أقرأ أيضاً
التاريخ: 22-9-2020
4812
التاريخ: 22-9-2020
7527
التاريخ: 30-9-2020
5432
التاريخ: 22-9-2020
4897
|
قال تعالى : {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُو يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر : 9 - 11]
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :
عاد سبحانه إلى ذكر أدلة التوحيد فقال {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا} أي تهيجه وتزعجه من حيث هو{فسقناه} أي فسقنا السحاب {إلى بلد ميت} أي قحط وجدب لم يمطر فيمطر على ذلك البلد {فأحيينا به} أي بذلك المطر والماء {الأرض بعد موتها} بأن أنبتنا فيها الزرع والكلأ بعد أن لم يكن {كذلك النشور} أي كما فعل هذا بهذه الأرض الجدبة من إحيائها بالزرع والنبات ينشر الخلائق بعد موتهم ويحشرهم للجزاء من الثواب والعقاب .
{من كان يريد العزة فلله العزة جميعا} اختلف في معناه فقيل المعنى من كان يريد علم العزة وهي القدرة على القهر والغلبة لمن هي فإنها لله جميعا عن الفراء وقيل معناه من أراد العزة فليتعزز بطاعة الله فإن الله تعالى يعزه عن قتادة يعني أن قوله {فلله العزة جميعا} معناه الدعاء إلى طاعة من له العزة كما يقال من أراد المال فالمال لفلان أي فليطلبه من عنده يدل على صحة هذا ما رواه أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال : ((أن ربكم يقول كل يوم أنا العزيز فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز)) .
{إليه يصعد الكلم الطيب} والكلم جمع الكلمة يقال هذا كلم وهذه كلم فيذكر ويؤنث وكل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء يجوز فيه التذكير والتأنيث ومعنى الصعود هاهنا القبول من صاحبه والإثابة عليه وكلما يتقبله الله سبحانه من الطاعات يوصف بالرفع والصعود لأن الملائكة يكتبون أعمال بني آدم ويرفعونها إلى حيث شاء الله تعالى وهذا كقوله إن كتاب الأبرار لفي عليين وقيل معنى إليه يصعد إلى سمائه وإلى حيث لا يملك الحكم سواه فجعل صعوده إلى سمائه صعودا إليه تعالى كما يقال ارتفع أمرهم إلى السلطان والكلم الطيب الكلمات الحسنة من التعظيم والتقديس وأحسن الكلم لا إله إلا الله .
{والعمل الصالح يرفعه} قيل فيه وجوه ( أحدها ) العمل الصالح يرفع الكلم الطيب إلى الله فالهاء من يرفعه يعود إلى الكلم وهو معنى قول الحسن ( والثاني ) على القلب من الأول أي والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب والمعنى أن العمل الصالح لا ينفع إلا إذا صدر عن التوحيد عن ابن عباس ( والثالث ) أن المعنى العمل الصالح يرفعه الله لصاحبه أي يقبله عن قتادة وعلى هذا فيكون ابتداء إخبار لا يتعلق بما قبله .
ثم ذكر سبحانه من لا يوحد الله سبحانه فقال {والذين يمكرون السيئات} أي يعملون السيئات عن الكلبي وقيل يمكرون أن يشركون بالله وقيل يعني الذين مكروا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في دار الندوة عن أبي العالية وهو قوله وإذ يمكر بك الذين كفروا الآية {لهم عذاب شديد} في الآخرة ثم أخبر سبحانه أن مكرهم يبطل فقال {ومكر أولئك هو يبور} أي يفسد ويهلك ولا يكون شيئا ولا ينفذ فيما أرادوه .
ثم نسق سبحانه على ما تقدم من دلائل التوحيد فقال {والله خلقكم من تراب} بأن خلق أباكم آدم منه فإن الشيء يضاف إلى أصله وقيل أراد به آدم (عليه السلام) نفسه {ثم من نطفة} أي ماء الرجل والمرأة {ثم جعلكم أزواجا} أي ذكورا وإناثا وقيل ضروبا وأصنافا {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} أي وما تحصل من الإناث حاملة ولدها في بطنها إلا بعلم الله تعالى والمعنى إلا وهو عالم بذلك {وما يعمر من معمر} معناه وما يمد في عمر معمر أي ولا يطول عمر أحد .
{ولا ينقص من عمره} أي من عمر ذلك المعمر بانقضاء الأوقات عليه عن أبي مالك يعني ولا يذهب بعض عمره بمضي الليل والنهار وقيل معناه ولا ينقص من عمر غير ذلك المعمر عن الحسن والضحاك وابن زيد وقيل هوما يعلمه الله تعالى إن فلانا لو أطاع لبقي إلى وقت كذا وإذا عصى نقص عمره فلا يبقى فالنقصان على ثلاثة أوجه إما أن يكون من عمر المعمر أومن عمر معمر آخر أو يكون بشرط .
{إلا في كتاب} أي إلا وذلك مثبت في الكتاب وهو الكتاب المحفوظ أثبته الله تعالى قبل كونه قال سعيد بن جبير مكتوب في أم الكتاب عمر فلان كذا سنة ثم يكتب أسفل ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى يأتي على آخر عمره {إن ذلك على الله يسير} يعني أن تعمير من يعمره ونقصان من ينقصه وإثبات ذلك في الكتاب سهل على الله تعالى غير متعذر .
_____________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص234-237 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :
{واللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ} . تقدم نظيره في الآية 57 من سورة الأعراف ج 3 ص 342 .
{مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} . العزة للَّه ولدين اللَّه بالذات ، وبهما يكون الإنسان عزيزا ، ومن اعتز بغير اللَّه ذل ، قال ابن عربي في الفتوحات : عزة الحق لذاته إذ لا إله إلا هو ، وعزة رسوله باللَّه ، وعزة المؤمنين باللَّه وبرسوله . . فعزة هؤلاء بإعزاز اللَّه ، فثبت للفرع ما ثبت للأصل .
وما ذل المسلمون في هذا العصر إلا لأنهم اعتزوا بغير الإسلام ، وقد كانوا من قبل أقل من اليوم عددا ، ولكن كانوا كثيرين بالإسلام عزيزين بالاجتماع ووحدة الكلمة ضد عدو اللَّه وعدوهم .
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ والْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} . صعود الكلام ورفع العمل إليه تعالى كناية عن قبولهما والإثابة عليهما ، والكلام الطيب ما نفع ، ومثله العمل الصالح ، وتومئ الآية إلى أن سبب العزة والرفعة عند اللَّه تعالى هوما ينفع الناس من الأقوال والأفعال {والَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ ومَكْرُ أُولئِكَ هُو يَبُورُ} . يمكرون السيئات أي يدبرون الأذى والإساءة إلى المؤمنين والطيبين ، ولكن هذا المكر والخداع إلى بوار وهباء ، وفي معنى ذلك قوله تعالى : {ولا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} - 43 فاطر .
{واللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} . تقدم في الآية 5 من سورة الحج ج 5 ص 310 {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً} أصنافا أسود وأبيض وذكرا وأنثى {وما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى ولا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} لأنه بكل شيء محيط {وما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ ولا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . المعمر طويل العمر . ولا ينقص من عمره كناية عن قصر العمر ، وفي كتاب أي في علم اللَّه ، والمعنى الأعمار بيده تعالى . وفي نهج البلاغة : (لا تنالون من الدنيا نعمة إلا بفراق أخرى ، ولا يعمر معمر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله) . انظر ج 2 ص 171 فقرة : (الأجل محتوم) .
_________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص281 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :
احتجاجات على وحدانيته تعالى في ألوهيته بعد جملة من النعم السماوية والأرضية التي يتنعم بها الإنسان ولا خالق لها ولا مدبر لأمرها إلا الله سبحانه ، وفيها بعض الإشارة إلى البعث .
قوله تعالى : {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت} إلخ .
العناية في المقام بتحقق وقوع الأمطار وإنبات النبات بها ، ولذلك قال : {الله الذي أرسل الرياح} وهذا بخلاف ما في سورة الروم من قوله : { اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا } [الروم : 48] .
وقوله : {فتثير سحابا} عطف على {أرسل} والضمير للرياح والإتيان بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية والإثارة إفعال من ثار الغبار يثور ثورانا إذا انتشر ساطعا .
وقوله : {فسقناه إلى بلد ميت} أي إلى أرض لا نبات فيها {فأحيينا به الأرض بعد موتها} وأنبتنا فيها نباتا بعد ما لم تكن ، ونسبة الإحياء إلى الأرض وإن كانت مجازية لكن نسبته إلى النبات حقيقية وأعمال النبات من التغذية والنمو وتوليد المثل وما يتعلق بذلك أعمال حيوية تنبعث من أصل الحياة .
ولذلك شبه البعث وإحياء الأموات بعد موتهم بإحياء الأرض بعد موتها أي إنبات النبات بعد توقفه عن العمل وركوده في الشتاء فقال : {كذلك النشور} أي البعث فالنشور بسط الأموات يوم القيامة بعد إحيائهم وإخراجهم من القبور .
وفي قوله : {فسقناه إلى بلد ميت} إلخ .
التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير فهو تعالى في قوله : {والله الذي أرسل} بنعت الغيبة وفي قوله : {فسقناه} إلخ .
بنعت التكلم مع الغير ولعل النكتة في ذلك هي أنه لما قال : {والله الذي أرسل الرياح} أخذ لنفسه نعت الغيبة ويتبعه فيه الإرسال فإن فعل الغائب غائب ، ثم لما قال : {فتثير سحابا} على نحو حكاية الحال الماضية صار المخاطب كأنه يرى الفعل ويشاهد الرياح وهي تثير السحاب وتنشره في الجو فصار كأنه يرى من يرسل الرياح لأن مشاهدة الفعل كادت أن لا تنفك عن مشاهدة الفاعل فلما ظهر تعالى بنعت الحضور غير سياق كلامه من الغيبة إلى التكلم واختار لفظ التكلم مع الغير للدلالة على العظمة .
وقوله : {فأحيينا به الأرض} ولم يقل : فأحييناه مع كفايته وكذا قوله : {بعد موتها} مع جواز الاكتفاء بما تقدمه للأخذ بصريح القول الذي لا ارتياب دونه .
قوله تعالى : {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا} قال الراغب في المفردات ، : العزة حالة مانعة للإنسان من أن يغلب من قولهم : أرض عزاز أي صلبة قال تعالى : {أ يبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا} انتهى .
فالصلابة هو الأصل في معنى العزة ثم توسع فاستعمل العزيز فيمن يقهر ولا يقهر كقوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا } [يوسف : 88] .
وكذا العزة بمعنى الغلبة قال تعالى : {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص : 23] والعزة بمعنى القلة وصعوبة المنال ، قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت : 41] والعزة بمعنى مطلق الصعوبة قال تعالى : {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ } [التوبة : 128] : {والعزة بمعنى الأنفة والحمية قال تعالى { بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص : 2] إلى غير ذلك .
ثم إن العزة بمعنى كون الشيء قاهرا غير مقهور أو غالبا غير مغلوب تختص بحقيقة معناها بالله عز وجل إذ غيره تعالى فقير في ذاته ذليل في نفسه لا يملك لنفسه شيئا إلا أن يرحمه الله ويؤتيه شيئا من العزة كما فعل ذلك بالمؤمنين به قال تعالى : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون : 8] .
وبذلك يظهر أن قوله : {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا} ليس بمسوق لبيان اختصاص العزة بالله بحيث لا ينالها غيره وأن من أرادها فقد طلب محالا وأراد ما لا يكون بل المعنى من كان يريد العزة فليطلبها منه تعالى لأن العزة له جميعا لا توجد عند غيره بالذات .
فوضع قوله : {فلله العزة جميعا} في جزاء الشرط من قبيل وضع السبب موضع المسبب وهو طلبها من عنده أي اكتسابها منه بالعبودية التي لا تحصل إلا بالإيمان والعمل الصالح .
قوله تعالى : {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} الكلم - كما قيل - اسم جنس جمعي يذكر ويؤنث ، وقال في المجمع ، : والكلم جمع كلمة يقال؟ هذا كلم وهذه كلم فيذكر ويؤنث ، وكل جمع ليس بينه وبين واحده إلا الهاء يجوز فيه التذكير والتأنيث انتهى .
والمراد بالكلم على أي حال ما يفيد معنى تاما كلاميا ويشهد به توصيفه بالطيب فطيب الكلم هو ملاءمته لنفس سامعه ومتكلمه بحيث تنبسط منه وتستلذه وتستكمل به وذلك إنما يكون بإفادته معنى حقا فيه سعادة النفس وفلاحها .
وبذلك يظهر أن المراد به ليس مجرد اللفظ بل بما أن له معنى طيبا فالمراد به الاعتقادات الحقة التي يسعد الإنسان بالإذعان لها وبناء عمله عليها والمتيقن منها كلمة التوحيد التي يرجع إليها سائر الاعتقادات الحقة وهي المشمولة لقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم : 25] وتسمية الاعتقاد قولا وكلمة أمر شائع بينهم .
وصعود الكلم الطيب إليه تعالى هو تقربه منه تعالى اعتلاء وهو العلي الأعلى رفيع الدرجات ، وإذ كان اعتقادا قائما بمعتقده فتقربه منه تعالى تقرب المعتقد به منه ، وقد فسروا صعود الكلم الطيب بقبوله تعالى له وهومن لوازم المعنى .
ثم إن الاعتقاد والإيمان إذا كان حق الاعتقاد صادقا إلى نفسه صدقه العمل ولم يكذبه أي يصدر عنه العمل على طبقه فالعمل من فروع العلم وآثاره التي لا تنفك عنه ، وكلما تكرر العمل زاد الاعتقاد رسوخا وجلاء وقوي في تأثيره فالعمل الصالح وهو العمل الحري بالقبول الذي طبع عليه بذل العبودية والإخلاص لوجهه الكريم يعين الاعتقاد الحق في ترتب أثره عليه وهو الصعود إليه تعالى وهو المعزى إليه بالرفع فالعمل الصالح يرفع الكلم الطيب .
فقد تبين بما مر معنى قوله : {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} وأن ضمير {إليه} لله سبحانه والمراد بالكلم الطيب الاعتقاد الحق كالتوحيد ، وبصعوده تقربه منه تعالى ، وبالعمل الصالح ما كان على طبق الاعتقاد الحق ويلائمه وأن الفاعل في {يرفعه} ضمير مستكن راجع إلى العمل الصالح وضمير المفعول راجع إلى الكلم الطيب .
ولهم في الآية أقوال أخر : فقد قيل : إن المراد بصعود الكلم الطيب قبوله والإثابة عليه كما تقدمت الإشارة إليه ، وقيل : المراد صعود الملائكة بما كتب من الإيمان والطاعات إلى الله سبحانه ، وقيل : المراد صعودهم به إلى السماء فسمي الصعود إلى السماء صعودا إلى الله مجازا .
وقيل : إن فاعل {يرفعه} ضمير عائد إلى الكلم الطيب وضمير المفعول للعمل الصالح والمعنى أن الكلم الطيب يرفع العمل الصالح أي أن العمل الصالح لا ينفع إلا إذا صدر عن التوحيد ، وقيل : فاعل {يرفعه} ضمير مستكن راجع إليه تعالى والمعنى العمل الصالح يرفعه الله .
وجملة هذه الوجوه لا تخلو من بعد والأسبق إلى الذهن ما قدمناه من المعنى .
قوله تعالى : {والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور} ذكروا أن {السيئات} وصف قائم مقام موصوف محذوف وهو المكرات ، ووضع اسم الإشارة موضع الضمير في {مكر أولئك} للدلالة على أنهم متعينون لا مختلطون بغيرهم والمعنى والذين يمكرون المكرات السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك الماكرين هو يبور ويهلك فلا يستعقب أثرا حيا فيه سعادتهم وعزتهم .
وقد بان أن المراد بالسيئات أنواع المكرات والحيل التي يتخذها المشركون وسائل لكسب العزة ، والآية مطلقة ، وقيل : المراد المكرات التي اتخذتها قريش على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في دار الندوة وغيرها من إثبات أو إخراج أو قتل فرد الله كيدهم إليهم وأخرجهم إلى بدر وقتلهم وأثبتهم في القليب فجمع عليهم الإثبات والإخراج والقتل وهذا وجه حسن لكن الآية مطلقة .
ووجه اتصال ذيل الآية بصدرها أعني اتصال قوله : {إليه يصعد} إلى آخر الآية بقوله : {من كان يريد العزة فلله العزة جميعا} أن المشركين كانوا يعتزون بآلهتهم كما قال تعالى : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا } [مريم : 81] فدعاهم الله سبحانه وهم يطلبون العز إلى نفسه بتذكيرهم أن العزة لله جميعا وبين تعالى ذلك بأن توحيده يصعد إليه والعمل الصالح يرفعه فيكتسب الإنسان بالتقرب منه عزة من منبع العزة وأما الذين يمكرون كل مكر سيىء لاكتساب العزة فلهم عذاب شديد وما مكروه من المكر بائر هالك لا يصعد إلى محل ولا يكسب لهم عزا .
قوله تعالى : {والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا} إلخ .
يشير تعالى إلى خلق الإنسان فابتدأ خلقه من تراب وهو المبدأ البعيد الذي تنتهي إليه الخلقة ثم من نطفة وهي مبدأ قريب تتعلق به الخلقة .
وقيل المراد بخلقهم من تراب خلق أبيهم آدم من تراب فإن الشيء يضاف إلى أصله وقيل : بل المراد خلق آدم نفسه وقيل : بل المراد خلقهم خلقا إجماليا من تراب في ضمن خلق آدم من تراب والخلق التفصيلي هومن نطفة كما قال : ثم من نطفة .
والفرق بين الوجوه الثلاثة أن في الأول نسبة الخلق من تراب إليهم على طريق المجاز العقلي ، وفي الثاني المراد بخلقهم خلق آدم ولا مجاز في النسبة ، وفي الثالث المراد خلق كل واحد من الأفراد من التراب حقيقة من غير مجاز إلا أنه خلق إجمالي لا تفصيلي وبهذا يفارق ما قدمناه من الوجه .
ويمكن تأييد القول الأول بقوله تعالى : { خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن : 14] ، والثاني بنحو قوله : {وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [السجدة : 7 ، 8] ، والثالث بقوله : {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [الأعراف : 11] ولكل وجه .
وقوله : {ثم جعلكم أزواجا أي ذكورا وإناثا ، وقيل : أي قدر بينكم الزوجية وزوج بعضكم من بعض ، وهوكما ترى ، وقيل : أي أصنافا وشعوبا .
وهو كسابقه .
وقوله : {وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} من زائدة لتأكيد النفي ، والباء في {بعلمه} للمصاحبة وهو حال من الحمل والوضع ، والمعنى ما تحمل ولا تضع أنثى إلا وعلمه يصاحب حمله ووضعه ، وذكر بعضهم أنه حال من الفاعل وأن كونه حالا من الحمل والوضع وكذا من مفعوليهما أي المحمول والموضوع خلاف الظاهر وهو ممنوع .
وقوله : {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب} أي وما يمد ويزاد في عمر أحد فيكون معمرا ولا ينقص من عمره أي عمر أحد إلا في كتاب .
فقوله : {وما يعمر من معمر} من قبيل قوله : {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا } [يوسف : 36] فوضع معمر موضع نائب الفاعل وهو أحد بعناية أنه بعد تعلق التعمير به يصير معمرا وإلا فتعمير المعمر لا معنى له .
وقوله : {ولا ينقص من عمره} الضمير في {عمره} راجع إلى {معمر} باعتبار موصوفه المحذوف وهو أحد والمعنى ولا ينقص من عمر أحد وإلا فنقص عمر المفروض معمرا تناقض خارق للفرض .
وقوله : {إلا في كتاب} وهو اللوح المحفوظ الذي لا سبيل للتغيير إليه فقد كتب فيه أن فلانا يزاد في عمره كذا لسبب كذا وفلانا ينقص من عمره كذا لسبب كذا وأما كتاب المحو والإثبات فهو مورد التغير وسياق الآية يفيد وصف العلم الثابت ولهم في قوله : {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره} وجوه أخر ضعيفة لا جدوى في التعرض لها .
وقوله : {إن ذلك على الله يسير} تعليل وتقرير لما في الآية من وصف خلق الإنسان وكيفية إحداثه وإبقائه والمعنى أن هذا التدبير الدقيق المتين المهيمن على كليات الحوادث وجزئياتها المقرر كل شيء في مقره على الله يسير لأنه الله العليم القدير المحيط بكل شيء بعلمه وقدرته فهو تعالى رب الإنسان كما أنه رب كل شيء .
_____________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج17 ، ص17-21 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :
وإستناداً إلى البحوث التي سبقت حول الهداية والضلالة والإيمان والكفر ، تنتقل الآية التالية إلى بحث المبدأ والمعاد بعبارات مضغوطة ، وتقرن آيات المبدأ بإثبات المعاد بدليل واحد ملفت للنظر ، تقول الآية الكريمة : {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً (2) فسقناه إلى بلد ميّت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور} .
نظام دقيق يتحكّم في حركة الرياح ، ثمّ في حركة السحاب ، ثمّ في نزول قطرات المطر الباعثة للحياة ، ثمّ في حياة الأرض الميتة ، وهو أحسن دليل على أنّ يد القدرة الحكيمة هي من وراء ذلك النظام تقوم على تدبير اُموره .
أوّلا ، تؤمر الرياح الحارة بالتحرّك من المناطق الإستوائية إلى المناطق الباردة ، وفي مسيرها تحمل معها بخار الماء من البحار وتطلقه في السماء ، بعدئذ تتحرّك بجريانات منظّمة للبرد القطبي الذي يعاكس دوماً إتّجاه الحركة الأوّل ، وتؤمر بتجميع البخار الحاصل لتشكيل الغيوم .
ثمّ تؤمر نفس تلك الريح بحمل تلك الغيوم وإرسالها إلى الصحاري الميتة ، لتلقي قطرات المطر الباعثة للحياة فيها .
بعد ذلك ـ بشروط خاصّة ـ تؤمر الأرض والبذور التي نثرت عليها بقبول الماء والنمو والإخضرار ، ومن موجودات حقيرة وعديمة القيمة ظاهراً تنبت موجودات حيّة وكثيرة التنوّع والجمال ، طريّة خضراء ، مفيدة ومثمرة . . تدلّل بدورها على قدرته سبحانه وتعالى ، وتشهد على حكمته ، وتكون نموذجاً من البعث الكبير .
في الحقيقة إنّ الآية أعلاه تدعو إلى التوحيد في عدّة جوانب :
«برهان النظم» دليل على الوحدانية ، و«الحركة» تقتضي وجود محرّك لكلّ متحرّك ، ومن جانب آخر فإنّ النعم تدعو إلى شكر المنعم فطرياً .
وكذلك فهي دليل على مسألة المعاد من جهات أيضاً :
فتكامل الموجودات في حركتها ومسارها وإنبعاث الحياة من الأرض الميتة تقول للإنسان : أيّها الإنسان إنّك ترى مشهد المعاد في فصول كلّ عام أمام ناظريك وتحت قدميك .
من اللازم أيضاً الإلتفات إلى أن (تثير) من مادّة (إثارة) بمعنى النشر والتفريق ، وهي إشارة إلى أنّ توليد الغيوم ناتج عن هبوب الرياح على سطح المحيطات ، لأنّ مسألة حركة الغيوم وردت في الجملة التي بعدها (فسقناه إلى بلد ميّت) .
واللطيف ما نقرأ في حديث عن الرّسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) حين سأله أحد الصحابة قائلا : يا رسول الله ، كيف يحيي الله الموتى ، وما آية ذلك في خلقه؟
قال : «أما مررت بوادي أهلك ممحلا ثمّ مررت به يهتزّ خضراً» ؟
قلت : نعم! يا رسول الله .
قال : «فكذلك يحيي الله الموتى ، وتلك آيته في خلقه» (3) .
ولنا بحث آخر حول نفس الموضوع أوردناه عند تفسير الآية (48) من سورة الروم .
الآن ، وبعد هذا المبحث التوحيدي ، تشير الآية إلى الإشتباه الخطير الذي وقع فيه المشركون لإعتقادهم بأنّ العزّة تأتيهم من أصنامهم ، وبأنّ الإيمان بالرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) سيكون سبباً في تخطّف الناس إيّاهم {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص : 57] فتقول الآية : {من كان يريد العزّة فللّه العزّة جميعاً} .
«العزّة» : على ما يقول الراغب في مفرداته : حالة مانعة للإنسان من أن يُغلب . . من قولهم : أرض عزاز ، أي صُلبة .
ولأنّ الله سبحانه وتعالى هو الذات الوحيدة التي لا تُغلب ، وجميع المخلوقات بحكم محدوديتها قابلة لأن تُغلب ، وعليه فإنّ العزّة جميعها من الله ، وكلّ من اكتسب عزّة فمن بحر عزّته اللامتناهي .
في حديث ينقل عن أنس عن الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه قال : «إنّ ربّكم يقول كلّ يوم : أنا العزيز ، فمن أراد عزّ الدارين فليطع العزيز» .
وفي الحقيقة إنّ الإنسان العاقل يجب أن يتزوّد بالماء من منبعه ، لأنّ الماء الصافي والوافر متوفّر هناك ، لا في الأواني الصغيرة المحدودة أو الملوّثة في يد هذا وذاك .
وفي حديث عن الإمام الحسن بن علي (عليهما السلام) نقرأ بأنّ «جنادة بن أبي اُميّة» قال : دخلت على الحسن بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) في مرضه الذي توفّي فيه وبين يديه طست يقذف عليه الدم ويخرج كبده قطعة قطعة ، من السم الذي سقاه معاوية (لعنه الله) ، فقلت : يا مولاي ما لك لا تعالج نفسك؟
فقال : «ياعبد الله ، بماذا اُعالج الموت ؟
قلت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون .
ثمّ التفت إليّ وقال : ضمن وصايا عديدة : « . . وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة ، وهيبة بلا سلطان ، فاخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله عزّوجلّ» . . . الحديث .
ولو لاحظنا بعض الآيات الكريمة في القرآن ، فإنّها تذكر العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون : 8] إذ أنّ الرّسول والمؤمنين اكتسبوا عزّتهم من شعاع عزّة الباري عزّوجلّ ، وساروا في طريق طاعته .
ثمّ توضّح الآية طريق الوصول إلى (العزّة) فيقول تعالى : {إليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه} .
(الكلم الطيّب) : طيّبٌ بمحتواه ، وذلك لأجل المفاهيم التي تنطبق على الواقع العيني الظاهر المشرق ، وما هو أطهر وأكثر واقعية من ذات الله تعالى ، ومرآة حقّه وعدالته ، وهؤلاء الصلحاء الذين يسلكون طريق نشر ذلك؟
لذا فقد فسّر «الكلم الطيّب» بأنّه العقائد الصحيحة فيما يخصّ المبدأ والمعاد والنبوّة ، نعم . . فعقيدة صحيحة هكذا تصعد إلى الله ، وتجعل المعتقد بها يحلق هو الآخر ، حتّى يكون في قرب جوار الحقّ تعالى ، وتغمره في عزّة الله ليكون عزيزاً .
بديهي أن ينبت من هذا الجذر الطاهر ، ساق وفروع ، ثمرها العمل الصالح ، وكلّ عمل لائق وبنّاء ومفيد ، سواء كانت دعوة إلى الحقّ ، أو حماية لمظلوم ، أو جهاداً للظلم والطغيان ، أو تقويم النفس والعبادة ، أو تعلّم ، وبالجملة فكلّ عمل خير يدخل في هذا المفهوم الشامل الواسع ، إذا كان لأجله سبحانه ـ فقط ـ ولأجل كسب رضاه فهو يصعد إليه ، ويعرج في سماء لطفه سبحانه ويكون سبباً في تكامل ومعراج صاحبه حتّى يجعله أهلا للتعزّز بعزّة الحقّ تعالى .
وذلك هوما أشارت إليه الآية (24) من سورة إبراهيم : {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } [إبراهيم : 24] .
وممّا ذكرنا ، يتّضح أنّ ما قال به بعض المفسّرين من أنّ «الكلمة الطيّبة» هي {لا إله إلاّ الله» أو «سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر» أو «إثبات الرسالة للرسول محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) والولاية والخلافة لعلي (عليه السلام) بعد التوحيد» أو ما ورد في بعض الروايات من أنّ «الكلم الطيّب» و«العمل الصالح» هو «ولاية أهل البيت (عليهم السلام)» أو أمثال هذه التفاسير ، فإنّها جميعاً من قبيل بيان المصاديق الأكثر وضوحاً لذلك المفهوم الواسع الشامل ، وليس من قبيل وضع الحدود لذلك المفهوم . إذ أنّ كلّ كلام طيّب وصالح المحتوى يدخل تحت هذا العنوان .
على كلّ حال هو الله سبحانه وتعالى الذي يحيي الأرض الميتة بقطرات المطر ـ بمقتضى الآية السابقة ـ هو سبحانه الذي ينمي «الكلام الطيّب» و«العمل الصالح» ويوصله إلى جوار قربه تعالى .
ثمّ تنتقل الآية إلى ما يقابل كلّ ذلك فتقول : {والذين يمكرون السيّئات لهم عذاب شديد ومكر اُولئك هو يبور} .
فمع أنّ هؤلاء الفاسدين المفسدين توهّمون أنّهم بالظلم والكذب والتزوير يستطيعون كسب العزّة والمال والثروة والقدرة ، إلاّ أنّهم في النهاية يضعون أنفسهم في قبضة العذاب الإلهي من جهة ، وكلّ جهودهم تذهب أدراج الرياح من جهة اُخرى .
أشخاص قال عنهم القرآن : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا } [مريم : 81] ومنافقون اعتقدوا بعزّتهم ، وذلّة المؤمنين {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون : 8] وآخرون اعتقدوا بأنّ القرب من الفراعنة سبب لعزّتهم ، وأراد غيرهم الكرامة بالظلم والإضطهاد ، لكنّهم يتساقطون دوماً ، والإيمان والعمل الصالح فقط هو الذي يصعد إلى الله سبحانه !
(مكر) : مع أنّ هذه الكلمة لغوياً بمعنى التفكّر في حلّ المشكل ، ولكنّها جاءت في موارد كثيرة بمعنى التفكّر بالحلّ مع إقترانها بالإفساد ، كما في هذه الآية .
(السيّئات) : كلّ القبائح والمذمومات ، أعمّ من القبائح الإعتقادية أو العملية ، وما ذكره بعض المفسّرين من أنّ المعنى هو المؤامرات التي قام بها المشركون لقتل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو إبعاده عن مكّة ، فليس هو إلاّ أحد مصاديق الكلمة دون مفهومها العامّ .
جملة «يبور» من مادّة «بوار» و«بوران» في الأصل بمعنى الكساد المفرط ، ولأنّ مثل هذا الكساد يكون سبباً للهلاك ، فقد استخدمت هذه الكلمة للتعبير عن الهلاك والفناء ، وكما قيل «كسد حتّى فسد» .
وقوله تعالى : {وَاللهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَاب ثُمَّ مِن نُّطْفَة ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّر وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَب إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ}
مع الإلتفات إلى ما كان من حديث في الآيات السابقة حول التوحيد والمعاد وصفات الله ، تتعرّض هذه الآيات أيضاً إلى قسم آخر من آيات «الأنفس والآفاق» التي تدلّل على قدرة الله من جانب ، وعلى علمه من جانب آخر ، وقضيّة إمكانية المعاد من جانب ثالث .
في البداية تشير إلى خلق الإنسان في مراحله المختلفة فتقول : {والله خلقكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ جعلكم أزواجاً} .
وهذه ثلاث مراحل من مراحل خلق الإنسان : الطين ـ والنطفة ـ ومرحلة الزوجية .
بديهي أنّ الإنسان من التراب ، إذ أنّ آدم (عليه السلام) خلق من تراب ، كما أنّ جميع المواد سواء التي يتشكّل منها جسم الإنسان ، أو التي يتغذّى عليها ، أو التي تنعقد منها نطفته ، جميعها تنتهي إلى مواد هي ذاتها التي يحتويها التراب .
إحتمل البعض أنّ الخلق من التراب ، إشارة إلى الخلق الأوّل فقط ، أمّا الخلق من النطفة فهو إشارة إلى المراحل التالية التي أوّلها مرحلة الخلقة الإجمالية للبشر (بلحاظ أنّ وجود الجميع يتلخّص بوجود آدم (عليه السلام)) وثانيها المرحلة التفضيلية بإنفصال الإنسان من الآخر .
وعلى كلّ حال فإنّ مرحلة «الزوجية» هي مرحلة إدامة نسل الإنسان وحفظ نوعه ، وأمّا ما احتمله البعض من أنّ معنى «أزواجاً» هنا «الأصناف» أو «الروح والجسم» وأمثالها ، فيبدو بعيداً .
ثمّ ينتقل إلى المرحلة الرابعة والخامسة ، «حمل النساء» و«الولادة» فيقول تعالى : {وما تحمل من اُنثى ولا تضع إلاّ بعلمه} .
نعم ، الحمل والتحوّلات والتغيّرات المذهلة والمعقّدة في الجنين ، ثمّ بلوغ مرحلة وضع الحمل والإضطرابات والتغيّرات المحيّرة للاُمّ من جهة ، وللجنين من جهة ثانية ، بشكل وبمقدار منظّم ودقيق لا يمكن تعقّله بدون إسناده إلى العلم الإلهي اللامتناهي ، فلو اُصيب النظام الذي يحكم هذه العملية باختلال ولو بمقدار رأس الإبرة لأدّى إلى عسر أو إختلال الحمل أو عملية الولادة ، ثمّ إلى ضياع الجنين وهلاكه .
هذه المراحل الخمس من حياة الإنسان ، إحداها أعجب من الاُخرى وأكثر إثارة للدهشة . فأين الثرى من الثريّا . . أين ذلك التراب الميّت الجامد من الإنسان الحي العاقل الفطن المبتكر؟! وأين تلك النطفة الحقيرة التي تتكوّن من بضع قطرات من الماء المتعفّن من ذلك الإنسان الراشد الجميل والمجهّز بالحواس والأجهزة العضوية المختلفة (4) .
بعد هذه المرحلة ، تأتي مرحلة تقسيم النوع البشري إلى جنسين «المذكّر» و «المؤنّث» بالفروقات الكثيرة في الجسم والروح ، والاُمور الفسلجية التي تبدأ بالتحدّد منذ اللحظات الاُولى لإنعقاد النطفة ، وإتّخاذ مسيرها الخاص والتكامل في كلّ جنس باتّجاه الرسالة التي اُنيطت به .
ثمّ تظهر مسألة رسالة الاُمّ في قبول وتحمّل ذلك الحمل وحفظه وتغذيته وتربيته والتي حيّرت العلماء لقرون طويلة ، حتّى اعترفوا بأنّها من أعجب مسائل الوجود .
وآخر مرحلة في هذا المسير هي مرحلة الولادة ، وهي مرحلة تحوّل كامل تقترن بعجائب كثيرة .
فما هي العوامل التي تدفع الجنين إلى الخروج من بطن اُمّه ؟
كيف يتمّ التنسيق بين هذا الأمر وبين إعداد جسم الاُمّ لتحقّق ذلك الأمر ؟
كيف يتمكّن الجنين بعد تعوّده على وضع ما لمدّة تسعة أشهر ، أن يلبس وضعاً جديداً ويطبّق كلّ مفرداته الجديدة بلحظة واحدة ، ففي لحظة واحدة يقطع صلته باُمّه ، ويتنفّس الهواء الطلق! يتناول طعامه من فمه بدلا من الحبل السرّي! يخرج إلى محيط غارق في النور والإشراق بدلا من محيط بطن اُمّه المظلم ؟!
أليست هذه أعظم الدلائل على قدرة الله وعلمه اللا محدودين ؟
وهل أنّ هذه المادّة الجامدة الميتة وهذه الطبيعة غير الهادفة يمكنها أن تنظّم حلقة واحدة صغيرة من آلاف الحلقات في سلسلة الخلق بالإستفادة من المصادفات العمياء؟
فيا للأسف كيف يتعقّل الإنسان مثل هذا الإحتمال الموهوم فيما يخصّ خلقته ؟!
ثمّ . . تشير الآية إلى المرحلتين السادسة والسابعة من هذا البرنامج المذهل بانتقالها إلى حلقة اُخرى ، فتذكر مراحل العمر المختلفة والعوامل المؤثّرة في زيادته ونقصانه فتقول الآية الكريمة : {وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلاّ في كتاب} (5) ويخضع لقوانين ومناهج مدروسة يتحكّم فيها علم الله وقدرته المطلقة .
فما هي العوامل المؤثّرة في إدامة حياة الإنسان؟ وما هي العوامل التي تهدّد إدامتها ؟
وبإختصار ما هي العوامل التي يجب أن تتظافر مع بعضها حتّى يستطيع الإنسان أن يعمّر مائة سنة أو أكثر أو أقل؟ وأخيراً ما هي العوامل الموجبة لتفاوت أعمار الناس؟ كلّ ذلك له حسابات دقيقة ومعقّدة لا يعلمها إلاّ الله . وما نعلمه نحن اليوم حول هذه الموضوعات بالقياس إلى ما لا نعلمه يعتبر شيئاً تافهاً .
«معمّر» من مادّة «عُمْر» في الأصل من «العمارة» نقيض الخراب ، والعمر اسم لمدّة عمارة البدن بالحياة خلال مدّة معيّنة .
«معمر» أي الشخص الطويل العمر .
وأخيراً تختم الآية بهذه الجملة {إنّ ذلك على الله يسير} .
فخلق هذا الموجود العجيب من التراب ، وبدء خلق إنسان كامل من «ماء النطفة» وكذلك المسائل المرتبطة بتحديد الجنس ، ثمّ الزوجية ، والحمل ، والولادة ، وزيادة أو نقص العمر سواء بلحاظ القدرة أو بلحاظ العلم والحسابات كلّها بالنسبة إليه تعالى سهلة وبسيطة . وذلك بمجموعه يمثّل جانباً من «آيات الأنفس» التي تربطنا ببداية عالم الوجود والتعرّف عليه من جهة ، كما تعتبر أدلّة حيّة على مسألة إمكانية المعاد من جهة اُخرى .
فهل أنّ القادر على الخلق الأوّل من التراب والنطفة غير قادر على إعادة الحياة للناس مرّة اُخرى !؟
وهل أنّ العالم بكلّ دقائق وتفاصيل الاُمور المرتبطة بتلك القوانين ، يواجه مشكلة في حفظ أعمال العباد ليوم المعاد .
______________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج11 ، ص25-34 .
2 ـ ذكر المفسّرون وجوهاً مختلفة لتفسير ظاهرة التنويع في الأفعال والضمائر في الجملة ، فـ «أرسل» فعل ماض في حين «فتثير» فعل مضارع ، والضمير في الأوّل غائب بينما في «فسقناه» متكلّم ، وقد أشحنا عن ذكرها لما بدا من عدم دقّتها ، ويمكن أن يكون ذلك للتفنّن في البيان والتنويع في الحديث .
3 ـ تفسير القرطبي ، ج8 ، ص5409 ، الآية مورد الحديث .
4 ـ «نطفة» كما ذكرنا سابقاً ، في الأصل بمعنى «الماء» أو بالأخصّ «الماء القليل الصافي» ثمّ اُطلقت لهذا السبب على الماء القليل الذي هو مبدأ إنعقاد الجنين .
5 ـ المقصود من «الكتاب» هو العلم الإلهي اللامحدود ، وما ذكره البعض من أنّه «اللوح المحفوظ» أو «صفحة حياة الإنسان» يعود بالنتيجة إلى ذلك العلم الإلهي .
|
|
دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
|
|
|
|
|
اكتشاف أكبر مرجان في العالم قبالة سواحل جزر سليمان
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|