لا تذكر البصرة إلا وتذكر معها الكوفة ، فقد كان لهما فضل تأسيس النحو وتطويره ، بل لعل ازدهاره في مراحله الاولى يرجع الى ما كان بين المدرستين من تنافس شديد ارتفع الى درجة الخلاف حول كثير من ظواهر العربية .
والبصرة ـ كما قلنا ـ هي التي سبقت الى وضع النحو ، لكن الكوفة ما لبثت أن دخلت ميدانه ، على أن هناك حقيقة معروفة هي أن الكوفة تعلمت النحو من البصرة ، ثم بدأت تتخذ لنفسها منهجاً خاصاً فيه حتى تشكلت لها مدرسة متميزة ، وحتى لا تكاد تجد مسألة من مسائل النحو إلا وفيها مذهبان ؛ بصري وكوفي ، بل لعلك تستطيع معرفة رأي إحداهما إذا وقفت على رأي الأخرى وحدها .
كانت الكوفة مهجر كثير من الصحابة ، وازدهر فيها الفقه ، وكثرت رواية الأشعار والأخبار ، على أن أهم ما يميزها أنها كانت أكبر مدرسة لقراءة القرآن ، ومنها خرج ثلاثة من القراء السبعة وهم عاصم وحمزة والكسائي ، والقراءات علم يعتمد على الرواية ، ويعتمد على التلقي والعرض
ص89
فلا يسمح لأحد أن يقرأ القرآن أو يقرئه إلا بعد أن يتلقاه عن شيخ ثم يعرضه عليه حتى يجيزه ، لأن القراءة علم بأداء القرآن أداء معينا ، وهولا يقوم على منطق او اجتهاد أو تأويل ، ولكنه يتوقف اولا وآخرا على الرواية ، و " التلقي والعرض " هما أصح طرق النقل اللغوي . ونحسب أن " القراءات " هي التي طبعت المدرسة الكوفية بطابعها في كثير من نواحي النشاط العقلي ، وبخاصة في النحو .
من هنا نستطيع ان نفهم ما يقرره مؤرخو النحو من أن الكوفة توسعت في الرواية ، وبأنها كانت تعتمد المثال الواحد لتجعله ظاهرة عامة بحيث تستخرج منه القاعدة التي تراها صالحة للاستعمال ، في حين كانت البصرة تشدد في التوصل الى القاعدة من الأمثلة الكثيرة وكانت تعتبر الأمثلة المفردة شواذ من القاعدة .
على أن الخلاف بين المدرستين لم يقتصر على هذه القضية الهامة وحدها وإنما تعداها الى تفسير الظواهر اللغوية ، ولقد رأيت أن المنهج البصري قد بسط نفوذه على النحو العربي منذ نشأته حتى عصرنا الحاضر ، بل رأيت تعصب عدد من الدارسين المعاصرين له . غير أن الذي لا شك فيه أن النحو الكوفي لم يلق حتى الآن ما يستحقه من عناية الدارسين رغم ، أن كثيراً مما ذهب إليه الكوفيون أقرب الى واقع اللغة مما ذهب إليه البصريون فقد كانت السمة الغالبة على النحويين الكوفيين أنهم درسوا المادة اللغوية على أساس (وصفي) ، أي بطريقة تقريرية تبتعد عن التعليل الفلسفي ، وكلمة الكسائي في ذلك مشهورة حين " سئل في مجلس يونس عن قولهم : لأضر بن أيهم يقوم؛ لم لا يقال : لأضربن أيهم ؟ فقال: اي هكذا خلقت"(1)
ص90
و " هكذا خلقت " هي جوهر المنهج الوصفي ، والمنهج الوصفي هو أساس الدرس النحوي .
ولنضرب مثالاً واحداً على ابتعاد الكوفيين عن التأويل العقلي ، واقترابهم من المنهج الوصفي السليم . وذلك في قضية وقوع الجملة فاعلا فقد كان البصريون قد قرروا أن الفاعل لا يكون جملة ، ولكنهم يصطدمون الى تأويل النص والإسراف فيه ، وذلك نحو قوله تعالى : (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه) . أين فاعل الفعل (بدا) ؟
اضطر البصريون أن يدوروا من حول النص ، فقالوا إن الفاعل هنا يعود على المصدر المفهوم من الفعل ، والتقدير : ثم بدا لهم بداء هو ...
ثم قالوا إن جملة (ليسجننه) جملة تفسيرية تفسر هذا الضمير المستتر العائد على البداء.
ومن الواضح ان هذا الضمير لم يظهر قط وأن هذا البداء خيال . أما الكوفيون فقد قالوا وفقاً لمذهبهم : جملة (ليسجننه) هي الفاعل . وليس من شك في أن هذا هو الصحيح ، ووقوع الجملة فاعلا ليس أمراً غريباً في اللغات .
وكان للكوفيين مصطلحات خاصة بهم ساد بعضها النحو العربي كالنعت وعطف النسق ، وظل بعضها الآخر منسوباً إليهم ، كمصطلح (الخلاف) وهو عامل معنوي كانوا يعتبرونه علة النصب في الظرف إذا وقع خبرا من مثل (زيدٌ أمامك) ، ومصطلح (الصرف) الذي جعلوه علة لنصب المضارع المسبوق بنفي بعد الواو والفاء وأو ، وتسميتهم اسم الفاعل (فعلاً دائماً) ، والضمير (مكنيا) ، ولا النافية للجنس (لا التبرئة) .... وهكذا .
ص91
ومهما يكن من أمر فإن دراسة النحو على ما اشتهر عن البصريين وحدهم فيها شيء غير قليل من مجافاة المنهج العلمي ، بل لعل تتبع ما قدمه الكوفيون أن يعين على دحض كثير من الشبه التي يثيرها بعض الدارسين على النحو العربي . ومن ثم نختار لك كتاباً من أشهر كتب الكوفيين هو كتاب " معاني القرآن" للفراء .
_____________
(1) المزهر 2 /272 .
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|