قرأت نصوصا من " الكتاب " لسيبويه ، ومن المقتضب للمبرد ، ومن " معاني القرآن " للفراء ، ورأيت اختلاف هذه الكتب من حيث المنهج العام ومن حيث استعمال (المصطلح) على وجه الخصوص . ومع أن النصوص المبكرة التي بين أيدينا لا تكشف عن خلاف كبير بين البصريين والكوفيين فإن تاريخ النحو العربي كله قد تأسس بعد ذلك على الخلاف بينهم . وأغلب الظن أن صورة الخلاف كما نعرفها عن المدرستين قد شكلها نحويون متأخرون .

ولقد توفر عدد من القدماء على تتبع المسائل التي اختلف عليها البصريون والكوفيون ، وتذكر كتب التراجم عدة كتب تخصصت لهذا الخلاف ، اشتهر من بينها كتاب مهم لا يكاد يستغني عنه باحث في محاولة للوصول الى تصور للجدل النحوي عند كلا الفريقين . وهذا الكتاب هو :

الإنصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري

وابن الانباري هو أبو البركات عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد ، كمال الدين الأنباري (ت 577هـ) ، من المدرسة البغدادية ،

ص109

ولكنه كان أميل الى مدرسة البصرة ، فقد أخذ النحو عن ابن الشجري (ت542هـ) الذي تنتهي سلسلة شيوخه الى سيبويه .

جمع ابن الانباري اهم المسائل التي اختلفت عليها المدرستان ، فكانت عدتها مائة وإحدى وعشرين مسألة ، رتب الخلاف فيها متأثراً بمسائل الخلاف بين الفقهاء ، فذكر من مذهب كل فريق ما اعتمد عليه اهل التحقيق ، واعتمد في البصرة على ما كان يذهب هو إليه من مذهب أهل الكوفة ، أو البصرة ، محاولاً ـ كما يقول ـ أن يكون ذلك على سبيل الإنصاف ، لا التعصب والإسراف .

من هنا نراه يقدم موضوع القضية التي جرى حولها الخلاف ، ثم يقدم براهين الكوفيين، ومن بعدها براهين البصريين ثم يقدم ـ في الأغلب ـ جواب البصريين على كلمات الكوفيين .

ولم يستطيع الرجل ان يتخلص من هواه البصري فلم يؤيد الكوفيين إلا في مسائل سبع هي المسألة العاشرة ، والثامنة عشرة ، والسادسة والعشرون والسبعون ، والسابعة والتسعون ، والحادية والمائة ، والسادسة والمائة .

ومهما يكن من أمر فإن الذي يهمنا هو أن نتعرف على منهج الرجل في تقديم صورة للخلاف بين المدرستين ، ولذلك اخترنا لك عددا من المسائل تمثل في إغلبها خلافا في تحديد كل منهما لعامل معين ، وهذه الخلافات تكشف لك عن سيطرة (نظرية) العامل على الفكر النحوي العربي بما يعينك على فهم ردود الفعل القديمة المتمثلة عند ابن مضاء ، والحديثة المتمثلة عند عدد من اللغويين والمحدثين ، ثم ما ظهر أخيرا من قبول التحويليين لأساس النظرية . (راجع الفصول الخاصة عن النحو التحويلي في كتابنا النحو العربي والدرس والحديث ).

ص110