أقرأ أيضاً
التاريخ: 8-7-2020
9773
التاريخ: 28-6-2020
14342
التاريخ: 2-7-2020
13983
التاريخ: 8-7-2020
3769
|
قال تعالى: {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوكُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } [يوسف: 16 - 20]
بين سبحانه حالهم حين رجعوا إلى أبيهم فقال { وَجَاءُوا أَبَاهُمْ} يعني وانقلب إخوة يوسف إلى أبيهم { عشاء } أي: ليلا أوفي آخر النهار ليلبسوا على أبيهم وليكونوا أجرأ على الاعتذار { يبكون } وإنما أظهروا البكاء ليوهموا أنهم صادقون وفي هذا دلالة على أن البكاء لا يوجب صدق دعوى الباكي في دعواه قال: السدي لما سمع بكاءهم فزع فقال: ما بالكم { قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} أي: نشتد ونعدوعلى الإقدام لننظر أينا أعدى وأسبق لصاحبه عن الجبائي والسدي وقيل: معناه ننتصل ونترامى فننظر أي السهام أسبق إلى الغرض عن الزجاج وفي قراءة عبد الله نتصل { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا} أي: تركناه عند الرحل ليحفظه { فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} أي: ما أنت بمصدق لنا { وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} جواب لومحذوف أي: ولوكنا صادقين ما صدقتنا لاتهامك لنا في أمر يوسف ودل الكلام عليه ولم يصفوه بأنه لا يصدق الصادق لأن المعنى لا يصدقهم لاتهامه لهم وسوء ظنه بهم لما ظهر له من أمارات حسدهم ليوسف وشدة محبته ليوسف.
{ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} معناه :أن إخوة يوسف جاءوا أباهم ومعهم قميص يوسف ملطخا بدم فقالوا له: هذا دم يوسف حين أكله الذئب وقيل: أنهم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميصه عن ابن عباس ومجاهد وقيل ظبيا ولم يمزقوا ثوبه ولم يخطر ببالهم أن الذئب إذا أكل إنسانا فإنه يمزق ثوبه وقيل: إن يعقوب قال لهم: أروني القميص: فأروه إياه فقال لهم لما رأى القميص صحيحا يا بني! والله ما عهدت كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق قميصه عن الحسن.
وروي أنه ألقى ثوبه على وجهه وقال: يا يوسف! لقد أكلك ذئب رحيم أكل لحمك ولم يشق قميصك ومعنى قوله { بدم كذب } مكذوب عليه أوفيه كما يقال ماء سكب أي مسكوب وشراب صب أي مصبوب قال الشاعر :
تظل جيادهم نوحا عليهم مقلدة أعنتها صفونا(2)
أراد: نائحة عليهم وقيل: أنه كان في قميص يوسف ثلاث آيات: حين قد من دبر وحين ألقي على وجه أبيه فارتد بصيرا وحين جاءوا عليه بدم كذب فتنبه يعقوب على أن الذئب لوأكله لمزق قميصه عن الشعبي وقيل: أنه لما قال لهم يعقوب ذلك قالوا: بل قتله اللصوص! فقال (عليه السلام): فكيف قتلوه وتركوا قميصه وهم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله { قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} أي: قال يعقوب لهم إذا اتهمهم في يوسف: لم يأكله الذئب ولم يقتله اللصوص ولكن زينت لكم أنفسكم أمرا علمتموه عن قتادة وقيل: سهل بعضكم لبعض أمرا في يوسف غير الذي فعلتموه حتى سهل عليكم فقتلتموه عن أبي مسلم والجبائي وإنما رد يعقوب عليهم بوحي من الله عز اسمه وقيل: كان ذلك حدسا بصائب رأيه وصادق ذهنه { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} أي: فصبري صبر جميل لا جزع فيه ولا شكوى إلى الناس وقيل: فصبر جميل أحسن وأولى من الجزع الذي لا يغني شيئا وقيل: إنما يكون الصبر جميلا إذا قصد به وجه الله تعالى وفعل للوجه الذي وجب فلما كان الصبر في هذا الموضع واقعا على الوجه المحمود صح وصفه بذلك ذكره المرتضى قدس الله روحه وقيل: إن البلاء نزل بيعقوب على كبره وبيوسف على صغره بلا ذنب كان منهما فأكب يعقوب على حزنه وانطلق يوسف في رقة وكل ذلك بعين الله يرى ويسمع حتى أتي بالمخرج وكل ذلك امتحان { وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أي :بالله أستعين على دفع ما تصفون أوبه أستعين على تحمل مرارة الصبر عليه ومكث يوسف في الجب ثلاثة أيام .
ثم أخبر سبحانه عن حال يوسف بعد إلقائه في الجب فقال { وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} أي: جماعة مارة قالوا وإنما جاءت من قبل مدين يريدون مصر فأخطأوا الطريق فانطلقوا يهيمون على غير الطريق حتى نزلوا قريبا من الجب وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران وإنما هو للرعاة والمجتازة وكان ماؤه ملحا فعذب وقيل: كان الجب بظهر الطريق { فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ} أي: فبعثوا من يطلب لهم الماء يقال بعثوا رجلا يقال له مالك بن زعر ليطلب لهم الماء { فأدلى دلوه } أي: أرسل دلوه في البئر ليستقي فتعلق يوسف (عليه السلام) بالحبل فلما خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون من الغلمان قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أعطي يوسف شطر الحسن والنصف الآخر لسائر الناس وقال: كعب الأحبار وكان يوسف حسن الوجه جعد الشعر ضخم العين مستوي الخلق أبيض اللون غليظ الساقين والعضدين خميص البطن صغير السرة وكان إذا تبسم رأيت النور في ضواحكه وإذا تكلم رأيت في كلامه شعاع النور يلتهب عن ثناياه ولا يستطيع أحد وصفه وكان حسنه كضوء النهار عند الليل وكان يشبه آدم (عليه السلام) يوم خلقه الله عز وجل وصوره ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية ويقال: أنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة وكانت قد أعطيت سدس الحسن.
فلما رآه المدلي { قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} عن قتادة والسدي وقيل: أنه نظر في البئر لما ثقل عليه الدلوفرأى يوسف (عليه السلام) فقال: هذا غلام فأخرجوه عن الجبائي وقيل: أن بشرى رجل من أصحابه ناداه عن السدي { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً} أي: وأسر يوسف الذين وجدوه من رفقائهم من التجار مخافة أن يطلبوا منهم الشركة معهم في يوسف فقالوا: هذا بضاعة لأهل الماء دفعوه إلينا لنبيعه لهم عن مجاهد والسدي وقيل: معناه وأسر إخوته يكتمون أنه أخوهم فقالوا: هو عبد لنا قد أبق واختفى منا في هذا الموضع وقالوا له بالعبرانية لئن قلت أنا أخوهم قتلناك فتابعهم على ذلك لئلا يقتلوه عن ابن عباس.
{ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي: بما يعمل إخوة يوسف { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} أي: باعوه بثمن ناقص قليل عن عكرمة والشعبي وقيل: حرام لأن ثمن الحر حرام عن الضحاك ومقاتل والسدي وسمي الحرام بخسا لأنه لا بركة فيه فهومنقوص البركة { دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} أي: قليلة وذكر العدد عبارة عن القلة وقيل: أنهم كانوا لا يزنون من الدراهم ما دون الأوقية وكانوا يزنون الأوقية: وهي الأربعون فما زاد عليها وكانت الدراهم عشرين درهما عن ابن عباس وابن مسعود والسدي وهو المروي عن علي بن الحسين (عليهماالسلام) قال: وكانوا عشرة فاقتسموها درهمين درهمين وقيل: كانت اثنين وعشرين درهما عن مجاهد وقيل: كانت أربعين درهما عن عكرمة وقيل: ثمانية عشر درهما عن أبي عبد الله (عليه السلام).
واختلف فيمن باعه فقيل: أن إخوة يوسف باعوه وكان يهوذا منتبذا ينظر إلى يوسف فلما أخرجوه من البئر أخبر إخوته فأتوا مالكا وباعوه منه عن ابن عباس ومجاهد وأكثر المفسرين وقيل: باعه الواجدون بمصر عن قتادة وقيل: أن الذين أخرجوه من الجب باعوه من السيارة عن الأصم والأصح الأول وذكر أبوحمزة الثمالي في تفسيره قال: فلم يزل مالك بن زغر وأصحابه يتعرفون من الله الخير في سفرهم ذلك حتى فارقوا يوسف ففقدوا ذلك قال: وتحرك قلب مالك ليوسف فأتاه فقال: أخبرني من أنت فانتبه له يوسف ولم يكن مالك يعرفه فقال: أنا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فألزمه مالك وبكى وكان مالك رجلا عاقرا لا يولد له فقال ليوسف: لودعوت ربك أن يهب لي ولدا فدعا يوسف ربه أن يجعل له ولدا ويجعلهم ذكورا فولد له اثنا عشر بطنا في كل بطن غلامان.
{ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} قيل: يعني به أن الذين اشتروه كانوا من الزاهدين في شرائه لأنهم وجدوا علامة الأحرار وأخلاق أهل البر والنبل فلم يرغبوا فيه مخافة أن يلحقهم تبعة في استعباده وقيل: معناه وكانوا من الزاهدين في نفس يوسف لم يشروه للفجور وإنما اشتروه للربح وقيل: المراد به الذين باعوه من إخوته كانوا غير راغبين في يوسف ولا في ثمنه ولكنهم باعوه حتى لا يظهر ما فعلوا به وكان قصدهم تبعيده وقيل: كانوا من الزاهدين في يوسف لأنهم لم يعرفوا موضعه من الله سبحانه وكرامته عليه ولا تنافي بين هذه الأقوال فيجوز حمل الآية على جميعها وقيل: إن الذين باعوه بمصر كانوا من الزاهدين في ثمنه لأنهم علموا أنه لقطة وليست ببضاعة .
_____________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي ،ج5،ص374-380.
2- قائله عمروبن كلثوم من (المعلقة) . وروايته فيها (( تركنا الخيل عاكفة عليه.ا.هـ)) صفوناً جمع والصافن : الخيل إذا وقف على ثلاث قوائم ، وقد اقام الرابعة على طرف الحافر .
{ وجاؤُوا أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ } تمويها لما لفقوا من الكذب والتزوير { قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ } أي نتسابق في العدوأوالرمي { وتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ } . وفي الأمثال : براءة الذئب من دم يوسف . ونقل عن أحد القصاصين القدامى انه كان يحكي قصة يوسف لجماعة ، ولما وصل إلى الذئب قال : كان اسم الذئب الذي أكل يوسف (كذا ) . فقال له بعض من حضر :
ان الذئب لم يأكل يوسف . فقال القصاص : فليكن هذا الاسم للذئب الذي لم يأكل يوسف . { وما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا } لأنها كذبة مكشوفة { ولَوكُنَّا صادِقِينَ } .
وعن الإمام علي ( عليه السلام ) : كفى بالكاذب عقوبة انه إذا قال الصدق لا يصدّق.
{ وجاؤُوا عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } المعنى ظاهر ، ولما لم يجد المفسرون ما يقولونه اختلفوا في الدم الذي جاء به أولاد إسرائيل : هل هودم ظبي أودم سخلة . وقال آخر : على هنا بمعنى فوق . وقال غيره : لما رأى يعقوب قميص ابنه صحيحا قال : واللَّه ما رأيت أحلم من هذا الذئب أكل ابني ولم يمزق قميصه ، أما نحن فنؤمن بأن يعقوب { قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ واللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ } . هذا ما نزل به الوحي في جواب يعقوب لأولاده ، ولا دليل على غيره . وتومئ الآية إلى أن يعقوب شعر بكذبهم لحسدهم الشديد ليوسف ، ولكنه صبر مفوّضا أمره إلى اللَّه .
{ وجاءَتْ سَيَّارَةٌ } جماعة من المسافرين ، وفي سفر التكوين من التوراة انهم كانوا من الإسماعيليين أي من العرب لأنهم ينتهون بنسبهم إلى إسماعيل بن إبراهيم ( عليهم السلام ) .
{ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ } أي من يرد الماء ويأتيهم به { فَأَدْلى دَلْوَهُ } أرسله في البئر ولما رأى الوارد يوسف في البئر { قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ } يبشر نفسه أوجماعته بهذه الغنيمة ، فأخرجوه من البئر ( وأَسَرُّوهُ بِضاعَةً ) أي من الناس ، لئلا يتعرف عليه أهله ، واعتبره السيارة رقيقا من جملة سلعهم التجارية { واللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ } . هذا تهديد للسيارة أخفوا أمره ، وعرضوه للبيع على أنه رقيق ، وهو حر .
{ وشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ } . شرى الشيء باعه . واشتراه ابتاعه . والبخس القليل الناقص عن ثمن المثل . وقال كثير من المفسرين : ان أهل ذاك الزمان كانوا يزنون الثمن إذا كان كثيرا ، ويعدونه إذا كان قليلا ، وان قوله تعالى : دراهم معدودات يشير إلى قلة ثمن يوسف { وكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } حيث تعجلوا التخلص منه بأبخس الأثمان ، لئلا يتهموا بسرقته .
__________________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4، ص 295-296.
قوله تعالى:{ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} العشاء آخر النهار، وقيل: من صلاة المغرب إلى العتمة، وإنما كانوا يبكون ليلبسوا الأمر على أبيهم فيصدقهم فيما يقولون ولا يكذبهم.
قوله تعالى:{ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات،: أصل السبق التقدم في السير نحو{فالسابقات سبقا} والاستباق التسابق وقال:{إنا ذهبنا نستبق}{واستبقا الباب} انتهى، وقال الزمخشري في الكشاف،: نستبق أي نتسابق، والافتعال والتفاعل يشتركان كالانتضال والتناضل والارتماء والترامي وغير ذلك، والمعنى نتسابق في العدوأوفي الرمي. انتهى.
وقال صاحب المنار في تفسيره،: إنا ذهبنا نستبق أي ذهبنا من مكان اجتماعنا إلى السباق يتكلف كل منا أن يسبق غيره فالاستباق تكلف السبق وهو الغرض من المسابقة والتسابق بصيغتي المشاركة التي يقصد بها الغلب.
وقد يقصد لذاته أو لغرض آخر في السبق، ومنه{فاستبقوا الخيرات} فهذا يقصد به السبق لذاته لا للغلب، وقوله الآتي في هذه السورة{واستبقا الباب} كان يقصد به يوسف الخروج من الدار هربا من حيث تقصد امرأة العزيز باتباعه إرجاعه، وصيغة المشاركة لا تؤدي هذا المعنى، ولم يفطن الزمخشري علامة اللغة ومن تبعه لهذا الفرق الدقيق انتهى.
أقول: والذي مثل به من قوله تعالى:{فاستبقوا الخيرات} من موارد الغلب فإن من المندوب شرعا أن لا يؤثر الإنسان غيره على نفسه في الخيرات والمثوبات والقربات وأن يتقدم على من دونه في حيازه البركات فينطبق الاستباق حينئذ قهرا على التسابق وكذا قوله تعالى:{واستبقا الباب} فإن المراد به قطعا أن كلا منها كان يريد أن يسبق الآخر إلى الباب هذا ليفتحه وهذه لتمنعه من الفتح وهو معنى التسابق فالحق أن معنيي الاستباق والتسابق متحدان صدقا على المورد، وفي الصحاح،: سابقته فسبقته سبقا واستبقنا في العدوأي تسابقنا. انتهى،
وفي لسان العرب،: سابقته فسبقته، واستبقنا في العدو، أي تسابقنا. انتهى.
ولعل الوجه في تصادق استبق وتسابق أن نفس السبق معنى إضافي في نفسه، وزنة{افتعل} تفيد تأكد معنى{فعل} وإمعان الفاعل في فعله وأخذه حلية لنفسه كما يشاهد في مثل كسب واكتسب وحمل واحتمل وصبر واصطبر وقرب واقترب وخفي واختفى وجهد واجتهد ونظائرها، وطروهذه الخصوصية على معنى السبق على ما به من الإضافة يفيد جهد الفاعل أن يخص السبق لنفسه ولا يتم إلا مع تسابق في المورد.
وقوله:{بمؤمن لنا} أي بمصدق لقولنا، والإيمان يتعدى باللام كما يتعدى بالباء قال تعالى:{فآمن له لوط}: العنكبوت: 26.
والمعنى - أنهم حينما جاءوا أباهم عشاء يبكون - قالوا لأبيهم: يا أبانا إنا معشر الإخوة ذهبنا إلى البيداء نتسابق في عدوأو رمي - ولعله كان في عدو- فإن ذلك أبلغ في إبعادهم من رحلهم ومتاعهم وكان عنده يوسف على ما ذكروا - وتركنا يوسف عند رحلنا ومتاعنا فأكله الذئب، ومن خيبتنا ومسكنتنا أنك لست بمصدق لنا فيما نقوله ونخبر به ولوكنا صادقين فيه.
وقولهم:{ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} كلام يأتي بمثله المعتذر إذا انقطع عن الأسباب وانسدت عليه طرق الحيلة، للدلالة على أن كلامه غير موجه عند من يعتذر إليه وعذره غير مسموع وهويعلم بذلك لكنه مع ذلك مضطر أن يخبر بالحق ويكشف عن الصدق وإن كان غير مصدق فيه، فهو كناية عن الصدق في المقال.
قوله تعالى:{وجاءوا على قميصه بدم كذب} الكذب بالفتح فالكسر مصدر أريد به الفاعل للمبالغة أي بدم كاذب بين الكذب.
وفي الآية إشعار بأن القميص وعليه دم - وقد نكر الدم للدلالة على هو ان دلالته وضعفها على ما وصفوه - كان على صفة تكشف عن كذبهم في مقالهم فإن من افترسته السباع وأكلته لم تترك له قميصا سالما غير ممزق.
وهذا شأن الكذب لا يخلوالحديث الكاذب ولا الأحدوثة الكاذبة من تناف بين أجزائه وتناقض بين أطرافه أو شواهد من أوضاع وأحوال خارجية تحف به وتنادي بالصدق وتكشف القناع عن قبيح سريرته وباطنه وإن حسنت صورته.
كلام في أن الكذب لا يفلح
من المجرب أن الكذب لا يدوم على اعتباره وإن الكاذب لا يلبث دون أن يأتي بما يكذبه أو يظهر ما يكشف القناع عن بطلان ما أخبر به أوادعاه، والوجه فيه أن الكون يجري على نظام يرتبط به بعض أجزائه ببعض بنسب وإضافات غير متغيرة ولا متبدلة فلكل حادث من الحوادث الخارجية الواقعة لوازم وملزومات متناسبة لا ينفك بعضها من بعض، ولها جميعا فيما بينها أحكام وآثار يتصل بعضها ببعض، ولواختل واحد منها لاختل الجميع وسلامة الواحد تدل على سلامة السلسلة.
وهذا قانون كلي غير قابل لورود الاستثناء عليه.
فلوانتقل مثلا جسم من مكان إلى مكان آخر في زمان كان من لوازمه أن يفارق المكان الأول ويبتعد منه ويغيب عنه وعن كل ما يلازمه ويتصل به ويخلوعنه المكان الأول ويشغل به الثاني وأن يقطع ما بينهما من الفصل إلى غير ذلك من اللوازم، ولو اختل واحد منها كأن يكون في الزمان المفروض شاغلا للمكان الأول اختلت جميع اللوازم المحتفة به.
وليس في وسع الإنسان ولا أي سبب مفروض إذا ستر شيئا من الحقائق الكونية بنوع من التلبيس أن يستر جميع اللوازمات والملزومات المرتبطة به أو أن يخرجها عن محالها الواقعية أويحرفها عن مجراها الكونية فإن ألقى سترا على واحدة منها ظهرت الأخرى وإلا فالثالثه وهكذا.
ومن هنا كانت الدولة للحق وإن كانت للباطل جولة، وكانت القيمة للصدق وإن تعلقت الرغبة أحيانا بالكذب قال تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ}: الزمر: 3 وقال:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}: غافر: 28.
وقال:{ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}: النحل: 116 وقال:{ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ }: ق: 5 وذلك أنهم لما عدوا الحق كذبا بنوا على الباطل واعتمدوا عليه في حياتهم فوقعوا في نظام مختل يناقض بعض أجزائه بعضا ويدفع طرف منه طرفا.
قوله تعالى:{ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} هذا جواب يعقوب وقد فوجىء بنعي ابنه وحبيبه يوسف دخلوا عليه وليس معهم يوسف وهم يبكون يخبرونه أن يوسف قد أكله الذئب وهذا قميصه الملطخ بالدم، وقد كان يعلم بمبلغ حسدهم له وهم قد انتزعوه من يده بإلحاح وإصرار وجاءوا بقميصه وعليه دم كذب ينادي بكذبهم فيما قالوه وأخبروا به.
فأضرب عن قولهم:{إنا ذهبنا نستبق} إلخ بقوله:{ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} والتسويل الوسوسة أي ليس الأمر على ما تخبرون بل وسوست لكم أنفسكم فيه أمرا، وأبهم الأمر ولم يعينه ثم أخبر أنه صابر في ذلك من غير أن يؤاخذهم وينتقم منهم لنفسه انتقاما وإنما يكظم ما هجم نفسه كظما.
فقوله:{ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا} تكذيب لما أخبروا به من أمر يوسف وبيان أنه على علم من أن فقد يوسف لا يستند إلى ما ذكروه من افتراس السبع وإنما يستند إلى مكر مكروه وتسويل من أنفسهم لهم، والكلام بمنزلة التوطئة لما ذكره بعد من قوله:{فصبر جميل} إلى آخر الآية.
وقوله فصبر جميل مدح للصبر وهو من قبيل وضع السبب موضع المسبب والتقدير: سأصبر على ما أصابني فإن الصبر جميل وتنكير الصبر وحذف صفته وإبهامها للإشارة إلى فخامة أمره وعظم شأنه أومرارة طعمه وصعوبة تحمله.
وقد فرع قوله:{فصبر جميل} على ما تقدم للإشعار بأن الأسباب التي أحاطت به وأفرغت عليه هذه المصيبة هي بحيث لا يسمع له معها إلا أن يسلك سبيل الصبر، وذلك أنه (عليه السلام) فقد أحب الناس إليه يوسف وهوذا يذكر له أنه صار أكلة للذئب وهذا قميصه ملطخا بالدم وهويرى أنهم كاذبون فيما يخبرونه به، ويرى أن لهم صنعا في افتقاده ومكرا في أمره ولا طريق له إلى التحقيق فيما جرى على يوسف والتجسس مما آل إليه أمره وأين هو؟ وما حاله؟ فإنما أعوانه على أمثال هذه النوائب وأعضاده لدفع ما يقصده من المكاره إنما هم أبناؤه وهم عصبة أولوا قوة وشدة فإذا كانوا هم الأسباب لنزول النائبة ووقوع المصيبة فبمن يقع فيهم؟ وبما ذا يدفعهم عن نفسه؟ فلا يسعه إلا الصبر.
غير أن الصبر ليس هو أن يتحمل الإنسان ما حمله من الرزية وينقاد لمن يقصده بالسوء انقيادا مطلقا كالأرض الميتة التي تطؤها الأقدام وتلعب بها الأيدي فإن الله سبحانه طبع الإنسان على دفع المكروه عن نفسه وجهزه بما يقدم به على النوائب والرزايا ما استطاع، ولا فضيلة في إبطال هذه الغريزة الإلهية بل الصبر هو الاستقامة في القلب وحفظ النظام النفساني الذي به يستقيم أمر الحياة الإنسانية من الاختلال، وضبط الجمعية الداخلية من التفرق والتلاشي ونسيان التدبير واختباط الفكر وفساد الرأي فالصابرون هم القائمون في النوائب على ساق لا تزيلهم هجمات المكاره، وغيرهم المنهزمون عند أول هجمة ثم لا يلوون على شيء.
ومن هنا يعلم أن الصبر نعم السبيل على مقاومة النائبة وكسر سورتها إلا أنه ليس تمام السبب في إعادة العافية وإرجاع السلامة فهو كالحصن يتحصن به الإنسان لدفع العدوالمهاجم، وأما عود نعمة الأمن والسلامة وحرية الحياة فربما احتاج إلى سبب آخر يجر إليه الفوز والظفر، وهذا السبب في ملة التوحيد هو الله عز سلطانه فعلى الإنسان الموحد إذا نابته نائبة ونزلت عليه مصيبة أن يتحصن أولا بالصبر حتى لا يختل ما في داخله من النظام العبودي ولا يتلاشى معسكر قواه ومشاعره ثم يتوكل على ربه الذي هوفوق كل سبب راجيا أن يدفع عنه الشر ويوجه أمره إلى غاية صلاح حاله، والله سبحانه غالب على أمره، وقد تقدم شيء من هذا البحث في تفسير قوله تعالى:{واستعينوا بالصبر والصلاة}: البقرة: 45 في الجزء الأول من الكتاب.
ولهذا كله لما قال يعقوب (عليه السلام):{فصبر جميل} عقبه بقوله:{ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} فتمم كلمة الصبر بكلمة التوكل نظير ما أتى به في قوله في الآيات المستقبلة:{ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ }: الآية 83 من السورة.
فقوله:{ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} – وهو من أعجب الكلام - بيان لتوكله على ربه يقول: إني أعلم أن لكم في الأمر مكرا وإن يوسف لم يأكله ذئب لكني لا أركن في كشف كذبكم والحصول على يوسف بالأسباب الظاهرة التي لا تغني طائلا بغير إذن من الله ولا أتشحط بينها بل أضبط استقامة نفسي بالصبر وأوكل ربي أن يظهر على ما تصفون أن يوسف قد قضى نحبه وصار أكلة لذئب.
فظهر أن قوله:{ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} دعاء في موقف التوكل ومعناه: اللهم إني توكلت عليك في أمري هذا فكن عونا لي على ما يصفه بني هؤلاء، والكلمة مبنية على توحيد الفعل فإنها مسوقة سوق الحصر ومعناها أن الله سبحانه هوالمستعان لا مستعان لي غيره فإنه (عليه السلام) كان يرى أن لا حكم حقا إلا حكم الله كما قال فيما سيأتي من كلامه:{إن الحكم إلا لله عليه توكلت}، ولتكميل هذا التوحيد بما هو أعلى منه لم يذكر نفسه فلم يقل: سأصبر ولم يقل والله أستعين على ما تصفون بل ترك نفسه وذكر اسم ربه وإن الأمر منوط بحكمه الحق وهو من كمال توحيده وهو مستغرق في وجده وأسفه وحزنه ليوسف غير أنه ما كان يحب يوسف ولا يتوله فيه ولا يجد لفقده إلا لله وفي الله.
قوله تعالى:{ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} قال الراغب: الورود أصله قصد الماء ثم يستعمل في غيره.
انتهى، وقال: دلوت الدلوإذا أرسلتها، وأدليتها إذا أخرجتها.
انتهى، وقيل بالعكس، وقال: الإسرار خلاف الإعلان. انتهى.
وقوله:{قال يا بشرى هذا غلام} إيراده بالفصل مع أنه متفرع وقوعا على إدلاء الدلوللدلالة على أنه كان أمرا غير مترقب الوقوع فإن الذي يترقب وقوعه عن الإدلاء هو خروج الماء دون الحصول على غلام فكان مفاجئا لهم ولذا قال:{قال يا بشرى} ونداء البشرى كنداء الأسف والويل ونظائرهما للدلالة على حضوره وجلاء ظهوره.
وقوله:{والله عليم بما يعملون} مفاده ذم عملهم والإبانة عن كونه معصية محفوظة عليهم سيؤاخذون بها، ويمكن أن يكون المراد به أن ذلك إنما كان بعلم من الله أراد بذلك أن يبلغ يوسف مبلغه الذي قدر له فإنه لولم يخرج من الجب ولم يسر بضاعة لم يدخل بيت العزيز بمصر فلم يؤت ما أوتيه من الملك والعزة.
ومعنى الآية: وجاءت جماعة مارة إلى هناك فأرسلوا من يطلب لهم الماء فأرسل دلوه في الجب ثم لما أخرجها فاجأهم بقوله: يا بشرى هذا غلام - وقد تعلق يوسف بالحبل فخرج - فأخفوه بضاعة يقصد بها البيع والتجارة والحال أن الله سبحانه عليم بما يعملون يؤاخذهم عليه أوأن ذلك كان بعلمه تعالى وكان يسير يوسف هذا المسير ليستقر في مستقر العزة والملك والنبوة.
قوله تعالى:{ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} الثمن البخس هو الناقص عن حق القيمة، ودراهم معدودة أي قليلة والوجه فيه - على ما قيل - إنهم كانوا إذا كثرت الدراهم أوالدنانير وزنوها ولا يعدون إلا القليلة منها والمراد بالدراهم النقود الفضية الدائرة بينهم يومئذ، والشراء هو البيع، والزهد هو الرغبة عن الشيء أو هو كناية عن الاتقاء.
والظاهر من السياق أن ضميري الجمع في قوله:{وشروه}{وكانوا} للسيارة والمعنى أن السيارة الذين أخرجوه من الجب وأسروه بضاعة باعوه بثمن بخس ناقص وهي دراهم معدودة قليلة وكانوا يتقون أن يظهر حقيقة الحال فينتزع هو من أيديهم.
ومعظم المفسرين على أن الضميرين لإخوة يوسف والمعنى أنهم باعوا يوسف من السيارة بعد أن ادعوا أنه غلام لهم سقط في البئر وهم إنما حضروا هناك لإخراجه من الجب فباعوه من السيارة وكانوا يتقون ظهور الحال.
أوأن أول الضميرين للإخوة والثاني للسيارة والمعنى أن الإخوة باعوه بثمن بخس دراهم معدودة وكانت السيارة من الراغبين عنه يظهرون من أنفسهم الزهد والرغبة لئلا يعلو قيمته أويرغبون عن اشترائه حقيقة لما يحدسون أن الأمر لا يخلومن مكر وإن الغلام ليس فيه سيماء العبيد.
وسياق الآيات لا يساعد على شيء من الوجهين فضمائر الجمع في الآية السابقة للسيارة ولم يقع للإخوة بعد ذلك ذكر صريح حتى يعود ضمير{وشروه} و{كانوا} أوأحدهما إليهم على أن ظاهر قوله في الآية التالية:{وقال الذي اشتراه من مصر} أنه اشتراه متحقق بهذا الشراء.
وأما ما ورد في الروايات(أن إخوة يوسف حضروا هناك وأخذوا يوسف منهم بدعوى أنه عبدهم سقط في البئر ثم باعوه منهم بثمن بخس) فلا يدفع ظاهر السياق في الآيات ولا أنه يدفع الروايات.
وربما قيل: إن الشراء في الآية بمعنى الاشتراء وهو مسموع وهو نظير الاحتمالين السابقين مدفوع بالسياق.
_____________________
1- نفسير الميزان ،الطباطبائي،ج11،ص86-92.
يقول القرآن الكريم:{ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} بكاءً كاذباً، وهذا يدلّ على أنّ البكاء الكاذب ممكن .. ولا يمكن أن يُخدع ببكاء العين وحدها.
أمّا الأب الذي كان ينتظر مجيىء ولده (يوسف) بفارغ الصبر، فقد اهتز وارتجف حين رأى الجمع وليس بينهم يوسف، وسأل عنه مستفسراً ... فأجابوه و{قالوا إِنّا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا} لصغر سنه ولأنّه لا يعرف التسابق، وانشغلنا عنه{ فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ}.
لأنك أخبرتنا من قبلُ بهذا الإِحتمال، وستظن أن ادّعاءنا مجرّد احتيال.
لقد كان كلام إِخوة يوسف مدروساً بشكل دقيق، وذلك ـ أوّلا ـ لأنّهم خاطبوا يعقوب بقولهم بكلمة «يا أبانا» وفيها ما فيها من الإِستعطاف.
وثانياً: لأنّ من الطبيعي أن ينشغل هؤلاء الإِخوة الأقوياء بالتسابق، ويتركوا أخاهم الصغير رقيباً على متاعهم، وبعد ذلك كله فقد جاؤوا أباهم يبكون لتمرير خطتهم، وقالوا له:{وما أنت بمؤمن لنا ولو كنّا صادقين}.
ومن أجل أن يبرهنوا على صحة كلامهم فقد{ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ}إِذ لطخوا الثوب بدم الغزال أو الخروف أو التيس ...
ولكن حيث أنّ الكاذب لا يمتلك حافظة قويّة، وحيث أن أية حقيقة فيها علائق مختلفة وكيفيات ومسائل يقل أن تجتمع منظّمة في الكذب، فقد غفل إِخوة يوسف عن هذه المسألة الدقيقة ... وهي ـ على الأقل ـ أن يخرقوا قميص يوسف الملطخ بالدم ليدل على هجوم الذئب ... فقد قدّموا القميص سالماً غير مخرق فأحس الأب بمؤامرتهم، فما إِن وقعت عيناه على القميص حتى فهم كل شيء و{ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا}.
جاء في بعض الرّوايات أنّ يعقوب أخذ قميص يوسف وهو يقلّبه ويقول: «ما آرى أثر ناب ولا ظفر إنّ هذا السبع رحيم»(2)، وفي رواية أنّه أخذ القميص وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص، وقال: تاللّه ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا أكل إبني ولم يمزق على قميصه، وجاء أنّه بكى وصاح وحرّ مغشيّاً عليه فأفاضوا على الماء فلم يتحرك ونادوه فلم يجب ووضع يهوذا يده على مخارج نفسه فلم يحس بنفس ولا تحرك له عرق، فقال: ويل لنا من ديان يوم الدين ضيعنا أخانا وقتلنا أبانا فلم يفق إلاّ ببرد السحر(3).
وبالرغم من احتراق قلبه ولهيب روحه لم يجر على لسانه ما يدل على عدم الشكر أو اليأس أو الفزع أو الجزع، بل قال:{فصبر جميل}(4) ثمّ قال:{ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} وأسأله أن يبدل مرارة الصبر في فمي الى «حلاوة» ويرزقني القوة والقدرة على التحمّل أكثر أمام هذا الطوفان العظيم، لئلا أفقد زمامي ويجري على لساني كلام غير لائق.
ولم يقل: أسأله أن يعطيني الصبر على موت يوسف، لأنّه كان يعلم أن يوسف لم يُقتل ... بل قال: أطلب الصبر على مفارقتي ولدي يوسف ... وعلى ما تصفون.
نحو أرض مصر:
قضى يوسف في ظلمة الجب الموحشة والوحدة القاتلة ساعات مرّةً، ولكنّه بإِيمانه بالله وسكينته المنبثقة عن الإِيمان شع في قلبه نور الأمل، وألهمه الله تعالى القوة والقدرة على تحمّل الوحدة الموحشة، وأن ينجح في هذا الإِمتحان.
ولكنّ ... الله أعلم كم يوماً قضى يوسف في هذه الحالة؟
قال بعض المفسّرين: قضى ثلاثة أيام، وقال آخرون: يومين.(5)
وعلى كل حال تبلج النّور {وجاءت سيّارة}(6).
وانتخَبت منزلها على مقربة من الجُبّ، وطبيعي أنّ أوّل ما تفكر القافلة فيه ـ
في منزلها الجديد ـ هو تأمين الماء وسد حاجتها منه {فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه}(7).
فانتبه يوسف الى صوت وحركة من أعلى البئر، ثمّ رأى الحبل والدلو يسرعان الى النّزول، فانتهز الفرصة وانتفع من هذا العطاء الإِلهي وتعلق بالحبل بوثوق.
فأحسّ المأمور بالإِتيان بالماء أن الدلو قد ثقُلَ أكثر ممّا ينبغي، فلمّا سحبه بقوة الى الأعلى فوجىء نظره بغلام كأنّه فلقة قمر، فصرخ وقال: {يا بشرى هذا غلام}.
وشيئاً فشيئاً سرى خبر يوسف بين جماعة من أهل القافلة، ولكن من أجل أن لا يذاع هذا الخبر وينتشر، ولكي يمكن بيع هذا الغلام الجميل في مصر، أخفوه {وأسرّوه بضاعة}(8).
وبالطبع هناك احتمالات أُخرى في تفسير هذه الجملة منها أن الذين عثروا على يوسف أسرّوه وأخفوا خبره، وقالوا: هذا متاع لأصحاب هذا الجبّ أودعوه عندنا لنبيعه في مصر.
ومنها أن أحد إِخوة يوسف كان بين الحين والحين يأتي الى الجبّ ليطلع على يوسف ويأتيه بالطعام وحين اطلع إِخوة يوسف على ما جرى أخفوا علاقتهم الأخوية بيوسف وقالوا: هذا غلامنا فرّ من أيدينا واختفى هنا، وهددوا يوسف بالموت إِذ كشف الستار عن الحقيقة.
ولكن التّفسير الأوّل يبدو أقرب للنظر.
وتقول الآية في نهايتها: { وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } وبالرغم من اختلاف المفسّرين في من هم الذين شروا يوسف بثمن بخس، وقول بعضهم: هم إِخوة
يوسف، ولكن ظاهر الآيات هو من كان في القافلة، وقد تمّ البحث عن إِخوته في نهاية الآية التي سبقت هذه الآيات، وجميع الضمائر في الجُمَل {أرسلوا واردهم}و{أسروه بضاعة} تعود على من كان في القافلة.
هنا يبرز هذا السؤال وهو: لِمَ باعوا يوسف الذي كان يعدّ ـ على الأقل ـ غلاماً ذا قيمة بثمن قليل، أو كما عبّر عنه القرآن {وشروه بثمن بخس}...؟
ولكن هذا أمر مألوف فإنّ السُراق أو أُولئك الذين تأتيهم بضاعة مهمّة دون أي تعب ونصب يبيعونها سريعاً لئلا يطلع الآخرون.
ومن الطبيعي أنّهم لا يستطيعون بهذه الفورية أن يبيعوه بسعر غال.
و«البخس» في الأصل معناه تقليل قيمة الشيء ظلماً، ولذلك فإنّ القرآن يقول: { وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}(هود،85).
ثمّ إنّ هناك اختلافاً آخر بين المفسّرين في الثمن الذي بيع به يوسف، وكيف قُسّم بينهم؟ فقال البعض: عشرون درهماً، وقالت طائفة: اثنان وعشرون، ومع ملاحظة أنّ الباعة كانوا عشرين يتّضح سهم كل منهم، وكم هو زهيد! ... وتقول الآية: { وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}.
وفي الحقيقة إِنّ هذه الجملة في حكم بيان العلة للجملة المتقدمة، وهي إِشارة الى أنّهم باعوا يوسف بثمن بخس، لأنّهم لم يرغبوا في هذه المعاملة ولم يعتنوا بها.
وهذا البيع البخس إِمّا لأنّ أهل القافلة اشتروا يوسف بثمن بخس، والإِنسان إِذا اشترى شيئاً رخيصاً باعه رخيصاً عادةً، أو إِنّهم كانوا يخافون أن يفتضح سرّهم ويجدون من يدّعيه، أو من جهة أنّهم لم يجدوا في يوسف أثراً للغلام الذي يباع ويُشترى، بل وجدوا فيه آثار الحرّية واضحة في وجهه، ومن هنا فلا البائعون كانوا راغبين ببيعه ولا المشترون كانوا راغبين بشرائه.
_________________
1- تفسير الامثل،مكارم الشيرازي،ج6،ص246-255.
2- تفسير روح المعاني ج12،ص200،ذيل الاية مورد البحث.
3- تفسير روح المعاني ، ذيل الاية مورد البحث، تفسير القرطبي ،ج9،ص144، ذيل الاية مورد البحث.
4- صبر جميل (صفة وموصوف) خبر لمبتدأ محذوف، وتقدير الكلام: صبري صبر جميل.
5- تفسير روح المعاني ج12،ص203،ذيل الاية مورد البحث.
6- سمّيت القافلة «سيارة» لأنّها في سير وحركة دائمين.
7- «الوارد» في الأصل من «الورود» وهو من يأتي بالماء، ثمّ توسع استعمال الكلمة وأطلقت على كل ورود ودخول.
8 ـ «البضاعة» في الأصل من مادة «بضع» على وزن «نذر» ومعناها: القطعة من اللحم، ثمّ توسعوا في المعنى وأطلقوا هذا اللفظ على القطعة المهمّة، من المال. والبضعة هي القطعة من الجسد، وحَسنَ البضع معناه: الإِنسان المكتنز لحمه، و«بِضْع» على وزن «حِزب» معناه العدد من ثلاثة الى عشرة (راجع المفردات للراغب).
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|