أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-11-2014
2890
التاريخ: 23-04-2015
2090
التاريخ: 3-12-2015
3772
التاريخ: 7-11-2014
4957
|
هنا سؤال وهو أنّه ما هي الرابطة بين المعجزة وبين حقيّة دعوى الرسالة مع أنّ العقل لا يرى تلازما بين صدق الرسول في دعوته إلى اللّه سبحانه وبين صدور أمر خارق للعادة عن الرسول على أنّ الظاهر من القرآن الشريف، تقرير ذلك فيما يحكيه من قصص عدّة من الأنبياء كهود وصالح وموسى وعيسى ومحمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فإنّهم على ما يقصه القرآن حينما بثوا دعوتهم سألوا عن آية تدلّ على حقيّة دعواهم فأجابوهم فيما سألوا وجاءوا بالآيات، وربّما أعطوا المعجزة في أوّل البعثة قبل أن يسألهم أممهم شيئا من ذلك كما قال تعالى في موسى عليه السّلام وهارون : { اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} [طه : 42]، وقال تعالى في عيسى عليه السّلام : {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران : 49]و كذا إعطاء القرآن معجزة للنبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وبالجملة فالعقل الصريح لا يرى تلازما بين حقيّة ما أتى به الأنبياء والرسل من معارف المبدأ والمعاد وبين صدور أمر يخرق العادة عنهم.
مضافا إلى أنّ قيام البراهين الساطعة على هذه الأصول الحقّة يغني العالم البصير بها عن النظر في أمر الإعجاز ولذا قيل إنّ المعجزات لإقناع نفوس العامّة لقصور عقولهم عن إدراك الحقائق العقليّة وأمّا الخاصّة فإنّهم في غنى عن ذلك.
والجواب عن هذا السؤال أنّ الأنبياء والرسل عليهم السّلام لم يأتوا بالآيات المعجزة لإثبات شيء من معارف المبدأ والمعاد ممّا يناله العقل كالتوحيد والبعث وأمثالهما وإنّما اكتفوا في ذلك بحجة العقل والمخاطبة من طريق النظر والاستدلال كقوله تعالى : {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [إبراهيم : 10]في الاحتجاج على التوحيد وقوله تعالى : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص : 27، 28] في الاحتجاج على البعث. وإنّما سئل الرسل المعجزة وأتوا بها لإثبات رسالتهم وتحقيق دعواها.
وذلك أنّهم ادعوا الرسالة من اللّه بالوحي وأنّه بتكليم إلهي أو نزول ملك ونحو ذلك وهنا شيء خارق للعادة في نفسه من غير سنخ الإدراكات الظاهرة والباطنة التي يعرفها عامّة النّاس ويجدونها من أنفسهم، بل إدراك مستور عن عامّة النفوس لو صح وجوده لكان تصرفا خاصّا مما وراء الطبيعة في نفوس الأنبياء فقط، مع أنّ الأنبياء كغيرهم من أفراد الناس في البشريّة وقواها، ولذلك صادفوا إنكارا شديدا من الناس ومقاومة عنيفة في ردّه على أحد وجهين :
فتارة حاول الناس إبطال دعواهم بالحجّة كقوله تعالى : {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } [إبراهيم : 10]استدلوا فيها على بطلان دعواهم الرسالة بأنّهم مثل سائر الناس والناس لا يجدون شيئا ممّا يدعونه من أنفسهم مع وجود المماثلة، ولو كان لكان في الجميع أو جاز للجميع ولهذا، وهنا أجاب الرسل عن حجتهم بما حكاه اللّه تعالى عنهم بقوله : {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } [إبراهيم : 11]، فردّوا عليهم بتسليم المماثلة وأنّ الرسالة من منن اللّه الخاصّة، والاختصاص ببعض النعم الخاصّة لا ينافي المماثلة، فللناس اختصاصات، نعم لو شاء اللّه أن يمن على من يشاء منهم فعل ذلك من غير مانع فالنبوة مختصّة بالبعض وإن جاز على الكل.
ونظير هذا الاحتجاج قولهم في النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم على ما حكاه اللّه تعالى :
{أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} [ص : 8], وقولهم كما حكاه اللّه : {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف : 31]
ونظير هذا الاحتجاج أو قريب منه ما في قوله تعالى : {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } [الفرقان : 7، 8] ووجه الاستدلال أنّ دعوى الرسالة توجب أن لا يكون بشرا مثلنا لكونه ذا أحوال من الوحي وغيره ليس فينا فلم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لاكتساب المعيشة ؟ بل يجب أن ينزل معه ملك يشاركه في الإنذار أو يلقى إليه كنز فلا يحتاج إلى المشي في الأسواق للكسب أو تكون له جنّة فيأكل منها لا ممّا نأكل منه من طعام، فردّ اللّه تعالى عليهم بقوله : {انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا } [الإسراء : 48]إلى أن قال : {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان : 20]، ورد تعالى في موضع آخر مطالبتهم مباشرة الملك للإنذار بقوله : {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام : 9].
وقريب من ذلك الاحتجاج أيضا ما في قوله تعالى : {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان : 21]، فأبطلوا بزعمهم دعوى الرسالة بالوحي بمطالبة أن يشهدوا نزول الملك أو رؤية الرب سبحانه لمكان المماثلة مع النبي، فردّ اللّه تعالى عليهم ذلك بقوله : {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا } [الفرقان : 22]، فذكر أنّهم والحال حالهم لا يرون الملائكة إلّا مع حال الموت كما ذكره في موضع آخر بقوله تعالى : { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ } [الحجر : 6 - 8]و تشتمل هذه الآيات الأخيرة على زيادة في وجه الاستدلال، وهو تسليم صدق النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في دعواه إلّا أنّه مجنون وما يحكيه ويخبر به أمر يسوّله له الجنون غير مطابق للواقع كما في موضع آخر من قوله : و{وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر : 9]
وبالجملة فأمثال هذه الآيات مسوقة لبيان إقامتهم الحجّة على إبطال دعوى النبوّة من طريق المماثلة.
وتارة أخرى أقاموا أنفسهم مقام الإنكار وسؤال الحجّة والبيّنة على صدق الدعوة لاشتمالها على ما تنكره النفوس ولا تعرفه العقول (على طريقة المنع مع السند باصطلاح فن المناظرة) وهذه البيّنة هي المعجزة بيان ذلك أنّ دعوى النبوّة والرسالة من كل نبي ورسول على ما يقصّه القرآن إنّما كانت بدعوى الوحي والتكليم الإلهي بلا واسطة أو بواسطة نزول الملك، وهذا أمر لا يساعد عليه الحسّ ولا تؤيده التجربة فيتوجّه عليه الإشكال من جهتين : إحداهما من جهة عدم الدليل عليه، والثانية من جهة الدليل على عدمه، فإنّ الوحي والتكليم الإلهي وما يتلوه من التشريع والتربية الدينية مما لا يشاهده البشر من أنفسهم والعادة الجارية في الأسباب والمسببات تنكره فهو أمر خارق للعادة وقانون العليّة العامّة لا يجوّزه، فلو كان النبي صادقا في دعواه النبوّة والوحي كان لازمه أنّه متّصل بما وراء الطبيعة، مؤيد بقوّة إلهيّة تقدر على خرق العادة وأنّ اللّه سبحانه يريد بنبوّته والوحي إليه خرق العادة فلو كان هذا حقّا ولا فرق بين خارق وخارق كان من الممكن أن يصدر من النبي خارق آخر للعادة من غير مانع وأن يخرق اللّه العادة بأمر آخر يصدّق النبوّة والوحي من غير مانع عنه فإنّ حكم الأمثال واحد فلئن أراد اللّه هداية الناس بطريق خارق للعادة وهو طريق النبوّة والوحي فليؤيّدها وليصدّقها بخارق آخر وهو المعجزة.
وهذا هو الذي بعث الأمم إلى سؤال المعجزة على صدق دعوى النبوة كلما جاءهم رسول من أنفسهم بعث بالفطرة والغريزة وكان سؤال المعجزة لتأييد الرسالة وتصديقها لا للدلالة على صدق المعارف الحقة التي كان الأنبياء يدعون إليها ممّا يمكن أن يناله البرهان كالتوحيد والمعاد ونظير هذا ما لو جاء رجل بالرسالة إلى قوم من قبل سيدهم الحاكم عليهم ومعه أوامر ونواه يدعيها للسيد فإنّ بيانه لهذه الأحكام وإقامته البرهان على أن هذه الأحكام مشتملة على مصلحة القوم وهم يعلمون أن سيدهم لا يريد إلّا صلاح شأنهم، إنّما يكفي في كون الأحكام التي جاء بها حقة صالحة للعمل، ولا تكفي البراهين والأدلّة المذكورة في صدق رسالته وأن سيدهم أراد منهم بإرساله إليهم ما جاء به من الأحكام بل يطالبونه ببيّنة أو علامة تدلّ على صدقه في دعواه ككتاب بخطه وخاتمه يقرءونه أو علامة يعرفونها، كما قال المشركون للنبي {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} [الإسراء : 93]
فقد تبيّن بما ذكرناه أولا : التلازم بين صدق دعوى الرسالة وبين المعجزة وأنّها الدليل على صدق دعواها لا يتفاوت في ذلك حال الخاصّة والعامّة في دلالتها وإثباتها وثانيا أن ما يجده الرسول والنبي من الوحي ويدركه منه من غير سنخ ما نجده بحواسنا وعقولنا النظرية الفكرية فالوحي غير الفكر الصائب، وهذا المعنى في كتاب اللّه تعالى من الوضوح والسطوع بحيث لا يرتاب فيه من له أدنى فهم وأقل إنصاف.
وقد انحرف في ذلك جمع من الباحثين من أهل العصر فراموا بناء المعارف الإلهيّة والحقائق الدينية على ما وضعته العلوم الطبيعية من أصالة المادّة المتحوّلة المتكاملة فقد رأوا أن الإدراكات الإنسانيّة خواص ماديّة مترشحة من الدماغ وأن الغايات الوجودية وجميع الكمالات الحقيقية استكمالات فردية أو اجتماعية مادية.
فذكروا أن النبوّة نوع نبوغ فكري وصفاء ذهني يستحضر به الإنسان المسمى نبيا كمال قومه الاجتماعي ويريد به أن يخلصهم من ورطة الوحشية والبربرية إلى ساحة الحضارة والمدنية فيستحضر ما ورثه من العقائد والآراء ويطبقها على مقتضيات عصره ومحيط حياته فيقنن لهم أصولا اجتماعية وكليات عملية يستصلح بها أفعالهم الحيوية ثمّ يتمم ذلك بأحكام وأمور عبادية ليستحفظ بها خواصهم الروحية لافتقار الجامعة الصالحة والمدنية الفاصلة إلى ذلك ويتفرع على هذا الافتراض :
أولا : أن النبي إنسان متفكر نابغ يدعو قومه إلى صلاح محيطهم الاجتماعي.
ثانيا : أن الوحي هو انتقاش الأفكار الفاضلة في ذهنه.
ثالثا : أن الكتاب السماوي مجموع هذه الأفكار الفاضلة المنزهة عن التهوسات النفسانية والأغراض النفسانية الشخصية.
ورابعا : أن الملائكة التي أخبر بها النبي قوى طبيعية تدبّر أمور الطبيعة أو قوى نفسانية تفيض كمالات النفوس عليها، وأن روح القدس مرتبة من الروح الطبيعية المادية تترشح منها هذه الأفكار المقدسة، وأن الشيطان مرتبة من الروح تترشح منها الأفكار الردية وتدعو إلى الأعمال الخبيثة المفسدة للاجتماع، وعلى هذا الأسلوب فسروا الحقائق التي أخبر بها الأنبياء كاللوح والقلم والعرش والكرسي والكتاب والحساب والجنة والنار بما يلائم الأصول المذكورة.
و خامسا : أن الأديان تابعة لمقتضيات أعصارها تتحوّل بتحولها.
و سادسا : أن المعجزات المنقولة عن الأنبياء المنسوبة إليهم خرافات مجعولة أو حوادث محرّفة لنفع الدين وحفظ عقائد العامة عن التبدل بتحول الأعصار أو لحفظ مواقع أئمة الدين ورؤساء المذهب عن السقوط والاضمحلال إلى غير ذلك مما أبدعه قوم وتبعهم آخرون.
هذه جمل ما ذكروه والنبوة بهذا المعنى لأن تسمى لعبة سياسية أولى بها من أن تسمى نبوّة إلهية، والكلام التفصيلي في أطراف ما ذكروه خارج عن البحث المقصود في هذا المقام.
والذي يمكن أن يقال فيه هاهنا أن الكتب السماوية والبيانات النبوية المأثورة على ما بأيدينا لا توافق هذا التفسير ولا تناسبه أدنى مناسبة، وإنما دعاهم إلى هذا النوع من التفسير إخلادهم إلى الأرض وركونهم إلى مباحث المادة فاستلزموا إنكار ما وراء الطبيعة وتفسير الحقائق المتعالية عن المادة بما يسلخها عن شأنها ويعيدها إلى المادة الجامدة.
وما ذكره هؤلاء هو في الحقيقة تطور جديد فيما كان يذكره آخرون فقد كانوا يفسرون جميع الحقائق المأثورة في الدين بالمادة غير أنهم كانوا يثبتون لها وجودات غائبة عن الحسّ كالعرش والكرسي واللوح والقلم والملائكة ونحوها من غير مساعدة الحسّ والتجربة على شيء من ذلك ثمّ لما اتسع نطاق العلوم الطبيعية وجرى البحث على أساس الحس والتجربة لزم الباحثين على ذلك الأسلوب أن ينكروا لهذه الحقائق وجوداتها المادية الخارجة عن الحسّ أو البعيدة عنه وأن يفسروها بما يعيدها إلى الوجود المادي المحسوس ليوافق الدين ما قطع به العلم ويستحفظ بذلك عن السقوط.
فهاتان الطائفتان بين باغ وعاد، أما القدماء من المتكلمين فقد فهموا من البيانات الدينية مقاصدها حق الفهم من غير مجاز غير أنهم رأوا أن مصاديقها جميعا أمور مادية محضة لكنها غائبة عن الحس غير محكومة بحكم المادة أصلا والواقع خلافه، وأما المتأخرون من باحثي هذا العصر ففسروا البيانات الدينية بما أخرجوها به عن مقاصدها البيّنة الواضحة، وطبقوها على حقائق مادية ينالها الحس وتصدقها التجربة مع أنها ليست بمقصودة ولا البيانات اللفظية تنطبق على شيء منها. والبحث الصحيح يوجب أن تفسر هذه البيانات اللفظية على ما يعطيها اللفظ في العرف واللغة ثمّ يعتمد في أمر المصداق على ما يفسر به بعض الكلام بعضا ثمّ ينظر هل الأنظار العلمية تنافيها أو تبطلها؟ فلو ثبت فيها في خلال ذلك شيء خارج عن المادة وحكمها فإنما الطريق إليه إثباتا أو نفيا طور آخر من البحث غير البحث الطبيعي الذي تتكفله العلوم الطبيعية، فما للعلم الباحث عن الطبيعة وللأمر الخارج عنها؟ فإن العلم الباحث عن المادة وخواصها ليس من وظيفته أن يتعرض لغير المادة وخواصها لا إثباتا ولا نفيا.
ولو فعل شيئا منه باحث من بحّاثه كان ذلك منه شططا من القول، نظير ما لو أراد الباحث في علم اللغة أن يستظهر من علمه حكم الفلك نفيا أو إثباتا ... «1».
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|