أقرأ أيضاً
التاريخ: 3-12-2018
![]()
التاريخ: 6-12-2018
![]()
التاريخ: 10-12-2018
![]()
التاريخ: 6-12-2018
![]() |
أثر النظر في التقليد اللغوي
ترى طائفة من الباحثين -على رأسها الأستاذ Onufrowicz- أن لحاسة النظر دخلًا كبيرًا في التقليد اللغوي، وأن رؤية الطفل لشفتي المتكلم وحركتهما، وعمله على محاكاة هذه الحركة، وإخراجه الصوت الذي يتلاءم معها، كل ذلك يساعده على إجادة عملية التقليد ويذللها له، وأن هذه الرؤية لا تقل أثرًا بهذا الصدد عن العوامل الثلاثة التي ذكرناها في الفصل السابق.
وأهم الأدلة الي يقدمها هؤلاء على صحة نظريتهم ترجع إلى ما يلي:
1- أن الطفل في مبدأ هذ المرحلة لا يستطيع محاكاة صوت يصدر من متكلم غير مواجه له, وهذا دليل على توقف التقليد اللغوي، في مراحله الأولى على الأقل، على رؤية شفتي المتكلم وملاحظة حركاتهما.
2- أن الأطفال في مرحلة "التمرينات النطقية(1)", وهي المرحلة السابقة لمرحلة التقليد اللغوي، يوجهون اهتمامًا كبيرًا إلى ملاحظة شتفي المتكلم, وملاحظة حركاتهما, ويحركون شفاههم في صورة يحاولون بها محاكاة ما رأوه بدون أن يلفظوا صوتًا ما, وهذا يدل على أن محاكاة الطفل للآثار المرئية للصوت تسبق تقليده للصوت نفسه، وتمرنه على هذا التقليد، وتهيئ له عنصرًا هامًّا من عناصره.
3- أن أول كلمات يقلدها الطفل هي الكلمات التي تكثر فيها الحروف الشفوية، وهي الحروف التي تخرج من الشفتين ويقتضي نطقها
ص154
تحركهما حركات ظاهرة مرئية تصل إلى الطفل عن طريق حاسة البصر: "بابا", "ماما" ... إلخ. وهذا دليل على أهمية النظر في التقليد اللغوي، وخاصة في المراحل الأولى لهذا التقليد.
4- أن الطفل الأكمه -الذي يولد أعمى- يقضي في كسب اللغة عن طريق التقليد مدة أطول من المدة التي يقضيها في العادة طفل بصير, أو طفل طرأت عليه هذه العاهة بعد أن قطع قسم من مرحلة التقليد اللغوي. فللنظر إذن دخل في سير هذا التقليد وتخفيف أعبائه وتيسير عناصره.
5- أن الأطفال الذين يولدون صمًّا يمكن تعليمهم النطق عن طريق محاكاتهم للحركة المرئية التي تتحرك بها أفواه المتكلمين وشفاهم, فللنظر إذن أهمية كبيرة في عملية التقليد اللغوي، حتى إنها قد تتم أحيانًا بمساعدة النظر وحده, وتستغني استغناءً تامًّا عن السمع.
وقبل أن نعرض لقيمة هذه الأدلة، يجدر بنا أن نبين أن النظرية نفسها قائمة على أساس غير سليم.
وذلك أن عملية التقليد اللغوي يتوقف نجاحها على مبلغ مطابقتها للأصل الذي تحاكيه، وأن هذه المطابقة لا يصل إليها الطفل لأول وهلة، قد تقتضيه معالجة صوته, والعمل بالتدريج على إصلاح ما عسى أن يكون قد وقع فيه من أخطاء، كما تقدم بيان ذلك(2). ويتاح للطفل هذا الإصلاح بفضل إحساسه للصوت الذي يلفظه, والموازنة بينه وبين الصوت الذي سمعه, أو بينه وبين ما يذكره عن هذا الصوت. ولو كان الطفل يعتمد في تقليده اللغوي على محاكاة ما يراه من حركات الشفتين كما تقول هذه النظرية، لما استطاع سبيلًا إلى هذا الإصلاح؛ لأنه لا يمكنه أن يرى كيف تتحرك شفتاه هو، فلا يستطيع أن يعرف أن
ص155
كانت حركاتهما قد جاءت مطابقة للحركات التي رآها أم غير مطابقة لها, ولا يستطيع تبعًا لذلك أن يحدد مواطن الخطأ تحديدًا دقيقًا, ولا أن يصل إلى مطابقة صحيحة.
هذا إلى أن معظم الأصوات اللغوية تعتمد في مخارجها على حركات غير مرئية تؤديها أعضاء غير ظاهرة؛ كحركات الجوف والحلق والحنك واللسان, فليس في اللغة العربية مثلًا إلّا أربعة أصوات شفوية "الفاء والباء والميم والواو"، بينما تشتمل على أربعة وعشرين صوتًا من الأنواع الأخرى, فلو كان للنظر دخل ما في التقليد اللغوي لتعذر على الطفل أو صعب عليه محاكاة قسم كبير من أصوات لغته، أو لكانت محاكاته للأصوات الشفوية أدق من محاكاته لما عداها, وكلتا هاتين النتيجتين لا تتفق مع الواقع في شيء.
وأما الأدلة التي يعتمد عليها أصحاب هذه النظرية, والتي سبق تلخيص أهمها، فبعضها يتضمن حقائق غير مسلَّم بها أو غير صحيحة، وبعضها لا يدل دلالة قاطعة على ما يذهبون إليه، وبعضها يظهر من تحليله أنه دليل عليهم لا لهم:
1- فأما ادعاؤهم أن الطفل في أول مرحلة التقليد اللغوي لا يستطيع محاكاة صوت يصدر من متكلم غير مواجه له، فلا يتفق مع الواقع في شيء؛ إذ الحقيقة أن الطفل في فاتحة هذه المرحلة كثيرًا ما يحاكي أصواتًا وكلماتٍ لا يرى مصدرها, أو يبعد مصدرها عنه؛ بحيث لا يستطيع أن يرى حركات فمه وشفتيه، ولا تقل محاكاته إياها في جودتها عن محاكاته لما يصدر عن شخص مواجه له.
2- وأما ما يوجهه الطفل في مرحلة "التمرينات النطقية" من اهتمام بملاحظة شفتي الكلام، فليس ذلك ناشئًا عن رغبته في تقليد حركاتهما كما يزعم أصحاب هذه النظرية، وإنما ينشأ عن رغبته في الوقوف على مصدر الصوت, وهذه الرغبة فطرية قائمة على غريزة الاستطلاع عند الطفل، وتبدو حيال جميع الأصوات سواء في ذلك
ص156
أصوات الأناسي والحيوانات والأشياء، وتظهر أماراتها لديه من الشهر الرابع, أي: في المرحلة نفسها التي تبدأ فيها "التمرينات النطقية".
هذا إلى أن الطفل في هذه المرحلة يميل إلى التحديق في كل ما يتحرك أمامه، ويتبعه بنظره ما دام متحركًا، لرغبته في تقليد حركته, بل لمجرد رغبته في رؤية الحركة وتتبعها, وهذا ضرب مما يسميه علماء النفس "ألعاب الحواس" عند الطفل(3), وهو قائم كذلك على غريزة حب الاستطلاع؛ فملاحظة الطفل لشفتي المتكلم في أثناء تحريكهما لا تختلف في الباعث عليها عن ملاحظته لأية هنة تتحرك أمامه.
3- وأما ما يعمله الأطفال أحيانًا، عقب ملاحظتهم لشتفي المتكلم، من تحريك لشفاهم في صورة يحاولون بها تقليد ما رأوه بدون أن يلفظوا صوتًا ما، فقد دلَّت الملاحظات على أن هذه الظاهرة لا تبدو لديهم إلّا حوالي الشهر السابع، أي: في مرحلة "التقليد اللغوي" نفسها, أو قبلها بأمد يسير؛ فالتفسير المعقول إذن لهذه الظاهرة: هو أن الطفل في هذه المرحلة المبكرة نوعًا ما يحاول محاكاة الأصوات الجهرية التي يسمعها بأن يلفظها في أصوات خفية غير مسموعة، ومحاولته هذه هي التي تجعل شفتيه تتحركان حركات مطابقة لحركات شفتي المتكلم أو مشبهة لها, فلسنا إذن بصدد محاكاة مقصودة لحركات الشفتين، بل بصدد محاولة لمحاكاة الصوت المسموع محاكاة خفية تصحبها حتمًا حركات الشفتين في صورة غير مقصودة بالذات.
4- وأما زعمهم أن أول كلمات يقلدها الطفل هي الكلمات التي تكثر فيها الحروف الشفوية "وهي الحروف التي تخرج من الشفتين, ويقتضي نطقها تحركهما حركات ظاهرة مرئية تصل عن طريق حاسة النظر" فزعم غير صحيح؛ فقد دلت المشاهدات على أن الفوج الأول من كلمات الطفل يتألف من أصوات متنوعة المخارج والصفات(4).
5- وأما ما يظهر لدى الطفل الأكمه من ضعف في التقليد اللغوي
ص157
وطول في المدة التي يقتضيها في كسب لغته بالقياس إلى الطفل البصير، فلا يرجع سببه إلى عدم رؤية الحركات التي تبدو على شفتي المتكلم كما يدعي أصحاب النظرية التي نحن بصددها، وإنما يرجع إلى صعوبة فهمه لمعاني ما يسمعه من كلمات, وذلك أن من وسائل هذا الفهم ما لا يتاح الانتفاع به إلّا للبصير، كإشارة المتكلم في أثناء النطق بالكلمة إلى الشيء الذي تدل عليه، والحركات اليدوية والجسمية التي تصحب الكلام عادة, وتساعد على فهم ما يقصد إليه المتكلمون, وقد تقدَّم أن فهم معاني الكلمات عامل هام من عوامل التقليد اللغوي(5), فعدم تمكن الطفل الأكمه من الانتفاع بطائفة من وسائل هذا الفهم، هو الذي يسبب ضعفه في هذا الصدد, ويؤدي إلى تأخره عن البصير.
6- وأما تعليم النطق للأطفال الذين يولدون صمًّا عن طريق أخذهم بمحاكاة الحركات المرئية التي تتحرك بها أفواه المتكلمين وشفاههم, فلا ينهض دليلًا على صحة هذه النظرية لأسباب كثيرة:
منها: أن تعلمهم النطق عن هذا الطريق لا يتاح إلّا بتربية مقصودة في مدارس خاصة، وبمعالجة طويلة شاقة، واستخدام وسائل صناعية كثيرة, فلو ترك الطفل الأصم منذ الولادة وشأنه لنشأ أبكم، ولو لم يكن به أي عطب في أعضاء نطقه(6), وفي هذا دليل على أن الطفل بطبعه لا يعتمد على نظره في التقليد اللغوي، ولا يحاول الانتفاع به إلّا إذا أخذ بذلك أخذًا، ووجه إليه توجيهًا مقصودًا، ودُرِّبَ عليه بوسائل صناعية, ومعالجة طويلة, وغنيٌّ عن البيان أن في هذا دليلًا على أصحاب هذه النظرية لا دليلًا لهم.
ومنها: أن تعليم الأصم الكلام عن هذا الطريق لا يمكن الشروع فيه قبل سن الثامنة أو التاسعة, أي: بعد انتهاء مرحلة "التقليد اللغوي"، أما قبل ذلك فكل مجهود يبذل في هذا السبيل يذهب
ص158
أدراج الرياح, وفي هذا دليل على أن الطفل لا يتجه مطلقًا، في أثناء مرحلة التقليد اللغوي، إلى الانتفاع بنظره في المحاكاة اللفظية، حتى إنه ليتعذر حمله على هذا الانتفاع مهما بذلنا معه من مجهود, وفي هذا أقطع دليل على فساد النظرية التي نحن بصددها.
ومنها: أن طائفة كبيرة من الأصوات اللغوية تعتمد في مخارجها على حركات غير مرئية, تؤديها أعضاء غير ظاهرة؛ كحركات الجوف والحلق والحنك واللسان, ولذلك لا يعتمد معلمو الصم على الإحساسات البصرية وحدها، بل يلجئون كذلك إلى وسائل أخرى كثيرة، فيحاولون مثلًا أن يحس تلاميذهم كمية الهواء الخارجة من فم المتكلم، أو يطلبون إليهم أن يضعوا أيديهم على حلقومه أو صدره أو طرف أنفه أو قمة رأسه ... حتى يتاح لهم عن طريق حواس أخرى غير النظر، الذي ظهر عدم كفايته في هذا السبيل، إدراك الذبذبات الخاصة التي يحدثها كل حرف في أثناء لفظه, والتي تساعد على تمييزه والنطق به. وحتى الحروف الشفوية نفسها لا يمكن للصم محاكاتها بمجرد نظرهم لما تؤديه في أثناء النطق بها شفاه أساتذتهم من حركات, وذلك لأن الإنسان لا يستطيع أن يرى كيف تتحرك شفته هو، فلا يمكنه أن يعرف أن كانت حركتها قد جاءت مطابقة للحركات التي يحاول تقليدها أم غير مطابقة لها، ولا أن يحدد مواطن الخطأ تحديدًا دقيقًا، فيتعذر عليه الوصول إلى مطابقة صحيحة, ولذلك يلجأ معلمو الصم إلى وضع مرآة أمام تلاميذهم ليتمكنوا من رؤية الحركات التي تؤديها شفاهم، ومن إصلاح ما عسى أن يكون بها من أخطاء بالقياس إلى الأصل الذي يأخذونهم بمحاكاته.
ومنها: أن تعليم الصمِّ الكلامَ لا يكلل بنجاحٍ ما إلّا مع النابهين الذين يمتازون بفرط النشاط وحدة الذكاء وصفاء الذهن وشدة الانتباه وقوة الإرادة، وتحفزهم إلى ذلك رغبة ملحة في الكلام، وحتى هؤلاء أنفسهم ينتهي تعليمهم بنتائج ضئيلة، ويخرجون بلغة ناقصة مشوهة, أما من عدا هؤلاء فلا يؤتى تعليمهم هذا آية ثمرة يعتد بها،
ص159
ولا يمكن للمعلمين -مهما بذلوا من جهد- أن يحولوا بينهم وبين لغة الإشارة المحببة إلى طائفتهم.
ومنها: أن النتائج التي تتحقق في تعليم الصُّمِّ الكلام يرجع قسط كبير من الفضل في تحققها إلى مايسمونه: "الأنقاض السمعية"، وهي إحساسات سمعية ضئيلة توجد لدى عدد كبير ممن يظن أن صممهم كامل, وقد تبين لمعلمي الصم أهمية هذه "الأنقاض", فوجهوا معظم جهودهم إلى استغلالها والانتفاع بها في تعليم الصم الكلام.
ص160
_________________
(1) انظر آخر ص129 وتوابعها.
(2) انظر صفحتي 133-135.
(3) انظر كتابنا "اللعب والعمل" ص37.
(4) انظر صفحتي 137، 138.
(5) انظر صفحات 147-149، 152.
(6) وكذلك الطفل الذي يصاب بالصمم قبل أن يبلغ الرابعة، أي: قبل أن يقارب مرحلة الاستقرار اللغوي.
|
|
للعاملين في الليل.. حيلة صحية تجنبكم خطر هذا النوع من العمل
|
|
|
|
|
"ناسا" تحتفي برائد الفضاء السوفياتي يوري غاغارين
|
|
|
|
|
بمناسبة مرور 40 يومًا على رحيله الهيأة العليا لإحياء التراث تعقد ندوة ثقافية لاستذكار العلامة المحقق السيد محمد رضا الجلالي
|
|
|