّل بالقوّة.
فإن قيل: قولكم
لمن ينازعكم في كون النظر مؤديا إلى العلم ويأتي بشبهة في ذلك: «إنّك مناقض في
قولك هذا، لأنّه إفساد النظر بالنظر» ينقلب عليكم في تصحيحكم النظر بالنظر بأن
يقال لكم: بم عرفتم صحّة النظر؟
عرفتموها ضرورة أو استدلالا، وادّعاء الضرورة غير ممكن،
للزوم أن يشترك العقلاء فيه، ولإمكان أن يقول منازعكم: «أعلم ضرورة فساده»، فلا
بدّ من أن تقولوا: علمناه بنظر، وهذا هو تصحيح النظر بالنظر، فتكونون قد دخلتم
فيما عبتم على خصومكم.
قلنا: أوّل ما نقول على هذا السؤال: إنّ تصحيح النظر
بالنظر ليس كإفساد النظر بالنظر من حيث انّ إفساد النظر بالنظر مناقضة ... إذ فيه
أنّي علمت بالنظر أنّ النظر لا يثمر علما، وهذا على ما ترى مناقضة صريحة، وهذه
المناقضة غير متوجّهة على تصحيح النظر بالنظر، إذ ليس فيه نفي ما أثبت ولا إثبات
ما نفي، وهذا هو المناقضة.
فإن قيل: وهب أنّ هذه المناقضة لا تلزمكم، ولكن قولكم
هذا يفسد من وجه آخر، وهو انّكم إذا صححتم نظرا بنظر، فبم تعلمون صحّة النظر
الثاني؟
فلا بدّ من أن يقولوا: نعلمه بنظر آخر، وكذا في النظر
الآخر فانّه إنّما يعلم صحّته بنظر آخر، فيتسلسل أو ينتهي إلى نظر لا تعلمون
صحّته، فإذا كان آخر الأنظار لا يعلم صحّته فما انبنى عليه من الأنظار الاخر لا
تعلم صحّته، لأنّ صحّته مبنيّة على صحّة النظر الأخير، فيلزمكم أن لا تعلموا صحّة
شيء من الأنظار.
قلنا: قد نعنى بصحّة النظر حسنه، وقد نعنى به إفضاءه إلى
العلم، أمّا صحّته بالمعنى الأوّل فنعلمها ضرورة ... من أنّ العاقل يعلم حسن
تأمّله ونظره عند اشتباه الامور والتباسها. وأمّا صحّته بالمعنى الثاني، وهو كونه
مفضيا إلى العلم، فنعلمها بحصول العلم عنده وإنّما نحكم بصحّته بهذا المعنى عند
حصول العلم عنده. كما أنّا إنّما نعلم كون الإدراك طريقا إلى العلم بحصول العلم
عنده وبحسبه. وكذا في الأخبار المتواترة وكونها طريقا إلى العلم.
فإذا قيل: وبم عرفتم حصول العلم عند النظر؟ أشرنا إلى ما
تقدّم من كلامنا وهو التجربة الحاصلة فيه.
فإن قيل: فبم تجيبون من يسألكم عن جنس النظر؟ وانّه هل
هو مفض إلى العلم أم لا؟ من دون إشارة إلى نظر معيّن.
قلنا: جوابه أن نقول: أنا لا نقول إنّ جنس النظر مطلقا
يفضي إلى العلم، وإنّما نقول إنّ النظر الصحيح هو مفض إلى العلم.
فإذا قيل: وما معنى كونه صحيحا؟ ثمّ لم قلتم إنّه يحصل
عنده ما هو علم؟
قلنا: نعني به ترتيب علوم ترتيبا مخصوصا وهو بأن يكون
بعضها متعلّقا بالبعض بأن يكون كلّ واحد من العلمين متعلّقا بوصف مشترك بين معلوميهما،
كعلمنا بأن الجسم لا يخلو من حوادث لها أوّل وعلمنا الآخر وأنّ ما لا يخلو من
حوادث لها أوّل فهو محدث. ألا ترى أنّ نفي الخلوّ من حوادث لها أوّل وصف تعلّق به
العلمان وهو مشترك بين معلوميهما، وبيان أنّ الاعتقاد الحاصل عند هذا الترتيب علم
هو أنّه اعتقاد لثبوت مثل الحكم اللازم في العامّ للخاصّ الداخل تحته، ولزوم مثل
ذلك الحكم الذي لزم العامّ للخاصّ معلوم ضرورة.
فإن قيل: قد جرى في كلامكم أنّ النظر والاستدلال المرجع
بهما إلى ترتيب علوم مخصوصة فلم قلتم ذلك؟
قلنا: لأنّا هكذا نجد من أنفسنا إذا نظرنا واستدللنا،
لأنّا عند ما ننظر نجد من أنفسنا كأنّا نعتمد باطننا من ناحية الصدر إلى ما في
داخل الدماغ فنستحضر علوما ونرتّب البعض منها على البعض يزيد ما ذكرناه وضوحا أنّه
إذا سئل الناظر الذي استدلّ بدليل على مدلول عن كيفيّة استدلاله واجتهد في أن
يبيّن لسائله كيفيّة نظره واستدلاله...
فإن قيل: كيف تقولون في النظر في الشبهة أهو مولّد الجهل
أم ليس بمولّد؟
قلنا: قد ذكر القاضي أنّه لا يولّد الجهل، وإنّما الجهل
شيء يفعله المتمسّك بالشبهة ابتداء، إذ لا علقة بين الشبهة وبين المجهول.
ولقائل أن يقول: النظر في الدليل إنّما ولد العلم، لعلم
الناظر بتعلّق الدليل بالمدلول حتى لو تعلّق الدليل بالمدلول ولم يعلم الناظر تلك
العلقة لم يولّد نظره العلم. والمتمسّك بالشبهة قد اعتقد أنّ بين من تمسّك به من
الشبهة وبين المجهول علقة وجزم على ذلك الاعتقاد وإذا كان كذلك وجب أن يولّد نظره
فيها الجهل.
يبين ما ذكرناه أنّ من اعتقد أنّه تعالى موجود، ورتّب
اعتقاده هذا على اعتقاده الجازم بأنّ كلّ موجود يصحّ أن يرى، لا بدّ من أن يعتقد
أنّه تعالى يصحّ أن يرى، ولا يمكنه الانصراف عن هذا الاعتقاد إلّا بأن يضطرب عنده
أحد الأصلين. أمّا اعتقاد وجوده أو اعتقاد أنّ كلّ موجود يصحّ أن يرى أمّا مع جزمه
على الاعتقادين يستحيل أن لا يعتقد صحّة كونه تعالى مرئيّا.
فإن قال: فما بالنا ننظر في شبه المخالفين ولا يحصل لنا
الجهل الذي حصل لهم.
قلنا: لأنّا نعتقد تعلّق تلك الشبهة بالمجهول، وبيانه في
المثال الذي ضربناه أنا لا نعتقد أنّ كل موجود يصحّ أنّ يرى بل نعلم خلافه، فكيف
يصحّ أن يقال: نظرنا في شبههم، كنظرهم.
إلّا أنّه يتوجّه على هذا إشكال، وهو أنّه إذا كان في
الأنظار ما يولّد الجهل فالناظر قبل أن يولد نظره العلم يجوز أن يولّد الجهل،
فيلزم على هذا قبح الأنظار، وقد ادّعيتم أنّا نعلم حسن الأنظار ضرورة.
وحلّ الإشكال على ما ذكره صاحب «الفائق» أنّه لا بدّ من
أن يخطر اللّه تبارك وتعالى ببال الناظر ما يجعله مضطربا في شبهته، فيمنع اضطرابه
ذلك من توليد نظره الجهل، فعلى هذا من ينظر في شيء عند اشتباه أمر عليه ولا يكون
مضطربا فيما ينظر فيه، فانّه يعلم حسنه ويسلم علمه بحسنه ويأمن من توليد نظره
الجهل، وهذا قريب.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|