المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17761 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24



شخصية يعقوب  
  
3208   04:44 مساءً   التاريخ: 1-12-2020
المؤلف : الدكتور محمود البستاني .
الكتاب أو المصدر : قصص القرآن الكريم دلالياً وجمالياً
الجزء والصفحة : ج1 ، ص 278 - 289 .
القسم : القرآن الكريم وعلومه / قصص قرآنية / قصص الأنبياء / قصة النبي إسحاق ويعقوب ويوسف /

تظلّ هذه الشخصية ذات ملمح مأساوي في القصة ، نظراً للشدائد التي واجهتها ، بيد أنّ المأساة هنا تكتسب جانباً عبادياً يختلف عن المفهوم الأرضي للمأساة .

وأوّل ما يتبادر إلى الذهن ، هو دافع أو عاطفة الاُبوّة التي تشكّل من أقوى الحاجات إلحاحاً عند الآدميّين . وقد تضخّم حجم هذا الدافع بعاطفة اُخرى هي صغر سن ولده يوسف ، ثمّ تضخّم حجمه ثالثاً بسمة الجمال الفائق الذي طبع ولده .

وفي ضوء هذا يمكننا أن نقدّر مدى الحبّ الذي يكنّه يعقوب لولده ، وبالمقابل ينبغي أن نقدّر أيضاً مدى الألم الذي سيلحق الأب حيال أي أذىً يلحق بولده . ثمّ ينبغي أن نقدّر مدى ضخامة المأساة في استجابة الأب عندما تضخم مأساة ولده إلى الدرجة التي يفتقده وليس مجرّد لحوق أذىً به .

إنّ أول خيوط المأساة بدأت مع الحُلُم الذي قصّهُ يوسف على أبيه . ويمكننا بسهولة أن نستكشف لغة المرارة في أعماق يعقوب ، وشدّة تخوّفه في ردّه على يوسف ، وتحذيره إيّاه من أن يقصّ رؤياه على إخوته خشية أن يكيدوا به ، قال لولده :

﴿يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً

﴿إِنَّ الشَّيْطانَ لِلإْنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ

إنّ الكيد أو التآمر ليس مجرّد مشاعر عدوانية تُترجم إلى سلوك لفظي وحركي عابر نألفه اعتيادياً في سلوك غالبية البشر ، بل يعني حياكة عمل أو خطة للإطاحة بالشخصية وبحياتها ، وهو أمرٌ يكشف لنا عن مدى القلق والتمزّق والتوجّس الذي لفّ شخصية يعقوب (عليه السلام) منذ حدوث الرؤيا ، منعكساً في تحذيره الآنف الذكر .

أمّا من الزاوية الفنّية ، فينبغي أن نتنبّأ بالأحداث اللاحقة التي ستتحرّك في بيئة القصة نتيجة لهذه الكلمة المحذّرة من الكيد . إنّ هذا التحذير القائل :

﴿لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا . . .﴾

لم يُرسم في القصة عَبَثاً ، بل ينطوي على سمة فنّية تتصل بالبناء العماري لهيكل القصة ، ألا وهي : تهيئة ذهن القارئ لأن يتوقع حدوث مأساة بالفعل ، ولكن دون أن يتعرّف تفصيلاتها .

ومن الحقائق المألوفة في حقل الأدب القصصي أنّ عملية التنبّؤ بما سيحدث ، تظل واحدة من أدوات الإثارة ، ولكن شريطة ألاّ تُصبح بشكل جاهز ، وإلاّ فقدت القصة عنصر الإثارة ، بل ينبغي أن تحوم في دائرة ما هو مُتوقّع مضافاً إلى تضبيب مستويات الحَدَث . فأنت قد تتوقع مثلا أن يصيب بطلا ما أحدُ أشكال الأذى دون أن تتيقن ماذا سيحدث بالفعل ، فقد يمرض مثلا ، أو يُجرح ، أو يُختطف ، أو يُقتل ، أو يغترب . . . إلى آخره .

ومن هنا يجيء عنصر التشويق في القصّة في معرفة ماذا سيحدث حيال البطل بديلا عن عنصر التنبّؤ الذي قد يقلّل من الإثارة ومن متابعة ماذا سيحدث .

وأمّا في حالة عدم تضمّن القصة لعناصر التنبّؤ بالأحداث اللاحقة ، فإنّ عنصر المفاجأة سيلعب حينئذ دوراً له فاعليته في هذا الصدد .

والمهم أنّ تحذير يعقوب لولده يتضمّن من الوجهة الفنّية عنصر تنبّؤ بما سيحدث ، بيد أنّ تضبيب أو عدم معرفة ما سيحدث ، هو الذي سيُحقق لدى المتلقّي عنصر إثارة كبيرة هو ، التشويق لمعرفة هويّة الحدَث الذي سيواكب مصير يوسف (عليه السلام) .

والآن ـ خارجاً عن السمة الفنّية المذكورة ـ يعنينا أن نعيد إلى ذاكرتنا من جديد ، أنّ أوّل خيوط المأساة التي أحاطت بيعقوب (عليه السلام) هي : توقّعه لكيد أو مؤامرة كبيرة تحاك ضد ولده في حالة قصّهِ الرؤيا على إخوته ، كما أنّ القارئ يتوقّع أيضاً أن يكون قلق يعقوب (عليه السلام) بالغ الشدّة لجملة من الأسباب : أولها ، أنّ يعقوب إحدى الشخصيات المصطفاة التي لا تتحدّث من خلال التنبّؤات العادية ، بل تتحدّث من خلال لغة الوحي ، ممّا يعني أنـّها مقتنعة تماماً بأنّ مؤامرة ضخمة ستحاك ضد ولده يوسف في حالة قصّه رؤياه على الإخوة .

مضافاً لذلك أنّ بعض النصوص المفسّرة ، ذهبت إلى أنّ يعقوب قد وعدته السماء بأن يستعدّ لمجابهة الشدائد إمتحاناً لحادثة سابقة تتصل بأحد السائلين الذين شكّك يعقوب (عليه السلام)بصدق جوعه .

إذن كلّ أسباب القلق والخوف على مصير يوسف (عليه السلام) تأخذ الآن في أعماق يعقوب (عليه السلام) حجماً كبيراً من الشدّة .

ثمّ تبدأ الشدائد متجسّدة في وقائع بالفعل ، بعد أن كانت مجرّد أحاسيس ومشاعر وأوّل هذه الشدائد تبدأ مع طلب أولاده باصطحاب يوسف (عليه السلام) ، حيث عبّر الأب عن بالغ تخوّفه من هذا الطلب ، قائلا بمرارة :

﴿إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ

إنّ هذا التخوّف يشكل عنصر إضاءة جديدة لمخاوف يعقوب وشدائده القلبية .

كما أنـّه يشكّل من الوجهة الفنّية إرهاصاً جديداً بأنّ حادثة ما ستحاك ضد يوسف (عليه السلام) .

وهنا تأخذ القصة طابعاً فنّياً بالغ الإمتاع ، فالقارئ قد يتوقّع أن تسفر مصاحبة يوسف لإخوته عن حادثة افتراس من الذئب حقاً ، غير أنّ هذا التوقّع سيخفت عندما تكشف القصة عن أنّ الافتراس لا يتمّ بالفعل ، بل إنّ ما يتمّ ، هو حادثة افتعال لعملية افتراس الذئب ليوسف (عليه السلام) ، ومن هنا يمكننا أن نستكشف مدى جمالية هذا المنحى من القصّ :

فأولا : سنعرف أنّ لهذا التخوّف من افتراس الذئب حقيقة ستكشف القصة عنها ، وهي أنّ إخوة يوسف (عليه السلام) سيجيئون إلى أبيهم عشاء يبكون ، وسيقولون له : إنّ الذئب قد أكل يوسف ونحن عنه غافلون .

ثانياً : سُيفاجأ القارئ بحدث جديد هو ، إلقاء يوسف في البئر وليس افتراسه من قِبَل الذئب .

وبهذا المنحى من صياغة القصة تتحقّق إثارة فنّية كبيرة الإمتاع ، حيث تقوم على عنصرين هما : المفاجأة ، ثمّ التشويق لمعرفة ماذا سيحدث من تفصيل ونتائج من هذه العملية؟

وواضح أنّ القصة تبلغ قمة الإثارة بقدر ما يتوفّر فيها كلٌّ من مفاجأة ما حَدَث ، وتشويق لما سيحدث ، وهذا ما حققته هذه الشريحة من تحرّك البطل يعقوب (عليه السلام) في بيئة القصة .

* * *

ثمّ جاءت المرحلة الثالثة من خطوط المأساة بالغة قمّتها عندما بلغه خبر الذئب وافتراسه ليوسف (عليه السلام) .

لكنه أدرك كَذِبَ هذا القول منهم ، فخاطبهم بمرارة :

﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ واللّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ

طبيعيّاً أن نستكشف بسهولة أنّ يعقوب وهو يتعامل مع الوحي وليس مع موازين لأرض ، أدرك ـ كما قلنا ـ أنّ قضية الذئب لا واقع لها من الصحة . غير أنّ ما يعنينا من ذلك هو ، هذه الفقرة «فصبرٌ جميل» ، فيما تفصح عن دلالتين ، إحداهما : بلوغ المأساة قمّتها ، بعد أن وقع ما كان يخشاه ، والاُخرى : ممارسته لفضيلة الصبر التي تستهدفها القصة في هذا الجزء منها .

ثمّ جاءت المرحلة الرابعة من خُطوط المأساة ، بعد أن أُخلي يعقوب (عليه السلام) من مسرح الأحداث ، بدءً من إلقاء يوسف في البئر ، فقضيته مع امرأة العزيز ، فلبثه في السجن ، فتعيينه خازناً على الأرض ، جاءت هذه المرحلة بولد جديد يحمل بعضاً من سمات يوسف (عليه السلام) ، هو أخوه الصغير لأبيه بنيامين . . .

لقد أصبح يوسف (عليه السلام) خازناً واحتاج الجمهور إلى الطعام ، ومنهم اُسرة يعقوب (عليه السلام) ، فيما اضطرّ الإخوة إلى التوجّه نحو يوسف . بيد أنّ يوسف ـ لحكمة خاصة ـ يطلب من الإخوة أنّ يصطحبوا أخاهم الصغير بنيامين ، وجاؤوا إلى الأب ، فقال لهم :

﴿هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ ؟ ﴾

ثمّ أوصاهم بهذه الفقرة التي تنضح بالمرارة والخوف :

﴿يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ باب واحِد وادْخُلُوا مِنْ أَبْواب مُتَفَرِّقَة

ثمّ وقع المحذور الجديد وهو : ضياع بنيامين أيضاً عبر حادثة السرقة التي افتعلها يوسف (عليه السلام) لحكمة خاصة ، وعندها وجّه يعقوب (عليه السلام) لأولاده نفس الفقرة التي عقّب فيها على مصير يوسف (عليه السلام) ، قائلا :

﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ

لكنه الآن يعلّق بعض الآمال على يوسف وبنيامين ، قائلا :

﴿عَسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً . . .﴾

المهم أنّ هذه الوقائع التي بدأت بالتخوّف على بنيامين ، والأمر بدخول الإخوة من أبواب متفرّقة ، ثمّ إخباره بإيداع بنيامين في السجن ، هذه الوقائع تحفر في أعصاب يعقوب (عليه السلام) آثاراً جديدة من الشدائد ، حتّى توّجت بنهاية موجعة كلّ التوجّع ألا وهي فقدانه لعينيه ، فيما تشف عن ذلك هذه الفقرة القصصية :

﴿وَتَوَلّى عَنْهُمْ وقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ . . .﴾

لقد ظلّ يعقوب (عليه السلام) باكياً وذاكراً ليوسف (عليه السلام) حتّى قال له أولاده :

﴿تَاللّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ

وها هو يجيبهم :

﴿إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وحُزْنِي إِلَى اللّهِ . . .﴾

إذن بلغت المأساةُ قمّتها وأشدّ حينما فَقَد يعقوبُ يوسفَ وبنيامينَ ، وبصره ، مضافاً إلى استحضاره ذكر يوسف إلى الدرجة التي ضجّ منها أولاده ، كما لحظنا .

* * *

إنّ موقف الأولاد وذرّياتهم أو أحفاده نفسه ، يضيف إلى حجم المأساة ثقلا جديداً دون أدنى شك . . . فهاهم حيناً يتّهمونه ، أو لِنَقُل يوجّهون إليه كلاماً لاذعاً من نحو ﴿حَتّى تَكُونَ حَرَضاً﴾ و ﴿تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ . . .﴾ وها هم حيناً آخر يقولون له ﴿إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ﴾ ، وهذا بعد أن اطمأن يعقوب (عليه السلام) إلى حياة ولديه من خلال القميص ومن خلال قَنَوات غيبية أطلعته على ذلك .

في نهاية المطاف ، تظل شخصية يعقوب بصفته أحد الأبطال الثانويين في القصة ، رمزاً أو دلالةً أو نموذجاً للأب ، أو لدافع البنوّة بما يواكب هذا الدافع من شدائد لا مناص منها في عملية الاختبار ، ثمّ ما ينبغي أن يزامن هذه الشدائد من عملية الصبر التي تظلّ موضع تشدّد القصة ، متمثلا فيما كرّره يعقوب (عليه السلام) مرتين بقوله : «فصبر جميل» عند بلوغه خبر فقدان كلٍّ من يوسف وبنيامين .

مضافاً لذلك نستكشف دلالةً ثالثة في رسم هذه الشخصية الثانوية يعقوب ألا وهي : النتائج التي يفرزها الصبر والتوكّل على اللّه فيما ينبغي أن نقف عندها أيضاً .

* * *

لقد عاشت المأساة في أعماق يعقوب (عليه السلام) سنوات طوالا ، بدأت مع حلم يوسف (عليه السلام) ، بل مع تلك المقولة التي أرسلتها السماء إلى يعقوب حينما أوحت له بأن يستعد لمواجهة الشدائد ، متبلورة في ابتلائه بسلوك أولاده ، ففقدانه يوسف (عليه السلام) ، ثمّ فقدانه بنيامين أصغر أولاده ، ثمّ ذهاب نور عينيه . . .

إلاّ أنّ لكلّ ليل صباحاً ، ولكلّ شدّة فرَجاً . . . وها هي خيوط الفرج تبدأ بالاقتراب ، حيث تذكر لنا النصوص المفسّرة : إنّ جبرئيل بشّر يعقوب (عليه السلام) بأنّ ولديه لو كانا ميّتين لبعثهما اللّه إليه ، موصياً إيّاه أن يصنع طعاماً للفقراء قبال سلوكه السابق الذي منع الطعام عن جائع ذات ليلة عبر تصوّره بكذب دعوى الجائع .

وتقول هذه النصوص أيضاً : إنّ يعقوب (عليه السلام) دعا اللّه أن يُهبَط عليه مَلَكَ الموت ، فأجابه سبحانه وتعالى إلى ذلك ، ولما سألَ ملك الموتِ عن مرور روح ابنه يوسف (عليه السلام)عليه ، أجابه المَلَك بــ : لا . حينئذ خفّت حدّةُ المأساة في أعماق يعقوب (عليه السلام)و بدأ الفرج يلوح على الاُفق ، حيث اطمأن يعقوب (عليه السلام) على سلامة ولده .

وفي ضوء هذا الإطمئنان وجّه يعقوب (عليه السلام) إلى أولاده هذا الطَلَب :

﴿يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وأَخِيهِ

﴿وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ

* * *

وفعلا عندما ذهب أولاده إلى أخيهم يوسف وأخبرهم بحقيقة الأمر ، عندها قال لهم :

﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي

﴿يَأْتِ بَصِيراً وأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ

وما أن انطلقت القافلةُ التي تحمل قميص يوسف (عليه السلام) من مصر متوجّهة نحو بادية الشام حتى هبّت الصبا حاملة إلى يعقوب رائحة القميص ، فتوجّه إلى أحفاده قائلا :

﴿إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ

إلاّ أنّ أحفاد يعقوب فيما يبدو كانوا بمنأى عن معرفة عطاء السماء وما يحفل به من إعجاز ، وأبوا إلاّ أن يوجّهوا إلى جدّهم قدراً من الألم حينما قالوا له :

﴿تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ

ولكن يعقوب (عليه السلام) وهو المؤمن بعطاء السماء الذي لا حدّ له كان على يقين تام بالبشارة . ولذلك ما أن جاءه البشير وألقى القميص على وجهه حتّى تحققت البشارة فارتدّ بصيراً بعد العمى :

﴿فَلَمّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً

وعندها قال لأولاده :

﴿أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ

وهكذا بدأت المرحلة الجديدة من حياة يعقوب (عليه السلام) ، بدأت بانفراج الأزمة ، بدأت بمسح المأساة من أعماقه ، فقد اطمأنّ إلى يوسف (عليه السلام) وعادت عيناه بصيرتين كما كانتا قبل المأساة .

ثمّ توّجت هذه الحياة الجديدة بالتئام الشمل ، حيث توجّه وأهله أجمعون نحو مصر ، نحو ولده الذي تربّع على عرش مصر وعندها :

﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وخَرُّوا لَهُ سُجَّداً

وقال يعقوب (عليه السلام) مخاطباً يوسف : السلام عليك يا مذهب الأحزان .

نعم ، لقد هتف يعقوب مُعرباً عن فرحته العظيمة ، عن ذهاب الحزن من أعماقه ، عن ذهاب مرحلة من حياته واستقبال مرحلة جديدة ، مرحلة لمّ الشمل وعودة الأهل بعضهم إلى البعض الآخر .

* * *

وإذن ، نستخلص من حديثنا عن أحد الأبطال الثانويين في قصة حياة يوسف (عليه السلام)و هو : البطل يعقوب (عليه السلام) ، نستخلص جملة من الحقائق الفكرية والفنّية من خلال الأدوار التي مرّت على هذا البطل .

إنّ أهمّ الأفكار التي ينبغي استخلاصها من حياة البطل يعقوب ، هو تحمّل الشدائد وضرورة التوكّل على اللّه . فالشدائد ينبغي ألاّ تحمل الشخصية على الجزع منها واليأس من الفرج الذي يتبعها . فيعقوب (عليه السلام) بالرغم من فقدانه لولديه الأثيرين لديه جداً . وبالرغم من طول المسافة الزمنية التي افتقد فيها ابنه يوسف (عليه السلام) ، لم ييأس من روح اللّه ، حتى أ نّه خاطب أولاده قائلا :

﴿وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ

هذه الفقرة أو الآية تمثّل جوهر الأفكار التي تنطوي عليها حياة يعقوب (عليه السلام) في القصة . فالنص القرآني الكريم يُشدّد على هذا الجانب ويطالبنا ألاّ نيأس أبداً من عطاء السماء مهما امتدّ زمنُ المأساة وطال ، بل إنّ هذا الجانب يُلقي بأضوائه على كلّ أفكار القصة أساساً وليس من خلال الأدوار التي قام بها يعقوب (عليه السلام) فحسب ، بل إنّنا لنجد أنّ خاتمة القصة أو التعقيب الذي أنهتِ السماء قصة يوسف (عليه السلام) به ، هذا التعقيب كان يحوم بدوره على فكرة عدم اليأس من نصرة السماء لعبدها ، سواء أكان هذا العبد يتحرّك من خلال همومه الذاتية ، كما هو شأن يعقوب (عليه السلام) مع أولاده ، أو كان يتحرّك من خلال همومه الاجتماعية أو الرسالية ، كما هو شأن الأنبياء والمصلحين .

ولذلك جاءت خاتمةُ قصة يوسف تحوم على إبراز هذا الجانب من حياة الرُسُل ، يقول النص في الآية التي تسبق ختام السورة :

﴿حَتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا . . . ﴾

إذن ينبغي ألاّ تفوتنا هذه الصلات الفنّية بين أبطال ثانويين مثل يعقوب (عليه السلام) ، وبين أفكار القصة بأجمعها ، فيعقوب (عليه السلام) هو بطل ثانوي تجسّدت حياته في جملة من الأدوار التي لحظناها في القصة . وكان جوهرُها يتمثّل في تحمّل الشدائد وعدم اليأس من نصرة السماء للعبد .

وفعلا جاء نصرُ السماء ليعقوب بعد تلك الشدائد والمحن ، من الاعتقاد بهلاك يوسف (عليه السلام) ، ثمّ ذهاب نور عينيه .

لقد جاء نصر السماء ليعقوب (عليه السلام) أمراً لافتاً للنظر ، حيث أعادت إليه يوسف وهو من الهالكين حسب منطق الأحداث .

ثمّ ردّت عليه بصره وهو أعمى لا يُرجى شفاؤه حسب منطق الطبّ .

إلاّ أنّ يعقوب الذي شدّد على التوكّل على اللّه ، ثمّ شدّد على عدم اليأس من روح اللّه . . . قد كانت السماء إلى جانبه ، إلى حسن ظنّه وثقته بها ، فنصرته .

هذه الفكرة نفسها قد وُظّفت على المستوى الفنّي لإنارة فكرة العمل الرسالي وضرورة تحمّل الشدائد ، ثمّ اليقين بنصرة السماء في نهاية المطاف ، مهما كانت الشدائد حادّة مثيرة . . . لقد ، وُظّفت هذه الفكرة لإنارة إحدى الأفكار الرئيسة في القصة بأكملها حتى لو لم تكن ذات علاقة بيعقوب (عليه السلام) ، ونعني بها الفكرة المتصلة بضرورة تحمّل أعباء الرسالة ، حيث ختم النص السورة بها ، فقال :

﴿حَتّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا

إذن كان هناك تطابقٌ أو تماثل بين حياة خاصة بيعقوب (عليه السلام) تتّصل بأولاده ، وحياة عامة تـتّصل بالأنبياء والرسل ، هذا التطابق أو التماثل يتجسّد في ضرورة عدم اليأس من نصرة السماء مهما كانت الشدائد حادّة ، سواء أكانت هذه الشدائد فردية تتصل بذهاب ولد أو بَصَر ، أو كانت جماهيرية تتصل بتكذيب الرسل والأنبياء من حيث فقدانهم الأنصار الذين يستجيبون لرسالتهم .

إذن للمرة الأخيرة ، كانت حياة يعقوب (عليه السلام) من خلال الأدوار التي قام بها في هذه القصة تُلقي الضوء فنّياً على أفكار رئيسة في القصة ، وظّفها النص فنّياً في هذا المجال ، وهو أمرٌ ينبغي ألاّ تفوتنا الإشارة إليه ما دمنا في صدد توضيح الخصائص الفنّية في القصص القرآنية .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .