أقرأ أيضاً
التاريخ: 3-8-2017
4087
التاريخ: 28-4-2018
32969
التاريخ: 23-4-2018
879
التاريخ: 31-8-2017
1835
|
لقد بحث موضوع اللغة في بداية نشأة علم الدلالة وعلوم الألسنية بوجه عام، من الجانب التاريخي، حيث اتسع مجال البحث في نشأة اللغة، وهي مسألة شغلت اهتمام العلماء قديماً وحديثاً، أما في المرحلة الثانية فقد بحث موضوع اللغة بمنهج وصفي آني وهو منهج يأخذ دراسة اللغة من جانب بنيتها الداخلية باعتبار اللغة نظاماً من الرموز اللسانية أو مجموعة من الأصوات الدالة. كما تناول علماء الدلالة وظائف اللغة والنواميس الخفية التي تتحكم في نظام بنيتها وحركيتها(1) التي وسموها بالتعقيد. يظهر ذلك من اختلافهم في تعريفها. فيعرفها أحدهم بأنها نظام من الرموز والإشارات ويعرفها آخر بأنها مجموعة الأصوات الدالة أو أداة للفكر، بينما يحددها أنيس فريحة بقوله: "الواقع أن اللغة أكثر من مجموعة أصوات، وأكثر من أن تكون أداة للفكر أو تعبيراً عن عاطفة اللغة جزء من كياننا البسيكولوجي الروحي وهي عملية فيزيائية اجتماعية بسيكولوجية على غاية من التعقيد(2).
إن البحث في أصل اللغة من المسائل الفكرية الصعبة التي بقي معها فكر العلماء يدور في حلقة مفرغة، بحيث انقسمت آراؤهم حول تحديد نشأة اللغة، وبرزت في ثلاثة اتجاهات: اتجاه يذهب إلى أن اللغة توقيفية طبيعية، واتجاه يذهب إلى أن اللغة عرفية اصطلاحية واتجاه ثالث يجمع بين الرأيين. وكان جل العلماء اللغويين يأملون التوصل إلى تفسير شامل لهذه المسألة، ولكنه لم يتمكنوا من ذلك وأضحت أبحاثهم لا تقدم لمسألة نشأة اللغة أي حل مقنع قد يفتح المجال أمام جهود الباحثين في هذا الميدان، بل إن المسألة ازدادت تعقيداً، بكثرة الآراء والنظريات التي نشأت حولها مما حدا بالجمعية اللغوية الفرنسية (la societe de linguistique) إلى إصدار قانون يمنع إلقاء محاضرات في موضوع نشأة اللغة. إن اعتماد النظريات اللغوية الحديثة على معطيات مبنية على الحدس والافتراض، هو الذي أبعدها من التوصل إلى نتائج علمية دقيقة، ولقيت بعض هذه النظريات اعترافاً علمياً، لأنها استندت في تعليلها لنشأة اللغة على معطيات لغوية ملموسة من ذلك نظرية (bow waw) التي تذهب إلى أن أصل اللغة هو محاكاة لأصوات استقاها الإنسان من الطبيعة، تدعم رأيها بوجود ألفاظ مأخوذة من
ص52
أصوات تصدرها عناصر من الطبيعة كالزقزقة والخرير، والحفيف، والخشخشة، والعواء، والمواء وما إلى ذلك، رأي مماثل تذهب إليه نظرية الأصوات التعجبية العاطفية، وتفيد أن الكلمات الأولى التي نطق بها الإنسان، كانت أصوات تعجبية عاطفية تعبر عن ألم أو دهشة أو فرح من تلك الكلمات "أف" وي "أنين" وغير ذلك(3).
إن المنهج الوصفي الآني، يرمي إلى تحليل البنية الداخلية للغة، وذلك باستنباط الشبكة التنظيمية التي تبدو كنواميس خفية تنتظم في إطارها اللغة. يرى جان بياجي أن اللغة مؤسسة اجتماعية تحكمها نواميس خفية مفروضة على الأفراد، تتناولها الأجيال بضرب من الحتمية التاريخية إذ كل ماضي اللغة –راهنا- إنما هو منقول عن أشكال سابقة، هي الأخرى منحدرة من أنماط أكثر بدائية، وهكذا إلى الأصل الأوحد أو الأصول الأولية المتعددة(4).
هذه القوانين الخفية التي تنتظم في إطارها اللغة، تعود إلى الأصول الأولية للغة الخطاب وهي تشكل النظام اللغوي، وبذلك سعى اللغويون وعلماء الدلالة بوجه خاص، إلى تفكيك بنية هذا النظام لاكتشاف اللغة اكتشافاً علمياً، قد يقدم تفسيراً مقبولاً لمشكلات لغوية، في عالم أصبح يعتمد على اللغة في الاتصال والإعلام في مستويات رفيعة وهامة يقول بيار جيرو: "إنّ اللغة نظام من الإشارات وهي تخدمنا في إيصال الأفكار واستدعاء صور مفاهيم الأشياء التي تكونت في أذهاننا إلى ذهن الآخرين(5).
إن الدرس الدلالي الحديث يهدف أساساً إلى التعرف على القوانين التي تشرف على النظام اللغوي، وذلك بتحليل نصوص لغوية بقصد ضبط المعاني المختلفة بأدوات محددة وفي هذا سعي إلى تنويع التراكيب اللغوية لأداء وظائف دلالية معينة، وهذا التنويع هو الذي يثري اللغة إثراء يحفظ أصول هذه اللغة ولا يكون حاجزاً أمام تطورها وتجددها، ويمكن في خضم هذا البحث على النواميس الخفية "خلق" نواميس لغوية جديدة لتشرف على النظام الكلامي والخطابي بين أفراد المجتمع الواحد، يقول عبد السلام المسدي شارحاً ذلك بتعريفه لدور النحوي: "أما النحوي – نعني فقيه اللغة بالاصطلاح المطرد- فمرامه أن يعي وجود اللسان من خلال وجود الكلام، ويأتي عالم اللسان ليكون همه الوعي باللغة عبر إدراك
ص53
نواميس السلوك الكلامي(6) وأشارت البحوث الدلالية، في خضم بحثها في موضوع اللغة، إلى أن اكتساب التراكيب اللغوية يخضع إلى التلقائية والعفوية أثناء الحدث الكلامي، غير أن هذه التلقائية تحمل في جوهرها تلك القواعد التي تحدد للغة الخطاب والتواصل إطارها، ويتعرف المجتمع اللغوي على سننها ويتمرس في توظيفها، يوضح عبد السلام المسدي ذلك قائلاً: "إن الحدث الكلامي يكتسب تلقائياً عن طريق التحصيل بالأمومة، غير أن هذا الاكتساب الأمومي، سرعان ما يتحول إلى ضرب من الإدراك الخفي بقوانين تلك اللغة ذلك أن الظاهرة اللسانية من شروطها الأولية، أنها عقد جماعي يلتزم به الفرد ضمنياً بعد أن يحذق استخدام ما تنص عليه بنوده الصوتية والنحوية والمعجمية والدلالية"(7). وإلى هذه السنن اللغوية ذاتها أشار نوام تشومسكي في سياق حديثه عن البنية السطحية والبنية العميقة للغة، محدداً مسألة الأداء الكلامي والكفاية اللغوية التي تتيح للفرد التوصل إلى نسج جمل كثيرة وجديدة، بواسطة ما يحمل ذهنه من قواعد وسنن لغوية. يشرح ريمون طحان هذه العملية اللغوية بكيفية مفصلة فيقول: "إن البنى السطحية نتيجة آلية وميكانيكية لبني كانت في الأعماق ودفعتها اللغة إلى السطح، ويبدو أن البنى العميقة هي أسس التفكير وهي التي تستوعب المفاهيم، وأن البنى السطحية تقوم فقط بصوغ المفهوم على شكل جملة أصولية، ويبدو أن هناك تماثل بين هياكل اللغة وهياكل الذهن، وتصبح البنى الفكرية الخفية، قوالب لغوية بارزة واللسان مرآة صادقة تعكس صورة الفكر"(8).
إن تعميق البحث العلمي في اللغة، مكن من تجاوز البنى السطحية لهذه اللغة إلى بنى عميقة تكشف عن الشبكة الداخلية التي تصنف الأداءات اللغوية وتستمر معها عملية التواصل والإبلاغ إذ، "ليس للساني من مهمة في خاتمة المطاف، سوى استنباط الشبكة التصنيفية التي تقوم عليها الظاهرة اللغوية مما يتيح له استطلاع مقومات الانتظام الداخلي عبر اكتشاف النواميس المحددة لبنية اللغة والمحركة لوظيفتها في آن معاً"(9).
إن اللغة تشكل مجموعة الخبرات اللغوية للمجتمع والتي تراكمت عبر مراحل التاريخ، وهي لهذا نظام كامل لا يمكن أن يوجد لدى فرد واحد. وقد عبر أفلاطون
ص54
عن ذلك بقوله: "إن الإنسان لن يجرؤ على أن يعبر باللغة على كل ما يدور بخلده من أفكار وأشياء"(10) ولذلك تقف اللغة عاجزة عن الإلمام بكل ما يريد أن يفصح عنه الإنسان، من أفكار ومشاعر، ومع ذلك تبقى اللغة الأداة الأساسية للتعبير ولتمييز اللغة كنظام واستخدام الإنسان لهذا النظام قسم سوسير دراسة اللغة إلى قسمين:
1- دراسة جوهرية موضوعها اللغة المعنية التي هي اجتماعية في جوهرها ومتكاملة في نظامها.
2- دراسة تتناول الاستخدام الفردي للغة باعتباره تطبيقاً علمياً لنظام اللغة المتكامل الذي هو عبارة عن مجموعة من العلامات المختزنة في العقل الجمعي، ولا تنطق لأنها ليست فردية(11). يشرح سوسير بكيفية مفصلة التقابل الذي تشكله اللغة بنظامها، والأداء الفردي لهذا النظام مشبها اللغة بالقاموس الذي توجد فيه الكلمات صامتة غير منطوقة، صالحة للنطق والاستعمال، وإنما يستخرج منه الفرد بحسب الحاجة إليها وبحسب الاختيار وهي القاسم المشترك بين أفراد المجتمع اللغوي وتوجد في حاصل جمع عقولهم جميعاً وإذا استطعنا أن نستخرج الصور الكلامية المختزنة في عقول جميع الأفراد في مجتمع لغوي واحد، فإننا سنلمس تلك الرابطة الاجتماعية التي تربطهم جميعاً وهي ما يسمى "باللغة المعينة" وهي لا تمكن أن تكون كاملة في ذهن أي فرد بعينه، بل لا تكتمل إلا في الوعي الجمعي وتمثلها هذه المعادلة الحسابية:(12) 1+1+1+1+1=1
وما يلاحظ على المناهج التي تناولت اللغة كمادة للبحث، أنها تختلف من مرحلة لأخرى لاختلاف النمط الفكري والعلمي السائدين في العصر، فيمكن أن نذكر المنهج السلوكي، الذي يعتبر اللغة مجموعة عادات صوتية يكيفها حافز البيئة، ويفترض أصحاب هذا المنهج حصول الاستجابة الكلامية للحافز على نحو شبيه في الواقع إلى حد كبير بما يحصل عند الحيوان. وهناك المنهج العقلي المستمد أساساً من فلسفة ديكارت، وينظر هذا المنهج إلى الأداء الكلامي، كونه يخفي وراءه معرفة ضمنية بقواعد معينة، ويحرص العقلانيون على تبيان السنن
ص55
القاعدية في النظام اللغوي، بغية التوصل إلى إدراك الآلية العقلية المحركة لعمل اللغة(13).
هذا التناول اللغوي الموسوم بالتحليل العميق لبنية اللغة الداخلية، يبين المدى الذين توصلت إليه الدراسات اللسانية والدلالية في العصر الحديث، فلم تعد الدراسة تكتفي بالوصف السطحي للظاهرة اللغوية فحسب، وإنما تلاقح العلوم الحديثة من فلسفية ونفسية واجتماعية، أثرى المنهج اللغوي المعتمد في استنباطات سنن اللغة وقواعد نظامها، وتمكن العلماء معه إلى تحديد وظائف اللغة حسب العملية التواصلية، حيث يميز رومان جاكسون في الحديث اللساني ست وظائف هي(14)
1- الوظيفة المرجعية (referentielle): وهي تعني إشارة اللغة إلى محتوى معين لإيصاله إلى أذهان الآخرين وتبادل الرأي معهم.
2- الوظيفة التعبيرية أو الانفعالية (emotive): وهي التي تشير فيها اللغة إلى موقف المرسل من مختلف القضايا التي يتحدث عنها.
3- الوظيفة الإنشائية (conative): تظهر في اللغة التي يتوجه بها إلى المخاطب قصد لفت انتباهه إلى أمر أو طلب منه القيام بعمل معين.
4- الوظيفة الورألسنية (Metalinguistique): وهي تعكس شعور المعبّر بنظام التواصل وتتمحور حول اللغة نفسها.
5- وظيفة الاتصال (phatique): وهي تقوم على تعابير تتيح للمرسل إقامة الاتصال أو قطعه .
6- الوظيفة الشعرية (poetique): وهي تتمحور حول اللغة باعتبارها تحمل ظلالاً من المعاني والقيم الدلالية.
هذه الوظائف الست هي التي تتمحور في إطارها العملية الإبلاغية التي تتخذ اللغة كخطاب يؤدي الدلالات المقصودة في الأحوال العادية، وهي تشير إلى مدى العمق العلمي التحليلي الذي سارت عليه الدراسات اللغوية الحديثة، من أجل إبراز القيم الجوهرية في اللغة باعتبارها أهم نظام للتواصل. يقول سوسير:
ص56
"إن اللغة هي نظام من العلامات المعبرة عن أفكار، وبهذا ومقارنة بالأنظمة التواصلية الأخرى كنظام لغة الصم البكم أو نظام الطقوس والشعائر أو الإشارات العسكرية، وما إلى ذلك تبقى اللغة الأهم من هذه الأنظمة"(15).
ويدعم هذه الفكرة الدكتور أحمد مختار عمر بقوله: "ورغم اهتمام علم الدلالة بدراسة الرموز وأنظمتها حتى ما كان منها خارج نطاق اللغة، فإنه يركز على اللغة من بين أنظمة الرموز باعتبارها ذات أهمية خاصة بالنسبة للإنسان.(16).
هذه الجوانب من مبحث اللغة كما تناولته الدراسات الألسنية والدلالية الحديثة، والتي كانت ترمي إلى تأسيس رؤية علمية شاملة، تبرز الدور الوظيفة الأساسي للغة، وذلك بتفكيك بنيتها الداخلية للتعرف على الشبكة التنظيمية التي تشرف على عملية التواصل والإبلاغ، وهو ما دأب عليه علماء اللسانيات والدلالة في دراسات مستفيضة، استعانت بمناهج علمية مختلفة أحدثت في مبحث اللغة نقلة نوعية، وأنتجت نظريات – رغم قدمها- ما زالت تعتمد كمراجع في البحث اللغوي المعاصر.
ص57
_______________________
([1]) أطلق عليها سوسير مصطلح "ميكانيزم" محاضرات في اللسانيات العامة ص177.
(2) أنيس فريحة نظريات في اللغة ص11
(3) أنيس فريحة نظريات في اللغة ص17-18
(4) عبد السلام المسدي اللسانيات وأسسها المعرفية، ص161.
(5) بيار جيرو، ترجمة د. منذر عياشي علم الدلالة – ص51
(6) عبد السلام المسدي: اللسانيات وأسسها المعرفية، ص104.
(7) المرجع السابق ص31.
(8) ريمون طحان : الألسنية العربية ص144.
(9) عبد السلام المسدي: اللسانيات وأسسها المعرفية، ص30.
(10) ستيفن أولمان ترجمة ك مسلم كمال بشر: دور الكلمة في اللغة ص6.
(1[1]) 38-37: p cours de linguistique generale f. de saussure
(12) المرجع السابق ص37-38 .
(13) د. ميشال زكريا: الألسنية (علم اللغة الحديث) المبادئ والأعلام ص73-74.
(4[1]) انظر المرجع السابق ص54 وكتاب intiation aux problemes des lingustiques contemporaires c. fuchs et p. le goffi c. p. 115-116
(5[1]) cours de linguistiques generale f .de sausure
(6[1]) علم الدلالة ص12.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|