المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية


Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24

اللباس زينة
2024-08-31
تحضير الببتيد في الطور الصلب Solid phase peptide synthesis
2024-03-03
تعظيم القرآن وتكريمه وتوقيره
27-7-2021
لماذا حرّم الله الخنزير في القرآن الكريم ؟
2023-09-26
Bergamottin
11-7-2017
مخمر الخلط المستمر CSTR) Continuous Stirred Tank Reactor)
8-12-2017


عبد الله نديم  
  
3137   01:38 مساءً   التاريخ: 4-8-2018
المؤلف : عمر الدسوقي
الكتاب أو المصدر : نشأة النثر الحديث و تطوره
الجزء والصفحة : ص85-91
القسم : الأدب الــعربــي / تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب /


أقرأ أيضاً
التاريخ: 13-08-2015 2723
التاريخ: 30-12-2015 4016
التاريخ: 26-12-2015 3406
التاريخ: 30-12-2015 14311


وهو ممن اتصل بجمال الدين، ولكنه قبل أن يربط سببه بأسبابه كان يتحرق شوقًا لخدمة وطنه، ولكنه كان يخشى بأس الأمراء، وغضب الوزراء، وحين رأى جمال الدين يشجع الشباب على بيان مثالب الحكومة، وسفه إسماعيل مال إليه، ونهج منهج تلاميذه في الصيال والجيال، والنضال مع ما أوتيه من لسان ذرب، وبديهة مواتية، وذكاء لماح، وتمكن من زمام اللغة، ويقول في مذكراته واصفًا حاله قبل الثورة العربية: "هذا وقد كنت قبل ظهور هذه الحركة إلى الوجود، وترقى الحزب العسكري إلى مراقي السعود، أصرف نفيس الوقت مفكرًا فيما يجلبه الحكام من المقت، وأكتب الكثير من الوقائع، وأقيد اللطائف والفظائع، وأنكر على أهل البلاد وقوفهم تحت ردم الاستبداد، وكلما نبهت عاقلًا أكستني فإن ألححت عليه بكتني، فلم أجد طريقًا لتنبيه الوجهاء والأمراء إلا بعصبية أكونها من الفقراء، فأخذت في تأسيس الجمعية الإسلامية، بوطني العزيز الإسكندرية، فاجتمع إلي أحد عشر رجلًا، وأخذت في إذاعتها عجلًا، وبعد جهد وعناء طويل، تم افتتاحها في عهد الخديوي إسماعيل".
ثم يقول: "وكان سبقني إلى تشجيع الخائفين الشيخ محمد جمال الدين، فإنه ألف حزبًا من الشبان، وجمع إليه بعضًا من الأعيان، وبث فيهم روح الغيرة الوطنية، وملأ آذانهم بالمفاخر الشرقية، فتبع بحثه أذكياء ونبلاء وانتفع بعلومه أساتذة فضلاء... ولما آل الأمر إلى الخديوي توفيق، وترأس رياض باشا كان أول ما بدأ به من العمل مصادرة هذا الرجل، ورماه بفساد الدين، وجعله من كبار الملحدين، وأرسل إليه من تبعه واقتفاء، ثم قبض عليه ونفاه، ومع ما اعترى جمال الدين من النحوس، فإنه أثر في كثير من النفوس وكان ممن انضم إليه وأكثر من الجامعة عليه صحيح المباني، والمعاني إبراهيم أفندي علي اللقاني، فاتخذ معه بلا فرق، وفتح جريدة مرآة الشرق، فكانت أول جريدة مصرية، بعد الجريدة الرسمية لم يسبقه إلى هذا العميل الجميل إلا محمد أبو السعود بجريدة وادي النيل، ولكن هيهات بين الحرية والرق، والباطل والحق، ولما أجفلت الخديوي إسماعيل بما فيها من التهويل، فصبر وأغفلها ثم انزعج وأقفلها".
ويمضي عبد الله نديم في مذكراته يسوق الحديث عن تلاميذ جمال الدين وكيف كان يتفق معهم في المشرب، ويشترك في تحرير صحيفتهم من غير توقيع، خوفًا من بطش رياض.

وبدأ لعبد الله نديم أن يحترف الصحافة، ويكون له ميدانه الخاص، يقول فيه ما يشاء، فأنشأ "التنكيت والتبكيت"، وقبل أن نستعرض أسلوبه بها نذكر أن عبد الله نديم كان مولعًا منذ نشأته بالأدب شعره، ونثره ولكنه كان مقلدًا في كليهما، ونرى نثره قبل "التنكيت والتبكيت" يجري على نهج المقامة في احتفائه بالسجع والمحسنات، بل يربو عليها أحيانًا، إذا كان يفتن في السجع افتتانًا عجيبًا، وكذلك في إيراد ألوان من المحسنات، وضروب من المهارات اللغوية، كأن يورد في نهاية كل سجعة آية قرآنية تنسجم مع السجعة في موسيقاها، وتلتئم معها في جرسها كقوله من رسالة لصديقه عبد العزيز حافظ، وقد شاهده يختلط ببعض المغاربة، ويشتغل بضروب من الخرافات لا تليق بمكانته: "لا حول ولا قوة إلا بالله، اشتبه المراقب باللاه، واستبدل الحلو بالمر، وقدم الرقيق على الحر، وبيع الدر الخزف، والخز بالخشف، وأظهر كل لئيم كبره، إن في ذلك لعبرة سمعًا سمعًا، فالوشاة إن سمعوا لا يعقلوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فكيف تشترون منهم القار في صفة العنبر، وقد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، وكيف تسمع الأحباب لمن نهى منهم وزجر، وقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر ... إلخ".
وهي رسالة طويلة تدل على تمكن من القرآن الكريم، ومهارة في الصنعة البديعة، وتكلف ملحوظ، وطول الرسالة يدل على كلف بهذا اللون من الكلام الذي يختفي فيه المعنى المراد وراء هذا السحب من المحسنات والعبارات المزوقة التي يوردها لمجرد إظهار القدرة اللغوية.
وكل رسائله في مطلع حياته قبل أن يتمرس قلمه بالصحافة، ويخوض في موضوعات تمس حياة المجتمع، كانت تحكي ألوانًا مختلفة من المهارات، والقدرة على السجع، فتارة يأتي بمجموعة من السجعات كل اثنتين منها متشابهتان في القافية، وفي ختامها سجعة من قافية مختلفة، ثم يكرر هذه القوافي بالترتيب الذي ساقها بها أولًا كقوله: "لعبث به الأشواق في مصارع العشاق، لعب الراح بالأرواح، في مجلس الأنس، وجرت به الأنواق في ميادين الأرزاق جرى السحاب والأرواح في حومة الشمس".

وأحيانًا يفرد هذه السجعات، ثم يعيدها بعد خمس أو ست على الترتيب الأول كقوله: "منحتنا اللهم سلامة الروح، فلله الحمد على هذه المنحة حمدًا بلا عد، ووهبتنا صحة لب البيان، فلله الشكر على هذه الصحة شكرًا بلا حد يلوح بدره ويفوح عطره، روح هي عين الحياة، ومدد العقل، ولب، هو منطق الشفاه، وسند النقل، طال عمره وجال أمره ... إلخ".
ولا شك أن هذا اللون من الأدب، أدب صنعة لا أدب طبع، الغاية منه -كما كانت الغاية من المقامات في العصور المتأخرة- إظهار المقدرة اللغوية والأدبية، دون أن يكون وراءه عاطفة تدفعه إليه، أو مصلحة عامة تحث عليه، ولا أدل على هذا من أنه كتب رسالة، زعم أن أحد أصدقائه طلب إليه فيها أن تكون مشتملة على أفانين خاصة من البديع وغيره، وفيها يشترط الصديق أن تكون أسطرها عشرين فما فوق، وأن يكون بعضها في غزل وعشق، وبعضها نكتا أدبية، وبعضها فوائد عربية، هذه محاورة والأخرى مسايرة، تارة طرائف خمرية، ومرة لطائف عمرية، وهكذا ترشف من كل دن، وتسطع في كل فن، على أن تكون بحكايات ما طرأت على الأفكار، ولا خرجت من الأوكار، وتلتزم الجناس في الفقر، وألا تأخذ من شعر غيرك إلا بيتا أو بيتين".
وقد استجاب النديم لهذا الرجاء، وكتب الرسالة كما طلبها منه، وترى له أحيانًا -نتيجة هذا التكلف، وأثرًا لهذه الصنعة- عبارات غريبة شاذة في استعارتها كقوله: "وطلاوة مر مر البدر معجون بليلة القدر"، وإن سلمت له بعض التعبيرات الجميلة كقوله: "واختلسنا النوم من جفون الزهر"، وقوله: "وأرق من خفر في بكر".
كان هذا هو حال النديم قبل أن يشتغل بالصحافة، فلما أنشأ "التنكيت والتبكيت" اضطر إلى العدول عنه، وكأني به في هذه المرحلة الأولى كان يعد نفسه بما يختزن في ذاكرته، وبما يدرب عليه قلمه للسيطرة على أزمة البيان واللغة، جاءت التنكيت والتبكيت بمقالات للخاصة، وأخرى للعامة، يكتب الأولى بأسلوب مرسل فيه قوة وجزالة، ويعالج موضوعات حيوية، وقد اهتم كل الاهتمام بأدواء المجتمع، وشخص هذه الأدواء، ووصف الدواء الناجع ويكتب الثانية بأسلوب عامي يحشوه بكثير من الكلمات الدارجة حتى يسهل فهمه، ويعم الانتفاع به، كان الطابع العام للمجلة هو الطابع الاجتماعي، ويصدرها بقوله مخاطبًا كل ناطق بالضاد: "أتقدم بين يديك بخدمة وطنية دعاني إليها حبي فيك، وخوفي عليك وما هي بالعظيمة، فتشكر ولا بالبليغة فتمدح هي صحيفة أدبية تهذيبية تتلو عليك حكمًا وآدابًا، ومواعظ، وفوائد ومضحكات، بعبارة سهلة، لا يحتقرها العالم ولا يحتاج منها الجاهل إلى تفسير، تصور لك الوقائع والحوادث في صور ترتاح إليها النفس وتميل، ويخبرك ظاهرها المستهجن بأن باطنها له معاني مألوفة، وينبهك نقابها الخلق بأن تحته جمالًا يعشق، وحسنا تذهب الأرواح في طلبه، هجوها تنكيت ومدحها تبكيت، ليست منمقة بمجاز واستعارات، ولا مزخرفة بتورية واستخدام، ولا مفتخرة برقة قلم محررها، وفخامة لفظه وبلاغة عبارته، ولا معربة عن غزارة علمه وتوقد ذكائه، ولكنها أحاديث تعودنا عليها ولغة ألفنا المسامرة بها"، ويختم النديم هذه المقدمة البليغة بقوله: "وسأتحفك بغرائب قومك، ومناقب أصلك، أقدمها إليها شذورًا مردفة بما نحن فيه من التنكيت، لتعذر المتهمين، وترحم المسكين، وتكون من الذين أعادوا مجدهم، وأحبوا أوطانهم ببقاء ذكرهم في الوجود من الخالدين.
وفي الحق إن النديم في هذه المجلة قد اصطنع أسلوبًا جديدًا دل على مرونة قلمه، ودقة فهمه، فلكل مقام، ولما كانت المجلة تعني بأدواء المجتمع وأوصابه، وذاك يتطلب توضيح المعنى وإيراد الحجة، وضرب المثل كان لزامًا عليه أن يتحلل نوعًا من الاحتفاء بالمحسنات، والزخارف في مقالاته التي كتبها للخاصة كهذا المقال الذي عنون له "بمجلس طبي لمصاب بالإفرنجي"، وهو قصة رمزية لفتى يحبه أهله كل الحب، ولكن تسلل إليه محتال خدعهم وخدعه، وما زال به حتى أصيب بالداء الإفرنجي، فنحل جسمه وذوى شبابه، وأخذوا يلتمسون له العلاج حتى يتم له الشفاء"، ويعني ما أصيبت به مصر على يد إسماعيل وإسرافه، وتدخل الأجانب في شتى شئونها، والمراقبة الثنائية، وصندوق الدين، والامتيازات الأجنبية وطأتها، وتصور ألم مصر من هذا المرض الإفرنجي، وأملها في النجاة بسعي العقلاء وتفكير المستنيرين، وتوريته بالإفرنجي عن هذه المصائب التي حلت بالبلاد تورية بارعة، "وقد استهلها بقوله: "كان هذا المصاب صحيح البنية، قوي الأعصاب، جميل الصورة، لطيف الشكل، ما رآه فارغ إلا صبا، ولا سمع بذكره بعيد إلا طار إليه شوقًا، وقد مات في حبه جملة من العشاق، الذين خاطروا في وصله بالأرواح والأموال، وكلما وصل إليه واحد سحره برقة ألفاظه، وعزة لا يشاركه فيها مشارك، وهو غزال في الخفة وغصن في اللين، وبدر في البهجة، وجنة في المنظر، تمر عليه الدهور فتزيده حسنًا وتتوالى عليه العشاق فتزداد هيامًا، وأهله فرحون بهذا الفريد، والطالع السعيد يعشقون الموت في حياته، وقد اتفقوا على توحيد كلمتهم في حفظه ... إلخ".
وهنا نرى اسلوبًا لا التواء فيه ولا تعقيد، وإن كان يعتمد على ترادف الجمل على المعنى الواحد، وجاءت قوته من حسن اختياره للألفاظ، وقصر الجمل، والازدواج، والسجع المطبوع.
بينما نراه في أسلوبه العامي خبيرًا في إيراد الكلمات الدارجة المحلية، كما نرى في مقاله "عربي تفرنج"، إذ يحكي قصة فتى من أبناء الفلاحين أتيح له أن يتعلم في أوروبا، وعاد ممسوخ اللسان، والشخصية متنكرًا لكل تقاليد قومه، وهي بدعة ظلت مصر تعاني منها أمدا غير يسير حتى كانت شخصيتنا مهزوزة، ونظرتنا للأجانب نظرة المغلوب للغالب، وقوميتنا لم تتحدد بعد معالمها، وقد استهله النديم بقوله: "كان أحد الفلاحين اسمه معيط، وولد له ولد فسماه زعيط، وتركه يلعب في التراب، وينام في الوحل، حتى صار يقدم على تسريح الجاموس، فسرحه مع البهائم إلى الغيط، يسوق الساقية، ويحول الماء، وكان يعطيه كل يوم أربع حندويلات، وأربعة أمخاخ بصل، وفي العيد يقدم له اليخنى ليمتعه بأكل اللحم والبصل".
وهكذا سار النديم في صحيفته يخاطب كل قوم باللسان الذي يفهمونه، ثم شبت الثورة العرابية، وجذبه الثوار إليهم طائعًا أو مختارًا، وكان خطيبهم الذي لا يباري., واقترح عليه عرابي أن يسمي جريدته بالطائف تيمنًا بطائف الحجاز، ولتطوف البلاد كما جابتها جوائب الشدياق، فلم يسعه إلا تلبية الرغبة، وصارت "الطائف" لسان حال الثورة.
ولكن النديم في الطائف كان يهرج كثيرًا، ويموه الحقائق على الناس، ويحيل الهزائم انتصارًا، ظنًا منه بأنه يقوي العزائم ويبعث الأمل في النفوس، وهو في الطائف يسلك الأسلوب الخطابي في مقدمات مقالاته، ويتكئ كثيرًا على القرآن الكريم، لعلمه بقوة تأثيره في نفوس العامة، بل كان يتخذ أحيانًا الآية القرآنية عنوانًا للمقال كذلك الذي عنونه، "وما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها"، وفيها يقول: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِين} ، ذلكم هم العادون المفترون، بغاث الإنجليز، الذين استنسروا في الوجود بأوهام وخيالات، واستضعفونا فجاءوها بالخيل والرجل، وقد زلزلت أرضهم، فأخرجت أثقالها، وثبتت بأقدامنا أرضنا فكنا أوتادها، فتخيلوا أنهم يسيرونها في البر، وما دروا أن الأسمال يقتلها التراب، وتنتنها الشمس، وهم هي، إذ لا تقترب الشاطئ خوفًا من الصياد، وبين أسود تتبع فريستها، يعلم ذلك من شاهد واقعة يوم الأحد 5 شوال سنة 99 ... إلخ".
ويمضي في وصف الموقعة، ولا يتحرج عن استعمال كثير من المصطلحات الحربية الدخيلة من تركية وأجنبية، في أسلوب يقرب من العامية، وإن كانت خطبه التي قالها إبان الثورة تدل على موهبة فذة، وقدرة نادرة، وعلى أن النديم وحيد عصره في هذا الميدان، كان يخطب في اليوم عشرات المرات لا يكرر نفسه، ولا يمل منه سامعوه في أسلوب ساحر وبيان رفيع، وكانت خطبه كلها غير معدة من قبل، وإنما كان الكلام يتفجر منه كأنما يصدر عن ينبوع بئر، ومعين لا يغيض.
بينما نراه في "الأستاذ"، وهي الصحيفة التي أصدرها بعد عودته من المنفى يشغل بالسياسة وبالقضايا العامة، وبالمشكلات الاجتماعية، وقد تجنب فيها السجع إلا نادرًا عن غير قصد، أو تكلف، وآثر الأسلوب المرسل السهل، حتى الازدواج والترادف الصوتي لم يعد لهما ذلك الاحتفاء الذي لاحظناه في بعض مقالات التنكيت، ولا شك أن هذا التطور في أسلوبه كان نتيجة لتطور الأسلوب الصحفي عامة في أخريات هذا القرن، ولنضرب مثلا على ذلك من مقال بعنوان "حرب الأقلام بجيوش الأوهام": وفيه يقول: "فلو ترك الشرقيون والأوروبيون لتمتع الفريقان بثمرة المخالطة، وتمكنت منهما دواعي المحبة، وتأكدت روابط الألفة بالاشتراك في المعاملة والمساكنة، وما أوغر الصدور وأفسد النيات إلا هؤلاء الكتاب الذين قبحوا الشرقي للغربي، وافتروا عليه الأكاذيب، وملؤوا بها جرائدهم وكتبهم، ونشروها بين العالمين الشرقي والغربي، فظن الغربي أن الشرقي بهيم لا يصلح للملك، ولا يليق إلا للاستعباد والقهر، وظن الشرقي أن الغربي عدوه الألد الساعي في سلب سلطته، ونهب ثروته وإعدام دينه، واستعباد إخوانه، فوقعت النفرة بهذه المفتريات".
فهذا الأسلوب هو الذي صارت إليه الكتابة الصحفية منذ ذلك الحين، يوم أن كان يتولى تحريرها ذوو الأقلام القوية، فيه سهولة، ولكنه رصين متين، وهو غير الأسلوب الأدبي، وسنعرف خصائص كل من الأسلوبين بعد قليل إن شاء الله، وهكذا رأينا عبد الله نديم ابتدأ تلميذًا مخلصًا لمدرسة الصنعة والبديع، وظل على ذلك ردحًا طويلًا من الزمن، ثم تحول إلى النثر المرسل، والأسلوب الصحفي، ولم يكن يلجأ إلى السجع والبديع إلا في رسائله، وقد كتب به مذكراته كما رأينا في مستهل الكلام عنه، إن كتابة النديم الصحفية في الأستاذ صارت مثلًا يحتذى من حملة الأقلام، ومحرري الجرائد والمجلات في عصره، وبعد عصره سواء في موضوعاتها السياسية والاجتماعية، أم في أسلوبها السهل القوي.





دلَّت كلمة (نقد) في المعجمات العربية على تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها ، ولذلك شبه العرب الناقد بالصيرفي ؛ فكما يستطيع الصيرفي أن يميّز الدرهم الصحيح من الزائف كذلك يستطيع الناقد أن يميز النص الجيد من الرديء. وكان قدامة بن جعفر قد عرف النقد بأنه : ( علم تخليص جيد الشعر من رديئه ) . والنقد عند العرب صناعة وعلم لابد للناقد من التمكن من أدواته ؛ ولعل أول من أشار الى ذلك ابن سلَّام الجمحي عندما قال : (وللشعر صناعة يعرف أهل العلم بها كسائر أصناف العلم والصناعات ). وقد أوضح هذا المفهوم ابن رشيق القيرواني عندما قال : ( وقد يميّز الشعر من لا يقوله كالبزّاز يميز من الثياب ما لا ينسجه والصيرفي من الدنانير مالم يسبكه ولا ضَرَبه ) .


جاء في معجمات العربية دلالات عدة لكلمة ( عروُض ) .منها الطريق في عرض الجبل ، والناقة التي لم تروَّض ، وحاجز في الخيمة يعترض بين منزل الرجال ومنزل النساء، وقد وردت معان غير ما ذكرت في لغة هذه الكلمة ومشتقاتها . وإن أقرب التفسيرات لمصطلح (العروض) ما اعتمد قول الخليل نفسه : ( والعرُوض عروض الشعر لأن الشعر يعرض عليه ويجمع أعاريض وهو فواصل الأنصاف والعروض تؤنث والتذكير جائز ) .
وقد وضع الخليل بن أحمد الفراهيدي للبيت الشعري خمسة عشر بحراً هي : (الطويل ، والبسيط ، والكامل ، والمديد ، والمضارع ، والمجتث ، والهزج ، والرجز ، والرمل ، والوافر ، والمقتضب ، والمنسرح ، والسريع ، والخفيف ، والمتقارب) . وتدارك الأخفش فيما بعد بحر (المتدارك) لتتم بذلك ستة عشر بحراً .


الحديث في السيّر والتراجم يتناول جانباً من الأدب العربي عامراً بالحياة، نابضاً بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيارات الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، وإننا من خلال تناول سيّر وتراجم الأدباء والشعراء والكتّاب نحاول أن ننفذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، ونضع مفهوماً أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل.