أقرأ أيضاً
التاريخ: 27-4-2020
4514
التاريخ: 3-5-2020
11115
التاريخ: 1-5-2020
2400
التاريخ: 27-4-2020
4290
|
قال تعالى : {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُو أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر : 68 - 72]
تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1)
{ونفخ في الصور} وهو قرن ينفخ فيه إسرافيل ووجه الحكمة في ذلك أنها علامة جعلها الله ليعلم بها العقلاء آخر أمرهم في دار التكليف ثم تجديد الخلق فشبه ذلك بما يتعارفونه من بوق الرحيل والنزول ولا تتصوره النفوس بأحسن من هذه الطريقة وقيل أن الصور جمع صورة فكأنه نفخ في صورة الخلق عن قتادة وروي عنه أنه قرأ في الصور بفتح الواو .
{فصعق من في السماوات ومن في الأرض} أي يموت من شدة تلك الصيحة التي تخرج من الصور جميع من في السماوات والأرض يقال صعق فلان إذا مات بحال هائلة شبيهة بالصيحة العظيمة {إلا من شاء الله} اختلف في المستثنى فقيل هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عن السدي وهو المروي عن حديث مرفوع وقيل هم الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله عن سعيد بن جبير وعطا عن ابن عباس وأبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنه سأل جبرائيل عن هذه الآية من الذي لم يشأ الله أن يصعقهم قال هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش .
{ثم نفخ فيه أخرى} يعني نفخة البعث وهي النفخة الثانية وقال قتادة في حديث رفعه أن ما بين النفختين أربعين سنة وقيل إن الله تعالى يفني الأجسام كلها بعد الصعق وموت الخلق ثم يعيدها وقوله {فإذا هم قيام} إخبار عن سرعة إيجادهم لأنه سبحانه إذا نفخ النفخة الثانية أعادهم عقيب ذلك فيقومون من قبورهم أحياء {ينظرون} أي ينتظرون ما يفعل بهم وما يؤمرون به .
{وأشرقت الأرض بنور ربها} أي أضاءت الأرض بعدل ربها يوم القيامة لأن نور الأرض بالعدل كما أن نور العلم بالعمل عن الحسن والسدي وقيل بنور يخلقه الله عز وجل يضيء به أرض القيامة من غير شمس ولا قمر {ووضع الكتاب} أي كتب الأعمال التي كتبتها الملائكة على بني آدم توضع في أيديهم ليقرءوا منها أعمالهم والكتاب اسم جنس فيؤدي معنى الجمع أي يوضع كتاب كل إنسان في يمينه أو شماله {وجيء بالنبيين والشهداء} أي يعطى بهم والشهداء هم الذين يشهدون للأنبياء على الأمم بأنهم قد بلغوا وإن الأمم قد كذبوا عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقيل هم الذين استشهدوا في سبيل الله عن السدي وقيل هم عدول الآخرة يشهدون على الأمم بما شاهدوا عن الجبائي وأبي مسلم وهذا كما جرت العادة بأن القضاء يكون بمشهد الشهداء والعدول وقيل هم الحفظة من الملائكة ويدل عليه قوله وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد وقيل هم جميع الشهداء من الجوارح والمكان والزمان {وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون} أي يفصل بينهم بمر الحق لا ينقص أحد منهم شيئا مما يستحقه من الثواب ولا يفعل به ما لا يستحقه من العقاب .
{ووفيت كل نفس ما عملت} أي يعطي كل نفس عاملة بالطاعات جزاء ما عملته على الوفاء والكمال دون النقصان {وهو أعلم بما يفعلون} أي والله سبحانه أعلم من كل أحد بما يفعلونه من طاعة أو معصية ولم يأمر الملائكة بكتبة الأعمال لحاجة إلى ذلك بل لزيادة تأكيد وليعلموا أنه يجازيهم بحسب ما عملوا .
ثم أخبر سبحانه عن قسمة أحوال الخلائق في المحشر بعد فصل القضاء فقال {وسيق الذين كفروا} أي يساقون سوقا في عنف {إلى جهنم زمرا} أي فوجا بعد فوج وزمرة بعد زمرة {حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها} أي حتى إذا انتهوا إلى جهنم فتحت أبواب جهنم عند مجيئهم إليها وهي سبعة أبواب {وقال لهم خزنتها} الموكلون بها على وجه التهجين لفعلهم والإنكار عليهم {أ لم يأتكم رسل منكم} أي من أمثالكم من البشر {يتلون عليكم} يقرءون عليكم حجج ربكم وما يدلكم على معرفته ووجوب عبادته {وينذرونكم لقاء يومكم هذا} أي ويخوفونكم من مشاهدة هذا اليوم وعذابه .
{قالوا} أي قال الكفار لهم {بلى} قد جاءتنا رسل ربنا وخوفونا ب آيات الله {ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين} أي وجب العقاب على من كفر بالله تعالى لأنه أخبر بذلك وعلم من يكفر ويوافي بكفره فقطع على عقابه فلم يكن شيء يقع منه خلاف ما علمه وأخبر به فصار كوننا في جهنم موافقا لما أخبر به تعالى ولما علمه {قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها} أي فيقول عند ذلك خزنة جهنم وهم الملائكة الموكلون ادخلوا أبواب جهنم مؤبدين لا آخر لعقابكم {فبئس مثوى المتكبرين} أي بئس موضع إقامة المتكبرين عن الحق وقبوله جهنم .
______________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج8 ، ص416-420 .
تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1)
{ونُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ ومَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ} .
النفخ في الصور كناية عن الصيحة ، قال تعالى : {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} - 42 ق . وفي بعض التفاسير ان هذه الصيحة أو هذا النفخ يتكرر ثلاث مرات : الأولى نفخة الفزع التي ذكرت في الآية 87 من سورة النمل : {ويَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ ومَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ} وهم المتقون الذين سبقت لهم من اللَّه الحسنى .
النفخة الثانية نفخة الموت ، واليها أشار سبحانه بقوله : {ونُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ ومَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ} أي ان أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون إلا من استثناه سبحانه بقوله : {إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ} واختلف المفسرون في المستثنى من هو؟ فقيل : هو جبريل ومعه إسرافيل . وقال آخر : المراد به الشهداء . وقال ثالث : هو اللَّه - نستغفره ونتوب إليه - وغير بعيد أن لا يكون هذا استثناء حقيقيا بل لمجرد البيان ان الأمر للَّه وحده وان {كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ ويَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإِكْرامِ} - 26 الرحمن .
النفخة الثالثة للبعث ، واليها أشار تعالى بقوله : {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ} أي ينتظرون حكم اللَّه فيهم . وفي نهج البلاغة : وينفخ في الصور فتزهق كل مهجة ، وتبكم كل لهجة ، ولا شفيع يشفع ، ولا حميم يدفع ، ولا معذرة تنفع .
{وأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها} . المراد بالأرض هنا أرض المحشر ، وهي مشرقة بنور اللَّه تعالى لأنها طاهرة مطهرة من شتى أنواع الضلال والفساد . . ولا شيء فيها إلا الحق والعدل ( ووضع الكتاب ) أي صحائف الأعمال : {ونُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً} - 13 الإسراء . وقال الملا صدرا في كتاب الأسفار : (من فعل فعلا أوقال قولا ظهر أثره في نفسه وقلبه - ثم قال - وهذا الأثر الحاصل في القلب والروح هو بمنزلة النقش والكتابة الحاصلة في الكتب والألواح ، وتلك القلوب والأرواح التي فيها آثار الأفعال والأقوال يقال لها في لسان الشريعة صحائف الأعمال) .
{وجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ والشُّهَداءِ وقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وهُمْ لا يُظْلَمُونَ ووُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وهُو أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ} . المراد بالشهداء هنا النواب عن الأنبياء في تبليغ رسالتهم وسنتهم إلى الناس ، والمعنى أن اللَّه يحشر العباد غدا لنقاش الحساب ، ويأتي بالنبيين ، فيشهدون على نوابهم انهم قد أخذوا عليهم أن يعلَّموا ويبلغوا الناس ، ثم يشهد هؤلاء النواب على الناس انهم علموهم وبلغوهم على أكمل وجه ، وبعد قيام الحجة على النواب بشهادة الأنبياء ، وعلى الناس بشهادة النواب يحكم اللَّه بالعدل بين الجميع لا ينقص من ثواب من أطاع ، ولا يزيد في عقاب من عصى ، وهو أعلم بهما من أنفسهما ومن النبيين والشهداء ، وانما دعاهم للشهادة لإلزام الحجة وقطع المعذرة . انظر تفسير الآية 143 من سورة البقرة ج 1 ص 225 .
{وسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُوها فُتِحَتْ أَبْوابُها} . ذكر سبحانه في كتابه ألوانا من عذاب المجرمين ، منها الذل والهوان ، ومنها العمى وسواد الوجوه ، ومنها الأغلال والأصفاد وسرابيل القطران وطعام الزقوم وشراب الحميم ، ومنها أن تسوقهم بعنف ملائكة العذاب فوجا بعد فوج ليكونوا لجهنم حطبا ، وانها معهم على ميعاد ، ولذا يجدونها مفتحة الأبواب {وقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ ويُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا} ؟ القصد من هذا السؤال التقريع والتوبيخ : وانهم هم الذين اختاروا لأنفسهم سوء المصير .
{قالُوا بَلى ولكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ} . ومثله : {وقالُوا لَوكُنَّا نَسْمَعُ أَو نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحابِ السَّعِيرِ} - 11 الملك . {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} على الحق والخارجين على العدل ، ولولم يكن من دليل على جهنم إلا أنها أعدت للمتكبرين والطاغين وأهل الفساد والضلال - لولم يكن إلا هذا الدليل لكفى ، قال تعالى : {إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} – 145 النساء وقال : {إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً} - 23 النبأ . وقلنا فيما سبق لولم يكن للَّه محكمة في اليوم الآخر تقتص من الظالم للمظلوم لكان المقتول ظلما أسوأ حالا من قاتله . انظر تفسير الآية 4 من سورة يونس ج 4 ص 132 فقرة (الحساب والجزاء حتم) .
_______________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج6 ، ص432-434 .
تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)
قوله تعالى : {ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله} إلخ ظاهر ما ورد في كلامه تعالى في معنى نفخ الصور أن النفخ نفختان نفخة للإماتة ونفخة للإحياء ، وهو الذي تدل عليه روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وبعض ما ورد من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن كان بعض آخر من رواياتهم لا يخلو عن إبهام ولذا اختار بعضهم أنها ثلاث نفخات نفخة للإماتة ونفخة للإحياء والبعث ونفخة للفزع والصعق وقال بعضهم : إنها أربع نفخات ولكن دون إثبات ذلك من ظواهر الآيات خرط القتاد .
ولعل انحصار النفخ في نفختي الإماتة والإحياء هو الموجب لتفسيرهم الصعق في النفخة الأولى بالموت مع أن المعروف من معنى الصعق الغشية ، قال في الصحاح ، : يقال : صعق الرجل صعقا وتصاعقا أي غشي عليه وأصعقه غيره ، ثم قال : وقوله تعالى : {فصعق من في السموات ومن في الأرض} أي مات .
انتهى .
وقوله : {إلا من شاء الله} استثناء من أهل السماوات والأرض واختلف في من هم؟ فقيل : هم جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل سادة الملائكة فإنهم إنما يموتون بعد ذلك ، وقيل : هم هؤلاء الأربعة وحملة العرش ، وقيل : هم رضوان والحور ومالك والزبانية ، وقيل : وهو أسخف الأقوال : إن المراد بمن شاء الله هو الله سبحانه .
وأنت خبير بأن شيئا من هذه الأقاويل لا يستند إلى دليل من لفظة الآيات يصح الاستناد إليه .
نعم لو تصور لله سبحانه خلق وراء السماوات والأرض جاز استثناؤهم من أهلهما استثناء منقطعا أو قيل : إن الموت إنما يلحق الأجساد بانقطاع تعلق الأرواح بها وأما الأرواح فإنها لا تموت فالأرواح هم المستثنون استثناء متصلا ويؤيد هذا الوجه بعض(2) الروايات المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) .
وقوله : {ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} ضمير {فيه} للصور ، و{أخرى} صفة محذوف موصوفها أي نفخة أخرى ، وقيام جمع قائم و{ينظرون} أي ينتظرون أومن النظر بمعناه المعروف .
والمعنى : ونفخ في الصور نفخة أخرى فإذا هم قائمون من قبورهم ينتظرون ما يؤمرون أو ينتظرون ما ذا يفعل بهم أو فإذا هم قائمون ينظرون نظر المبهوت المتحير .
ولا ينافي ما في هذه الآية من كونهم بعد النفخ قياما ينظرون ما في قوله : {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس : 51] أي يسرعون ، وقوله : { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ : 18] ، وقوله : {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [النمل : 87] فإن فزعهم بالنفخ وإسراعهم في المشي إلى عرصة المحشر وإتيانهم إليها أفواجا كقيامهم ينظرون حوادث متقارنة لا يدفع بعضها بعضا .
قوله تعالى : {وأشرقت الأرض بنور ربها} إلى آخر الآية إشراق الأرض إضاءتها ، والنور معروف المعنى وقد استعمل النور في كلامه تعالى في النور الحسي كثيرا وأطلق أيضا على الإيمان وعلى القرآن بعناية أن كلا منهما يظهر للمتلبس به ما خفي عليه لولاه قال تعالى : {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة : 257] ، وقال : {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن : 8] .
وقد اختلفوا في معنى إشراق الأرض بنور ربها فقيل : إنها تضيء بنور يخلقه الله بلا واسطة أجسام مضيئة كالشمس والقمر وإضافته إليه تعالى من قبيل روحي و{ناقة الله} .
وفيه أنه لا يستند إلى دليل يعتمد عليه .
وقيل : المراد به تجلي الرب تعالى لفصل القضاء كما ورد في بعض الأخبار من طرق أهل السنة .
وفيه أنه على تقدير صحة الرواية لا يدل على المدعى .
وقيل : المراد به إضاءة الأرض بعدل ربها يوم القيامة لأن نور الأرض بالعدل كما أن نور العلم بالعمل .
وفيه أن صحة استعارة النور للعدل في نفسه لا تستلزم كون المراد بالنور في الآية هو العدل إلا بدليل يدل عليه ولم يأت به .
وفي الكشاف ، قد استعار الله عز وجل النور للحق والبرهان في مواضع من التنزيل وهذا من ذاك ، والمعنى وأشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق والعدل ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات .
وينادي عليه بأنه مستعار إضافته إلى اسمه لأنه هو الحق العدل ، وإضافة اسمه إلى الأرض لأنه يزينها حيث ينشر فيها عدله وينصب فيها موازين قسطه ويحكم بالحق بين أهلها ، ولا ترى أزين للبقاع من العدل ولا أعمر لها منه ، وفي هذه الإضافة أن ربها وخالقها هو الذي يعدل فيها وإنما يجور فيها غير ربها ، ثم ما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب والمجيء بالنبيين والشهداء والقضاء بالحق وهو النور المذكور ، وترى الناس يقولون للملك العادل : أشرقت الآفاق بعدلك وأضاءت الدنيا بقسطك كما تقول أظلمت البلاد بجور فلان قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : الظلم ظلمات يوم القيامة وكما فتح الآية بإثبات العدل ختمها بنفي الظلم . انتهى .
وفيه أولا : أن قوله إن النور مستعار في مواضع كثيرة من القرآن للحق والقرآن والبرهان فاستعارته للحق والبرهان غير ظاهر في شيء من الآيات .
وثانيا : أن الحق والعدل مفهومان متغايران وإن كانا ربما يتصادقان وكون النور في الآية مستعارا للحق لا يستلزم كون العدل مرادا به ، ولذا لما أراد بيان إرادة العدل من النور ذكر الحق مع العدل ثم استنتج للعدل دون الحق .
ولا يبعد أن يراد - والله أعلم - من إشراق الأرض بنور ربها ما هو خاصة يوم القيامة من انكشاف الغطاء وظهور الأشياء بحقائقها وبدو الأعمال من خير أوشر أو طاعة أو معصية أو حق أو باطل للناظرين ، وإشراق الشيء هو ظهوره بالنور ولا ريب أن مظهرها يومئذ هو الله سبحانه إذ الأسباب ساقطة دونه فالأشياء مشرقة بنور مكتسب منه تعالى .
وهذا الإشراق وإن كان عاما لكل شيء يسعه النور لكن لما كان الغرض بيان ما للأرض وأهله يومئذ من الشأن خصها بالبيان فقال : {وأشرقت الأرض بنور ربها} وذكره تعالى بعنوان ربوبية الأرض تعريضا للمشركين المنكرين لربوبيته تعالى للأرض وما فيها .
والمراد بالأرض مع ذلك الأرض وما فيها وما يتعلق بها كما تقدم أن المراد بالأرض في قوله : {والأرض جميعا قبضته} ذلك .
ويستفاد ما قدمناه من مواضع كثيرة من كلامه تعالى كقوله تعالى : { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق : 22] وقوله : {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ } [آل عمران : 30] ، وقوله : {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة : 4 - 8] وآيات أخرى كثيرة تدل على ظهور الأعمال وتجسمها وشهادة الأعضاء وغير ذلك .
وقوله : {ووضع الكتاب} قيل : المراد به الحساب وهوكما ترى وقيل : المراد به صحائف الأعمال التي يحاسب عليها ويقضى بها ، وقيل : المراد به اللوح المحفوظ ويؤيده قوله تعالى : {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية : 29] .
وقوله : {وجيء بالنبيين والشهداء} أما النبيون فليسألوا عن أداء رسالتهم كما يشعر به السياق قال تعالى : {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف : 6] ، وأما الشهداء وهم شهداء الأعمال فليؤدوا ما تحملوه من الشهادة قال تعالى : {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء : 41] .
وقوله : {وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون} ضميرا الجمع للناس المعلوم من السياق ، والقضاء بينهم هو القضاء فيما اختلفوا فيه الوارد كرارا في كلامه تعالى قال : {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [يونس : 93] .
قوله تعالى : {ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون} التوفية الإعطاء بالتمام وقد علقت بنفس ما عملت دون جزائه ويقطع ذلك الريب في كونه قسطا وعدلا من أصله والآية بمنزلة البيان لقوله : {وهم لا يظلمون} .
وقوله : {وهو أعلم بما يفعلون} أي ليس حكمه بهذا النمط من وضع الكتاب والمجيء بالنبيين والشهداء عن جهل منه وحاجة بل لأن يجري حكمه على القسط والعدل فهو أعلم بما يفعلون .
والآية السابقة تتضمن القضاء والحكم وهذه الآية إجراؤه والآيات اللاحقة تفصيل إجرائه .
قوله تعالى : {وسيق الذين كفروا إلى جهنم} إلى آخر الآية السوق بالفتح فالسكون - على ما في المجمع ، - الحث على السير ، والزمر جمع زمرة وهي - كما في الصحاح ، - الجماعة من الناس .
والمعنى {وسيق} وحث على السير {الذين كفروا إلى جهنم زمرا} جماعة بعد جماعة {حتى إذا جاءوها} بلغوها {فتحت أبوابها} لأجل دخولهم وهي سبعة قال تعالى : {لها سبعة أبواب : } الحجر : - 44 {وقال لهم خزنتها} وهم الملائكة الموكلون عليها يقولون لهم تهجينا وإنكارا عليهم {أ لم يأتكم رسل منكم} من نوعكم من البشر {يتلون} ويقرءون {عليكم آيات ربكم} من الحجج الدالة على وحدانيته ووجوب عبادته {قالوا} بلى قد جاءوا وتلوا {ولكن} كفرنا وكذبنا و{حقت كلمة العذاب على الكافرين} وكلمة العذاب هي قوله تعالى حين أمر آدم بالهبوط : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة : 39] .
قوله تعالى : {قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين} القائل - على ما يفيده السياق - خزنة جهنم ، وفي قوله : {فبئس مثوى المتكبرين} دلالة على أن هؤلاء الذين كفروا هم المكذبون بآيات الله المعاندون للحق .
________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج17 ، ص238-242 .
تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1)
(النفخ في الصور) وموت وإحياء جميع العباد :
الآيات الأخيرة في البحث السابق تحدثت عن يوم القيامة ، وآية بحثنا الحالي تواصل الحديث عن ذلك اليوم مع ذكر إحدى الميزات المهمة له ، إذ تبدأ الحديث بنهاية الحياة في الدنيا ، وتقول : {ونفخ في الصور من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله} .
يتّضح بصورة جيدة من هذه الآية أنّ حادثتين تقعان مع نهاية العالم وعند البعث ، في الحادثة الأولى يموت الأحياء فوراً ، وفي الحادثة الثانية ـ التي تقع بعد فترة من وقوع الحادثة الأولى ـ يعود كلّ الناس إلى الحياة مرّة اُخرى ، ويقفون بانتظار الحساب .
القرآن المجيد عبّر عن هاتين الحادثتين بـ «النفخ في الصور» ، وهذا التعبير كناية عن الحوادث المفاجئة والمتزامنة التي ستقع و«الصور» بمعنى البوق الذي يتخذ من قرن الثور ويكون مجوفاً عادة حيث يستخدم مثل هذا البوق في حركة القوافل أو الجيش وتوقفها ، وطبعاً هناك تفاوت بين النفخة للتحركة والنفخة للتوقف .
كما يبيّن هذا التعبير سهولة الأمر ويوضح كيف أن الباريء عزّوجلّ ـ من خلال أمر بسيط وهو النفخ في الصور ـ يميت كلّ من في السماء والأرض ، وكيف أنّه يبعثهم من جديد بنفخة صور اُخرى .
وقلنا سابقاً إنّ الألفاظ التي نستخدمها في حياتنا اليومية عاجزة عن توضيح الحقائق المتعلقة بعالم ما وراء الطبيعة أو نهاية العالم وبدء عالم آخر بدقّة ، ولهذا السبب يجب الاستفادة من أوسع معاني الألفاظ الدارجة والمتداولة مع الإلتفات إلى القرائن الموجودة .
توضيح : لقد وردت تعبيرات مختلفة في القرآن المجيد عن نهاية الحياة في هذا العالم وبدء حياة اُخرى في عالم آخر ، حيث ورد الحديث عن (النفخ في الصور) في أكثر من عشر آيات (2) .
في إحداها استخدمت عبارة النفر في الناقور {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ } [المدثر : 8 ، 9] .
وفي بعضها استخدمت عبارة (القارعة) كما في الآيات (1 و2 و3 من سورة القارعة) (القارعة ، ما القارعة ، وما أدراك ما القارعة) .
وأخيراً استخدمت في بعضها عبارة «صحيحة» والتي تعني الصوت العظيم ، كما ورد ذلك في الآية (49) من سورة يس {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس : 49] التي تتحدث عن الصيحة التي تقع في نهاية العالم و تفاجىء كل بني آدم .
أمّا الآية (53) من سورة يس {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس : 53] فإنّها تتحدث عن صيحة (الإحياء) التي تبعث الناس من جديد وتحضرهم إلى محكمة العدل الإلهية .
من مجموع هذه الآيات يمكن أن يستشف بأن نهاية أهل السموات والأرض تتمّ بعد صيحة عظيمة وهي (صيحة الموت) وأنّهم يبعثون من جديد وهم قيام بصيحة عظيمة أيضاً ، وهذه هي (صيحة بعث الحياة) .
وأمّا كيف تكون هاتان الصيحتان؟
وما هي آثار الصيحة الأولى وتأثير الصيحة الثانية؟ فلا علم لأحد بهما إلاّ الله سبحانه وتعالى ، ولذا ورد في بعض الرّوايات التي تصف (الصور) الذي ينفخ فيه «إسرافيل» في نهاية العالم ، عن علي بن الحسين(عليه السلام) : ـ «وللصور رأس واحد وطرفان ، وبين طرف رأس كلّ منهما إلى الآخر مثل ما بين السماء إلى الأرض …» قال : فينفخ فيه نفخة فيخرج الصوت من الطرف الذي بلي الأرض فلا يبقى في الأرض ذو روح إلاّ صعق ومات ، ويخرج الصوت من الطرف الذي بلي السماوات فلا يبقى في السماوات ذو روح إلاّ صعق ومات إلاّ إسرافيل ، قال : فيقول الله لإسرافيل : يا إسرافيل ، مت ، فيموت إسرافيل . . .» (3) .
على أية حال ، فإنّ أكثر المفسّرين اعتبروا (النفخ في الصور) كناية لطيفة عن كيفية نهاية العالم وبدء البعث ، ولكن مجموعة قليلة من المفسّرين قالوا : إن (صور) هي جمع (صورة) وطبقاً لهذا القول ، فقد اعتبروا النفخ في الصور يعني النفخ في الوجه ، مثل نفخ الروح في بدون الإنسان ، ووفق هذا التّفسير ينفخ مرّة واحدة في وجوه بني آدم فيموتون جميعاً ، وينفخ مرة اُخرى فيبعثون جميعاً (4) .
هذا التّفسير إضافة إلى كونه لا يتطابق مع ما جاء في الروايات ، فإنّه لا يتطابق أيضاً مع الآية مورد بحثنا ، لأنّ الضمير في عبارة (ثم نفخ فيه اُخرى)مفرد مذكر يعود على الصور ، في حين لوكان يراد منه المعنى الثّاني لكان يجب استعمال ضمير المفرد المؤنث في العبارة لتصبح (نفخ فيها) .
إنّ النفخ في الوجه في مجال إحياء الأموات يعد أمراً مناسباً (كما في معجزات عيسى (عليه السلام)) إلاّ أنّ هذا التعبير لا يمكن استخدامه في مجال قبض الأرواح .
وقوله تعالى : {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } [الزمر : 69 ، 70] .
ذلك اليوم الذي تشرق الأرض بنور ربّها :
آيتا بحثنا تواصلان استعراض الحديث عن القيامة والذي بدأ قبل عدّة آيات ، وهاتان الآيتان تضمان سبع عبارات منسجمة ، كلّ واحدة تتناول أمراً من أُمور المعاد ، لتكمل بعضها البعض ، أو أنّها تقيم دليلا على ذلك .
في البداية تقول : {وأشرقت الأرض بنور ربّها} .
وقد اختلف المفسّرون في معنى إشراق الأرض بنور ربها ، إذ ذكروا تفسيرات عديدة ، اخترنا ثلاثاً منها ، وهي :
1 ـ قالت مجموعة : إنّ المراد من نور الرب هما الحق والعدالة ، الذي ينير بهما ربّ العالمين الأرض في ذلك اليوم ، حيث قال العلامة المجلسي في بحار الأنوار : «أي أضاءت الأرض بعدل ربها يوم القيامة ، لأن نور الأرض بالعدل» (5) .
والبعض الآخر اعتبر الحديث النبوي (الظلم ظلمات يوم القيامة) شاهداً على هذا المعنى (6) .
فيما قال «الزمخشري» في تفسيره الكشاف : (وأشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق والعدل ويبسطه من القسط في الحساب ووزن الحسنات والسيئات) .
2 ـ البعض الآخر يعتقد أنّه إشارة إلى نور غير نور الشمس والقمر ، يخلقه الله في ذلك اليوم خاصة .
3 ـ أمّا المفسّر الكبير العلاّمة الطباطبائي أعلى الله مقامه الشريف صاحب تفسير الميزان فقد قال : إنّ المراد من إشراق الأرض بنور ربّها هوما يخصّ يوم القيامة من انكشاف الغطاء وظهور الأشياء بحقائقها وبدو الأعمال من خير أو طاعة أو معصية أو حق أو باطل للناظرين . وقد استدل العلاّمة الطباطبائي على هذا الرأي بالآية (22) من سورة (ق) { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [ق : 22] . وهذا الإشراق ـ وإن كان عاماً لكل شيء يسعه النور ـ لكن لما كان الغرض بيان ما للأرض وأهلها يومئذ من الشأن خصها بالبيان .
وبالطبع فإن هذه التفاسير لا تتعارض فيما بينها ، ويمكن القول بصحتها جميعاً ، مع أن التّفسيرين الأوّل والثّالث أنسب من غيرهما .
ومن دون شك فإنّ هذه الآية تتعلق بيوم القيامة ، وإن وجدنا بعض روايات أهل البيت الأطهار (عليهم السلام) تفسّرها على أنّها تعود إلى ظهور القائم المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف ، فهي في الواقع نوع من التطبيق والتشبيه ، وتأكيد لهذا المعنى ، وهو عند ظهور المهدي (عج) تصبح الدنيا نموذجاً حياً من مشاهد القيامة ، إذ يملأ هذا الإمام بالحق ونائب الرّسول الأكرم وخليفة الله الأرض بالعدل إلى الحد الذي ترتضيه الحياة الدنيا .
ونقل (المفضل بن عمر) عن الإمام الصادق (عليه السلام) «إذا قام قائمنا أشرقت الأرض بنور ربّها واستغنى العباد عن ضوء الشمس وذهبت الظلمة» (7) .
العبارة الثّانية في هذه الآية تتحدث عن صحائف الأعمال ، إذ تقول : (ووضع الكتاب) .
الصحائف التي تتضمن جميع صغائر وكبائر أعمال الإنسان ، وكما يقول القرآن المجيد في الآية (49) من سورة الكهف {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا } [الكهف : 49] .
وتضيف العبارات التي تتحدث عن الشهود {وجيء بالنّبيين والشهداء} .
فالأنبياء يحضرون ليسألوا عن أدائهم لمهام الرسالة ، كما ورد في الآية (6) من سورة الأعراف {ولنسألن المرسلين} .
كما يحضر شهداء الأعمال في محكمة العدل الإلهية ليدلوا بشهاداتهم ، صحيح أن الباريء عزّوجلّ مطلع على كلّ الأُمور ، ولكن للتأكيد على مقام العدالة يدعو شهداء الأعمال للحضور في تلك المحكمة .
ذكر المفسّرون آراء عديدة بشأن أولئك الشهداء على الأعمال ، حيث قال البعض : إنّهم الصالحون والطاهرون والعادلون في الأمّة ، الذين يشهدون على أداء الأنبياء لرسالتهم ، وعلى أعمال الناس الذين كانوا يعاصرونهم ، و(الأئمة المعصومون) هم في طليعة شهداء الأعمال .
في حين يعتقد البعض الآخر بأنّ الملائكة هم الشهداء على أعمال الإنسان ، والآية (21) في سورة (ق) تعطي الدليل على هذا المعنى { وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } [ق : 21] .
وقال البعض : إن أعضاء بدن الإنسان ومكان وزمان الطاعة والمعصية هم الذين يشهدون على الإنسان يوم القيامة .
ويبدو أن كلمة (شهداء) لها معان واسعة ، أشار كلّ مفسر إلى جانب منها في تفسيره .
واحتمل البعض أنّها تخص «الشهداء» الذين قتلوا في سبيل الله ، ولكن هذا الأحتمال غير وارد وبعيد ، لأن الحديث هوعن شهداء محكمة العدل الإلهي ، وليس عن شهداء طريق الحق ، مع إمكانية انضمامهم إلى صفوف الشهود .
العبارة الرّابعة تقول : {وقضى بينهم بالحق} .
والخامسة تضيف : {وهم لا يظلمون} .
فمن البديهيات ، عندما يكون الحاكم هو الباريء عزّوجلّ ، وتشرق الأرض بنور عدالته ، وتعرض صحائف أعمال الإنسان التي تبيّن كلّ صغيرة وكبيرة بدقّة ، ويحضر الأنبياء والشهود والعدول ، فلا يحكم الباريء عزّوجلّ إلا بالحق ، وفي مثل هذا المحاكم لا وجود للظالم والاستبداد مطلقاً .
العبارة السادسة في الآية التالية أكملت الحديث بالقول : {ووفيت كلّ نفس ما عملت} .
إنّ جزاء الأعمال وعواقبها سترد إليهم ، وهل هناك مكافأة ومجازاة أعلى من أن يرد عمل الإنسان بصورة كاملة إلى الإنسان نفسه (نلفت الإنتباه إلى أن كلمة (وفيت) تعني الأداء بصورة كاملة) ويبقى مرافقاً له إلى الأبد .
فالذي يتمكن من تنفيذ مثل هذه المناهج العادلة بدقّة ، هو الذي أحاط علمه بكل شيء ، لهذا فإن العبارة السابعة والأخيرة في هذا البحث تقول : {وهو أعلم بما يفعلون} .
إذن فلا حاجة حتى للشهود ، لأنّ الله هو أعلم من كلّ أولئك الشهود ، ولكن لطفه وعدله يقتضيان إحضار الشهود ، نعم فهذا هو مشهد يوم القيامة ، فليستعد الجميع لذلك اليوم .
وقوله تعالى : {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } [الزمر : 71 ، 72]
الذين يدخلون جهنم زمراً :
تواصل الآيات هنا بحث المعاد ، وتستعرض بالتفصيل ثواب وجزاء المؤمنين والكافرين الذي استعرض بصورة مختصرة في الآيات السابقة . وتبدأ بأهل جهنم ، إذ تقول : {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً} .
فمن الذي يسوقهم إلى جهنم؟
كما هو معروف فإن ملائكة العذاب هي التي تسوقهم حتى أبواب جهنم ، ونظير هذه العبارة ورد في الآية (21) من سورة (ق) ، إذ تقول : {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } [ق : 21] .
عبارة «زمر» تعني الجماعة الصغيرة من الناس ، وتوضح أن الكافرين يساقون إلى جهنم على شكل مجموعات مجموعات صغيرة ومتفرقة .
و«سيق» من مادة (سوق) وتعني (الحث على اسير) .
ثم تضيف {حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربّكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا} (8) .
يتّضح بصورة جيدة من خلال هذه العبارة ، أن أبواب جهنم كانت مغلقة قبل سوق أُولئك الكفرة ، وهي كأبواب السجون المغلقة التي تفتح أمام المتهمين الذين يراد سجنهم ، وهذا لحدث المفاجيء يوجد رعباً ووحشة كبيرة في قلوب الكافرين ، وقبل دخولهم يتلقاهم خزنة جهنم باللوم والتوبيخ ، الذين يقولون استهجاناً وتوبيخاً لهم : لم كفرتم وقد هيئت لكم كافة أسباب الهداية ، ألم يرسل إليكم أنبياء منكم يتلون آيات الله عليكم باستمرار ، ومعهم معجزات من خالقكم ، وإنذار وإعلام بالأخطار التي ستصيبكم إن كفرتم بالله (9) ؟ فكيف وصل بكم الحال إلى هذه الدرجة رغم إرسال الأنبياء إليكم؟
حقّاً إنّ كلام خزنة جهنم يعد من أشد أنواع العذاب على الكافرين الذين يواجهون بمثل هذا اللوم فور دخولهم جهنم .
على أية حال ، فإنّ الكافرين يجيبون خزنة جهنم بعبارة قصيرة ملؤها الحسرات ، قائلين : {قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين} .
مجموعة من المفسّرين الكبار اعتبروا (كلمة العذاب) إشارة إلى قوله تعالى حين هبط آدم على الأرض ، أو حينما قرر الشيطان إغواء بني آدم ، كما ورد في الآية (39) من سورة البقرة {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة : 39] .
وحينما قال الشيطان : لأغوينهم جميعاً إلاّ عبادك المخلصين ، فأجابه الباريء عزّوجلّ {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة : 13] .
وبهذا الشكل اعترفوا بأنّهم كذبوا الأنبياء وانكروا آيات الله ، وبالطبع فإن مصيرهم لن يكون أفضل من هذا .
كما يوجد احتمال في أنّ المراد من (حقّت كلمة العذاب) هوما تعنيه الآية السابعة في سورة (يس) {لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون} .
وهو إشارة إلى أن الإنسان يصل أحياناً ـ بسبب كثرة ذنوبه وعدائه ولجاجته وتعصبه أمام الحق ـ إلى درجة يختم معها على قلبه ولا يبقى أمامه أيّ طريق للعودة ، وفي هذه الحالة يصبح مستحقاً تماماً للعذاب .
وعلى أيّة حال ، فإن مصدر كلّ هذه الأُمور هو عمل الإنسان ذاته ، وليس من الصحيح الاستدلال على معنى الجبر وفقدان حرية الإرادة .
هذا النقاش القصير ينتهي مع اقترابهم من عتبة جهنم {قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين} .
فأبواب جهنم ـ كما أشرنا إليها من قبل ـ يمكن أن تكون قد نظمت حسب أعمال الإنسان ، وإن كلّ مجموعة كافرة تدخل جهنم من الباب الذي يتناسب مع أعمالها ، وذلك مثل أبواب الجنّة التي يطلق على أحد أبوابها اسم «باب المجاهدين» وقد جاء في كلام لأمير المؤمنين «إنّ الجهاد باب من أبواب الجنّة» (10) .
والذي يلفت النظر هو أن ملائكة العذاب تؤّكد على مسألة التكبر من بين بقية الصفات الرذيلة التي تؤدي بالإنسان إلى السقوط في نار جهنم ، وذلك إشارة إلى أن التكبر والغرور وعدم الإنصياع والإستسلام أمام الحق هو المصدر الرئيسي للكفر والإنحراف وإرتكاب الذنب .
نعم ، فالتكبر ستار سميك يغطي عيني الإنسان ويحول دون رؤيته للحقائق الساطعة المضيئة ، ولهذا نقرأ في رواية عن الأمامين المعصومين الباقر والصادق عليهما السلام «لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال ذرة من كبر» (11) .
_____________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج11 ، ص564-577 .
2 ـ الآيات التي ورد فيها ما يشير إلى النفخ في الصور هي : (الكهف ـ 99) و(المؤمنون ـ (101) ، (يس ـ 51) ، (الزمر ـ 68) ، (ق ـ 20) ، (الحاقة ـ 13) ، (الأنعام ـ 73) ، (طه ـ 102) ، (النمل ـ 87) ، (النبأ ـ 18) .
3 ـ تفسير نور الثقلين ، المجلد 4 ، الصفحة 502 .
4 ـ يرجى الإنتباه إلى أنّ (صور) هي على وزن (نور) ، و(صُوَر) هي على وزن (زحل) هما جمع (الصورة) .
5 ـ بحار الانوار ، المجلد 6 ، الصفحة 321 .
6 ـ روح المعاني وروح البيان ذيل آية البحث .
7 ـ إرشاد المفيد والخبر ذاته في تفسير الصافي ونور الثقلين في ذيل آيات البحث ، ونفس المعنى ، ورد في المجلد الثّاني والخمسين الصفحة 330 من بحار الأنوار للمرحوم العلاّمة المجلسي ، مع شيء من الإختصار .
8 ـ «خزنة» جمع (خازن) من مادة (خزن) على وزن (جزم) وتعني حافظ الشيء ، و(خازن) تطلق على المحافظ والحارس .
9 ـ «يتلون» و«ينذرون» : كليهما فعل مضارع ودليل على الإستمرارية .
10 ـ نهج البلاغة ، الخطبة (27) .
11 ـ الكافي ، المجلد الثّاني ، باب الكبر الحديث 6 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|