المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24

فضل سورة الأنبياء
2023-10-29
Relations between trigonometric functions of the same angle
12-2-2017
صفات الباحث الناجح - الصبر والمثابرة
23-4-2018
إدارة الإنتاج بواسطة نظرية القيود
30-5-2016
عوامل الانتساخ العامة General Transcription
4-6-2018
مفهوم الشرط
7-7-2020


التنكير والتعريف  
  
38649   04:38 مساءاً   التاريخ: 26-03-2015
المؤلف : عبد الرحمن الميداني
الكتاب أو المصدر : البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها
الجزء والصفحة : ص306-351
القسم : الأدب الــعربــي / البلاغة / المعاني /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 26-03-2015 3275
التاريخ: 26-03-2015 18070
التاريخ: 14-9-2020 9842
التاريخ: 26-03-2015 11730

1) مقدمة

نعلم من مقرّرات النحويّين أنّ الكلمة تنقسم إلى: "اسم، وفعل، وحرف" وأنّ الجملة العربيّة تتألف من كلمتين فأكثر: من فعلِ واسم فأكثر، أو من اسمين فأكثر، وقد يدخل في الجملة الحرف للرّبط، أو لأداء معنى وُضِع له، وهذا المعنى يظهر عند تركيب الحرف مع غيره من الجملة.

وإذا أخذنا قسم "الاسم" الذي يدخل عنصراً أو أكثر ضمن عناصر الجملة فإنّنا نلاحظ أنّه قد يكون نكِرَةً، وقد يكون معرفة.

 

* أمّا النكرة: فاسم يطلق على القليل والكثير، أو على مفرد، أو على أكثر ومعناه شائع في جنس، أو نوع، أو صنف، أو نحو ذلك، وهذا يصدق بالمثنى والجمع.

وما يطلق على القليل والكثير صالح لأن يراد به أقل مقدار وأكثر مقدار، وما يطلق على مفرد صالح لأن يراد به أيّ فرد دون تعيين، وما يطلق على أكثر من مفرد صالح لأن يراد به أيُّ جمع دون تعيين إذا كان جمعاً، وأيّ اثنين إذا كان مثنى.

فالشائع في أفراد دون تعيين مثل: "رجل - امرأة - إنسان".

والشائع في مثاني أو جموع دون تعيين مثل: "رجلين - رجال - امرأتين - نساء".

وما يطلق على القليل والكثير من الجنس أو النوع أو الصنف مثل: "ماء - تراب - ريح".

* وأمّا المعرفة فاسم يَدُلُّ على مُعَيَّن مُمَيَّزٍ عن سائر الأفراد أو الجموع المشاركة له في الصفات العامة المشتركة، مثل "زيد" علماً لشخص معين، و"هؤلاء" اسماً يُشار به إلى جماعة معينة، وذكر النحويّون أنّ المعارف سبعة أقسام، قالوا: وترتيبها بحسب الأعْرَفِيَّة كما يلي:

الأول: الضمير، مثل: "أنا - أنت - أنتما - هو - هي - هما...".

الثاني: العلم، مثل: "زيد - أبي بكر - بدر الدين" وما يضاف إلى ضمير مثل: "يدي - رأسه - قلمكَ".

الثالث: اسم الإِشارة، مثل: "هذا - هذه - أولئك".

الرابع: اسم الموصول، مثل: "الذي جاءني - التي تزوجتها...".

الخامس: المحلّى بأل، مثل: "الرجل - المرأة - المؤمن - الرجال - النساء - المؤمنين".

السادس: المضاف إلى غير الضمير من المعارف السابقة، مثل: "زوجة سعيد - غلام هذا - قلم الذي زارني صباحاً - كتاب الرجل".

السابع: النكرة المقصودة في النداء، مثل: "يَا رَجُلُ" تخاطب رجلاً بعينه.

ولمَّا كانت الأسماء الّتي تدخل في بناء الجملة ذوات أقسام: النكرة بأقسامها الثلاثة، والمعرفة بأقسامها السبعة، فإنّ أمام منشىء الكلام بدائل من هذه الأسماء يمكن أن يختار منها.

لكنّ هذه البدائل ليستْ سواءً في دلالاتها، حتّى يأخذَ منْها ما يشاء لما يشاءُ، دون اختيار وانتقاء لما يراه أكثر ملائمة وأداءً لما يريد توصيله من المعاني، أو التعبير عنه.

لذلك كان لابدّ من رسم معالم هذه البدائل، وتوضيح فروق دلالاتها، حتَّى ينتقي منها منشىء الكلام لكلامه ما هو الأحكام بياناً، والأفضل لتحقيق ما يريد توصيله من معاني، رجاء أن يكون كلامه أكثر بلاغة، وأتقن اختياراً، وأوفى دلالة على المعاني التي يريد التعبير عنها.

***

(2) دواعي اختيار النكرة

عرفنا أنّ النكرة ثلاثة أقسام:

القسم الأول: ما يطلق على القليل والكثير، معناه شائع في جنسٍ أو نوع، أو صنف، أو نحو ذلك، مثل: "ماء - تراب - ريح".

وهذا القسم يراد منه غالباً المعنى الشائع قلّت وحداته أو كثرت، وعند إرادة تحديد الكميّة أو وصفها بالقلة أو الكثرة أو نحوهما يُضاف في البيان ما يُراد بيانه.

ولامعنى لجمع هذا القسم ما دام يطلق على القليل والكثير، إلاَّ إذا أريد بالجمع الأنواع أو الأصناف أو نحو ذلك.

القسم الثاني: ما يطلق على مفرد شائع دون تعيين، وهذا القسم صالح لأن يراد به معنى الجنس أو النوع أو الصنف أو نحو ذلك، وأن يراد به معنى الإِفراد على وجه الخصوص، وفي هذه الحالة يحسن تأكيد معنى الإِفراد بالوصف بأنه واحد، ومنه قول المشركين في تعجُّبهم من فكرة التوحيد التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم {أَجَعَلَ الآلِهَةَ الهاً وَاحِداً}؟.

قال الله عزَّ وجلَّ في سورة {ص/ 38 مصحف/ 38 نزول):

{أَجَعَلَ الآلِهَةَ الهاً وَاحِداً إِنَّ هَاذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5)}.

القسم الثالث: ما يُطلق على أكثر من مفرد، ومعناه شائعٌ في مَثَانٍ أو جُمُوع، وهذا القسم صالح لأَِن يُرادَ به معنى الجنس أو النوع أو الصف أونحوهما، وأن يراد به معنى التثنية أو الجمع على وجه الخصوص، وفي هذه الحالة يحسُنُ تأكيد معنى التثنية بالوصف بنحو "اثنين" ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النحل/ 16 مصحف/ 70 نزول):

{وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ الهيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ اله وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)}.

في هذا المثال نلاحظُ تأكيد التَثْنِيَة في المْمُثَنَّى النكرة بوصفه بلفظ "اثنين"، ونلاحظ تأكيد الإِفراد في المفرد النكرة بوصفه بلفظ "واحد"، لأنّ المراد التنبيه على أنّ التثنية والإِفراد هما المرادان على وجه الخصوص، أمّا في النكرة التي هي جمع فقد يحسن تخصيصها بنحو قليل أو كثير، مثل قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول):

{وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً (48) لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً (49)}.

فخصَّص "أَنْعَاماً وأناسِيَّ" وكلِّ منهما نكرةٌ جمْعٌ، فوصفهما بفلظ "كثيراً".

وإذا كان المراد تحديد عدد معين وُصِفَتِ النكرة الجمع بما يُبَيِّن العدد، ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الواقعة/ 56 مصحف/ 46 نزول):

{وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً (7)}.

أي: وكنتم أيها الناس يوم القيامة أصنافاً ثلاثة: هم أصحابُ الميمنة، وأصحابُ المشأمة، والسّابقون المقربّون.

بعد تحديد معالم النكرات يَحْسُنُ بيانُ دواعي اختيار النكرة في الجملة الكلامية.

***

تفصيل دواعي اختيار النكرة:

أذكر هنا طائفة من الدواعي أخْذاً ممّا ذكره علماء البلاغة، منبّهاً على أنّ الدواعي قد لا تنحصر فيها، فترك المعرفة واختيار النكرة في الكلام ممّا تتشعّب فيه أغراض البلغاء، وقد تنفَتَّقُ قرائح الّلاحقين منهم عن أشياء لم يتنبّه إليه السابقون، إذ الأمر ليس اصطلاحاً لغويّاً حتّى ينحصر فيما اصطلح عليه الأولون، بل هي أغراضٌ تُقْصَدُ بلاغياً من خلال استعمالٍ لغويّ قابل لدلالات كثيرة، ولا سيما حينما نلاحظ أنّ ذكر النكرة غير موصوفة قد يوحي بطيّ الصفة في اللّفظ مع ملاحظة معناها ذهناً، والنكرة قابلة لأن توصف بأشياء كثيرة جدّاً، فقد توصف بالشيء، وقد توصف بضدّه، وعند حذف الصفة يبقى لفظها محتملاً، لكنّ قرائن الحال أو قرائن المقال قد تشعر بطيّ صفة مع إرادة معناها، وقد تُشعر أحياناً أخرى بطيّ نقيضها مع إرادة معناه، ومن هنا تتنوع الدواعي والأغراض.

وفيما يلي أعرض ما أحصيته من دواعي اختيار النكرة:

الداعي الأول: الجهل بما يُعَرِّف المذكور بقسم من أقسام المعرفة، فيلْجأ المتكلم إلى التنكير، بإطلاق اسم غير مُعَيّن من أسماء النكرة، وهذا الاسم النكرة ينطبق على المتحدّث عنه وينطبق على غيره، مّما يشاركه في الصفات العامة، ويحصل بإيراد النكرة تخصيصٌ ما، وهذه فائدة تُقْصَدُ في الكلام، فمن قال لأبيه مثلاً: جاءنا رجلٌ وسأل عنك، فقد أفاده أنَّ سائلاً ما سأل عنه، وأنّ هذا السائل هو من صنف الرجال، لا من صنف النساء.

***

الداعي الثاني: أن يقصد المتكلم عدم تعيين من يتحدث عنه، وتظهر هنا عدّة أغراض:

* منها أن يكون تعيينُه زائداً على ما يقصد المتكلم بيانه، مثل تعيين اسم الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ليقول لموسى عليه السلام: إنَّ الملأ يأتمرون بكَ ليقتلوك، لذلك لم يذكر الله اسمه، فقال تعالى في سورة (القصص/ 28 مصحف/ 49 نزول):

{وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يامُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)}.

ومثل تعيين اسم الرجل الذي جاء لينصر المرسلين الثلاثة في أنطالية، ويدعو قومه لاتّباعهم، ويُعْلِنُ أمام قومه إيمانه، فانتقموا منه فقتلوه، لذلك لم يذكر الله اسمه، واكتفى بذِكْر أنَّه رَجل، فقال تعالى في سورة (يس/ 36 مصحف/ 41 نزول):

{وَجَآءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُواْ الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ (21)}.

* ومنها إرادة إخفاء شخص المتحدّث عنه، لمصلحةٍ يراها منشئ الكلام، والمصالح من الإخفاء كثيرة يصْعُبُ حصْرُها، كالخوف عليه، وكالتشويق إليه، وكانتظار المناسبة الملائمة للمفاجأة به.

ومن أمثلة إرادة الإِخفاء أوّلاً ما كان من أخت موسى عليه السلام، بعد أن وضعته أمّه وهو رضيع في صندوق وألقته في اليمّ، إذْ تَتَبَّعته حتى التقطه آل فرعون، وتعلّق قلب امرأة فرعون به، ورفض أن يرضع من المراضع اللائي جُلِبْن له، وكانت تتابع أمره فعرضت على الذين يبحثون له عن مرضعة ترضعه وتكفله، فقالت لهم كما جاء في سورة (القصص/ 28 مصحف/ 49 نزول):

{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12)}.

فقد جاءت بلفظ "بيتٍ" نكرةً، وقالت "أَهْلِ بَيْتٍ" ولم تَقُلْ مُرْضعة، لتلاحظ مدى استجابتهم للعرض، ولتُبْعِدَ الشبهة عن أن تكونَ أُمُّه في هذا البيت، خوفاً على أخيها وأمّها، فلمَّا استوثقت من تلهفّهم، وصدق رغبتهم، وَأَنَّهُم لمْ يشْعُروا بأنّها ذات علاقةٍ ما بالطفل، دلَّتْهُمْ وأخَذَتْ بهم إلى أمِّها، فالْتَقَم ثدْيَها وشَرَعَ يَرْضَعُ برغبةٍ تامّة.

الداعي الثالث: أن يكون مراد المتكلّم ذكر واحد غير معين من الجنس أو النوع أو الصنف، كأن يقول الراغب في الزواج: "أريد زوجة" فهو يبحث عن زوجةٍ ما تناسبه، وهذه غير معينة في ذهنه. وكأن يقول طالب دابّة لسفره: "أريد فرساً" فهو يبحث عن فرس ما مناسبة دون تعيين.

ومنه قول إخوة يوسف حينما تآمروا للتخلّص منه: {أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً} أي: أرضاً ما بعيدة دون تعيين، حتَّى يضلّ أو تأكله الوحوش.

قال الله عزَّ وجلَّ في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول):

{إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8) اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ (9)}.

وهذا الشاهد يصلح أيضاً لإِرادة من الأرض غير معيّنة بذاتها، لكنّها نوعٌ ذات وصف خاص، فهي أرض بعيدة نائية مجهولة مَنْ طُرِح فيها ضلُّ وتعرَّض لِلْهَلاَط.

***

الداعي الرابع: قد يختار المتكلم النّكرة قاصداً بالتنكير التكثير، وتدلُّ القرائن على قصد التكثير، وإذْ دَلَّتِ القرائن عليه حَسُن في الكلام حَذْفُ الوصف الدالّ على الكثرة، والاكتفاء بدلالة التنكير مع دلالة قرينة الحال أو قرينة المقال.

أمثلة

* قول الله عزَّ وجلَّ لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول):

{فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)}.

لفْظُ: [رُسُل] نكرة، وقرينةُ تسْلِيَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم تدُلُّ على أنَّهم رسُلٌ كثيرون قَدْ كُذِّبوا من قِبَلِ أقوامهم.

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول)، بشأن تقطيع بني إسرائيل في بلدان كثيرة من الأرض:

{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً...} [الآية 168].

أي: أُمما كثيرةً في بلدان من الأرض كثيرة.

* ومنه "إِنَّ المتَّقِينَ في جنَّاتٍ وعُيُونٍ - أَمَدَّكُمْ بأَنْعَامٍ وَبَنِين وَجَنَّاتٍ وعُيُون - كَمْ تَرَكُوا من جَنَّاتٍ وعُيُونٍ وَزُرُوعٍ ومَقَامٍ كَرِيم-".

***

الداعي الخامس: وقد يختار المتكلم النكرة قاصداً بالتنكير التقليل، وتدُلُّ القرائن على قصد التقليل، وإذْ دلَّت القرائن عليه حَسُنَ في الكلام حذف الوصف الدالّ على القلّة، والاكتفاء بدلالة التنكير مع دلالة قرينة الحال أو قرينة المقال.

أمثلة

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول):

{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)}.

جاءَ لفظ "رِضْوانٌ" مُنْكَراً، وقرينة كونه من الله مع كونه أكبر من كلّ ما في جنّات عَدْنٍ مِنْ نعيم دليلٌ على أنّ المراد: ورضوانُ قليلٌ من اللهِ يُفْرِغُهُ على أهل جناتِ عَدْنٍ هو أكثر عندهم وأعظم من كلِّ ما فيها من نعيم.

وقد تنبّه علماء البلاغة إلى أنه لم يرد في القرآن سلامٌ من جهة اللهِ إلاَّ مُنكّراً، لأنَّ سلاماً قليلاً من جهته عزَّ وجلَّ كافٍ لتحقيق كُلّ ما يطلُبُهُ العبادُ مِنْ أمن أو تحيَّة، مثل: "سلامٌ عليكم بما صَبَرْتُم - سَلامٌ قولاً من ربٍّ رَحِيمٍ - سلامٌ على نوح - سلام على إبراهيم - سلامٌ على موسى وهارون - وسلام على المرسلين - فَسلآمٌ لَكَ مِنْ أصْحَابِ الْيَمين".

قالوا: وأمّا عيسى عليه السلام: {وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً (33)} كما جاء في سورة (مريم/ 19 مصحف/ 44 نزول) فقد جاء مُعَرَّفاً لأنَّه ورد على لسان عيسَى الطفل في دعائه لنفسه، بخلاف الذي ورد بشأن يحيى عليه السلام في السورة نفسها نياناً صادراً عن الله عزَّ وجلَّ، إذْ جاء فيه قوله تعالى:

{وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً (15)}.

* قول المتنبّي يمدح سيف الدولة:

*فَيَوْماً بِخَيْلٍ تَطْرُدُ الرُّومَ عَنْهُمُ * وَيَوْماً بِجُودٍ يَطْرُدُ الْفَقْرَ والْجَدْبَا*

نكّر لفظ "خيل" ونكّر لفظ "جود" وهو يريد: بعدد قليل من الخيل، وبمقدارٍ قليل من الجود، وقد دلّ التنكير فيهما على التقليل ما في السّباق والسّياق من المدح والإِطراء البالِغَيْن من المتنبيّ لسيف الدولة، وهذا يقتضي أن يطرد الروم بقليل من خيله، وأن يطردَ جودٌ قليلٌ منه الفقر والجدْبا.

***

الداعي السادس: وقد يختار المتكلم البليغ النكرة قاصداً بالتنكير التعظيم، وتدلُّ القرائن على قصد التعظيم، وإذْ دلّت القرائن عليه حَسُنَ في الكلام حذف الوصف الدالّ على التعظيم، والاكتفاء بدلالة التنكير مع دلالة قرينة الحال أو قرينة المقال.

أمثلة:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):

{الم (2) ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)}.

جاء في هذا النصّ ت نكير لفظ "هُدىً" للتعظيم والتفخيم، أي: هُدىً عظيم فخمٌ جليل للمتّقين، ودلّ على إرادة التفخيم قرينة تمجيد القرآن، إذْ جاءت الإِشارة إليه بإشارة البعيد للدلالة على منزلته الرفيعة جدّاً، وجاء وصفه بأنه لا ريب فيه.

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ (279)}.

جاء في هذا النصّ تنكير لفظ "حَرْبٍ" للتعظيم والتهويل، أي: بحربٍ شديدةٍ هائلة مخيفة، ودلّ على كونها شديدةً مخيفة كَوْنُها من الله ورسوله، وكونُها عقوبة على معصيةٍ هي من الكبائر.

***

الداعي السابع: إرادة التحضير والتصغير، وتدلُّ القرائن على ذلك.

أمثلة:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (غافر/ 40 مصحف/ 60 نزول) في حكاية قول مؤمن آل فرعون:

{وَقَالَ الَّذِي? آمَنَ ياقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) ياقَوْمِ إِنَّمَا هَاذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39)}.

جاء في هذا النص تنكير "مَتَاع" للتحقير والتصغير، أي: متاعٌ حقير صغير سريع الزوال، وفيه معنى التقليل أيضاً.

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) بشأن مشركي مكة:

{وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ ياويْلَنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)}.

جاء في هذه الآية تنكير "نفحة" للتصغير، أي: نفحةٌ صغيرة من عذاب رَبّك كافيةٌ لأن تجعلَهُمْ يُنَادُون: يَا وَيْلنَا إنَّا كُنَّا ظَالِمِين، والقرينةُ عقليّةٌ، فالعذاب الكبير يهلكهم بطرفَةِ عين، فلا يَدَعُهم يُنَادون على أنفسهم بالويل، إذ المرادُ نفحة من عذاب الله في الحياة الدنيا لا في الآخرة، ويكفي في هذه النفحة أنْ تَمَسَّهُمْ مَسّاً، دون أن تُصِيبهم إصابة بالغة، فالنفحة الصغيرة القليلة من عذاب الله تؤلم ألماً شديداً.

* وجمع أبو السّمط بين إرادة التعظيم وإرادة التحقير والتصغير في بيت واحد فقال بشأن ممدوحه:

*لَهُ حَاجِبٌ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ يَشِينُهُ * وَلَيْسَ لَهُ عَنْ طَالِب الْعُرْفِ حَاجب*

أي: له حاجب عظيم يحْجُبُه عن كلّ أمر يَشِينُه، وليس له حاجبٌ ما ولو كان حقيراً يَحجب عنه طالب المعروف، بسبب أنه جواد لا يردّ طالب معروف.

***

الداعي الثامن: إرادة نوع من الأنواع، أو صنف من الأصناف.

أمثلة:

قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) خطاباً للذين آمنوا بشأن اليهود:

{لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ (111)}.

جاء في هذا الآية تنكير لفظ "أذىً" لإِرادة أنه نوع خفيف من أنواع الضّرَر، فالمعنى: لن يضرُّوكم إلاَّ ضرراً هو نوعٌ من أنواع الأذى.

* قول الشاعر:

*لِكُلِّ دَوَاءٌ يُسْتَطَبُّ بهِ * إلاَّ الْحَمَاقَةَ أَعْيَتْ مَنْ يُدَاوِيهَا*

نكّر الشاعر لفظ "داء" ولفظ "دواء" قاصداً: لكلّ نَوْعٍ أو صنف دَاءٍ نَوْعُ أو صنفُ دَواءٍ يلائمه.

* ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) يصف الذين بلغوا في الكُفْر مبلغ من لا يتأثر بالإِنذار بأنّ عَلى أبصارهم غِشَاوَةً، أي: غشاوة من نوع خاصٍّ تحجبُ عنهم رؤية آيات الله في كونه.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ (7)}.

فجاء تنكير "غِشَاوَةٍ" لإِفادة أنَّها نوعٌ خاصٌّ يحجُبُ فقط رؤية آيات الله، وقد دلّ على هذا أَنَّهْم يَرَوْن بأبصارهم أشياء كثيرة إلاَّ أنهم محجوبون عن إدْراك آيات الله.

* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول):

{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ...} [الآية 45].

جَاءَ في هذه الآية تنكير لفظ "ماء" لإفادة أنّه نوع خاصٌّ من أنواع المياه، وهو الماء الذي تَنْعَقِدُ منْهُ الأجنَّة.

الداعي التاسع: إرادة تحاشي المتكلّم التعريف، لما في التعريف من تصريح يحسُنُ في العبارة طيُّهُ، والاكتفاء بدلالة القرائن عليه، أو الإِشارة إليه.

أمثلة:

* قول الشاعر في ممدوحه:

*إِذَا سَئِمَتْ مُهَنَّدَهُ يَمِينٌ * لِطُولِ الْحَمْلِ بَدَلَهُ شِمَالاً*

مهنَّدَه: أي: سيفه المطبوع من حديد الهند، وكان حديد الهند أجود الحديد.

نكّر لفظ "يمين" ولم يقُلّ: يمينَهُ، تحاشيَ أن ينسُبَ السآمة بصريح اللفظ إلى يمنيه، واكتَفَى بدلالة الحديث عنه.

* قولي صانعاً مثلاً:

*مَحَاسِنُ أشْرَافِ الرِّجَالِ إذَا الْتَقَتْ * نظائِرَهَا فيه الْتَقَيْنَ مَسَاوِيَا*

جاء تنكير "مَسَاوِيَا" تحاشيَ إضافةِ لفظ "مَسَاوِي" إلى الممدوح، مع أنَّها في معايير الناس تُعتَبَرُ مَحَاسِنَ أشْرَافِ الرِّجال، فإذا كانت هذه المحاسن تعتبر بالنسبة إلى سائر صفاته الفضليات تشبه مساويَهُ، فكيف تكونُ منازِلُ محاسنه الرفيعة.

***

الداعي العاشر: إرادة الإِطلاق وعدم الحصر بالتنكير، إذ التعريف فيه تَقْيِيدٌ وحصر.

أمثلة:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سُورَةِ (الفرقان/ 25 مصحف/ 42 نزول):

{فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59)}.

أي: فاسأل عن الرحمن خبيراً، أَيَّ خبيرٍ كان لجأ إليه ودعاه فَرحمه، واستجاب له دُعاءه، فجاء اللّفظ نكرة لإِرادة الإِطلاق الذي يصْدُقُ بخبير فأكثر من المجربين الخبراء عن تجربة.

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (فاطر/ 35 مصحف/ 43 نزول):

{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)}.

الْقِطْمِيرُ: القِشْرَةُ الرَّقيقةُ على النواة، كاللِّفافة لها.

جاء تنكير لفظ "خبير" لإرادة الإِطلاق، أي: لا ينبئُكَ بحقيقة أَمْرٍ ما مِثْلُ من مارسه وخَبَرَ دَقائِقَهُ، وعرفه عن تجربةٍ وممارسَةٍ عمليّة، ويدخل في هذا الإِطلاق من خَبَر الشركاء فدعَاها من دون الله فلم تستجب له، وخاب في عبادته لها.

***

الداعي الحادي عشر: إرادة التعميم بالتنكير، وتساعد على إرادة التعميم القرائن الفكريّة أو اللفظية ويظهر هذا فيما يعمل عمل الفعل من الأسماء، لأنه بمثابة الفعل الّذي حذف معموله لإِرادة التعميم.

ومن أمثلة إرادة التعميم بالتنكير مع مساعدة القرائن:

* {إِنَّ اللَّهَ عَلَيمٌ خَبِيرٌ} أي: عليم بكلّ شيءٍ، خبير بكلّ ما يصلح بطبيعته للاختبار والتجربة.

* {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} أي: هو خبير بكلّ شيءٍ من أمور عباده وأحوالهم، بَصِيرٌ بكلِّ ما يُدْرَكُ بالْبَصَرِ من ظواهرهم وبواطنهم.

والقرائن الفكرية دلت على التعميم إذ ورَدَتْ صفاتٍ لله عزَّ وجلَّ الذي دلّ العقل، ودلّت نصوصُ الشرع على أنّ صفاته عموم وشمول تَامّ فيما هي له.

***

(3) دواعي اختيار المعرفة

عرفنا أن المعرفة في الكلام سبعة أقسام عند النحاة، وترتيبها عندم بحسب الأعرفيّة كما يلي: "الضمير - العلم بأنواعه وفي رتبته ما يضاف إلى الضمير - اسم الإشارة - اسم الموصول - المحلَّى بأل - المضاف إلى غير الضمير من المعارف السابقة - النكرة المقصودة في النداء" هذا ما يقرّره النحويون.

ولمّا كان المتكلم البليغ لا يُلْقِي كلامه جزافاً، بل ينتقي ويختار بحسب أغراضه التي يهدف إليها، فإنّ عليه أن يعرف بدقّة فروقَ دلالاتِ ما يختار لكلامه من كلماتٍ.

ولمّا كانت دلالات المعارف من الأسماء ليست سواءً كان لا بُدَّ من بيان فروق دلالاتها، ودواعي اختيار كلّ قسم منها، وهذا أمْرٌ اهتمَّ به البلاغيون، لتبصير دارسي النصوص البليغة كي يُدْرِكُوا مراميها، وتبصير منشئي الكلام الحريصين على الارتقاء في درجات سلّم البلغاء كي يُجَوِّدوا ما ينشؤون من كلام، حتى يكون كلامهم بليغاً.

وفي دواعي اختيار المعرفة من الأسماء ممّا لا يشترط فيه التنكير في الجملة الكلاميّة، لم أُفَصِّل العناصر التي يمكن أن تكون بدائل في "المسند إليه، والمسند، ومتعلقات الفعل، والتوابع" لأنّي رأيت أن معظم الدواعي قد تُوجَدُ لاختيار المعرفة في كُلٍّ منْها، لذلك آثرتُ دَمْجَها ببعضها تسهيلاً على الدارسين، فكل عنصر من عناصر الكلام ممّا يصلُح لأن يُؤْتَى به معرفة ونكرة دون إلزامٍ نحويّ بأحدهما تَشْمَلُه دواعي الاختيار الملائم لأغراض المتكلم من كلامه، ويَسْتَبْعِد الباحثُ المتفكّرُ ما لا يُلاَئم منها كلامه.

وبما أن المعارف سبعة أقسامٍ مختلفات الدلالات، فلا بدّ من بحث دواعي اختيار كلٍّ منها.

أولاً - دواعي اختيار الضمير:

أنواع ضمائر التكلّم والخطاب والغيبة المفصّلة عند النحويين، قد يُخْتَار للكلام منها، لأنّ المقام يدعو إلى ذلك، وهي ألفاظ مختصرة موجزة يُستغنى بها ظاهرةً أو مضمرة عن ألفاظ تحتاج عند النطق أزماناً وجهداً أطول وأكثر.

* فإذا كان المقام مقام حديث المرء عن نفسه أو معه غيره جيء بضمير التكلم، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) في حكاية خطابه لموسى عليه السلام بجانب الطور:

{إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا اله إِلا أَنَاْ فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي (14)}.

وقول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30)}.

ويلاحظ الضمير المستتر في "نُسَبِّح" و"نُقَدّس"، وهو "نحن".

وقول المتنبي:

*أَنَا الَّذِي نَظَرَ الأَعْمَى إلى أَدَبِي * وأَسْمَعَتْ كَلِمَاتِي مَنْ بِهِ صَمَمُ*

* وَإِذا كان المقام مقامَ مُخَاطَبٍ واحدٍ أو أكثر جيء بالضمير المناسب للمخاطب فرداً أو مثنَّى أو جمعاً، مثل قول الله عزّ وجلّ في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول) في حكاية خطابه لموسى عليه السلام:

{اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَآ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)}.

وقول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):

{وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَابَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ (132)}.

* وإذا كان المقام مقامَ حديثٍ عن غائب أو أكثر جيء بالضمير المناسب للمتحدَّث عنه فرداً أو مُثَنَّى أو جمعاً، مثل قول الله تعالى في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَائِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ (91)}.

ص320

ولا يُتْرَكُ الضمير إلى استخدام معرفة أخرى في مقام التكلّم أو الخطاب أو الحديث عن الغائب الذي يُلائمه الكناية عنه بالضمير للإِيجاز والربط بين الكلام إلاَّ لداعٍ من الدواعي البلاغية التي تستدعي ذلك، وسيأتي إن شاء الله بيان هذا في بحث: "الخروج عن مقتضى الظاهر" الشامل لأمور كثيرة غير العدول عن الضمير الملائم إلى غيره.

قالوا: وأصل الخطاب أن يكون لمعيّن، وقد يُتْرَكُ هذا فيكونُ الكلامُ مُوجَّهاً لكلِّ من يَصْلُح بصفاته لأن يخاطب به، ويُحْمَلُ على هذا كثير ممَّا جاء في القرآن المجيد من خطاب مفردٍ أو جَمْعٍ إلاَّ ما كانَ خاصّاً بمعيَّنٍ كالرَّسُولِ، أو خاصّاً بجماعة معيَّنةٍ مقصودة بالذات، ومن الأمثلة قول الله عزّ وجلّ في سورة (السجدة/ 32 مصحف/ 75 نزول):

{وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12)}.

أي: ولو تَرَى أَنْتَ يَا أَيُّها الصالح لمثل هذا الخطاب أيّاً كُنْتَ.

* وقول الله عزّ وجلّ في سورة (لقمان/ 31 مصحف/ 57 نزول):

{أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً...} [الآية 20].

أي: ألَمْ تَرَوْا أنْتُمْ يَا أيُّها الصّالِحُونَ لمثْلِ هذَا الْخِطَابِ.

* وقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وأبو داود عن بُرَيْدَةَ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّور التَّامِّ يَوْمِ الْقِيَامَةِ".

أي: يَا مَنْ يَصْلُح للخطاب بَشِّرْ، والمعنى بَلِّغْ عنّي هذه البشارة.

ونظائر هذا كثير، ومنه:

* قول أبي فراس الحمداني:

*لاَ تَطْلُبَنَّ دُنُوَّ * دارِكَ مِنْ خَلِيلٍ أَوْ مُعَاشِرْ*

*أَبْقَى لأَِسْبَابِ الْمَوَدَّ * ةِ أَنْ تَزُورَ وَلاَ تُجَاوِرْ*

* وقول المتنبي:

*لاَ تَلْقَ دَهْرَكَ إلاَّ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ * مَا دَامَ يَصْحَبُ فِيهِ رُوحَكَ الْبَدَنُ*

*فَمَا يَدُومُ سُرُورٌ مَا سُرِرْتَ بِهِ * وَلاَ يَرُدُّ عَلَيْكَ الْفَائِتَ الْحَزَنُ*

مَا كُلُّ مَا يَتَمَنَّى الْمَرْءُ يُدْرِكُهُ * تَجْرِي الرِّيَاحُ بِمَا لاَ تَشْتَهِي السُّفُنُ*

فالخطاب فيهما لكلّ من يصْلُحُ للخطاب، حتَّى المتكلّم نفسه على طريقة تجريد شخصٍ من نفسه يخاطبُه.

***

ثانياً - دواعي اختيار الْعَلَم:

الْعَلَمُ ينقسم كما ذكر النحويون إلى "اسْم - وكُنْيةٍ - وَلَقبٍ".

فالكنيةُ: كُلُّ مركّب إضافيّ صُدّر بأبٍ أو أمّ، ومنه: "أبو بكر - أمُّ كُلثوم".

واللَّقبُ: كلُّ علم أشعر برفعة المسمَّى أو أشعر بضعَتِه، ومنه: "زين العابدين - الرشيد" و "الجاحظ - الأعرج".

والاسم: ما عدا القسمَيْن السابقين، وهو الغالب، منه: "خالد - سيعد - زينب - عائشة - ذو الفقار - يَعْفُور".

قالوا: وإذا اجتمع الاسم واللّقب أُخّر اللّقبُ على الاسم، مثل: علي زين العابدين" ولا ترتيب بين الكنية وغيرها، فيجوز تقديم الكنية على الاسم واللّقب، ويجوز تأخيرها عنهما.

وقد ظهرت للبلاغيين عدّة دواعٍ لاختيار الاسم "العلم" دون غيره من المعارف السّبع.

الداعي الأول: إرادة إحضار المتحدّث عنه في ذهن المتلقّي باسمه الخاصّ به، ليمتاز عمّا عداه، ويترجّح هذا الدّاعي حينما يكون المتحدّث عنه معروفاً لدى الْمُتَلَقِّي باسْمِهِ الخاصّ به.

أمثلة:

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):

{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)}.

* قول "الْغَزّي" يذكر "أبا الطيب المتنبي" بكنيته ليميزه ويحضره في الأذهان:

*مَنْ أَغْفَلَ الشِّعْرَ لَمْ تُعْرَفْ مَنَاقِبُهُ * لاَ يُجْتَنَى ثَمَرٌ مِنْ غَيْرِ أَغْصَانِ*

*لَوْلاَ أَبُو الطَّيِّبِ الْكِنْديُّ ما امتَلأَتْ * مَسَامعُ النَّاسِ مِنْ مَدْحِ ابْنِ حَمْدَانِ*

***

الداعي الثاني: إرادة الإِشعار بتعظيم المتحدّث عنه، ويكون هذا في الأعلام التي تشعر بمدح، ومنها الألقاب التالية: "ذو النَّورين - صلاح الدين - سيف الله" ويكون في الأسماء التي اشتهرت بصفاتها العظيمة، ومنها: "محمد بن عبد الله - خالد بن الوليد - عُمر بن الخطاب" وفي الكُنَى، مثل: قضيّةٌ ولا أبو حَسَنٍ لها" وهو عليّ بن أبي طالب.

***

الداعي الثالث: إرادة الإِشعار بإهانة المتحدث عنه، ويكون هذا في الأعلام التي تشعر بذمّ، أو اشتهرت بصفاتها الذميمة، ومنها "حمار (علماً) - صخْر - أبو مّرة - أبو لهب - أمّ الخبائث (كنية الخمر) - أبو جَهْل".

***

الداعي الرابع: إرادة استخدام لفظ العْلمَ للكناية به عن معناه اللغويّ قبل نقله إلى العملية، مثل أن تقول:

* جاءنا "محمود" بالبشائر، وأنت تريد الإِشعار بأنّه في صفاته محمود، فلَهُ من اسمه نصيب.

* المدير "راشِد" وأنت تريد مدحه بالرُّشد الذي هو معنى اسمه قبل العملية.

* خَصْمُنَا "صَخْر" وأنْتَ تريد الإِشعار من خلال ذكر اسمه بأنه قاسٍ لا يَنْدَى كالصخر.

***

الداعي الخامس: إرادة التلذّذ اسم المتحدّث عنه لأنه محبوب، فالمحبّون والعشاق يأنسون ويستمتعون بذكر أسماء من يحبون، ومن ذلك:

* قول مجنون ليلى:

*بِاللهِ يَا ظَبَيَاتِ الْقَاعِ قُلْنَ لَنَا * لَيْلاَيَ مِنْكُنَّ أَمْ لَيْلَى مِنَ الْبَشَرِ*

* وأبان المتنبّي رغبة التلذّدِ بذكر أسماء الممدوح في قصيدة مدح فيها عضد الدولة، أبا شجاع، فَنَّاخُسْرو، الفارسيّ، فقال:

*"أبَا شُجَاعٍ" بفارسٍ "عَضُدَ الدَّولَةِ" * -"فَنَّا خُسْرُو"- "شَهِنْشَاهَا"*

*أَسَامِياً لَمْ تَزِدْهُ مَعْرِفةً * وإِنَّمَا لَذَّةً ذَكَرْنَاها*

الداعي السادس: إرادة التنفير، واستثارة الخوف، أو استثارة التقزّز من ذكر اسمه، وهذا يظهر حينما يكون المتحدَّث عنه مُخِيفاً أو مكروه الاسم ينْفِرُ منْه المتلقّي، كاسم "جنهّم" علماً على دار العذاب يوم الدين، وكاسم "الحجَاج" عند خصومه، واسم الضرّة على مسمع ضَرَّتِها، إذَا كانت أثيرة عند زوجها ومالكةً قلْبه، فسَمَاعُ اسم ضرّتها يثيرها ويغضبها ويهيّج غَيْرَتها.

ومن النفرة من الأسماء في غير باب الْعَلَمِ ما حدّثنيه بعض من مضى إلى رحمة الله من الأصدقاء، أنَّ عَلَماً ذَا شهرةٍ كبيرَةٍ من أهل العلم والأدب والقلم اللّسان يكره الْجُبْن منذ طفولته، وله طبْعٌ مزاجيٌّ أَذِيٌّ، إذا ذكر اسم الجبْنِ على مَسْمَعٍ منه تقزَّزَتْ نفسه، وثار غَضباً على من قصد إسماعه إيّاه.

وكان له صديق شاعر أديب يصاحبه في بعض نزهاته، ويجالسه في مجالس أُنسِهِ، وكانا يسيران معاً في إحدى الضواحي، فلقيهما من حدّثني القصّة، وهو من أهل هذه الضاحية، فقال له الشاعر: هل عندكم في بلدكم جبْنٌ حسَنُ الصنعة خالٍ من الغش؟

وقبل أن يجيبه ثار عليه صديقه الذي يكره الجبْنَ ثورة عظيمة، وشتمه، وانطلق مفارقاً له.

***

الداعي السابع: إرادة إثارة الفأل الحسن، وهذا حينما يكون الاسم العلم فيه ما يُشْعِر بالتفاؤل مثل: "سعْد - سيعد - رضا - هناء - الشفاء" أعلاماً.

***

الداعي الثامن: إرادة إثارة التشاؤم لدى المتلقي، إذا كان من الذين تشاءمون، وهذا حينما يكون الاسم العلم فيه ما ثير التشاؤم، مثل: "السفّاح - الجارود - أبو لهب - قحطان" أعلاماً.

***

الداعي التاسع: إرادة التسجيل والتثبيت حتى لا يتأتَّى الإِنكار، ويُلْجَأُ إلى تحقيق هذا الداعي كثيراً في تثبيت العقود، وتدوين الشهادات، وفصل الخصومات في القضاء، فذكر الأعلام فيها بالتفصيل ممّا يتحقّق به التسجيل المميَّزُ الذي تُحَرَّرُ فيه القضايا، وتُضْبَطُ بكلِّ ما يتطلَّبُه التسجيل من ضوابط.

ثالثاً - دواعي اختيار اسم الإِشارة:

اسم الإِشارة: هو ما وُضع لمشارٍ إليه مذكراً أو مؤنثاً، مفرداً أو مثنّىً أو جمعاً، وقد تلحق به كاف الخطاب، ولام البعد، وقد تقترن به "ها" التي للتنبيه.

وأسماء الإِشارة هي:

(1) الإِشارة إلى المفرد المذكر تكون بكلمة "ذا".

(2) والإِشارة إلى المفردة، تكون بما يلي: ذي - ذِهِْ - تِهِْ [وتنطقان بثلاثة وجوه: بإسكان الهاء وبكسرها دون إشباع وبكسرها مع إشباع] ذات - تا".

(3) والإِشارة إلى المثنّى المذكر تكون بـ: "ذانِ" في حالة الرفع، و"ذين" في حالتي النصب والجرّ.

(4) والإِشارة إلى المثنّى المؤنَّث تكون بـ:"تانِ" في حالة الرفع و "تَيْنِ" في حالتي النصب والجر.

(5) والإِشارة إلى جمع العقلاء من الذكور والإِناث تكون بـ"أُولاَءِ" وقد يُشَار به قليلاً إلى جمع غير العقلاء.

(6) والإِشارة إلى الأمكنة تكون بـ "هُنَا [للمكان القريب] وقد يقترن بها "ها" التي للتنبيه، فتصير "ههُنَا" ويُشَار إلى البعيد من الأمكنة بإحدى الصّيغ التالية: "هُنَاك - ههُنَاك - هُنَالِكَ - هَنَّا - هِنَّا" وبكلمة "ثَمَّ" بفتح الثاء.

وتلحقُ كافُ الخطاب اسْمَ الإِشارة الموضوع للمشار إليه البعيد، وكاف الخطاب حرفٌ لا محلّ له من الإِعراب، فتفتح للمخاطب المذكر، وتُكْسَرُ للمخاطبة، وتتصل بها علامة التثنية في المثنّى، وعلامة الجمع في الجمع.

وقد تُزادُ الامُ الْبُعْدِ قبل كاف الخطاب للدلالة على الْبُعْدِ الكثير، باستثناء: [المثنَّى - وأولئك - وما سبقته "ها" التي للتنبيه] فلا تزاد لام البعد فيها.

فتقول: "ذَاكِ وذَلِكَ - ذَاك وذَلِكِ - ذاكُمَا وذَلِكُمَا - ذاكُمْ وذَلِكُمْ - ذَاكُنَّ وَذَلِكُنَّ".

وقِسْ على هذا سائر أسماء الإِشارة مراعيّاً ما يجوز وما لا يجوز.

ولاستخدام اسم الإِشارة مزايا أساسية منها الإِيجاز وتفادي التكرار اكتفاءً بدلالة اسم الإِشارة.

وقد ظهرت للبلاغين عدّة دواعٍ لاختيار اسم الإِشارة، دون غيره من المعارف، وفيما يلي بيانُها مع التّنبيه على أنّ الدواعي لا تنحصر فيها:

الداعي الأول: أن يتعَيّن اسم الإِشارة طريقاً للتعريف بالمشار إليه، كأن يكون المتكلّم والمتلقّي أو أحدهما لا يعرف من المعارف التي تُميّزُ المتحدَّثَ عنْهُ غيَر كونه حاضراً مُحَسَّاً يشارُ إليه، فيكون استعمال اسم الإِشارة لتعيين المتحدّث عنه هو الأمر الذي ينبغي المصير إليه.

أمثلة:

* لمّا كان الملائكة يجهلون أسماء ما عَرَضَ الله عليهم من خلقه قال لهم: "أَنْبِئُوني بأَسْمَاءِ هَؤلاء" فأشارَ إِلَيْهِمْ باسم الإِشارة لتعيينهم، قال الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):

{وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)}.

* قول الشاعر يُثْني على ممدوحه بأنّه يَقْرِي ضيفه الطارقَ عليه بليل وهو لا يعرفه، فينحر له الناقة، ذَاتَ السَّنَام العظيم:

*وَإِذا تَأَمَّلَ شَخْصَ ضَيْفٍ مُقْبِلٍ * مُتَسَرْبِلٍ سِرْبَالَ لَيْلٍ أَغْبَرِ*

*أَوْمَا إلَى الْكَوْمَاءِ هَذَا طَارِقٌ * نَحَرَتْنِيَ الأَعْدَاءُ إِنْ لَمْ تُنْحَرِي*

أَوْمَا: أي أومَأَ بمعْنَى أشار.

الكَوْمَاء: النَّاقَةُ ذَاتُ السَّنَامِ العظيم، وعظم سنامها يدلٌ على سِمَنِها.

هَذَا طَارِقٌ: أي: هذا ضيف طَارق، والطَّارِقُ هو الذي يأتي ليلاً.

والشاعر يدعو نفسه بأن تَنْحَرَهُ الأَعْدَاءُ إنْ لم يَنْحَرْ نَاقَتَهُ إكراماً للضيف الطارق عليه الذي لا يعرفه، وقد مَيَّزَهُ باسم الإِشارة "هذا".

* ومنه قول سيدنا إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ اجْعَلْ هَاذَا الْبَلَدَ آمِناً}.

الداعي الثاني: إرادة تمييز المتحدَّثِ عنه أكمل تمييز يُحْضِرُهُ في ذهْنِ المتلَقِّي، مبالغةً فِي تعيينه، وقد يحسُنُ هذا في الإِطراء، أو في الهجاء، ومعلومٌ أنّ من طبيعة دلالة اسم الإِشارة تحديد المشار إليه تحديداً ظاهراً متميّزاً عن غيره وهذا قد يكون من مقاصد المتكلّم.

أمثلة:

* قول ابن الرومي مادحاً أبا الصقر الشيباني:

هذَا أبُو الصَّقْرِ فَرْداً في مَحَاسِنِه * مِنْ نَسْلِ شَيْبَانَ بَيْنَ الضَّالِ والسَّلَمِ*

الضّال: شجر السّدر، وهو من شجر البوادي.

السَّلَم: شجر ذو شوك، وهو من شجر البوادي أيضاً.

لمّا أراد ابن الرّومي وصف أبي الصقر بأنّه فردٌ في محاسنه ذكره باسم الإِشارة ليميّزه أكمل تمييز.

* سأل رجلٌ من أهل الشام هشام بن عبدالملك عن عليّ بنِ الْحُسَيْنِ: مَنْ هو؟ وكان ذا هيئةٍ ونضارة، فتجاهله هشام، خشية أنْ يفتَتِنَ به أهْلُ الشّام، فقال الفرزدق مستخدماً اسم الإِشارة في شعره، يمدح عَلِيّ بْنَ الْحُسَيْن:

هذَا ابْنُ خَيْر عِبَادِ اللهِ كُلِّهِمِ * هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ الْعَلَمُ*

هذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ * والْبَيْتُ يَعْرِفُهُ والْحِلُّ والْحَرَمُ*

إِذَا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا * إِلى مَكَارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الْكَرَمُ*

يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ رَاحَتِهِ * رُكْنُ الْحَطِيمِ إِذَا مَا جَاءَ يَسْتَلِمُ*

يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ * فَمَا يُكَلَّمُ إِلاَّ حِينَ يَبْتَسِمُ*

لقد حَسُنَ في ذوق الفرزدق أنْ يُكَرِّر استعمال اسم الإِشارة للدّلاَلة على ممدوحه وتمييزه أكمل تمييز، وفي هذا التمييز ردٌّ ضِمْنِيٌّ على تجاهل هشام بن عبدالملك له.

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول):

{إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ (12)}.

وقولُهُ تَعَالَى:

{وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16)}.

فجاء ذكْرُ حديثِ الإِفْكِ باسْم الإِشارة "هذا" في ثلاثة مواضع: [هذَا إفْكٌ] و[مَا يكونُ لنا أن نَتَكلّم بهذا] و[هذا بِهْتَانٌ عَظيمٌ] لتمييزه أبلغ تمييز، وإبرازه بما فيه من قُبْحٍ وشناعةٍ وظُلْمٍ لا يَلِيقُ بالمؤمنين.

* وتظهر إرادة تمييز المشار إليه في قول الله تعالى في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول) خطاباً لأهل الكتاب:

{يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَآ أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (66)}.

{إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَاذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)}.

لمَّا كان خطابُ أهل الكتاب بعبارَة {ها أَنْتُمْ} محتَمِلةً لمخَاطبَةِ جميع أهْلِ الكتاب إبّانَ التّنزيل، سواءٌ من كان منهم قد واجه الرَّسُول محمّداً صلى الله عليه وسلم ومن لم يواجهه، اقتضى تمييز المجادلين من عموم أهل الكتاب بعبارة {هَؤُلاءِ} أي: يَا هؤُلاء، لا غيركم من سائر أهل الكتاب.

وفي الآية (68) اقتضى تمييز محمّد صلى الله عليه وسلم باسم الإِشارة مع وصفه بالنبوّة، فقال تعالى: {وَهَاذَا النَّبِيُّ}.

***

الداعي الثالث: إرادة التعريض بغباوة المتلقّي، إذ يُشْعِر أحياناً استخدام اسْم الإِشارة بأنّ المخاطَب يحتاج لتمييز المتحدّث عَنْهُ إلى إشارة حسّيَّةٍ، وأنَّه لاَ تكفيه الدلالات الفكريّة.

وقد مثَّلُوا لهذا الداعي بقول الفرزدق من قصيدة يفتخر فيها على جرير:

*أولئِكَ آبَائِي فَجِئْنِي بِمِثْلِهِمْ * إِذا جَمَعَتْنَا يَا جَرِيرُ الْمَجَامِعُ*

وأرى أنه من قبيل الداعي الرابع الآتي بيانه إن شاء الله.

* ويمكن أن نفهم التعريض بغباوة المخاطبين في قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول):

{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَاذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (30)}.

أي: أليس هذا الذي أنْتُمْ فيه تُحِسُّونَهُ وَتَعِيشون فيه بعد بعثكُمْ إلى الحياة الأُخْرى بالواقعِ الحقّ، وهو الأمر الذي كنْتُمْ تُنْكِرُونَه وتَجْحَدُونَه في الحياة الدنيا؟

* ويكْثرُ في مخاطبات الناس أنّهم كلّما شعروا بغباء المخاطب عن إدراك المتحدّث عنه استخدموا له اسماً من أسماء الإِشارة، على معنى: هذا أو ذاك أو ذلك فانظره إذا كنت من الذين لا تكفيهم الدلالة الفكرية.

***

الداعي الرابع: إرادة تكريم المتحدَّث عنه والتعبير عن ارتفاع منزلته، باستعمال اسم الإِشارة الذي يُشار به إلى البعيد، والأمثلة على هذا كثيرة في القرآن المجيد.

الأمثلة:

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):

{ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)}.

جاء في هذا النّص استخدام اسم الإِشارة الموضوع للمشار إليه البعيد، مع أنّ المشار إليه متْلُوٌّ على المتلقّين قريبٌ منهم، للإِشعار بأنَّه جليلٌ رفيع المنزلة، جديرٌ لارتفاع منزلته أن يشار إليه باسم الإِشارة الموضوع للبعيد.

* وقول الله عزّ وجلّ في سورة (البقرة) أيضاً بعد أن فصّل صفات المتقين:

{أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}.

فأشار إليهم باسم الإِشارة الموضوع للمشار إليه البعيد إشعاراً بارتفاع منزلتهم فوْقَ الناس، إذْ منزلتهم الرفيعة جديرة بأن يُشَارَ إليهم فيها بهذه الصيغة من أسماء الإِشارة.

ونظائر هذا الاستعمال في القرآن كثيرة.

* قول الشاعر "الحطيئة" مادحاً:

*أُولِئكَ قَوْمٌ إِنْ بَنَوْا أَحْسَنُوا الْبِنَى * وإِنْ عَاهَدُوا أَوْفَوْا وإِنْ عَقَدُوا شَدُّوا*

الْبِنَى: جمع "البِنْيَة" وهي تُطلق على كُلِّ ما بُنِي.

وإِنْ عَقَدُوا شَدُّوا: يقال لُغَةً شَدَّ الْعَقْدَ إِذَا وَثَّقَه.

***

الداعي الخامس: إرادة إهانة المتَحَدَّث عنه، والتعبير عن انحطاط منزلته، وبعدها كثيراً إلى جهة الأسفل، باستعمال اسم الإِشارة الذي يشار به إلى البعيد، والأمثلة على هذا كثيرة في القرآن المجيد.

الأمثلة:

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَائِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)}.

أي: وأولئِكَ المنحطونَ السّافلون البعداء جدّاً عن رحمة اللهِ أصحاب النار هم فيها خالدون.

* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول):

{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَائِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَائِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)}.

أي: أولئك الذين ردّوا أنفسهم بكفرهم إلى أسْفَلِ سافلين حتى صاروا أضلّ من الأنعام، فابْتَعَدُوا جدّاً عَنْ مَهَابِطِ رحْمَةِ الله فصاروا أصحاب جهنَّم يوم الدين، فناسب حالُهم أن يشار إليهم باسم الإِشارة الذي يشار به إلى البعيد.

ذَرَأْنَا: أي: خلقنا وفق نظام التناسل الذي تكون المواليد به ذُرّيَة آبائهم وأُمَّهَاتهم.

* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (محمد/ 47 مصحف/ 95 نزول) بشأن المنافقين:

{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ (22) أَوْلَائِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)}.

أي: أولئكَ المنافقون البعداء عن مهابط الرحمة إلى جهة الدَّرْك الأسْفلِ من النّار الذين لعنهم الله بسبب نفاقهم فأصَمَّهُمْ وأعْمَى أبصارهم.

***

الداعي السادس: إرادة تَحْقِيرِ المتحدَّثِ عنه بتعريفه باسم الإِشارة.

الأمثلة:

* قول الله عزَّ وجلَّ من سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول) حول مقالة الذين كفروا بشأن رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم:

{وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَانِ هُمْ كَافِرُونَ (36)}.

من الظاهر في عبارة الذين كفروا: [أَهَذَا الّذِي يَذْكُرُ آلِهَتكُمْ] أنّهم يريدون التحقير باستعمال اسم الإِشارة "هذا" مع الاستفهام الذي يراد منه الاستصغار والتحقير أيضاً.

* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) في حكاية قول فرعون يحرّض جيشه الذي جمَّعَه لملاحقة موسى عليه السلام ومعه بنو إسرائيل خارجين من مصر في اتجاه سيناء:

{فَأَرْسَلَ فِرْعَونُ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)}.

فحقَّرَ فِرْعَوْنُ بَنِي إسْرَائيل وقَلَّلَ من شأنهم بقوله "إِنَّ هَؤلاَءِ" وفصّل كلامه بقوله: "لَشِرْذِمِةٌ قَلِيلُون".

الشِّرْذِمَةُ: الجماعة القليلة، وجمعُ "شِرْذِمَة" شَرَاذِم.

***

الداعي السابع: إرادة بيان أنّ المتحدَّثَ عنه واضح جليّ حاضرٌ قريب التناول لا يحتاج إلى بَحْثٍ وَجَهْدِ للوصول إليه.

الأمثلة:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنعام/ 6 مصحف/ 55 نزول):

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)}.

أي: هذا القريب منكم جدّاً، والظّاهر بما أنزلت عليكم من بيان حوله، والذي يتلاءم مع فطرة عقولكم ونفوسكم، وهو دين الإِسلام هو صراطي حالة كونه مستقيماً لا اعوجاج فيه.

* وقول الله عزَّ وجلَّ بشأن القرآن في سورة (الإِسراء/ 17 مصحف/ 50 نزول):

{إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (10)}.

أي: إنّ هذا القرآن القريب منكم الّذِي يُتْلَى عَلَيْكُمْ.

الداعي الثامن: تنزيل المعنويات الفكريّة منزلة الأشياء الّتي تُدْرَكُ بالحواسّ الظاهرة، فهِيَ تَسْتَحِقُ أَنْ يُدَلَّ عليها باسم الإِشارة، بحسب ما يرى المتكلم من حالها قرباً أو بعداً.

فإذا كان يريد أنّها قريبة أشار إليها باسم الإِشارة الذي للقريب.

وإذا كان يرى أنّها بعيدة أشار إليها باسم الإِشارة الّذِي للبعيد.

ومنه قول الشاعر ابن الدمينة يخاطب معشوقته:

*تَعَالَلْتِ كَيْ أشْجَى وَمَا بِكِ عِلَّةٌ * تُرِيدِينَ قَتْلِي قَدْ ظَفِرْتِ بِذَلِكِ*

فنزّلَ فِكْرةَ قَتْلِهِ منزلةً الأَمْرِ المدرك بالحسّ الظاهر، فأشار إليها باسم الإِشارة، ولكن ألْمَحَ إلى أنّ لديه قدرة احتمال قد تؤخِّرُ موته فتجعَلُه بعيداً يشار إليه باسم الإِشارة الموضوع للبعيد.

***

الداعي التاسع: استخدام اسم الإِشارة الذي يُشار به إلى ذي أوصاف متعددة سبقت في الكلام، للإِشعار بأنّ هذه الأوصاف السابقة هي التي جعلته مستحقاً لأن يُحْكَمَ عليه بما جاء في جملته الخاصة.

الأمثلة:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول) في صوف المتقين:

{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَائِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}.

أيْ: إنَ الحكم لها بالفلاح وظفرهم به يوم الدين قد كان بسبب اتصّافهم بالأوصاف التي ذُكِرَت لهم فيما سبَقَ من النصّ في عدّة جُمَلٍ.

* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة) أيضاً في وصف الفاسقين:

{الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}.

أي: إنّ الحكم عليهم بأنّهم هم الخاسرون قد كان بسبب اتصافهم بالأوصاف التي ذُكِرَتْ لهم فيما سبَقَ من النصّ.

ونظائر هذَيْنِ المثالين في القرآن المجيد كثيرة.

***

الداعي العاشر: إرادة التهكّم بالمخاطب، من أمثلته أن يكون المخاطب أُمِّيّاً لا يقرأ وَلاَ يكتُبُ، ويُجَادِل في مسائل علميّة، ويدّعي أنَّ القرآن يشْهَدُ لِمَا يقول، وذكَرَ آيةً من حفظه على خلاف تلاوتها الصحيحة، ومُحَدِّثه يَعْلَمُ أنَّه أُمّي، فيقول له: هذا المصحف فاتْلُ علينا الآيَةَ الَّتِي ذَكرْتَ مِنْه.

إلى غير ذلك من دواعٍ تتفتّقُ عنها قرائح البلغاء ومُتَدَبّري النصوص البليغة الرفيعة.

***

رابعاً - دواعي اختيار اسم الموصول:

اسم الموصول: هو اسم معرفة يفتقر في بيان المراد منه إلى أمْرَيْن:

الأمر الأول: الصلة، وهي:

(1) جملةٌ خبرية: مثل: الذي خلق كلّ شيء.

(2) أو شبه جملة (وشبه الجملة الظرف والجار والمجرور المتعلقان بعامل محذوف وجوباً) مثل: الذي في الدار، والذي عندك.

(3) أو وصف صريح (وهذا خاصٌّ بألْ الموصولية) مثل: هذا المغلوبُ على أمره، أي: الذي غُلِبَ على أمره.

الأمر الثاني: العائد، وهو ضمير مذكور أو محذوف يربط الصلة به.

وأسماء الموصول، منها ما هو نصٌ في معناه، وهي ثمانية: "الذي - الّتِي - اللَّذَان - اللَّتَانِ - الأُولَى - الّذِينَ - اللاّتي - اللاّئي".

ومنها ما هو مشترك، وهي ستة: "مَنْ - ما - أيُّ - ألْ - ذو - ذا".

فاسم الموصول هو اسم مُبْهَمُ الدلالة لولا صلته الكاشفة للمراد به، والمعرَّفةُ حقّاً بما يرادُ الدلالة به عليه.

وهذا الإِبهَامُ الأوَّليُّ في سام الموصول يُحْدِثُ في نَفْسِ المتلَقِّي تشَوُّفاً وَتَشَوُّقاً لمعرفة المراد به عن طريق صِلَته.

فهو بسبب استشارته للدّاعي النفسيّ إلى المعرفة يُعْتَبَر من أدوات البيان التي تنفتح لها أبواب النفس انفتاحاً تلقائياً فتتلقَّفُهَا بالدافع الذّاتي إلى المعرفة.

ومن هنا تَبْدُو لنا ميزةٌ خاصّةٌ لاسم الموصول لا تُوجَد في غيره، ويُضاف إلى هذه الميزة أنّ صلة الموصول قد تتضمَّن مع التعريف بالمدلول عليه به بياناً لمعانٍ مُهمَّةٍ تُؤَدَّى بكلام تامّ يَقْصِدُ المتكلّم بيانها، مع صياغتها في إطار مفردٍ هو جزء جملة، ويقْصِدُ توصيلَها إلى من يُوجِّه له الكلام.

أمّا الدواعي البلاغيّة الخاصّة الّتي تدعو المتكلّم البليغ إلى استخدام اسم الموصول في كلامه، للتعريف بالعنصر الاسمي من عناصر أركان جملته، فهي الّتي اهتمَّ البلاغيون بالتنبيه على ما اكتشفوه منها.

وقد ذكر البلاغيُّونَ طائفةً من الدواعي البلاغيَّة لاختار اسم الموصول مِنْ ضِمْن البدائل التي تصلُح لأن تستخدم في موقعه من الجملة، دون أن يكون ما ذكروه منها حاصراً لكلّ الدواعي التي تتفَتَّقُ عنْها قرائح أذكياء البلغاء.

ومع تجاوز التقيّد بحدود المسند والمسند إليه تظهر لنا الدواعي التالية:

الداعي الأول: أَنْ لا يكون لدى منْ يتلقَّى الكلامَ عِلْمٌ بشيءٍ من المعرّفات التي تعرّف العنصر الاسميّ، أو تميّزه في الجملة عن غيره، إلاَّ اتّصافه بما دلَّت عليه صلة الموصول، فيكون اختيار الاسم الموصول في هذه الحالة أمراً لازماً لتحقيق البيان الذي يستدعيه الكلام.

كأن لا يعرف عنه المخاطب غير أنّه اشترى منه خروفاً يوم الجمعة، فيقول له ابنُه مثلاً: يا أبي جاء الذي اشتريتَ منه الخروف يوم الجمعة يُطالِبُ بباقي ثمن الخروف.

ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في عرض قصة موسى عليه السلام في سورة (القصص/ 28 مصحف/ 49 نزول) بشأن الإِسرائيلي الذي استنصره في مصر فنصره على القطبي:

{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ (18)}.

فمُتلَقُّو هذه القصة وتالوها لا يَعْرِفُونَ عن هذا الرجل غير ما جاء في سِبَاقِ القصة من أنّه استنصر موسى بالأمس فنَصَرَهُ، فوكَزَ مُوسَى الرَّجُلَ القبطيَّ فقضى عليه.

***

الداعي الثاني: إرادة الوصف بما تضمّنته صلة الموصول، وهذا شائع كثير، ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي? أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [الآية 185].

***

الداعي الثالث: تحاشي التصريح باسمه لكونه مُسْتَهْجَناً، أو يُؤْثر المتكلِّم عدم التصريح به تأدُّباً أو تعفُّفاً أو استحياءً أو غير ذلك، فيكونُ تمييزه بالوصف عن طريق الموصول وصلته محقّقاً لمطلوب البيان، دون التعرض للتّلفُّظ بما هو مستهجَنٌ ممجوج مُسْتَكْرَهٌ في آذانِ المتلقين، أو ما يؤثر المتكلّم عدم التصريح به لسبب من الأسباب.

ومنه ما رواه الضحّاك بن سفيان أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:

"إنَّ اللهَ جَعَلَ مَا يَخْرُجُ مِنِ ابْنِ آدم مَثَلاً للدّنْيَا"

أخرجه الإِمام أحمد والطبراني والبيهقي في شعب الإِيمان.

يلاحظ أنّ ذكر ما يخرج من ابن آدم باللّفظ الصريح مستَهجن، فأشار الرسول إليه بأنّه الذي يخرج من ابن آدم، فاستخدم اسم الموصول وصلته.

ومنه ما وراه البخاري عن سهل بن سعد أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ يَضْمَنْ لِي ما بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجنَّة".

الداعي الرابع: إرادة زيادة تقرير الغرض المسوق له الكلام، لما في صلة الموصول من ظلال دلالاتٍ توحي بوقوع الحدث، إذا قيس بأشباهه في مثل ظروفه، كأن تقول: سرق خزينة القصر الذي يعرف خباياه، ومداخله ومخارجه، وباستطاعته أن يتوصل إلى مفاتيح أبوابه بسهولة، وأنت تقصد شخصاً معيّناً تعرف اسمه، وتنطبق عليه هذه الأوصاف، فذكرك له باسم الموصول وصلته مما يزيد في تقرير وقوع السّرقة منه، وذلك لأنّ من كان مثله في صفاته كان عُرضةً لأن يسرق الخزينة.

ومن شواهد هذا الداعي قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) بشأن مراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام واستعصامه بالعفة وبالخوف من الله، وتمنُّعِهِ عن الوقوع في الفاحشة:

{وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)}.

فاختيار ذكر: [الّتِي هُوَ في بَيْتِهَا] دون ذكر اسمها "زليخة" أو ذكر "امرأة العزيز" كما جاء في موضعٍ آخر من السورة، لزيادة تقرير وقوع الحدث، إذْ كونُ يوسف عليه السلام في بيتها، وهي سيّدتُه المطاعة فيه، لا بُدَّ أن يُلاحظ معه أنّها لا تراوده إلاَّ إذا وصَلَتْ إلى ذِرْوة الإِعجاب بشخصه والافتتان بصفاته، بعد مخالطة طويلة رأت فيها من جماله وبهائه وذكائه وشبابه ورجولته وحسن أدبه، وكمال خلقه ما جعلها شغوفة بحُبّه حُبَّ النساء للرجال، وهي ترى أنّ لها عليه سلطان الآمر الناهي، وأنّ عَلَيْه أن يُحَقِّق لها مطالِبَها منه.

ومع زيادة التقرير هذه نلاحظ مضمون الثناء على عفّة يوسف عليه السلام، واستعصامه وطاعته لربّه، إذ استطاع مع وجود كلّ الدواعي الدافعة بقوّةٍ إلى الخطيئة، أَنْ يَصْمُدَ أمام كلّ مثيرات الإِغراء، وأنْ يتحَدَّى سلطةَ سيّدة القصر الّتي تريد تحقيق رغبتها ولو بالقوّة.

وتُفْهَمُ زِيَادةُ التقرير هذه من قول أبي العلاء المعرّي:

*أَعْبَّادَ الْمَسِيحِ يَخَافُ صَحْبِي * وَنَحْنُ عَبِيدُ مَنْ خَلَقَ الْمَسِيحَا؟!*

أي: من المستبعد جدّاً في أصْحَابي المسلمين الذين يَعْبُدونَ من خَلَقَ الْمَسِيحَ، ويستعينون به، ويرجون منه النَّصْرَ أن يَخَافُوا مَنْ يَعْبُدون الْمَسِيحَ الذي هو عبدالله، وخَلْقٌ من خلْقِه، وإن استنصرتموهُ لم يَنْصُرْهم.

***

الداعي الخامس: إرادة التفخيم والتعظيم أو التهويل، وذلك لأنّ الإِبْهام الذي قد يوحي به اسم الموصول مع صلته أحياناً يومىء إلى ذلك.

* ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول):

{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78)}.

أي: فَغَشِيَى فرعَوْنَ وجُنُودَه من الْيمّ مَا غَشِيَهُمْ منْ أمْرٍ مَهُولٍ جدّاً، فدَلَّ الإِبهام في الموصول وصلته عَلى عِظم الأمر المهول الذي غشيهُمْ.

* ونظيره قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النجم/ 53 مصحف/ 23 نزول):

{وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)}.

المؤتفكة: أي: المنقلبة، وهي قُرَى قوم لوط.

فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى: أي: فنزل عليها من فوقها شيءٌ مهولٌ عظيم سترها كلَّها فدمّرها تدميراً شاملاً، فدلّ الإِبهام في الموصول وصلته على عِظَم الأمر المهول الذي غشَّى قرى قوم لوط المنقلبة عاليها سافلها.

* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النجم) أيضاً بشأن نفيخم وتَعْظِيم ما يَغْسَى سِدْرَةَ المنتَهَى، فوق السماوات السّبع:

{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16)}.

أي: إذْ يَغْشَى السّدْرة شيءٌ فخم عظيم لا تستطيع الأوهام أن تتخيّله.

***

الداعي السادس: الإِشارة إلى أنّ الوصف الذي دلّت عليه صلة الموصول هو علة بناء الحكم في الجملة، هذا نظير قول علماء أصول الفقه: بناء الحكم على المشتقّ يُؤْذن بعلّيَة ما منه الاشتقاق.

والإِشارة أيضاً إلى أن الوصف الذي دلّت عليه صلة الموصول يقتضي الالتزام بالتكليف الذي يأتي بعده.

والأمثلة على هذا الداعي بفرعيه كثيرة في القرآن المجيد، فمنها ما يلي:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (البقرة/ 2 مصحف/ 87 نزول):

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (177)}.

أي: هذا الجزاء الكريم لهم إنّما هو بسبب اتصافهم بالإِيمان والعمل الصالح وَإقام الصلاة وإيتاء الزكاة.

* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56)}.

أي: هذا العذاب الأليم لهم إنّما يكون بسبب كفرهم بآياتِ الله.

* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الحشر/ 59 مصحف/ 101 نزول):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)}.

أي: إنّ إيمانكم بالله واليوم الآخر يقتضى منكم الالتزام بطاعة الله، لتَتَّقُوا عذابه يوم الدين.

الداعي السابع: قد يُتَّخَذُ اسم الموصول مع صلته ذريعة لتعظيم الموصوف به، إذ اتّصافُه بما تضمَّنته صلة الموصول من وصفٍ عظيم أمرٌ يدلُّ على أنّه عظيم، كأن تقول: الذي خَلَقَ السماوات والأرض وأتقن كلّ شيءٍ صُنْعاً هو إلَهُنا. فَوَصْفُهُ كَأنَهُ هو الخالق المتقن لكلّ شيءٍ يَدُلُّ على عظمته وجلاله واستحقاقه أن يُعْبَد ويُفْرد بالعبادة.

وقد يُتَّخَّذُ ذَرِيعةً للتعريض بالمنزلة الرفيعة للمتكلّم، أو فخامة شيءٍ يتعلّق به، أو نحو ذلك، كأن تقول: الذي بنَى قصر الملك هو الذي بنَى قَصْرِي، تشير إلى فخامة بناء قصرك، وأنّك ذو مكانة رفيعة.

ومنه قول الفرزدق من قصيدة يفتخر بها على جرير:

*إِنَّ الذي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا * بَيْتاً دَعائِمُهُ أَعَزُّ وأَطْوَلُ*

وقد يُتَّخَذُ ذريعة للتخويف من عقاب الموصوف به، والتحذير الشديد من مخالفته، ومنه قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الشعراء/ 26 مصحف/ 47 نزول) في حكاية ما قال شعيب عليه السلام لقومه:

{وَاتَّقُواْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ (184)}.

والجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ: أي: الأمَّةَ الأَوّلِينَ من الناس.

والمعنى أنّ خالق الناس جميعاً يجب أن يُتَّقَى عقابُه، إذ هو على كلّ شيءٍ قدير.

***

الداعي الثامن: إرادة تنبيه المخاطب على خطأٍ واقع فيه، بما تضمّنَتْه صلة الموصول مما يخالف معتقده، ومنه قول عَبْدَة بْنِ الطبيب من قصيدة يَعِظُ فيها بَنِيه:

*إِنَّ الَّّذِينَ تَرَوْنَهُمُ إِخْوَانَكُمْ * يَشْفِي غَليلَ صُدُورِهِمْ أَنْ تُصْرَعُوا*

غَلِيلَ صُدُورهم: أي: غيظ صدورهم منكم.

أَنْ تُصْرعُوا: أي: أن تَهْلِكُوا وتَمُوتُوا.

***

الداعي التاسع: قصد الدلالة على معانٍ تتضمنها صلة الموصول، وهذه المعاني لا تدلُّ عليها المعارف الأخرى، ولا حصر لهذه المعاني.

وبعض هذه المعاني يُشعر بتعظيم من دلّ عليه اسم الموصول، وما يجب تجاهه، مثل: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)} [الانفطار/ 82].

وبعضها يشعر بالتّهكُّم، مثل قول المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء في سورة (الحجر/15 مصحف/ 54 نزول):

{وَقَالُواْ يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)}.

وبعضها يُشْعر بالحثَّ على الرحمة والمعونة والإِحسان، مثل: أسعفوا الّذِين يتعرّضون للتقتيل والتشريد والجوع والظمأ والمرض من مسلمي البوسنة والهرسك على أيدي الصِّرْبِ الهمج.

***

خامساً - دواعي اختيار المعرّف باللاّم:

(1) مقدمة

الاسم المعرّف باللاّم [وقَدْ يستعمل النحاة عبارة المعرّف أو المحلّى بـ"ال"] تدخل عليه أداة التعريف هذه فتدُلُّ على مَعَانٍ متعدّدة، تختلف باختلاف المراد منها الذي تكشفه القرائن اللفظية أو غير اللفظية.

وقد أحْصَى النحاة وتبعهم البلاغيون المعانيَ التي يُمْكن أن تستفاد من هذه الأداة من أدوات التعريف.

ونبَّه البلاغيون على أن المتكلّم البليغ قد يختار في كلامه الاسم المعرّف باللاّم دون المعارف الأخرى التي تَصلُح بدائل له، للدّلالة على معنى يقصده من المعاني التي يمكن أن تستفاد من أداة التعريف هذه، مع قصْدِ الإِيجاز في التعبير.

ونلاحظ أنّه كلّما كان المتكلّم أكثر إحساساً بفروق المعاني، وأكثر تذوّقاً لفروق العناصر الجمالية في الكلام، وأكثر إدراكاً لمطابقة الكلام لمقتضى الحال، كما أحْسَنَ اختياراً من البدائل التي يَصْلُح كلُّ منها لأداء أصل المعنى المقصود بوجه عامّ، وبسبب ذلك تتفاوت مراتب الكلام البليغ ودرجات كلّ مرتبة منها، وتتفاضل مراتب البلغاء ودرجاتهم في إنشاء الكلام البليغ والإِبداع فيه.

***

(2) تقسيم لام التعريف

قسّم النحويّون اللاّم التي تدخل على الاسم فتفيده تعريفاً إلى قسمين: اللاّم الجنسية، واللاّم العهدية:

أمّا اللاّم الجنسيّة: (وقد تُسمَّى عند البلاغيين لام الحقيقة) فهي ثلاثة أنواع:

النوع الأول: اللاّم التي لبيان الحقيقة والماهية، وهي التي لا يصحّ أنْ يستعمل بدلَها كلمة "كلّ فيشارُ بها إلى الحقيقة الشائعة في الأفراد، دون النظر إلى الدّلالة على عُمومٍ أو خصوص.

ومن الأمثلة على هذا النوع ما يلي:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأنبياء/ 21 مصحف/ 73 نزول):

{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ (30)}.

أي: وجعلنا من ماهيّةِ جنْسِ الماء كلَّ شيء حيّ، فإرادة حقيقة الماء وماهيته تستبعد إرادة كُلِّ الماء على سبيل الاستغراق، والقرينَةُ على إرادة الحقيقة والماهيّة دون الاستغراق الواقعُ المشاهد، فالأحياء يدخل في تركيب أجسادها عنصر الماء، مع وجود مياه منفصلة عن الأحياء، ومياه لم تخلق منها أحياء بعد.

* والقول المشهور: "أهلك النّاسَ الدِّينارُ والدّرْهم" أي: أهلك جنْسَ الناس لا كلَّ أفرادهم جنْسُ الدينار وجنسُ الدرهم، لا كُلُّ دينار وكلّ دِرْهم.

* ويمثلون بعبارة: "الرَّجُلُ خَيْرٌ من الْمَرْأة" أي: جنْسُ الرجُلِ وماهيَّتُه خيرٌ من جنس المرأة وماهيتها، لا كُلُّ فردٍ من أفراد الرجال خير من كلّ امرأة، إذْ بعض النساء أفضل من مئات الألوف من الرجال.

* ومنه قول أبي العلاء المعرّي:

*وَالْخِلُّ كَالْمَاءِ يُبْدِي لِي ضَمَائِرَهُ * مَعَ الصَّفَاءِ وَيُخْفِيهَا مَعَ الكَدَرِ*

أي: جِنْسُ الْخِلّ يَفْعَلُ هذا، دون ملاحظة استغراق جميع الأخِلاّء، إذْ قد يوجَدُ منهم من هو على خلاف ذلك.

النوع الثاني: اللاّم لاستغراق أفراد الجنْسِ كلّهِم حقيقةً أَوْ عرفاً، وهي الّتي تدلُّ على ما تدُلُّ عليه لفظة "كُلَّ" لو كانت بدلها.

فمن أمثلة الاستغراق الحقيقي ما يلي:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (النساء/ 4 مصحف/ 92 نزول):

{يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً (28)}.

أي: وخلق كلّ فرد من أفراد جنس الإِنسان ضعيفاً، والواقع يشهد لإِرادة هذا الاستغراق.

* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (السجدة/ 32 مصحف/ 75 نزول):

{ذلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)}.

أي: عالم كلّ غيب وكلّ شهادة، والدليل العقلي يقرّر هذا الاستغراق. ومن أمثلة الاستغراق العرفي ما يلي:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول):

{وَجَآءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ...} [الآية 113].

أي: سحرة مملكته، لا كلُّ سَحَرَة العالم.

ومنه أن تقول: جمع وزير الصحة الأطباء والصيادلة، أي أطبّاء الدولة وصيادلَتَها.

ويلاحظ في الاستغراق أنّ استغراق المفرد أشمل من استغراق المثنى والجمع، بدليل صحة قولنا: لا رجلان في الدار، إذا كان فيها رجل واحد، وصحة قولنا: لا رجال في الدار، إذا كان فيها رجل أو رجلان.

ويلاحظ أيضاً أنَّهُ لاَ تنافي بين الاستغراق وإفراد الاسم، لأنّ حرف اللام يدخل عليه مجرّداً عن معنى الوحدة، فيكون لفظ المفرد المعرّف باللام بمعنى: كُلّ فرد، لابمعنى: مجموع الأفراد، ولهذا امتنع وصفه بلفظ الجمع، فلا يقال: الرَّجُلُ المؤمنون أفضل من الرجل غير المؤمنين، بل يقال: الرجل المؤمن أفضل من الرجل غير المؤمن، أي: كلّ رجل مؤمن أفضل من كلّ رجل غير مؤمن.

النوع الثالث: اللاّم التي لاستغراق صفاتِ الجنْسِ مجازاً على سبيل المبالغة، كأن تقول لمن تريد الثناء عليه باستجماعه صفات الرجولة الكاملة: "أنت الرَّجُل" أي: أنت المستغرق في صفاتك صفات جنس الرجال.

وكأن تقول مثلاً عن المتنبّي: "هو الشاعر" أي: هو الذي اجتمعت فيه كلُّ صفات الشاعر، فكأنه استغرق الجنْسَ كلّه.

ومنه قول الشاعر: "أَنْتُمُ النَّاسُ أَيُّهَا الشُّعَرَاءُ".

النوع الأول: اللاّم الّتي للعهد الذكريّ، وهي الَّتِي يتقدَّم المعرَّفَ بها ذكْرٌ في الكلام، وضابطها أن يسُدّ الضمير مسَدَّه.

والمعهود في الذكر قد يكون مذكوراً صراحةً باللّفظ، وقد يكون مذكوراً على سبيل الكناية.

* فمن أمثلة المذكور صراحة بلفظه ما يلي:

قول الله عزّ وجلّ في سورة (المزمل/ 73 مصحف/ 3 نزول):

{إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16)}.

وَبيلاً: أي: شديداً.

فاللاّم التي في (الرسول) عهديّة، ونلاحظ أنّه يمكن أن يقع الضمير موقع لفظ الرسول فيقال: فعصاه فرعون، ويلاحظ أن اختيار المعرّف باللام العهديّة هنا إرادة ذكر لفظ الرّسول لبيان شناعة معصية فرعون لرسول ربّه.

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (النور/ 24 مصحف/ 102 نزول):

{*اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} [الآية 35].

فاللاّم في "الْمِصْبَاح" وفي "الزجاجة" عهديّة، ونلاحظ أنَّه يمكن أن يقع الضمير موقعهما، فيقال: فيها مصباح هو في زجاجة هي كأنها كوكبٌ دُرِّي. ولكِنْ تَضْعُفُ فنيَّةُ الأداء البياني لو استخدم الضمير بدل الْمُعَرَّف باللاّم، فالداعي هنا جماليّ.

ومن أمثلة المذكور على سبيل الكناية ما يلي:

* ما جاء في قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (آل عمران/ 3 مصحف/ 89 نزول):

{إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)}.

إنَّهُ لم يسبق ذكر لفظ الذَّكَرِ صراحةً، لكنه سبق ذكره على سبيل الكناية، لأنّها قالت: {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} وعتق الوليد لخدمة بيت المقدس لم يكن إلاَّ للذكور، فلفظ "ما" في كلامها قد كَنَّتْ به عن وليد ذكر، فلمَّا جاء الوليد أنْثَى قالت: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى}.

النوع الثاني: اللاّم التي للعهد الذهني: ويُسمَّى أيضاً "العهد الْعِلْميّ" وهي التي سبق العِلْمُ بالمعرَّف بها.

وهو قسمان: معهود ذهناً بشخصه المعيّن. ومعهود ذهناً بحَقيقته ضمن فرد مُبْهَم غير معَيّن بشخصه، والمعرَّفُ بهذه اللام للدّلالة على حقيقته ضمن فرد مبهم لفظٌ يعامل معاملة المعرفة، ولكن معناه يُعامَلُ معاملة النكرة، لأن المعهود بها غير معيَّنٍ بشخصه.

ومن أمثلة المعهود ذهناً بشخصه المعين مايلي:

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (طه/ 20 مصحف/ 45 نزول):

{فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ يامُوسَى (11) إِنِّي أَنَاْ رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12)}.

إنّه لم يَسْبِق ذِكْرٌ للفظ "الوادي" لكن سبق العلم به، فهو معهود ذهناً، فاللاّم المعرّفة له هي للعهد الذهني "= العهد العلمي".

* وقول الله عزّ وجلّ في سورة (التوبة/ 9 مصحف/ 113 نزول) خطاباً للمؤمنين تحريضاً لهم على نصرة الرسول:

{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ...} [الآية 40].

إنَّه لم يسبق ذكر للفظ "الغار" لكن سبق العلم به، فهو معهودٌ ذهناً، فالاّم المعرّفة هنا هي للعهد الذهني "= العهد العلمي".

* وقول الله عز وجلّ في سورة (الفتح/ 48 مصحف/ 111 نزول):

{*لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18)}.

فالشجرة مَعْهُودَةٌ ذِهْناً، دون أن يسبق في النصّ لها ذكر.

ومن أمثلة المعهود ذهناً بحقيقته ضمن فرد مبهم غير معين بشخصه ما يلي:

* ما جاء في قول الله عزّ وجلّ في سور (يوسف/ 12 مصحف/ 53 نزول) حكايةً لمقالة يعقوب لبنيه بشأن يوسف عليهما السلام.

{قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13)}.

لفظ "الذئب" يطلق على أيّ ذئب فمعناه كمعنى النكرة، فماذا فعلَتْ اللام المعرّفة فيه؟ قالوا: عرَّفَتْ الحقيقة الملاحظة في الذهن، ولم تُعَرِّفْ ذِئباً معيّناً بشخصه، وهذه الحقيقة الذهنية الواحدة تنطبق على ذئبٍ ما أيّ ذئب.

* ومنه قول عُمَيرة بن جابر الحنفي:

*وَلَقَد أَمُرُّ علَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي * فَمَضَيْتُ ثَمَّتِ قُلْتُ: لاَ يَعْنِينِي*

فتعريف لفظ "اللئيم" تعريف للحقيقة الملاحظة في الذهن كما قالوا.

* ومنه أن تقول لمن تخاطبه: اذهب إلى السّوق واشتر منه حاجتك.

النوع الثالث: اللاّم الّتي للعهد الحضوري، وهي التي يكون المعرَّفُ بها حاضراً عند التكلّم، ومن أمثلة هذا النوع ما يلي:

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (المائدة/ 5 مصحف/ 112 نزول):

{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً...} [الآية 3].

فاللاّم التي في لفظ "اليوم" المعرِّفة له تُشِير إلى اليوم الحاضر الذي نزلت فيه الآية، وكان يوم عرفة في حجّة الرسول صلى الله عليه وسلم.

* قول الله عزّ وجلّ في سورة (الأعراف/ 7 مصحف/ 39 نزول) في عرض لقطاتٍ من قصة موسى عليه السلام وفرعون:

{وَقَالَ مُوسَى يافِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)}.

فالظاهر أنّ اللاّم في لفظ "الْمَلإِ" المعرّفةَ تُشِيرُ إل الْمَلإِ الحاضرين فِي مَجْلِسِ فِرْعَوْن حِينَ قدَّم مُوسَى عليه السلامُ آيتيه لفرعَوْن، إذْ يحتمل أن يوجد في مصر مَلأٌ آخرون غيرهم لم يكونوا حاضرين في مجلسه حِنئذٍ.

* وتصل إلى دارٍ لتقابل صاحبها فتناديه: افتح الباب، فاللام في لفظ "الباب" عهدية تشير إلى الباب الموجود في مكان الحضور، فهي من الّتي للعهد الحضوري.

وتريد أن تشرب ماءً، فتقول لمن تخاطبه: ناولني الكأسَ، أي: الكأس الحاضرة في مجلس المخاطبة.

إلى غير ذلك من أمثلة.

وببيان قسْمَي اللاّم المعرفة وأنواعها ودلالات كلِّ نوع منها، يتّضح لنا أن على المتكلّم البليغ أن يختار لكلامه ما يلائم المعنى الذي يريد أن يعبّر عنه، ما يراه أكثر بلاغة ممّا يطابق مقتضى الحال.

وأنّ على متفهم النصوص البليغة أن يكتشف أسرار الاختبارات الحكيمة في الكلام البليغ، وأن يكون قادراً على النقد الكاشف للمحاسن والعيوب في الكلام.

ملاحظة:

لم أتعرّض هنا لما يسمَّى "اللاّم الزائدة: مثل "ال" في نحو "اللاّت والعزّى" وفي نحو "الآن" وفي نحو "اليزيد" والداخلة على الأعلام، مثل: "الحسن والحسين".

ولم أتعرّض لما يُسمَّى "اللام الموصولية" التي تأتي بمعنى "الذي" وهي التي قد تدخل على اسم الفاعل، أو اسم المفعول، على مَعْنَى الذي، فهي حينئذٍ اسم موصول في صورة حرف، وصِلَتُها الوصف الذي دخلَتْ عليه، مثل: جاء الضاربُ أخاك، أي: الذي ضرب أخاك.

لم أتعرّض لهما لأنهما بطبيعتيهما خارجتان عن اللام الّتي تدخل على الاسم فتعرّفه، وإِنْ كانتا مُتشابهتين لها في دخولهما على بعض الأسماء مثل دخولها.

فدواعي اختيار المعرّف باللاّم ترجع إلى قصد الدلالة على معنىً من معانيها مع الاختصار والإِيجاز، ومع دواعي أخرى يقصد إليها البليغ، كالتأكيد، والإِشارة إلى عظمة المعرّف بها، أو حقارته، أو إرادة التذكير به، أو بسالف عهد معه، إلى غير ذلك من أغراض يصعب إحصاؤها.

***

سادساً - دواعي اختيار المعرَّف بالإِضافة:

(1) مقدمة

ذكر النحويّون أنّ الإِضافة قسمان: لفظيّة، ومعنوية.

فالإِضافة اللفظية: وتسمّى أيضاً "الإضافة المجازية - والإِضافة غير المحضة" هي الّتي لا تفيد المضافَ تعريفاً ولا تخصيصاً، والغرض منها التخفيف في اللفظ فقط بحذف التنوين من المضاف، أو حذف نوني التثنية والجمع ويُجَرُّ المضاف إليه فيها، والمضاف إليه فيها فاعل المعنى للمضاف أو مفعول به، إذ المضافُ فيها ينبغي أن يكون ممّا يعملُ عَمَل الفعل، والجرّ على تقدير حرف تعدية فقط، مثل: سعيد طالبُ علمٍ، أي: يطلبُ علماً. والحُسَيْنُ مَهْضُومُ الحقِّ، أي: هُضِمَ حقُّه. ومُصْعَبٌ حَسَنُ الْخَلْقِ والْخُلُقِ، أي: حَسُنَ خَلْقُهُ وخُلُقه.

وهذه الإِضافة اللفظية، لا تَدخُلُ في دواعي اختيار المعرَّف بالإِضافة عند البلاغيين، بل هي من مُلْحَقَاتِ متعلقاتِ الفعل.

أمّا الإِضافة المعنوية: وتسمّى أيضاً "الإِضافة الحقيقية - والإِضافة المحضة" فهي نِسْبَةٌ تكون بين اسْمَيْن مقترنين على تقدير حرف جرّ ذي معنىً بينهما، ويُنَزَّلُ الثّاني منهما مَنْزِلة التنوين من الأوّل، وهي توجب جرّ الثاني دواماً، مثل: كتَابُ اللهِ المعجزُ دليلٌ على نُبُوَّةِ مُبَلِّغِهِ وأنَّهُ رسُولُ الله لِجَمِيعِ النّاس.

ويسمَّى الأول منهما مضافاً، ويُسَمَى الثاني مضافاً إليه، والجارّ للمضاف إليه هو المضاف.

وحرف الجرّ المقدّر بينهما واحدٌ من حروف الجرّ الأرْبعة التالية:

الأول: "اللاّم" التي تفيد الملك مثل: "هذا كتابي" أي كتابٌ مِلْكي، أو تفيد الاختصاص، مثل: "هُنَا مَرْبطُ الفرس" أي: مربط متخصّص بالفرس.

الثاني: "من" البيانيّة، ويكون المضاف إليه فيها جنساً للمضاف، مثل: "سوار ذَهَبٍ - خاتمٌ فضْةٍ - ثوبُ قُطْنٍ". أي: سوارٌ من ذهب، وخاتم من فضة، وثوب من قطن.

الثالث: "في" الظرفية، و يكون المضاف إليه فيها ظرفاً للمضاف مثل: "سَهَرُ اللّيْلِ مُضْنٍ - عَمَلُ الصَّبَاح مباركٌ فيه - قُعُودُ الدار يجلب الأكدار" أي: سَهرٌ في اللّيل، وعملٌ في الصباح، وقُعُود في الدار.

الرابع: "كاف التشبيه" ويكون فيها المضافُ مشبَّهاً به، والمضاف إليه مشبَّهاً، مثل: "تساقط لُؤْلُؤُ الدَّمع على ورد الخدود" أي: تساقط الدمْعُ الذي كاللُّؤلؤ، على الْخُدُودِ الّتي كالْوَرْدِ، هذه الإِضافة هي من إضافة المشبه به إلى المشبه، وملاحظة كاف التشبيه فيها تكون بعد عكس ركني الإضافة.

وهذه الإِضافة المعنوية تفيد واحداً من أمرين:

الأول منهما: تعريف المضاف بالمضاف إليه، إذا كان المضاف إليه فيها واحداً من المعارف، مثل: "مَسْجدُ الرسولِ محمّد صلى الله عليه وسلم" و"تَلوْتَ صفحةً من كِتَابِ اللهِ" إلاَّ أن يكون المضاف متوغلاً في الإِبهام والتنكير مثل: "غير" أو يكون المضاف إليه ضميراً يعودُ على نكرة.

الثاني منهما: تخصيص المضاف بالمضاف إليه، إذا كان المضاف إليه فيها نكرةً من النكرات، مثل: سيف فولاذ أقوى وأصلَبُ من سيف فضّة، أو ضميراً يعودُ على نكرة، مثل: طرق بابي مستوِّلٌ وزوجته. واشتريت ناقةً وَفَصِيلَهَا.

***

ملاحظة: الإضافة التي هي تقدير كاف التشبيه يمكن إدْخالها في الإضافة على تقدير "من" على اعتبار أن لفظ المضاف أُخِذ على سبيل الاستعارة وأُطلق على معنى المضاف إليه، والعلاقة هي التشبيه.

ولهذا اقتصر معظم النحاة على تقدير "اللاّم ومن وفي" بين المضاف والمضاف إليه.

(2) بيان الدواعي

أمّا دواعي التعريف بالإِضافة الحقيقة فقد ذكر البلاغيون طائفة منها، وفيما يلي بيانٌ لها.

الداعي الأول: كون الإِضافة أخصر طريق وأوجزه، والمقام يقتضي الاختصار والإِيجاز.

ومن الأمثلة:

* قول جَعْفَر بن عُلْبَة الحارثِي:

*هَوَايَ مَعَ الرَّكْبِ اليَمَانينَ مُصْعِدُ * جَنِيبٌ وَجُثْمَانِي بِمَكَّةَ مُوثَقُ*

*عَجِبْتُ لِمَسْرَاهَا وَأنَّى تَخَلَّصَتْ * إِلَيَّ وَبَابُ السِّجْنِ دُونِيَ مُغْلَقُ*

*ألَمَّتْ فَحَيَّتْ ثُمَّ قَامَتْ فَوَدَّعَتْ * فَلَمَّا تَوَلَّتْ كَادَتِ النَّفْسُ تَزْهَقُ*

*فَلاَ تَحْسَبِي أَنِّي تَخَشَّعْتُ بَعْدَكُمْ * لِشَيْءٍ وَلاَ أَنِّي مِنَ الْمَوْتِ أَفْرَقُ*

*وَلاَ أَنَّْ قَلْبي يَزْدَهِيهِ وَعِيدُهُمْ * وَلاَ أَنَّنِي بِالْمَشْي في الْقَيْدِ أَخْرَقُ*

وَلَكِنْ عَرَتْنِي مِنْ هَوَاكِ ضَمَانَةٌ * كَمَا كُنْتُ أَلْقَى مِنْكِ إذْ أَنَا مُطْلَقُ*

مُصْعِد: من "أصْعَدَ" إذا ارْتقى في أرضٍ آخذةٍ في العلوّ والارتفاع، وقد كان سجينا في مكة، فزارته التي يهواها، ثم سافرت مع الركب المتجهين مُصْعِدِين إلى جهة اليمن.

الْجَنِيب: ما يقادُ إلى الجنب من الخيل وغيرها، شبّه هواه الصاعد مع الركب بالدابة التي تُقَاد إلى جَنْبٍ من مقودها، فتكون مرافقة للرّكب، وقصده مَنْ يهوى، فهي هواه، قالوا: وحسَّنَ هذا الاختصار أنّ الشاعر ضائق وسجين.

كادَتِ النَّفْسُ تَزْهَقُ: أي: تخرج من جسده.

تَخَشَّعْتُ: تذلَلت وتضرّعت.

أفْرَق: أخاف.

أخْرَقُ: أي: مذعور فَزعٍ مندهش.

ضمانَةٌ: أي: عِلَّةٌ لَزِمَتْنِي.

والشاهد الذي استشهد به البلاغيون قولُه "هَوَايَ" أي: التي أهواها، فأطلق عليها أنّها هي الهوى، وأضاف الهوى إلى ياء المتكلم، فقال: هَوَايَ مع الركب اليمانين مُصْعِد.

***

الداعي الثاني: كون الإِضافة تُغني عن تفصيلٍ متعذِّرٍ، أو متعسّر، ومن الأمثلة أن تقول: أجْمَعَ علماءُ المسلمين على رجْم الزّاني المحصن.

فتفصيل علماء المسلمين أمرٌ متعذّر.

ومن الأمثلة:

قول حسان بن ثابتٍ يمدح أولاد جفنة من الْغَسَاسِنَة، ويبدو أنّ هذا من شعره قبل الإِسلام:

*أَوْلاَدُ جَفْنَةَ حَوْلَ قَبْرِ أَبيهِمُ * قَبْرِ ابْن ماريَةَ الْكَرِيمِ الْمُفْضِل*

الْمُفْضِل: الْمُحْسِن بالعطاء، والزائد على غيره في الحسَبِ والشّرف.

وقول الشاعر يمدح قومه بني مطر:

*بَنُو مَطَرٍ يَوْمَ اللِّقَاءِ كَأَنَّهُمْ * أُسُودٌ لَهَا فِي غِيلِ خَفَّانَ أَشْبُلُ*

في غِيل: الغِيلُ مَوْضِعُ الأسُود، والمجتمع من الشجر.

خفَّان: مأَسدةٌ قُرْبَ الكوفة.

أشْبُل: جمع شِبْل وهو وَلدُ الأَسد.

وقول الحارث الجرمي:

*قَوْمِي هُمُ قَتَلُوا أُمَيْمَ أَخِي * فإذَا رَمَيْتُ يُصِيبُني سَهْمِي*

ومع الاختصار ففي هذه الإِضافة معنَى التحسُّرِ لأنَّ من قَتَلَ أخاه هم قومُه الّذِينَ يَعِزُّ عليه أن يَنْتَقِم منهم، لأنَّه لو فعل لأصابَ بسَهْمِه نفسه.

***

الداعي الثالث: أن يشار بالإِضافة إلى تعظيم المضاف أو تعظيم المضاف إليه، ومن أمثلته ما يلي:

* قول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الإِسْرَاءِ/ 17 مصحف/ 50 نزول):

{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ...} [الآية 1].

* وقول الله عزَّ وجلَّ في سورة (الجنّ/ 72 مصحف/ 40 نزول):

{وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19)}.

لِبَداً: لِبَد جَمْعُ لِبْدَة، وهي لِبْدَةُ الأَسَدِ، أي: كاد مشركو مكة من كثرة تألُّبهم ضدَّه لمقاومة دعوته يكونون مثل لِبَدِ أُسود حوله.

فالإِضافة إلى الله في الآيتين تَشْرِيفٌ للمضاف عظيم.

* ومن تعظيم المضاف أن يقول ذو مكانة اجتماعية ومال كثير: هؤلاء أنصاري، وهذا السوقُ مِلْكِي، وقوصر هذا الحيّ قصوري، فهو يُعظِّم نفسه بانصاره، وبما يملك.

***

الداعي الرابع: أن يُشار بالإِضافة إلى تحقير المضاف أو تحقير المضاف إليه، أو تحقير غيرهما.

فمن تحقير المضاف أن تقول عن عِقْدٍ تتفاخر به صاحبته: هذا عِقْدُ كَلْبِكِ.

ومن تحقير المضاف إليه أن ترى كوخاً حقيراً فتقول لمن تريد أهانته: هذا قصرك.

ومن تحقير غيرهما أن تقول لمن تريد إهانته وهو جالسٌ على كرسيّ مستكبراً: هذا كُرسيُّ الإِسكاف.

***

الداعي الخامس: أن تتضمّن الإِضافة معنىً يُقْصد ويُشاور إليه بها، كالتحريض على الإِكرام، أو التحريض على الإِهانة والإِذلال، أو التحريض على البرّ، أو إرادة الاستهزاء والتّهكم، أو غير ذلك.

* فمن أمثلة التحريض على الإِكرام: هذا صديقُك يزورك.

* ومن أمثلة التحريض على الإِهانة والإِذلال: هذا عدُوّك مقبل إليك.

* ومن أمثلة التحريض على البرّ: هذا أبوك الذي ربّاك.

* ومن أمثلة إرادة الاستهزاء والتهكم: أن تقول لمن تسخر منه: هذا رَئيسُنَا وزعيمُنَا، مع أنّه لا يصلُح إلاَّ أن يكون تابعاً خادماً.

إلى غير ذلك من معانٍ لطيفة يمكن أن يُشارَ إليها بالإِضافة.

 

 





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.