أقرأ أيضاً
التاريخ: 3-8-2020
15621
التاريخ: 1-8-2020
4860
التاريخ: 30-7-2020
3327
التاريخ: 28-7-2020
3123
|
قال تعالى: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُو الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } [الحجر: 73 - 87]
أخبر سبحانه عن كيفية عذاب قوم لوط فقال:{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ } أي: أخذهم الصوت الهائل في حال شروق الشمس{فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} مضى تفسيره في سورة هود { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } معناه: إن فيما سبق ذكره من إهلاك قوم لوط لدلالات للمتفكرين المعتبرين عن قتادة وابن زيد وقيل: للمتفرسين عن مجاهد وقد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وقال: ((إن لله عبادا يعرفون الناس )) بالتوسم ثم قرأ هذه الآية.
وروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: (( نحن المتوسمون والسبيل فينا مقيم والسبيل طريق الجنة)) ذكره علي بن إبراهيم في تفسيره { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} معناه: إن مدينة لوط لبطريق مسلوك يسلكها الناس في حوائجهم فينظرون إلى آثارها ويعتبرون بها لأن الآثار التي يستدل بها مقيمة ثابتة بها وهي مدينة سدوم وقال قتادة: إن قرى قوم لوط بين المدينة والشام{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} أي: عبرة ودلالة{ للمؤمنين } وخص المؤمنين لأنهم هم الذين انتفعوا بها{ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} وأصحاب الأيكة هم أهل الشجر الذين أرسل إليهم شعيب (عليه السلام) وأرسل إلى أهل مدين فأهلكوا بالصيحة وأما أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة التي احترقوا بنارها عن قتادة وجماعة من المفسرين ومعنى الآية أنه كان أصحاب الأيكة لظالمين في تكذيب رسولهم وكانوا أصحاب غياض فعاقبهم الله تعالى بالحر سبعة أيام ثم أنشأ سبحانه سحابة فاستظلوا بها يلتمسون الروح فيها فلما اجتمعوا تحتها أرسل منها صاعقة فأحرقتهم جميعا.
{ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } أي: من قوم شعيب ومن قوم لوط أي عذبناهم بما انتقمناه منهم والانتقام هو المجازاة على جناية سابقة وفرق علي بن عيسى بين الانتقام والعقاب بأن الانتقام هو نقيض الإنعام والعقاب هو نقيض الثواب{ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} معناه: وإن مدينتي قوم لوط وأصحاب الأيكة بطريق يؤم ويتبع ويهتدي به عن ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة وسمي الطريق إماما لأن الإنسان يؤمه وقيل معناه: وإن حديث مدينتيهما لمكتوب مذكور في اللوح المحفوظ أوحديث لوط وحديث شعيب عن الجبائي فيكون نظير قوله{ وكل شيء أحصيناه في إمام مبين } والمبين الظاهر.
ثم أخبر سبحانه عن إهلاك قوم صالح فقال{ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} والحجر: اسم البلد الذي كان فيه ثمود وإنما سموا أصحاب الحجر لأنهم كانوا سكانه كما يسمى الأعراب الذين يسكنون البوادي أصحاب الصحاري لأنهم كانوا يسكنونها وقيل: إن الحجر اسم لواد كان يسكنها هؤلاء عن قتادة وإنما قال تعالى{ المرسلين } لأن في تكذيب صالح تكذيب المرسلين لأنه كان يدعوهم إلى ما دعا إليه المرسلون وإلى الإيمان بالمرسلين فكان في تكذيب أحدهم تكذيب الجميع وقيل: بعث الله إليهم رسلا منهم صالح عن الجبائي{ وآتيناهم آياتنا } أي: آتينا أصحاب الحجر الحجج والمعجزات والدلالات الدالة على صدق الأنبياء وقيل: آتينا الرسل الآيات عن الحسن{ فكانوا عنها } أي: عن الآيات{ معرضين } أعرضوا عن التفكر فيها والاستدلال بها{ وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} أي: وكان قوم صالح في القوة بحيث ينحتون من الجبال بيوتا يسكنونها وكانوا آمنين من خرابها وسقوطها عليهم وقيل: كانوا آمنين من عذاب الله وقيل: آمنين من الموت لطول أعمارهم{ فأخذتهم الصيحة مصبحين } أي: فأهلكوا بالصيحة في وقت دخولهم في الصباح{ فما أغنى عنهم } أي: فما دفع عنهم العذاب ولم يغنهم{ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي: يجمعون من المال والأولاد وأنواع الملاذ .
{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} معناه وما خلقناهما عبثا بل لما اقتضته الحكمة وهي أنا قد تعبدنا أهلها ثم نجازيهم بما عملوا{ وإن الساعة } وهي يوم القيامة{ لآتية } أي: جائية بلا شك بعذابهم وقيل: بمجازاة الخلائق كلهم وقيل: هو تفسير قوله{ إلا بالحق }{ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} أي: فأعرض يا محمد عن مجازاة المشركين وعن مجاوبتهم وأعف عنهم عفوا جميلا واختلف في الآية فقيل إنها منسوخة بآية القتال عن ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك وقيل: لا نسخ فيه بل هو فيما بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وبينهم لا فيما أمر به من جهة جهادهم . أمره بالصفح عنهم في موضع الصفح لقوله{ فأعرض عنهم وعظهم } عن الحسن قال القاضي والصفح ممدوح في سائر الحالات وهو كالحلم والتواضع وقد يلزمنا الصفح الجميل مع لزوم التشدد في أمر الجهاد وحكي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) إن الصفح الجميل هو العفو من غير عتاب وقيل هو العفو بغير تعنيف وتوبيخ{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ} للأشياء{ العليم } بتدبير خلقه فلا يخفى عليه ما يجري بينكم ويجوز أن يريد إن ربك هو الذي خلقكم وعلم ما هوالأصلح لكم وقد علم إن الصفح أصلح الآن إلى أن يؤمر بالسيف.
_____________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج6،ص126-129.
{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ } . ضمير ( هم ) يعود إلى قوم لوط ، والمعنى ان العذاب نزل بهم في وقت شروق الشمس { فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } . ضمير عاليها وسافلها يعود إلى مدينة لوط ، وتقدمت هذه الآية بالحرف الواحد مع التفسير في سورة هود الآية 82 .
{ إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } المراد بالمتوسمين هنا العقلاء الذين يعتبرون وينتفعون بالعظات { وإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ } ضمير انها يعود إلى مدينة أو قرى لوط التي جعل اللَّه عاليها سافلها . والسبيل الطريق ، والمقيم الموجود الثابت ، والمعنى ان آثار مدينة لوط التي أهلكها اللَّه ما زالت قائمة إلى عهد محمد ( صلى الله عليه واله وسلم ) والطريق إليها موجود ومسلوك يمر عليه الرائح والغادي ، ويشاهد الدمار والآثار . . قال المفسرون :
كانت تعرف هذه المدينة باسم سدوم { إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } . أي ان المؤمنين باللَّه واليوم الآخر يعتقدون بأن ما حل بقوم لوط من العذاب كان جزاء على كفرهم وضلالهم ، أما الملحدون فيقولون : هي حوادث كونية ، وأسباب طبيعية .
{ وإِنْ كانَ أَصْحابُ الأَيْكَةِ لَظالِمِينَ } . الأيكة الشجر الملتف الكثيف ، والمراد بأصحابها قوم شعيب . . بعد أن ذكر سبحانه هلاك قوم لوط أشار إلى قوم شعيب وانه تعالى أهلكهم لكفرهم وتمردهم على الحق ، وسبق الكلام عن شعيب وقومه عند تفسير الآية 85 من سورة الأعراف ج 3 ص 355 ، ويأتي أيضا في سورة الشعراء { فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ } . ضمير منهم يعود إلى أصحاب الأيكة ، وهم قوم شعيب ، وضمير انهما يعود إلى مدينة لوط وأصحاب الأيكة ، والمراد بالإمام هنا الطريق ، والمعنى ان الدلائل والآثار على هلاك مدينة لوط وبلد شعيب ما زالت قائمة ، والطريق إليها واضح يسلكه كل من أراد أن يشاهد آثار الهلاك والعذاب .
{ ولَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ } . أصحاب الحجر هم ثمود ، ونبيهم صالح صاحب الناقة ، والحجر اسم المكان الذي كانوا فيه ، وهم لم يكذبوا إلا رسولا واحدا هو صالح ، وانما قال سبحانه كذبوا المرسلين بصيغة الجمع لأن من كذب رسولا واحدا للَّه فقد كذّب جميع الرسل { وآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ } مع أنها كافية وافية في الدلالة على الحق ، ولكنها لا تتفق مع أهوائهم وتقاليدهم الفاسدة { وكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ } . وكانت السكنى في بيت حجر مع الأمان من الغزو دليلا على الحضارة في ذاك العصر . .
ومن جملة الآيات التي آتاهم اللَّه على يد الرسل الناقة فعقروها وقالوا : يا صالح ائتنا بما تعدنا ان كنت من المرسلين { فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ } أي وقع عليهم العذاب وقت الصبح { فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ } وقع عليهم العذاب ،
ولم يجدهم ما جمعوا من ثروات ، وما نحتوا وبنوا من دور وقصور . وسبق الكلام عن صالح وقومه عند تفسير الآية 73 من سورة الأعراف ج 3 ص 350 .
{ وما خَلَقْنَا السَّماواتِ والأَرْضَ وما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ } . ما من شيء في الكون إلا وجد لحكمة ومنه هلاك الكافرين من الأمم الماضية . وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : « وما خَلَقْنَا السَّماءَ والأَرْضَ وما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا - 27 ص » { وإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ } المراد بالساعة القيامة ، وفيها يجازي اللَّه كلا بما يستحق { فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } . الخطاب من اللَّه لمحمد يأمره فيه بالاعراض عن المشركين والجاهلين ، وان لا يشغل نفسه بهم ، وفي معنى الآية قوله تعالى :
« واصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ واهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا - 10 المزمل » .
______________
1- التفسير الكاشف، ج 4، محمد جواد مغنية، ص 486-488.
والمعنى أقسم بحياتك وبقائك يا محمد إنهم لفي سكرتهم وهي غفلتهم بانغمارهم في الفحشاء والمنكر يترددون متحيرين{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ } وهي الصوت الهائل{مشرقين} أي حال كونهم داخلين في إشراق الصبح فجعلنا عالي بلادهم سافلها وفوقها تحتها وأمطرنا وأنزلنا من السماء عليهم حجارة من سجيل.
قوله تعالى:{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ- إلى قوله - للمؤمنين} الآية العلامة والمراد بالآيات أولا العلامات الدالة على وقوع الحادثة من بقايا الآثار وبالآية ثانيا العلامة الدالة للمؤمنين على حقية الإنذار والدعوة الإلهية والتوسم التفرس والانتقال من سيماء الأشياء على حقيقة حالها.
والمعنى: أن في ذلك أي فيما جرى من الأمر على قوم لوط وفي بلادهم لعلامات من بقايا الآثار للمتفرسين وإن تلك العلامات لبسبيل للعابرين مقيم لم تعف ولم تنمح بالكلية بعد، إن في ذلك لآية للمؤمنين تدل على حقية الإنذار والدعوة وقد تبين بذلك وجه إيراد الآيات جمعا ومفردا في الموضعين.
قوله تعالى:{ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ - إلى - فانتقمنا منهم وإنهما لبإمام مبين} الأيكة واحدة الأيك وهو الشجر الملتف بعضه ببعض فقد كانوا - كما قيل - في غيضة أي بقعة كثيفة الأشجار.
وهؤلاء - كما ذكروا - هم قوم شعيب (عليه السلام) أوطائفة من قومه كانوا يسكنون الغيضة، ويؤيده قوله تعالى ذيلا:{ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} أي مكانا قوم لوط وأصحاب الأيكة لفي طريق واضح فإن الذي على طريق المدينة إلى الشام هي بلاد قوم لوط وقوم شعيب الخربة أهلكهم الله بكفرهم وتكذيبهم لدعوة شعيب (عليه السلام) وقد تقدمت قصتهم في سورة هود وقوله:{فانتقمنا منهم} الضمير لأصحاب الأيكة وقيل: لهم ولقوم لوط. ومعنى الآيتين ظاهر.
قوله تعالى:{ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ- إلى قوله - ما كانوا يكسبون} أصحاب الحجر هم ثمود قوم صالح والحجر اسم بلدة كانوا يسكنونها وعدهم مكذبين لجميع المرسلين وهم إنما كذبوا صالحا المرسل إليهم إنما هولكون دعوة الرسل دعوة واحدة والمكذب لواحد منهم مكذب للجميع.
وقوله:{ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} إن كان المراد بالآيات المعجزات والخوارق - كما هوالظاهر - فالمراد بها الناقة وشربها وما ظهر لهم بعد عقرها إلى أن أهلكوا، وقد تقدمت القصة في سورة هود، وإن كان المراد بها المعارف الإلهية التي بلغها صالح (عليه السلام) ونشرها فيهم أوالمجموع من المعارف الحقة والآية المعجزة فالأمر واضح.
وقوله:{ وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} أي كانوا يسكنون الغيران والكهوف المنحوتة من الحجارة آمنين من الحوادث الأرضية والسماوية بزعمهم.
وقوله:{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ} أي صيحة العذاب التي كان فيها هلاكهم، وقد تقدمت الإشارة إلى مناسبة اجتماع الأمن مع الصيحة في الآيتين لقوله في صدر الآيات:{وأن عذابي هو العذاب الأليم}.
وقوله:{ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي من الأعمال لتأمين سعادتهم في الحياة.
في الآيات تخلص إلى غرض البيان السابق وهو أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصدع بما يؤمر ويأخذ بالصفح والإعراض عن المشركين ولا يحزن عليهم ولا يضيق صدره بما يقولون فإن من القضاء الحق أن يجازي الناس بأعمالهم في الدنيا والآخرة وخاصة يوم القيامة الذي لا ريب فيه وهواليوم الذي لا يغادر أحدا ولا يدع مثقال ذرة من الخير والشر إلا ألحقه بعامله فلا ينبغي أن يؤسف لكفر كافر فإن الله عليم به سيجازيه، ولا يحزن عليه فإن الاشتغال بالله سبحانه أهم وأوجب.
ولقد كرر سبحانه أمره بالصفح والإعراض عن أولئك المستهزءين به - وهم الذين مر ذكرهم في مفتتح السورة - والاشتغال بتسبيحه وتحميده وعبادته، وأخبره أنه كفاه شرهم فليشتغل بما أمره الله به، وبذلك تختتم السورة.
قوله تعالى:{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} الباء في قوله:{بالحق} للمصاحبة أي إن خلقها جميعا لا ينفك عن الحق ويلازمه فللخلق غاية سيرجع إليها قال تعالى:{إن إلى ربك الرجعى}: العلق: 8، ولولا ذلك لكان لعبا باطلا قال تعالى:{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ }: الدخان: 39، وقال:{وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا}: ص: 27، ومن الدليل على كون المراد بالحق ما يقابل اللعب الباطل تذييل الكلام بقوله:{وإن الساعة لآتية} وهو ظاهر.
وبذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن المراد بالحق العدل والإنصاف والباء للسببية والمعنى ما خلقنا ذلك إلا بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء بالأعمال.
وذلك أن كون الحق في الآية بمعنى العدل والإنصاف لا شاهد عليه من اللفظ على أن الذي ذكره من المعنى إنما يلائم كون الباء بمعنى لام الغرض أوللمصاحبة دون السببية.
وكذا ما ذكره بعضهم أن الحق بمعنى الحكمة وأن الجملة الأولى{وما خلقنا} إلخ، ناظرة إلى العذاب الدنيوي والثانية{وإن الساعة لآتية} إلى العذاب الأخروي والمعنى وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا متلبسا بالحق والحكمة بحيث لا يلائم استمرار الفساد واستقرار الشرور، وقد اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء دفعا لفسادهم وإرشادا لمن بقي إلى الصلاح، وإن الساعة لآتية فينتقم أيضا فيها من أمثال هؤلاء.
وفي الآية مشاجرة بين أصحاب الجبر والتفويض كل من الفريقين يجر نارها إلى قرصته فاستدل بها أصحاب الجبر على أن أفعال العباد مخلوقة لله لأن أعمالهم من جملة ما بينهما فهي مخلوقة له.
واستدل بها أصحاب التفويض على أن أفعال العباد ليست مخلوقة له بل لأنفسهم فإن المعاصي وقبائح الأعمال من الباطل فلوكانت مخلوقة له لكانت مخلوقة بالحق والباطل لا يكون مخلوقا بالحق.
والحق أن الحجتين جميعا من الباطل فإن جهات القبح والمعصية في الأفعال حيثيات عدمية إذ الطاعة والمعصية كالنكاح والزنا وأكل المال من حله وبالباطل وأمثال ذلك مشتركة في أصل الفعل وإنما تختلف طاعة ومعصية بموافقة الأمر ومخالفته والمخالفة جهة عدمية، وإذا كان كذلك فاستناد الفعل إلى الخلقة من جهة الوجود لا يستلزم استناد القبيح أوالمعصية إليها فإن ذلك من جهاته العدمية فليس الفعل بجهته العدمية مما بين السماوات والأرض حتى تشمله الآية، ولا بجهته الوجودية من الباطل حتى يكون خلقه خلقا للباطل بالحق.
على أن الضرورة قائمة على حكومة نظام العلل والمعلولات في الوجود وأن قيام وجود شيء بشيء بحيث لا يستقل دونه هو ملاك الاتصاف فالمتصف بالطاعة والمعصية وحسن الفعل وقبيحه هو الإنسان دون الذي خلقه ويسر له أن يفعل كذا وكذا كما أن المتصف بالسواد والبياض الجسم الذي يقوم به هذان اللونان دون الذي أوجده.
وقد استوفينا الكلام في هذا البحث في تفسير قوله:{وما يضل به إلا الفاسقين}: البقرة: 26، الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى:{ فاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ } قال في المفردات: صفح الشيء عرضه وجانبه كصفحة الوجه وصفحة السيف وصفحة الحجر والصفح ترك التثريب وهو أبلغ من العفوولذلك قال:{فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره} وقد يعفوا الإنسان ولا يصفح قال تعالى:{فاصفح عنهم وقل سلام}{ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ }{ أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا }.
وصفحت عنه أوليته صفحة جميلة معرضا عن ذنبه أولقيت صفحته متجافيا عنه أوتجاوزت الصفحة التي أثبت فيها ذنبه من الكتاب إلى غيرها من قولك تصفحت الكتاب، وقوله:{ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } فأمر له (عليه السلام) أن يخفف كفر من كفر كما قال:{ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ } والمصافحة الإفضاء بصفحة اليد. انتهى.
وسيأتي ما في الرواية من تفسير علي (عليه السلام) الصفح بالعفومن غير عتاب.
وقوله:{ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } تفريع على سابقه أي إذا كانت الخلقة بالحق وهناك يوم فيه يحاسبون ويجازون لا ريب فيه فلا تشغل نفسك بما ترى منهم من التكذيب والاستهزاء واعف عنهم من غير أن تقع فيهم بعتاب أومناقشة وجدال فإن ربك الذي خلقك وخلقهم هوعليم بحالك وحالهم ووراءهم يوم لا يفوتونه.
ومن هنا يظهر أن قوله:{إن ربك هوالخلاق العليم} تعليل لقوله:{فاصفح الصفح الجميل}.
وهذه الآيات الحافة لقوله:{فاصدع بما تؤمر} تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتطييب لنفسه ليأخذ قوله:{فاصدع بما تؤمر} موقعه فقد عرفت في أول السورة أن الغرض الأصيل منها هوالأمر بإعلان الدعوة وعرفت أيضا بالتدبر في الآيات السابقة أنها مسرودة ليتخلص بها إلى تسليته (صلى الله عليه وآله وسلم) عما لقي من قومه من الإيذاء والإهانة والاستهزاء ويتخلص من ذلك إلى الأمر المطلوب.
_______________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج12،ص151-155.
وبعد ذلك يبلغ كلام اللّه تعالى عن هؤلاء القوم الذروة حينما يبيّن عاقبتهم السيئة في آيتين قصيرتين وبشكل حدّي مليء بالدروس والعبر بقوله:{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ } أىْ صوت شديد عند شروق الشمس.
ويمكن حمل «الصيحة» على أنّها صاعقة عظيمة أو صوت زلزلة رهيب، والمهم أنّه كان صوتاً مرعباً أسقط الجميع مغمياً عليهم أو ميتين.
والمعلوم أنّ الأمواج الصوتية إِذا ما تعدت حدّاً معيناً فستكون مرعبة مخيفة تهز فرائض الإِنسان، وإِذا ما ازدادت شدتها فستبهت الإِنسان وتشلّه عن الحركة وربّما تودي بحياته، بل ومن الممكن لها أن تهدم الأبنية، وهذا ما تفعله المتفجرات.
ولم يكتف بذلك بل شمل العذاب المدينة أيضاً{ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا }.
وزيد في التنكيل بهم{ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ }.
إِنّ سقوط الحجارة على رؤوسهم ربّما كان يستهدف مَنْ لم يمت من الصيحة المرعبة ولم يصبح تحت الأنقاض، وربّما لأجل محو أجسادهم وجثثهم من على الأرض كي لا يبقى أثر لهؤلاء القوم المجرمين، حتى أنّ المار على تلك الديار بعد نزول الأحجار لا يصدق بسهولة أنّها كانت مدينة معمورة!
ثمّ إِنّ نزول هذا العذاب ذو المراحل الثلاث (الصيحة الرهيبه، قلب المدينة، المطر الحجري) ـ رغم أن كل واحدة منهن كانت تكفي لقطع دابر القوم ـ كان لمضاعفة عذابهم لشدّة فسادهم وجسارتهم وإِصرارهم على إِدامة التلوّث بتلك القبائح الشنيعة، وكي يكون عبرة لمن يعتبر.
وهنا يخلص القرآن الكريم إِلى النتائج الأخلاقية والتربية فيقول:{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ}(2) العقلاء الذين يفهمون الأحداث بفراستهم وذكائهم ونظرهم الثاقب ويحملون من كل إِشارة حقيقة ومن كل تنبيه درساً.
ولا تتصوروا أن آثارهم ذهبت تماماً، بل هي باقية على طريق القوافل والمارة{ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ }.
وإِن لم تصدقوا فاذهبوا لرؤية آثار المدن المعذبة الواقعة على طريق المسافرين إِلى الشام (من المدينة) فانظروا وفكروا واعتبروا، وعودوا إِلى اللّه، واسلكوا طريق التوبة، وطهّروا نفوسكم من الآثام والذنوب.
ثمّ تدعو الآية المؤمنين إِلى التفكر ملياً في هذه القصة واستخلاص العبر منها:{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}.
فكيف يمكن للمؤمن أن لا يعتبر ولا يهتز عندما يطالع خبر هذه الواقعة؟!
بحثنا بشيء من التفصيل في الآيات المتعلقة بقوم لوط في سورة هود من هذا التفسير، فبحثنا في معنى «سجيل»، ولماذا أُمطر على هؤلاء القوم المنحرفين بالحجارة، ولماذا قلبت مدينتهم، ولماذا كان العذاب صباحاً، ولماذا أُمر لوط وأهله أنْ لا يلتفتوا إِلى الوراء، وكذلك بحثنا مسألة تحريم الشذوذ الجنسي في الأديان السماوية وفلسفة التحريم، بالإِضافة إِلى بحث في أخلاق قوم لوط... وسنبحث هنا بعض ما تبقى من الإِشارات المتعلقة بهذه القصّة.
خاتمة أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر:
يشير القرآن الكريم في هذه الآيات إلى قصّتين من قصص الأُمم السالفة، وهما (أصحاب الأيكة) و (أصحاب الحجر) ليكمل البحث الذي عرضه في الآيات السابقة حول قوم لوط.
يقول أوّلاً:{ وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ }(3).
{فانتقمنا منهم} وعاقبناهم على ظلمهم واستبدادهم..
وجعلنا أرضهم وأرض قوم لوط ـ المتقدمة قصّتهم ـ على طريقكم{ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ } فانظروا إِليها وإِلى عاقبة أمرهم، واعتبروا يا أُولي الألباب.
مَنْ هم أصحاب الأيكة؟
قال جمع من المفسّرين، بالإِضافة إِلى أرباب اللغة: «الأيكة»: هي الأشجار المتشابكة مع بعضها، و«أصحاب الأيكة»: هم قوم «شعيب» الذين عاشوا في بلدة مليئة بالماء والأشجار بين الحجاز والشام وكانت حياتهم مرفهة ثرية فأُصيبوا بالغرور والغفلة، فأدى ذلك إلى الإحتكار والفساد في الأرض.
وقد دعاهم شعيب(عليه السلام) إِلى التوحيد ونهج طريق الحق، مع تحذيره المكرر لهم من عاقبة أعمالهم السيئة فيما لو استمروا على الحال التي هم عليها.
ومن خلال ما بيّنته الآيات في سورة هود، فإنّهم لم ينصاعوا للحق ولم ينصتوا لداعيه حتى جاءهم عذاب اللّه المهلك.
فبعد أن يئس من إِصلاحهم أصابهم حرٌّ شديد استمر لعدّة أيّام متصلة، وفي اليوم الأخير ظهرت سحابة في السماء اجتمعوا في ظلها، ليتفيؤوا من حر ذلك اليوم، فنزلت عليهم صاعقة مهلكة فقطعت دابرهم عن آخرهم.
ولعل استعمال القرآن لعبارة «أصحاب الأيكة» في تسميتهم، إِشارة إِلى النعم التي أعطاها اللّه لهم، ولكنّهم استبدلوا الشكر بالكفر، فأقاموا صرح الظلم والإِستبداد، فحقّت عليهم كلمة اللّه فأهلكوا بالصاعقة هم وأشجارهم.
وورد ذكرهم مفصلا ـ مع التصريح باسم شعيب ـ في الآيات (176) حتى (190) من سورة الشعراء.
وينبغي الإِلتفات إلى أنّ عبارة{فانتقمنا منهم} يمكن أن تشمل قوم لوط وأصحاب الأيكة معاً، بدليل ما يأتي بعدها مباشرة{وإِنّهما لبإِمام مبين}.
والمشهور عند المفسّرين أنّ الآية تشير إِلى مدينة قوم لوط ومدينة أصحاب الأيكة.
وكلمة «إِمام» بمعنى طريق وجادة، لأنّها من مادة. «أمَّ»، بمعنى القصد، حيث أنّ الإِنسان حينما يسير في طريق ما إِنّما يسير لأجل الوصول إِلى غاية معينة أو قصد معين.
واحتمل البعض أنّ الإِمام المبين هو اللوح المحفوظ، بدلالة الآية (12) من سورة يس.
ولكن هذا الإحتمال مستبعد، لأنّ القرآن هنا في صدد إِعطاء درس العبرة للإِعتبار، ووجود اسم هذين البلدين في اللوح المحفوظ سيكون بعيداً عن التأثير في اعتبار الناس وتذكيرهم، في حين أن وجود هذين البلدين على طريق القوافل والمارة يمكن أن يكون له الأثر البالغ فيهم.
فعند وقوف الناس قرب تلك الآثار وتذكر خبر أهلها وما جرى لهم من سوء العاقبة، ربّما سيهمل دموع العابرين عند أرض قوم لوط مرّة، وعند أرض أصحاب الأيكة مرّة أُخرى.. فتكون تلك اللحظات لحظات اعتبار، بعدما عرفوا أو استذكروا ما حل بالقومين من دمار وهلاك نتيجة ظلمهم وضلالهم.
أمّا «أصحاب الحجر» فهم قومٌ عُصاة عاشوا مرفهين في بلدة تدعى «الحجر» وقد بعث اللّه إِليهم نبيّه صالح(عليه السلام) لهدايتهم.
ويقول القرآن عنهم:{ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ }!
ولكنْ أين تقع هذه البلدة؟
يذكر بعض المفسّرين والمؤرخين: أنّها كانت على طريق القوافل بين المدينة والشام في منزل يسمى (وادي القرى) في جنوب (تيماء) ولا أثر لها اليوم ـ تقريباً.
ويذكرون أنّها كانت إِحدى المدن التجارية في الجزيرة العربية، ولها من الأهمية بحيث ذكرها (بطليموس) في مذكراته لكونها إِحدى المدن التجارية.
وكذلك ذكرها العالم الجغرافي (بلين) باسم (حجرى).
ونستشف من بعض الرّوايات أنّ الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما قاد جيشاً لدفع جيش الروم في السنة التاسعة للهجرة، أراد الجنود أن يتوقفوا في هذا المكان، فمنعهم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: هنا نزل عذاب اللّه على قوم ثمود(4).
ومن الجدير ذكره أنّ القرآن الكريم ذكر مسألة تكذيب الأنبياء في خبر أصحاب الحجر (وكذلك قوم نوح وقوم شعيب وقوم لوط في الآيات (105 و 123 و 160) من سورة الشعراء) بالإِضافة إلى أقوام أُخر كذبت الأنبياء(عليهم السلام)، والواضح من خلال ظاهر القصص أن لكل قوم كان نبيٌّ واحد لا أكثر.
ولعل مجيء هذا التعبير في هذه الآية (المرسلين)، باعتبار أنّ الأنبياء لهم برنامج واحد وهدف واحد، وبينهم من درجة من الصلة بحيث أن تكذيب أيّ منهم هو تكذيب للجميع.
واحتمل آخرون وجود أكثر من نبي وسط الأُمّة الواحدة، وذكر اسم أحدهم لأنّه أكثر شهرة.
وكما يبدو فإِنّ التّفسير الأوّل أقرب إِلى الصواب منه إِلى الثّاني.
ويستمر القرآن بالحديث عن «أصحاب الحجر»:{ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ } وموقف الأعراض المشار إِليه ـ كما يبدو ـ هو عدم استعدادهم لسماع الآيات والتفكر بها.
وتشير الآية إِلى أنّهم كانوا من الجد والدقّة في أُمور معاشهم وحياتهم الدنيوية حتى أنّهم{ وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ}.
وهو ما يبيّن لنا أنّ منطقتهم كانت جبلية، بالإِضافة إِلى ما توصلوا إِليه من مدنية متقدمة، حيث أصبحوا يبنون بيوتهم داخل الجبال ليأمنوا من السيول والعواصف والزلازل.
والعجيب من أمر الإِنسان، أنّه يحزم أمره لتجهيز وتحصين مستلزمات حياته الفانية، ولا يعير أيَّ اهتمام لحياته الباقية، حتى يصل به المآل لأنْ لا يكلف نفسه بسماع آيات اللّه والتفكر بها!!.
وأيُّ عاقبة ينتظرون بعد عنادهم وكفرهم غير أنْ يطبق عليهم القانون الإِلهي الموعدين به (البقاء للأصلاح) وعدم إِعطاء حق إِدامة الحياة لأقوام فاسدين ومفسدين.. فليس لهؤلاء سوى البلاء المهلك، ولهذا يقول القرآن:{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ }.
وكانت «الصيحة» عبارة عن صوت صاعق مدمر نزل على دورهم وكان من القّوة والرهبة بحيث جعل أجسادهم تتناثر على الأرض.
والشاهد على ما قلناه ما تحدثنا به الآية الثّالثة عشر من سورة فصلت:{ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}.
فالعذاب الإِلهي لا تقف أمامه الجبال الشاهقة، ولا البيوت المحصنة، ولا الأبدان القوية أو الأموال الوافرة، ولهذا يأتي في نهاية قصتهم{فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون}.
وجاءت الآيات (141 إِلى 158) من سورة الشعراء بتفصيل أكثر، وهو ما سيأتي في محله إِن شاء اللّه تعالى.
يعود القرآن بعد طرح قصص الأقوام السالفة ـ كقوم لوط وقوم شعيب وصالح ـ إِلى مسألة التوحيد والمعاد، لأنّ سبب ضلال الإِنسان يعود إِلى عدم اعتناقه عقيدة صحيحة، ولعدم ارتباطه بمسألة المبدأ والمعاد، فيشير إِليهما معاً في آية واحدة{ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}. فنظامها محسوب ومحكم وهو حق، وكذا هدف خلقها حقٌّ.
فيكون هذا النظام البديع والخلق الدقيق المنظم دليلا واضحاً على الخالق العالم القادر جلَّ وعلا، وهو حق أيضاً، بل هو حقيقة الحق، وكل حق بما هو متصل بوجوده المطلق فهو حق، وكل شيء لا يرتبط به سبحانه فهو باطل.. وهذا ما يخصّ التوحيد أمّا في المعاد فيقول:{وإِنّ الساعة لآتية}.. وإِنْ تأخرت فإِنّها آتية بالنتيجة.
ولا يبعد أن تكون الفقرة الأُولى بمنزلة الدال على الفقرة الثّانية، لأنّ هذا العالم إِنّما يكون حقاً عندما يكون لهذه الأيّام الدنيوية المليئة بالآلام والمتاعب هدف عال يبرر خلق هذا الوجود الكبير ـ فليست الدنيا لنحياها وتنتهي ـ ولهذا فمسألة خلق السماوات والأرض وما بينهما حقّ يدل على وجود يوم القيامة والحساب، وإِلاّ لكان الخلق عبثاً وليس حقّاً ـ فتأمل.
وبعد ذلك.. يأمر اللّه تعالى نبيّه الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) أنْ يقابل عناد قومه وجهلهم وتعصبهم وعداءهم بالمحبّة والعفو وغض النظر عن الذنوب، والصفح عنهم بالصفح الجميل، أيْ غير مصحوب بملامة{ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ }.
لأنّك تملك الدليل الواضح على ما أمرت بالدعوة إِليه، فلا تحتاج وإِيّاهم إِلى الخشونة لتثبيت عقيدة المبدأ والمعاد في قلوب الناس، فالعقل والمنطق السليم معك.
بالإِضافة إِلى أنّ الخشونة مع الجهلة غالباً ما تؤدي بهم إِلى الرد بالمثل، بل وبأشد من ذلك.
الصفح: هو وجه كل شيء، كوجه الصورة(5)، ولهذا فقد جاءت كلمة «فاصفح» بمعنى أدر وجهك وغض النظر عنهم.
وبما أنّ إدارة الوجه وصرفه عن الشيء قد تعطي معنى عدم الإِهتمام والنفرة وما شابه ذلك بالإِضافة لمعنى العفو والصفح، فقد ذكرت الآية المتقدمة كلمة «الجميل» بعد «الصفح» لكي تحدد المعنى الثّاني.
وفي رواية عن الإِمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) في تفسير هذه الآية أنّه قال:{العفو من غير عتاب}(6).
وروي مثل ذلك عن الإِمام زين العابدين(عليه السلام)(7).
الآية التالية ـ كما يقول جمع من المفسّرين ـ بمنزلة الدليل على وجوب العفو والصفح الجميل، حيث تقول:{ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ }.
فاللّه يعلم بأنّ الناس ليسوا سواسية من جهة الطبائع والمستويات الفكرية والعاطفية وهو سبحانه مطلع على ما تخفيه صدورهم، وينبغي معاملتهم بروحية العفو والمسامحة ليهتدوا إِلى طريق الحق بأسلوب الإِصلاح المرحلي أو التدريجي.
ولا يرمز ذلك إِلى الجبر في أعمال الناس وسلوكهم، بقدر ما هو إِشارة إِلى أمر تربوي يأخذ بنظر الاعتبار اختلاف الناس في القابليات.
وممّا يجدر ذكره.. تصور البعض أنّ الأمر الإِلهي مختصٌ بفترة حياة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في مكّة قبل الهجرة، وعندما هاجر(صلى الله عليه وآله وسلم) إِلى المدينة أصبح للمسلمين القدرة والقوّة فنسخ هذا الأمر وجاء الجهاد بدله.
ولكننا نجد ورود هذا الأمر في السور المدينة أيضاً (كسورة البقرة وسورة النّور والتغابن والمائدة)، فبعض منها يأمر النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) بالعفو والصفح، والبعض الآخر يأمر المؤمنين بذلك.
فيتّضح لنا أنّ أمر الصفح عام ودائم، وهو لا يعارض أمر الجهاد أبداً، فلكلٍّ محله الخاص به.
فإِذا كان الموقف يستدعي العفو والتسامح، فَلِمَ لا يؤخذ به! وإِذا كان مدعاة للتجرؤ والجسارة من قبل الأعداء ولا ينفع معهم إِلاّ الشدة، فلا مناص حينئذ من الأخذ بأمر الجهاد.
________________
1- تفسير الامثل،مكارم الشيرازي،ج6،ص638-649.
2- ـ متوسم: من مادة (وسم) ـ على وزن رسم ـ أىْ ترك أثراً، ويقال لمن يخلص من أثر صغير إِلى نتائج وحقائق كبيره (متوسم).
3 ـ إِنّ كلمة «إِنْ» في هذه الآية ليست شرطية وإِنّما هي مخففة، فيكون تقدير الكلام{إِنه كان أصحاب الأيكة لضالمين}.
4 ـ أعلام القرآن، الخزائلي، الصفحة 292.
5 ـ يقول الفيروز آبادي في القاموس، ج 1، ص242: الصفح: الجانب، ومن الجبل مضطجعه، ومنك جنبك، ومن الوجه والسيف عرضه.
6 ـ تفسير نور الثقلين، ج3، ص27،ح95.
7 ـ المصدر السّابق،ح96.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|