أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-6-2020
3844
التاريخ: 16-5-2020
5013
التاريخ: 6-5-2020
3642
التاريخ: 2-5-2020
4423
|
قال تعالى :{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } [هود: 84 - 86]
عطف سبحانه قصة شعيب على ما تقدمها من قصص الأنبياء (عليهم السلام) فقال: { وَإِلَى مَدْيَنَ} أي: وأرسلنا إلى أهل مدين { أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} فحذف أهل وأقام مدين مقامه ومدين : اسم القبيلة أوالمدينة التي كانوا فيها فلذلك لم ينصرف عن الزجاج وقيل: مدين بن إبراهيم نسبوا إليه { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} قد سبق تفسيره {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} أي: ولا تنقصوا حقوق الناس بالتطفيف عند الكيل والوزن { إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} أي: برخص السعر والخصب عن ابن عباس والحسن والمعنى أنه حذرهم الغلاء وهو زيادة السعر وزوال النعمة وحلول النقمة إن لم يتوبوا وقيل: أراد بالخير: المال وزينة الدنيا عن قتادة وابن زيد والضحاك والمعنى إني أراكم في كثرة الأموال وسعة الأرزاق فلا حاجة بكم إلى نقصان الكيل والوزن.
{ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} وصف اليوم بالإحاطة بمعنى أنه يحيط عذابه بجميع الكفار ولا يفلت منه أحد منهم وأراد يوم القيامة عن الجبائي وهو من صفة العذاب على الحقيقة لأن اليوم محيط بعذابه بدلا من إحاطته بنعمته وذلك أظهر في الوصف وأهول في النفس { وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} أي: أوفوا حقوق الناس في المكيلات والموزونات بالمكيال والميزان بالعدل {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ} أي: ولا تنقصوا الناس { أشياءهم } أي: أموالهم في معاملاتهم {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} أي: ولا تسعوا بالفساد ولا تضربوا في الأرض { بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} البقية بمعنى الباقي أي ما أبقى الله تعالى لكم من الحلال بعد إتمام الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف وشرط الإيمان في كونه خيرا لهم لأنهم إن كانوا مؤمنين بالله عرفوا صحة هذا القول عن ابن عباس وقيل: معناه إبقاء الله النعيم عليكم خيرا لكم مما يحصل من النفع بالتطفيف عن ابن جبير وقيل: معناه طاعة الله خير لكم من جميع الدنيا لأنها يبقى ثوابها أبدا والدنيا تفنى عن الحسن ومجاهد ويؤيده قوله والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا الآية وقيل بقية الله رزق الله عن الثوري {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي: وما أنا بحافظ نعم الله تعالى عليكم أن يزيلها عنكم وإنما يحفظها الله عليكم فاطلبوا بقاء نعمه بطاعته وقيل : معناه وما أنا بحافظ لأعمالكم وإنما يحفظها الله فيجازيكم عليها وقيل معناه وما أنا بحافظ عليكم كيلكم ووزنكم حتى توفوا الناس حقوقهم ولا تظلموهم وإنما علي أن أنهاكم عنه.
___________________
1- تفسير مجمع البيان ،الطبرسي،ج5،ص320-321.
{ وإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهً ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ } .
مرّ بالحرف الواحد في الآية 85 من سورة الأعراف ج 3 ص 356 .
{ ولا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ والْمِيزانَ } . هذا نهي عن التطفيف ، ومثله الآية الأولى من المطففين : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } أي ينقصون { إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ } المراد بالخير السعة في الرزق { وإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ } هذا إنذار لهم بالعذاب ان أصروا على العصيان .
{ ويا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ والْمِيزانَ بِالْقِسْطِ } بعد أن نهاهم عن النقصان أمرهم بالوفاء والتمام ، والمعنيان واحد ، ولا نفهم الغرض من ذلك إلا التأكيد { ولا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ } . والأشياء تشمل كل شيء ، ومنه الحق المادي والمعنوي وعليه يكون التحريم عاما للبخس في الكيل والميزان ، ولبخس الإنسان وانتقاصه في علمه أو خلقه .
{ ولا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ } . ظاهر اللفظ يدل على أن المعنى ولا تفسدوا في الأرض مفسدين ، لأن العثو والفساد بمعنى واحد ، فوجب إما تأويل كلمة العثو بالسعي ، ويكون المعنى ولا تسعوا في الأرض مفسدين ، وإما تأويل كلمة مفسدين بمتعمدين ، ويكون المعنى ولا تفسدوا في الأرض متعمدين أو معتدين ، وذلك بأن تثيروا الحرب وتسفكوا الدماء بلا سبب موجب ، اما إذا كانت الحرب للقضاء على الفساد والحرب فيكون تركها ، والحال هذه ، هو الفساد ، ومن هنا كان الجهاد من أفضل الطاعات . وهذا التأويل أرجح من غيره .
{ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } . ان الحلال الطيب خير وأبقى وان قل ، والحرام الخبيث شر محض وان كثر ، ولو بحثنا عن أسباب الحروب في هذا العصر لوجدناها تكمن في الاحتكارات وتكدس الثروات في أيدي القلة القليلة ، وحرمان الأكثرية الغالبة . . ومن الصدف اني قرأت في صحف اليوم 24 / 12 / 1968 ان جماعة من اللندنيين تظاهروا بالأمس متوجهين إلى قصر باكنجهام ، وقدموا مذكرة إلى الملكة يطالبونها بأن تتخلى عن قصرها الذي يستوعب ألف شخص ، بينما لا يجد 6 آلاف شخص مسكنا لهم في لندن وحدها . . { وما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } يمنعكم عن المعصية بالقهر والغلبة ، ولا مهمة لي سوى النصح والتبليغ ، وقد أديتها كاملة ، وخرجت من عهدتها ومسؤوليتها .
___________________
1- التفسير الكاشف، محمد جواد مغنية،ج4، ص257-258.
تذكر الآيات قصة شعيب (عليه السلام) و قومه وهم أهل مدين، وكانوا يعبدون الأصنام، وكان قد شاع التطفيف في الكيل والوزن عندهم واشتد الفساد فيهم فأرسل الله سبحانه شعيبا (عليه السلام) إليهم فدعاهم إلى التوحيد وتوفية الميزان والمكيال بالقسط وترك الفساد في الأرض، وبشرهم وأنذرهم وبالغ في عظتهم وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: كان شعيب خطيب الأنبياء.
فلم يجبه القوم إلا بالرد والعصيان، هددوه بالرجم والطرد من بينهم وبالغوا في إيذائه وإيذاء شرذمة من الناس آمنوا به وصدهم عن سبيل الله وداموا على ذلك حتى سأل الله أن يقضي بينه وبينهم فأهلكهم الله تعالى.
قوله تعالى:{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} إلى آخر الآية عطف على ما تقدمه من قصص الأنبياء وأممهم، ومدين اسم مدينة كان يسكنها قوم شعيب ففي نسبة إرسال شعيب إلى مدين وكان مرسلا إلى أهله نوع من المجاز في الإسناد كقولنا: جرى الميزاب، وفي عد شعيب (عليه السلام) أخا لهم دلالة على أنه كان ينتسب إليهم.
وقوله:{ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} تقدم تفسيره في نظائره.
وقوله:{ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} المكيال والميزان اسما آلة بمعنى ما يكال به وما يوزن به، ولا يوصفان بالنقص وإنما يوصف بالنقص كالزيادة والمساواة المكيل والموزون فنسبة النقص إلى المكيال والميزان من المجاز العقلي.
وفي تخصيص نقص المكيال والميزان من بين معاصيهم بالذكر دلالة على شيوعه بينهم وإقبالهم عليه وإفراطهم فيه بحيث ظهر فساده وبان سيىء أثره فأوجب ذلك شدة اهتمام به من داعي الحق فدعاهم إلى تركه بتخصيصه بالذكر من بين المعاصي.
وقوله:{ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} أي أشاهدكم في خير، وهو ما أنعم الله تعالى عليكم من المال وسعة الرزق والرخص والخصب فلا حاجة لكم إلى نقص المكيال والميزان، واختلاس اليسير من أشياء الناس طمعا في ذلك من غير سبيله المشروع وظلما وعتوا، وعلى هذا فقوله:{ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} تعليل لقوله:{ولا تنقصوا المكيال والميزان}.
ويمكن تعميم الخير بأن يراد به أنكم مشمولون لعناية الله معنيون بنعمه آتاكم عقلا ورشدا ورزقكم رزقا فلا مسوغ لأن تعبدوا الآلهة من دونه وتشركوا به غيره، وأن تفسدوا في الأرض بنقص المكيال والميزان، وعلى هذا يكون تعليلا لما تقدمه من الجملتين أعني قوله:{اعبدوا الله} إلخ، وقوله:{ولا تنقصوا} إلخ، كما أن قوله:{ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} كذلك.
فمحصل قوله:{إني أراكم} إلى آخر الآية أن هناك رادعين يجب أن يردعاكم عن معصية الله: أحدهما: أنكم في خير ولا حاجة لكم إلى بخس أموال الناس من غير سبيل حلها.
وثانيهما: أن وراء مخالفة أمر الله يوما محيطا يخاف عذابه.
وليس من البعيد أن يراد بقوله:{إني أراكم بخير} إني أراكم برؤية خير أي أنظر إليكم نظر الناصح المشفق الذي لا يصاحب نظره إلا الخير ولا يريد بكم غير السعادة، وعلى هذا يكون قوله:{وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط} كعطف التفسير بالنسبة إليه.
وقوله:{ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} يشير به إلى يوم القيامة أو يوم نزول عذاب الاستئصال ومعنى كون اليوم - وهو يوم القضاء بالعذاب - محيطا أنه لا مخرج منه ولا مفر ولا ملاذ من دون الله فلا يدفع فيه ناصر ولا معين، ولا ينفع فيه توبة ولا شفاعة، ويئول معنى الإحاطة إلى كون العذاب قطعيا لا مناص منه ومعنى الآية أن للكفر والفسوق عذابا غير مردود أخاف أن يصيبكم ذلك.
قوله تعالى:{ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} إلخ، الإيفاء إعطاء الحق بتمامه والبخس النقص كرر القول في المكيال والميزان بالأخذ بالتفصيل بعد الإجمال مبالغة في الاهتمام بأمر لا غنى لمجتمعهم عنه، وذلك أنه دعاهم أولا إلى الصلاح بالنهي عن نقص المكيال والميزان، وعاد ثانيا فأمر بإيفاء المكيال والميزان ونهى عن بخس الناس أشياءهم إشارة إلى أن مجرد التحرز عن نقص المكيال والميزان لا يكفي في إعطاء هذا الأمر حقه - وإنما نهى عنه أولا لتكون معرفة إجمالية هي كالمقدمة لمعرفة التكليف تفصيلا - بل يجب أن يوفي الكائل والوازن مكياله وميزانه ويعطياهما حقهما ولا يبخسا ولا ينقصا الأشياء المنسوبة إلى الناس بالمعاملة حتى يعلما أنهما أديا إلى الناس أشياءهم وردا إليهم مالهم على ما هو عليه.
وقوله:{ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} قال الراغب: العيث والعثي يتقاربان نحو جذب وجبذ إلا أن العيث أكثر ما يقال في الفساد الذي يدرك حسا والعثي فيما يدرك حكما يقال: عثي يعثى عثيا، وعلى هذا{ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} وعثا يعثو عثوا. انتهى.
وعلى هذا فقوله:{مفسدين} حال من ضمير{لا تعثوا} لإفادة التأكيد نظير ما يفيده قولنا: لا تفسدوا إفسادا.
والجملة أعني قوله:{ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} نهي مستأنف عن الفساد في الأرض من قتل أو جرح أو أي ظلم مالي أو جاهي أو عرضي لكن لا يبعد أن يستفاد من السياق كون الجملة عطفا تفسيريا للنهي السابق فيكون نهيا تأكيديا عن التطفيف ونقص المكيال والميزان لأنه من الفساد في الأرض.
بيان ذلك: أن الاجتماع المدني الدائر بين أفراد النوع الإنساني مبني على المبادلة حقيقة فما من مواصلة ومرابطة بين فردين من أفراد النوع إلا وفيه إعطاء وأخذ فلا يزال المجتمعون يتعاونون في شئون حياتهم يفيد فيه الواحد غيره ليستفيد منه ما يماثله أويزيد عليه ويدفع إليه نفعا ليجذب منه إلى نفسه نفعا وهو المعاملة والمبادلة.
ومن أظهر مصاديق هذه المبادلة المعاملات المالية وخاصة في الأمتعة التي لها حجم أو وزن مما يكتال أو يوزن فإن ذلك من أقدم ما تنبه الإنسان لوجوب إجراء سنة المبادلة فيه.
فالمعاملات المالية وخاصة البيع والشرى من أركان حياة الإنسان الاجتماعية يقدر الواحد منهم ما يحتاج إليه في حياته الضرورية بالكيل أو الوزن، وما يجب عليه أن يبذله في حذائه من الثمن ثم يسير في حياته بانيا لها على هذا التقدير والتدبير.
فإذا خانه معامله ونقص المكيال والميزان من حيث لا يشعر هو فقد أفسد تدبيره وأبطل تقديره، واختل بذلك نظام معيشته من الجهتين معا من جهة ما يقتنيه من لوازم الحياة بالاشتراء ومن جهة ما يبذله من الثمن الزائد الذي يتعب نفسه في تحصيله بالاكتساب فيسلب إصابة النظر وحسن التدبير في حياته ويتخبط في مسيرها خبط العشواء وهو الفساد.
وإذا شاع ذلك في مجتمع فقد شاع الفساد فيما بينهم ولم يلبثوا دون أن يسلبوا الوثوق والاطمئنان واعتماد بعضهم على بعض ويرتحل بذلك الأمن العام من بينهم وهو النكبة الشاملة التي تحيط بالصالح والطالح والمطفف والذي يوفي المكيال والميزان على حد سواء، وعاد بذلك اجتماعهم اجتماعا على المكر وإفساد الحياة لا اجتماعا على التعاون لسعادتها، قال تعالى:{ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا:} إسراء: - 35.
قوله تعالى:{ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} البقية بمعنى الباقي والمراد به الربح الحاصل للبائع وهو الذي يبقى له بعد تمام المعاملة فيضعه في سبيل حوائجه، وذلك أن المبادلة وإن لم يوضع بالقصد الأول على أساس الاسترباح، وإنما كان الواحد منهم يقتني شيئا من متاع الحياة، فإذا كان يزيد على ما يحتاج إليه بدل الزائد المستغنى عنه من متاع آخر يحتاج إليه ولا يملكه ثم أخذت نفس التجارة وتبديل الأمتعة من الأثمان حرفة يكتسب بها المال ويقتني بها الثروة فأخذ الواحد منهم متاعا من نوع واحد أو أنواع شتى وعرضه على أرباب الحاجة للمبادلة، وأضاف إلى رأس ماله فيه شيئا من الربح بإزاء عمله في الجمع والعرض ورضي بذلك الناس المشترون لما فيه من تسهيل أمر المبادلة عليهم فللتاجر في تجارته ربح مشروع يرتضيه المجتمع بحسب فطرتهم يقوم معيشته ويحول إليه ثروة يقتنيها ويقيم بها صلب حياته.
فالمراد أن الربح الذي هو بقية إلهية هداكم الله إليه من طريق فطرتكم هو خير لكم من المال الذي تقتنونه من طريق التطفيف ونقص المكيال والميزان إن كنتم مؤمنين فإن المؤمن إنما ينتفع من المال بالمشروع الذي ساقه الله إليه من طريق حله، وأما غير ذلك مما لا يرتضيه الله ولا يرتضيه الناس بحسب فطرتهم فلا خير له فيه ولا حاجة له إليه.
وقيل: إن الاشتراط بالإيمان في قوله:{إن كنتم مؤمنين} للدلالة على اشتراط الإيمان للعلم بذلك لا لأصله والمعنى إن كنتم مؤمنين علمتم صحة قولي: إن بقية الله خير لكم.
وقيل معنى الآية ثواب طاعة الله - بكون البقية بمعنى ثواب الطاعة الباقي - خير لكم إن كنتم مؤمنين. وقيل غير ذلك.
وقوله:{ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي وما يرجع إلى قدرتي شيء مما عندكم من نفس أو عمل أو طاعة أو رزق ونعمة فإنما أنا رسول ليس عليه إلا البلاغ، لكم أن تختاروا ما فيه رشدكم وخيركم أو تسقطوا في مهبط الهلكة من غير أن أقدر على جلب خير إليكم أو دفع شر منكم فهو كقوله تعالى:{ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ:} الأنعام: - 104.
___________________________
1- تفسير الميزان ،الطباطبائي،ج10،ص286-289.
مدين بلدة شعيب ...
مع انتهاء قصّة قوم لوط تصل النوبة إِلى قوم شعيب وأهل مدين، أُولئك الذين حادوا عن طريق التوحيد وهاموا على وجوههم في شركهم وعبادة الأصنام، ولم يعبدوا الأصنام فحسب، بل الدّرهم والدينار والثروة والمال، ومن أجل ذلك فإنّهم لوثوا تجارتهم الرابحة وكسبهم الوفير بالغش والبخس والفساد.
في بداية القصّة تقول الآيات {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} وكلمة «أخاهم» كما أشرنا إِليها سابقاً تستعمل في مثل هذا التعبير لبيان منتهى المحبّة من قِبَل الأنبياء لقومهم، لا لأنّهم أفراد قبيلته وقومه فحسب، بل إِضافةً إِلى ذلك فإنّه يريد الخيرَ لهم. ويتحرق قلبه عليهم، فمثله مثل الأخ الودود.
و«مدين» على وزن «مريم» اسم لمدينة شعيب وقبيلته، وتقع المدينة شرق خليج العقبة، وأهلها من أبناء إِسماعيل، وكانوا يتاجرون مع أهل مصر ولبنان وفلسطين.
ويطلق اليوم على مدينة «مدين» اسم «معّان» ولكن بعض الجغرافيين أطلقوا اسم مدين على الساكنين بين خليج العقبة وجبل سيناء.
وورد في التوراة أيضاً اسم «مديان» ولكن تسمية لبعض القبائل، وطبيعي أنّ اطلاق الاسم على المدينة وأهلها أمر رائج(2).
هذا النّبي وهذا الأخ الودود المشفق على قومه ـ كأي نبيّ في أُسلوبه وطريقته في بداية الدعوة ـ دعاهم أوّلا إِلى ما هو الأساس والعماد والمعتقد وهو «التوحيد» وقال: { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}.
لأنّ الدعوة إِلى التوحيد دعوة إِلى هزيمة جميع «الطواغيت» والسُنَن الجاهلية ولا يتيسر أيّ إِصلاح اجتماعي أو أخلاقي بدونه.
ثمّ أشار إِلى أحد المفاسد الإِقتصادية التي هي من افرازات عبادة الأصنام والشرك، وكانت رائجة عند أهل مدين يومئذ جدّاً، وقال: {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ}أي حال البيع والشراء.
و«المكيال» و«الميزان» من ادوات الوزن يعرف بهما وزن المبيع ومقداره، ونقصانه يعني عدم إِيفاء حقوق الناس والبخس في البيع.
ورواج هذين الأمرين بينهم يدل على عدم النظم والحساب والميزان في أعمالهم ونموذجاً للظلم والجور والإجحاف في ذلك المجتمع الثري.
ويشير هذا النّبي العظيم بعد هذا الأمر إلى علّتين:
العلّة الأُولى: هي قوله {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ}.
يقول أوّلا: إِنّ قبول نصحي يكون سبباً لتفتح أبواب الخير عليكم وتقديم التجارة وهبوط سطح القيمة واستقرار المجتمع.
ويحتمل أيضاً في تفسير هذه الجملة {إِنّي أراكم بخير} أنّ شعيباً يقول لهم: إِنّي أراكم منعمين وفي خير كثير، فعلى هذا لا مدعاة لعبادة الأصنام وإضاعة حقوق الناس والكفر بدلا من الشكر على نعم الله سبحانه.
وثانياً: {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} بسبب إِصراركم على الشرك والتطفيف في الوزن وكفران النعمة ... الخ.
وكلمة «محيط» جاءت صفة ليوم، أي يوم شامل ذو إِحاطة، وشمول اليوم يعني شمول العذاب والعقاب في ذلك اليوم، وهذا التعبير فيه إِشارة إِلى عذاب الآخرة كما يشير إِلى عقاب الدنيا الشامل.
فعلى هذا لا أنتم بحاجة إِلى مثل هذه الأعمال، ولا ربّكم غافل عنكم، فينبغي اِصلاح أنفسكم عاجلا.
والآية الأُخرى تؤكّد على نظامهم الإِقتصادي، فإذا كان شعيب قد نهى قومه عن قلّة البيع والبخس في المكيال، فهنا يدعوهم إِلى إِيفاء الحقوق والعدل والقسط حيث يقول: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}.
ويجب أن يحكم هذا الأصل «وهو اقامة القسط والعدل، وإِعطاء كل ذي حقّ حقه» على مجتمعكم بأسره.
ثمّ يخطو خطوة أوسع ويقول: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} و«البخس» ومعناه في اللغة التقليل، وجاء هنا بمعنى الظلم أيضاً. ويطلق على الأراضي المزروعة دون سقي «إِنّها بخس» لأنّ ماءها قليل، حيث تعتمد على ماء المطر فحسب، أو أنّ هذه الأراضي قليلة الإِنتاج بالنسبة إِلى الأراضي الزراعية الأُخرى.
وإِذا توسعنا في معنى هذه الكلمة ومفهوم الجملة وجدناها دعوة إِلى رعاية جميع الحقوق الفردية والإِجتماعية ولجميع الملل والنحل، ويظهرُ «بخس الحق» في كل محيط وعصر وزمان بشكل معين حتى بالمساعدة دون عوض أحياناً، والتعاون وإِعطاء قرض معين (كما هي طريقة المستعمرين في عصرنا).
ونجد في نهاية الآية أنّ شعيباً يخطو خطوةً أُخرى أوسع ويقول لقومه: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}.
فالفساد يقع عن طريق البيع ويقع عن طريق غصب حقوق الناس والإِعتداء على حقوق الآخرين، والفساد أيضاً يقع في الإِخلال بالموازين والمقاييس الإِجتماعيّة، ويقع أيضاً ببخس الناس أشياءهم وأموالهم، وأخيراً يقع الفساد على الحيثيات بالإِعتداء على حرمتها وعلى النواميس وأرواح الناس.
وجملة {لا تعثوا} معناها «لا تفسدوا» بدلالة ذكر مفسدين بعدها لمزيد التوكيد على هذا الموضوع.
إِنّ الآيتين المتقدمتين تعكسان هذه الواقعية بجلاء، وهي أنّه بعد الإِعتقاد بالتوحيد والنظر الفكري الصحيح، يُنظر إِلى الإِقتصاد السليم بأهمية خاصّة، كما تدلاّن على أنّ الإِخلال بالنظام الإِقتصادي سيكون أساساً للفساد الوسيع في المجتمع.
ثمّ يخبرهم أنّ زيادة الثروة ـ التي تصل إِلى أيديكم عن طريق الظلم واستثمار الآخرين ـ ليست هي السبب في غناكم، بل ما يغنيكم هو {بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
التعبير بـ(بقية الله) إِمّا لأنّ الربح الحلال القليل المترشح عن أمر الله فهو «بقية الله» وإِمّا لأنّ الحصول على الرزق الحلال باعث على دوام نعم الله وبقاء البركات ... وإِمّا لأنّه يشير إِلى الجزاء والثواب المعنوي الذي يبقى إِلى الأبد. فإنّ الدنيا فانية وما فيها لا محاله فان، وتشير الآية (46) من سورة الكهف: {والباقيات الصالحات خير عند ربّك ثواباً وخير أملا} إِلى هذا المضمون أيضاً. والتعبير بقوله: {إِنّ كنتم مؤمنين} إِشارة إِلى أنّ هذه الواقعية لا يعرفها إِلاّ المؤمنون بالله وحكمته وفلسفة أوامره.
ونقرأ في روايات متعددة في تفسير {بقية الله} أنّ المراد بها وجود المهدي عجل الله فرجه الشريف، أو بعض الأئمّة الآخرين(3)، ومن هذه الرّوايات ما نقل عن الإِمام الباقر(عليه السلام) في كتاب إِكمال الدين:
«أوّل ما ينطق به القائم(عليه السلام) حين يخرج هذه الآية { بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ثمّ يقول: أنا بقية الله وحجّته وخليفته عليكم، فلا يسلّم عليه مسلم إِلاّ قال: السّلام عليك يا بقية الله في أرضه»(4).
وقد قلنا مراراً إِنّ آيات القرآن بالرغم من نزولها في موارد خاصّة، إِلاّ أنّها تحمل مفاهيم جامعة وكلية، بحيث يمكن أن تكون أثر مصداقاً في العصور والقرون التالية وتنطبق على مجال أوسع أيضاً.
صحيح أنّ المخاطبين في الآية المتقدمة هم قوم شعيب، والمراد من (بقية الله) هو الربح ورأس المال الحلال أو الثواب الإِلهي، إِلاّ أنّ كل موجود نافع باق من قبل الله للبشرية، ويكون أساس سعادتها وخيرها يعدّ {بقية الله} أيضاً.
فجميع أنبياء الله ورسله المكرمين هم {بقية الله} وجميع القادة الحقّ الذين يبقون بعد الجهاد المرير في وجه الأعداء فوجودهم في الأُمّة يُعدّ {بقية الله}وكذلك الجنود المقاتلون إذا عادوا إِلى ذويهم من ميدان القتال بعد انتصاهم على الأعداء فهم «بقية الله» ومن هنا فإنّ «المهدي الموعود»(عليه السلام) آخر إِمام وأعظم قائد ثوري بعد النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من أجلى مصاديق {بقية الله} وهو أجدر من سواه بهذا اللقب، خاصّة أنّه الوحيد الذي بقي بعد الأنبياء والأئمّة(عليهم السلام).
وفي نهاية الآية ـ محل البحث ـ نقرأ على لسان شعيب { وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} إذ وظيفته هي البلاغ وليس مسؤولا على «إِجبار» أحد أبداً.
_____________________
1- تفسير الامثل ،مكارم الشيرازي،ج6،ص143-147.
2- أعلام القرآن، ص 573.
3- اصول الكافي ،ج1،ص411،ح2، وبحار الانوار ،ج10،ص153و154،ح3.
4 ـ نقلا عن تفسير الصافي، ذيل الابة مورد البحث ، وبحار الانوار ،ج24،ص212.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|