لقد بقي موضوع قصة «بطليموس المنفي» ابن «بطليموس إيرجيتيس الثاني» و«كليوباترا الثانية» مثار جدل ومناقشات لم تَنْتَهِ بعد بصورة قاطعة. وقد كان آخر من تحدث عن هذه المسألة المعقدة الأستاذ «شاسينا» في مقال رائع له. وسنحاول أن نتناول فحص هذا الموضوع من جديد مستعينين بكل ما كتبه المؤرخون في هذا الصدد، وبخاصة ما كتبه كل من المؤرخ العظيم «بوشيه لكلرك»، والأثري «شاسينا»، وبخاصة الأخير الذي أمضى طوال حياته في البحث في نقوش البطالمة ونقلها.
والواقع أن الأستاذ «شاسينا» أراد أن يصل إلى حل لغز «بطليموس المنفي» من منظرين لَفَتَا نظره في محراب معبد «حور» في «إدفو»، وهذان المنظران قد مُثلا على الجدارين الشرقي والغربي لهذا المحراب على التوالي، وهما يشغلان مكانًا مواحدًا عند الطرف النهائي للصف الثاني من النقوش (1).
والمنظر الذي على الجدار الشرقي يظهر فيه الإله «تحوت» يقدم صولجانًا (ماكس) وثلاث جريدات من جريد النخل يتدلى من كل منها رمز العيد الثلاثيني للملك «بطليموس إيرجيتيس الثاني» وخلفه الملكة «كليوباترا الثانية» التي كانت تحمل الألقاب التالية: الابنة الملكية، والأخت والزوجة الملكية، والأم الملكية، والحاكمة ربة الأرضين «كليوباترا» الإلهة المحسنة، الأخت والزوجة لابن «رع» (بطليموس معطى الحياة أبديًّا، محبوب بتاح).
والواقع أن هذا المنظر كما يقول الأستاذ «شاسينا» ليس فيه ما يلفت النظر؛ لأنه لا يتميز عن المناظر الأخرى إذا لم يكن المفتن قد خالف المعتاد هنا ووضع بين الملك «إيرجيتيس الثاني» وزوجه «كليوباترا الثانية» صورة طفل يرتدي على رأسه تاج مصر المزدوج وعلى جبينه الصل، ويلبس نفس اللبس الذي يلبسه «بطليموس» وهو العباءة الواسعة. يُضاف إلى ذلك أن صفة هذا الطفل في هذا المنظر التي ميزت فعلًا بالمكانة التي يحتلها في هذا المنظر وبالرموز الملكية التي يتحلى بها؛ قد حُددت كذلك بنقش حُفِرَ بالقرب من صورته جاء فيه: الوارث الملكي لمن أنجبه والملكة، وهو الذي يوجه سير السيد الأوحد، (وهذا التعبير يعني إحدى الوظائف التي كان مكلفًا بها في العبادة التي كانت تُؤَدَّى لوالده، وكان الملك نفسه يقوم بأدائها بوصفه كاهنًا للآلهة المختلفين)، والابن الملكي البكر محبوب الملك «بطليموس» بن «بطليموس إيرجيتيس الثاني» الإله المحسن. هذا، ولدينا متن آخر وُضِعَ فوق الزوجين الملكيين بصورة واضحة يفسر علاقة هؤلاء الأشخاص الثلاثة وهو: «الملك والملكة وابنهما.»
والمنظر المقابل لهذا المنظر الذي وصفناه يوجد على الجدار الغربي للمحراب، وهو صورة طبق الأصل من الأول مع رواية تختلف اختلافًا بسيطًا في التفصيل: فيُشَاهَد هنا «تحوت» وفي يده أربع جريدات نخل، ويكتب المدائح الملكية أمام «بطليموس إيرجيتيس الثاني» الجالس: ملك الوجه القبلي (وارث الإلهين الظاهرين، والمختار من «بتاح»، الذي يعمل العدالة ﻟ «رع»، تمثال آمون الحي)، الإله المحسن ابن «رع» (بطليموس العائش أبديًّا، محبوب بتاح)، والإلهة المحسنة «كليوباترا الثالثة» الحاكمة، ربة الأرضين، «كليوباترا» الزوجة الملكية لابن «رع» (بطليموس العائش أبديًّا، محبوب بتاح).
والنقش الخاص بالأمير الفتى جاء فيه: «الروح (كا) العائشة للملك، والروح النضرة، والنطفة الإلهية لسيد هذه الأرض، والابن الملكي الذي يحبه الملك العظيم، ابن «بطليموس إيرجيتيس الثاني».» وهنا كذلك نجد أن الرابطة الأسرية قد وضحت في متن أفقي وُضِعَ خلف الملكة «… المتعبدة الإلهية بجواره (أي بجوار الملك) وابنهما «شو» (2) أمامهما.»
ولا نزاع في أن وجه الشبه هنا بين هذين المنظرين ليس ظاهرًا. وسنحاول فيما يلي أن نعرف ما هي أوجه الخلاف بينهما بوساطة شخصيات الأسرة الملكية الذين مُثلوا فيهما.
وقبل أن نتحدث عن ذلك يجب أن نشير هنا إلى أن الأثري «بروكش» قد نقل جزءًا من المنظر الأول، ولكنه أساء فهمه تمامًا (3) كما سنرى بعد.
والواقع أن المتون كما تُقْرَأ على جدران المعبد لا تدع مجالًا لأي شك؛ وذلك لأن المطلع عليها لا يجد أي مجال لتصحيح في المتن؛ لأن ناقشها كما هو واضح لم يُسِئ استعمال لقب، كما أنه لم يخلط بين أشخاصها؛ فالألقاب: الابنة الملكية والأخت زوج الملك والأم الملكية هي ألقاب الملكة «كليوباترا الثانية»؛ فقد كانت «الابنة الملكية» لأنها ابنة «بطليموس الخامس»، وكانت «الأخت الزوجة» بزواجها من أخيها «بطليموس فيلومتور»، وفيما بعد بزواجها من أخيها «بطليموس إيرجيتيس الثاني»، وأخيرًا كانت «الأم الملكية» لأنها أنجبت «بطليموس يوباتور» و«كليوباترا كوكي» وهما اللذان أنجبتهما من زوجها الأول؛ و«بطليموس المنفي» الذي رُزِقَتْ به من زوجها الثاني «إيرجيتيس الثاني»؛ وعلى ذلك فإن الأمير الصغير ليس «بطليموس فيلومتور» كما يقول «بركش»، بل هو ابن أخيه؛ أي ابن «بطليموس إيرجيتيس الثاني». غير أنه لسوء الحظ لم يَأْتِ مع اسمه وصف يميز نسبه؛ ومن ثم كان من المستحيل أن تميزه في أول الأمر.
وعلى أية حال عُزي ﻟ «بطليموس إيرجيتيس الثاني» أربعة أولاد ذكور؛ وهم: «بطليموس المنفي» وهو الذي أنجبته له أخته «كليوباترا الثانية» بعد موت «بطليموس السادس» وزواجها منه، و«بطليموس سوتر الثاني» و«بطليموس الحادي عشر الإسكندر» وقد أنجبتهما له زوجه الثانية «كليوباترا الثالثة»، وأخيرًا «بطليموس نيوس فيلوباتور».
والمؤرخون بوجه عام لم يتفقوا حتى الآن على بنوة الأخير من حيث الأم؛ فأحيانًا ينسبونه إلى «كليوباترا الثانية» وأحيانًا ينسبونه إلى «كليوباترا الثالثة» وبعضهم يخلطون شخصية هذا الأمير بشخصية «بطليموس المنفي» (4).
والواقع أنه إذا قبل الإنسان النظرية القائلة بأن «نيوس فيلوباتور» هو الابن الأصغر للملك «إيرجيتيس الثاني» فإنه من المستحيل أن يوحده بالطفل الذي مُثل في المنظر؛ وذلك لأنه مميز فيه بأنه الابن البكر، وهو الذي نعرف بأنه يُدْعَى «المنفي» الذي وُلِدَ في عام 144ق.م في أثناء الاحتفال بعيد التتويج الذي أقيم لوالده في «منف». والواقع أن نعت «الوارث الملكي» يمكن أن يعود حقًّا على «نيوس فيلوباتور» بعد الموت المفجع الذي لاقاه «المنفي»، وحتى يمكن أن يُنْسَبَ إليه لقب الابن البكر كما كانت الحال مع «بطليموس العاشر سوتر الثاني» كما نعرف ذلك من النقش العظيم التاريخي الذي حُفِرَ على معبد «إدفو» وذلك بمناسبة موت «بطليموس إيرجيتيس الثاني»؛ حيث يقول المتن: إن الصقر «بطليموس السابع» قد طار إلى السماء، وابنه البكر «سوتر الثاني» جلس على عرشه (5). غير أنه ليس من المحتمل أن تكون «كليوباترا الثانية» قد أنجبت ابنًا آخر في الفترة القصيرة التي تفصل بين ولادة ابنها «المنفي» وبين زواج «إيرجيتيس الثاني» من ابنة أخته في عام 143 أو عام 142ق.م أو قبل هذا الزواج؛ ومن ثم يمكن أن نفرض ولو مؤقتًا أن الطفل المُمَثَّل بالقرب من زوجة «بطليموس إيرجيتيس الثاني» الأولى هو «بطليموس المنفي» ولدينا حقائق كثيرة تساند هذا الفرض: أولًا: نجد أن الولدين الممثلين في المنظرين كانا فعلًا كبيرين، والواقع أنه لم يكن المقصود هنا عند وضع هذين المنظرين هو تفسير إصلاحي محض؛ وذلك لأننا نعلم أن أوجه المحراب الخارجية كانت لا تزال عارية من النقوش عندما بدئ في سبتمبر عام 142ق.م بافتتاح المعبد، وهو حفل أسهم فيه «بطليموس إيرجيتيس الثاني» ومعه كل من زوجيه. وكان المنفي في هذا التاريخ يبلغ السادسة عشرة من عمره، وكان الابن الأول للملكة «كليوباترا الثالثة» قد وُلِدَ أو على وشك أن يُولَد. وثانيًا: نجد أن حالة الخصومة السافرة كانت تسود منذ هذه اللحظة بين «إيرجيتيس الثاني» و«كليوباترا الثانية». وقد كان من جراء ذلك قيام الإسكندريين على ما يظهر بثورة في صالح الملكة، وهذه الثورة أسفرت عن هرب «إيرجيتيس الثاني» في عام (131-130ق.م)، غير أنها لم تكن لتحدث عند هذا العاهل تأثيرًا حسنًا بالنسبة لعدوه اللدود وابنها الذي كانت قد شرعت في جعله يُعْلَن ملكًا مكان والده. والواقع أن خطف «المنفي» بمثابة رهينة ثم قتله وهو ما حدث بعد فترة وجيزة كان الغرض منه حرمان «كليوباترا» من سلاح سياسي خطر تحارب به «إيرجيتيس الثاني»، ويقول «ديدور الصقلي»: إن «المنفي» كان لا يزال صغيرًا جدًّا عندما أُعْدِمَ؛ إذ كان لا ينبغي وقتئذ أن يكون أكثر من ست عشرة سنة (6).
وعلى ذلك فإن إنجاز المنظر الذي نحن بصدده لا بد أن يكون — بضرورة الحال — قد تم بعد الصلح الذي أُبْرِمَ بين «بطليموس إيرجيتيس الثاني» و«كليوباترا الثانية» وهو الذي يُؤَرَّخُ بعام 124ق.م(7)، وهو العام الذي أُقِيمَ فيه الاحتفال بإتمام المحراب الذي اشتركت فيه الملكة المسنة بالحضور. فقد ظهر اسمها في نقش الإهداء، وكان مقرونًا باسم الزوجة الثانية للملك «بطليموس إيرجيتيس الثاني»؛ أي «كليوباترا الثالثة».
هذا، ونعلم أن تزيين المحراب من الخارج لم يكن إلا في بداية عهد «بطليموس الرابع» (8)، ولم يُسْتَأْنَفِ العمل فيه إلا متأخرًا، والمحتمل جدًّا أن ذلك كان بعد عام 124ق.م على يد «إيرجيتيس الثاني»؛ فقد اهتم هذا العاهل أولًا ببناء قاعة العمد الأولى الصغيرة (140–120ق.م)، وقد انتهى العمل في الجزء الداخلي منها تمامًا في مدة حكمه، وبعد ذلك شرع في القيام بنقش أوجه المعبد الخارجية، غير أنه لم يمتد به الأجل ليرى نهاية هذا العمل.
وتدل شواهد الأحوال على أن جدران المحراب حيث يوجد المنظران اللذان نفحصهما هنا قد تم العمل فيها قبل موته. أما جدران قاعة العمد الأولى فقد تم تزيينها في عهد «بطليموس سوتر الثاني» وكذلك في عهد «بطليموس الحادي عشر الإسكندر» (9). والمنظران اللذان نحن بصددهما والممثلان لابني «إيرجيتيس الثاني» يُؤَرَّخَان على ذلك بنهاية حكم هذا الملك، ومن ثم يجب أن يُنْسَبَا إلى الفترة التي ما بين عام 124 و117ق.م من حكمه. ويصرح المؤرخ «بوشيه لكلرك» أن «إيرجيتيس الثاني» أمر بوضع «بطليموس المنفي» في قانون العبادات الأسرية باسم «نيوس فيلوباتور»؛ وذلك لأجل إرضاء «كليوباترا الثانية» وهذا يُعَدُّ بمثابة تحية قدمها لذكرى ابنه بعد وفاته (10). على أنه لم يصل إلينا حتى الآن أي برهان يمكن أن ترتكز عليه هذه النظرية التي تُعْتَبَر أكثر قبولًا من بين النظريات العدة التي وردت عن هذا الموضوع. والظاهر أن تأكيد هذه النظرية قد جاء إلينا عن طريق واحد من هذين المنظرين ولو جزئيًّا على الأقل.
ويُلْحَظُ فقط أن اسم ابن «كليوباترا الثانية» قد تبعه نعت: «الإله المحسن»، ابن الملك، الأمير محبوب الملك (بطليموس بن بطليموس العائش أبديًّا)، الإله المحسن. وهذا النقش لم يظهر بعد طغراء ابن «كليوباترا الثالثة» الذي كان يُنْعَت: روح الملك الحية … (بطليموس بن بطليموس العائش أبديًّا، محبوب بتاح). وهذا النعت لا يمكن أن يُنْسَب لوالد «إيرجيتيس الثاني»، وإلا لكان قد كُرِّرَ في المنظرين، وفضلًا عن ذلك فإنه لما لم يكن هناك في النقش الخاص بالابن الأكبر ما يدل على أنه كان لا يزال على قيد الحياة؛ فإن النقش الخاص بالابن الآخر ينعته بأنه «روح الملك الحية»، وعلى ذلك فإنه ليس من غير المعقول أن يُسْتَنْبَطَ أن «بطليموس بن بطليموس، محبوب بتاح، الإله المحسن» هو بلا شك «المنفي» الذي كان قد مات فعلًا، وأُلِّهَ في اللحظة التي عُمِلَ فيها هذا المنظر، وهو الذي يُوَحَّدُ أحيانًا بالملك «نيوس فيلوباتور».
وعلى أية حال فإن هذا الاستنباط يقوم في وجهه اعتراض فيما يمس توحيد «بطليموس المنفي» ﺑ «نيوس فيلوباتور»؛ فإن أولهما يُنْعَتُ ﺑ «الإله المحسن»، والآخر يُنْعَتُ ﺑ «الطفل الإلهي محبوب والده». وعلى ذلك يظهر من الصعب أن نفسر أنه من الممكن أن نطبق هذين النعتين على شخص واحد بعينه، وأعتقد أنه من الجائز وجود حل لهذه المعضلة التي في ظاهرها تُعْتَبَرُ غير ممكن حلها عند فحص الحوادث التي تميز عصرًا من أظلم عصور حكم «إيرجيتيس الثاني»، وترتكز معرفة هذه الحوادث بكل أسف على وثائق ناقصة وغير كافية؛ مما أدى إلى وجود فجوات عدة في تاريخ هذه الفترة تفرض على الباحث في أغلب الأحيان أن ينهج تفسيرًا خياليًّا مرتجلًا؛ فمن ذلك أن المؤرخ «بوشيه لكلرك» استعرض حل هذه المسألة بصورة واضحة في ظاهرها، غير أن مَنْظَرَيْ معبد «إدفو» اللذين نحن بصددهما الآن يُحْتَمَلُ أن يسمحا بتغيير بعض ما جاء في هذا الاستعراض أو تكميل ما جاء فيه ناقصًا في بعض النقاط.
وتوضيح ذلك أن أهالي الإسكندرية بعد أن أعلنوا سقوط «إيرجيتيس الثاني» والاعتراف ﺑ «كليوباترا الثانية» بمثابة ملكة عليهم؛ كانوا قد فكروا على ما يُظَنُّ احترامًا للعادة المرعية في مثل هذه الحالة أنه لا بد من البحث في الأسرة الملكية عن وارث ذكر للعرش؛ لأجل أن يكون زوجًا شرعيًّا سواء أكان حقيقيًّا أو اسميًّا. ويقال: إنه قد وقع اختيارهم على ابن أكبر له من حظيته «إيرن»، وهو بالطبع ابن سفاح، ولكن والده لما علم بذلك أحضره من «سيريني» ثم أمر بقتله، وقد هاج أهالي الإسكندرية عند السماع بهذه الجريمة، وعلى أثر ذلك كسروا تماثيل هذا الملك المبعد عن العرش، وقد كان جوابه على هذا التحدي الذي نسبه إلى «كليوباترا الثانية» أن قتل ابنه «المنفي» وأرسل أشلاءه هدية لأمه في يوم عيد ميلادها.
وهذه القصة يعتمد جزء منها على ما ذكره لنا المؤرخ «جوستن» (11) وحده، ولم يشاركه فيه مؤرخ آخر. وقد نُسِبَ إلى «كليوباترا» دور يدعو إلى الدهشة بالنسبة لها؛ إذ نعلم أنها كانت على جانب عظيم من النشاط، والواقع أن الذين درسوا أخلاقها قد خالجهم الشك في أن تكون قد أقحمت نفسها في مؤامرة كان من نتائجها حرمان ابنها «المنفي» من حقوقه الشرعية. حقًّا نعلم أنها بطبيعة الحال قد أسهمت في الإسراع في سقوط «إيرجيتيس الثاني» الذي كان فعلًا غير محبوب، وذلك بشعور الحقد عليه من جهة، ولكن دون شك كذلك لأجل أن تبعد أولاد «كليوباترا الثالثة» من تولي عرش الملك، وكانت تخاف من نفوذها. ولا نزاع في أن العناية التي بذلتها لتمجيد ذكرى ابنها لتظهر أنها على الرغم من أنها قد خاب ظنها في أطماعها بالحوادث التي جاءت على عكس ما كانت تصبو إليه؛ فإنها لم تكن تجهل كذلك أن موتًا قبل ميعاده كان من الممكن أن يحدث، ويتساءل الإنسان كيف يمكن أن ترضى بقبول فكرة تقسيم السلطة مع خلف غير شرعي للملك «إيرجيتيس الثاني»؟ والواقع أن المتن الذي اقتبسه «بوشيه لكلرك» نقلًا عن «جوستن» يقدم لنا سببًا للجريمة الأولى، وهو خوف «إيرجيتيس الثاني» من أن يحل محله آخر على عرش الملك؛ هذا إلى أنه لم يُشِرْ بأية إشارة إلى مشروع محالفة زوجية سواء أكانت فعلية أم اسمية، وفضلًا عن ذلك فإن «المنفي» وهو الابن البكر والوارث الطبيعي للملك «إيرجيتيس الثاني» كان في مقدوره — على الرغم من صغر سنه — أن يحكم تحت وصاية أمه، ومثل هذه الحالة قد مرت بنا فيما يخص «بطليموس السادس فيلومتور» الذي كان يبلغ من العمر ست سنوات عند موت والده. ولم يكن لدى أهالي الإسكندرية أية حجة لحرمان ابن ملكة محترمة لأجل فائدة ابن سفاح من ظهر الملك الذي طُرِدَ من البلاد.
وعلى أية حال فإنا نجهل كل شيء عن هذا الأمير المجهول الاسم الذي لم يذكره أحد من المؤرخين إلا «جوستن»، وهو الذي في الوقت نفسه جعلنا منه ابنًا لمحظية الملك «إيرن»، دون الإدلاء بأي برهان يثبت ذلك. على أن إبعاد «المنفي» الذي اختطفه والده منذ هربه إلى «قبرص» لا يمنع أبدًا أن يُنصب ملكًا على البلاد على الرغم من أن ذلك لا يمكنه من الحكم بصورة فعلية، وهذا ما كان يجب أن يحدث، وإذا كان موت «المنفي» قد أكده كثير من الكتاب القدامى، فإنه ليس لدينا إلا مؤرخ واحد قد أشار إلى موت ابن الحظية «إيرن» المزعوم، وعلى أية حال — دون أن نلقي ظلًّا من الشك على حسن نية «جوستن» — فإن الشك قد غامر المؤرخ الفاحص في دقة هذا الخبر؛ إذ يجوز أنه قد غشه أحد أولئك القصاصين الذين لا يُعْتَمَد على آرائهم، أو أنه قد ضل السبيل بين التقارير المفككة والمتضاربة العديدة التي كانت تُرْوَى عن جرائم «إيرجيتيس» وأسبابها، وهذه الجرائم كانت تُنْقَل من فم إلى فم بصورة مبالغ فيها، ولعب فيها الخيال دورًا هائلًا، ولا نزاع إذن في أن جريمتين شنيعتين كهاتين اللتين ذكرناهما، وجاءت الواحدة تلو الأخرى في مدة قصيرة، وكان لكل منهما علاقة بالأخرى؛ لا بد أن تكونا قد تركتا أثرًا في الأذهان، ومع ذلك فإن المؤرخين الذين كانوا يصغون كثيرًا إلى من يتهمه «جوستن» بأنه ارتكبهما لم يحافظوا إلا على واحدة. على أن صمت المؤرخين في ذلك يدعو الإنسان إلى أن يفكر في أنهم قد أهملوا الأخرى؛ لأنهم يعرفون أن الاتهام كان كاذبًا … وعلى ذلك فإنه حسب هذه النظرية يظهر أن المأساة التي كان سببها الانفعال السياسي الذي بلغ أشده في الإسكندرية قد زاد في عظم خطرها بسخاء حتى صور منها أسطورة شنيعة، وسنحاول أن نسلسل حوادثها بالصورة الآتية: عندما أصبحت «كليوباترا» صاحبة السلطان في الإسكندرية فإنها لا بد كانت قد نصبت ابنها «المنفي» بوصفه خلفًا لوالده «إيرجيتيس الثاني» ولقبته «نيوس فيلوباتور»، وبعد ذلك أمرت بكسر صور الملك المخلوع؛ لأجل أن تؤكد فقدان حقوقه في الملك بوصفه ملكًا مخلوعًا. وقد كان قتل الطفل «المنفي» الذي كان قد استولى عليه والده كرهينة عندما احتمى في «قبرص» هو النتيجة الأولى من أعماله، وبذلك نرى أن «إيرجيتيس الثاني» قد أزال العقبة الوحيدة التي كانت حائلة بينه وبين عرشه المفقود، وقد كان يتخذ الأهبة فعلًا لاسترجاعه بمساعدة جيش من الجنود المرتزقين.
وبعد مضي ستة أعوام على هذا الحادث أي في عام 124ق.م عندما قرر — لأسباب ليس للعواطف فيها دخل يذكر؛ بل دعت إليها الأحوال السياسية بعد أن تهادن مع «كليوباترا الثانية» — أن يمنح أمجادًا إلهية للطفل الذي كان قد قتله، وهذه الأمجاد هي التي تظهر أمامنا ممثلة في متن «إدفو» الذي نحن بصدده، ولم يكن في مقدوره — خوفًا من أن يظهر راضيًا عن عمل مرتبط بسقوطه المخزي — أن يعترف رسميًّا بالتسمية التي مُنِحَتْ لمناهضه المؤقت؛ لذلك عندما كرمه والده بعد مماته بلقب الإله المحسن، وهو لقب كانت تحمله كل من أخته وزوجه وهو بالمثل، فإنه قد بقي في التقليد محجوبًا بظل من الكتمان حقبة مؤلمة دامية في عهده، وهذا التوافق، وكذلك كل المصادفات التي نبتت عن موضوع توحيد «نيوس فيلوباتور» بالمنفي لا تقدم لنا الحل الواضح والنهائي في مسألة يخيم عليها حقيقة الغموض؛ إذ إن ذلك يترك أمامنا دون تفسير ذكر «الإله نيوس فيلوباتور» في المتون الهيروغليفية والديموطيقية والإغريقية التي كان ينبغي أن تُحْذَف منها، إذا كان الرأي الذي استعرضناه فيما سبق على أساس. حقًّا ظهرت هذه التسمية متأخرة، وذلك على ما يظهر فقط في نهاية حكم «إيرجيتيس الثاني» حوالي العام الثاني والخمسين من حكمه، وبوجه خاص في عهد خلفه «بطليموس العاشر سوتر الثاني» في نقوش دير المدينة (12).
والآن هل ينبغي علينا أن نستنبط أن الملك المسن قد استسلم لتضرعات «كليوباترا الثانية» ورضى في النهاية — بعد أن عاد إلى صوابه أو لثقل السنين على كاهله — ليعيد إلى «المنفي» الاسم الذي كان ينبغي أن يحكم به، ويكتب اسمه في قانون الآلهة الأسريين بوصفه الإله «نيوس فيلوباتور»؟
وتدل شواهد الأحوال على أن تاريخ البطالمة مليء بالمواقف أكثر مما يجب التي لم يكن في الحسبان وقوعها، وهي التي نجد فيها حتى أصبح الشاذ مقبولًا، لدرجة تجعل مثل هذا التغير جائزًا. على أنه لا يمكننا أن نصدق ذلك دون تحفظ عندما تعوزنا الأدلة.
والتردد في ذلك على أية حال طبيعي؛ وذلك لأن القدامى أنفسهم لم يكونوا متأكدين من المكان الذي يليق بأن يُنْسَب إلى الإله «نيوس فيلوباتور» ليوضع فيه في القوائم الملكية، وهذا التردد الغريب يحتمل أن ينسب بصورة أكيدة إلى التغييرات التي عُمِلَتْ في هذه القوائم على أثر الإدراج المتأخر المصحح لضحيتي «إيرجيتيس الثاني» وهما الإله «يوباتور» والإله «نيوس فيلوباتور» والأخير قد حل محل «المنفي» بوصفه الإله المحسن، وهذا التغيير الأخير قد سبب في بادئ الأمر بعض التردد في نفس أولئك الذين لا يعرفون الأسباب الحقيقية التي كانت التدابير قد اتُّخِذَتْ لمنع إذاعتها بين الناس. ومهما يكن من أمر فإنه قد حصل على حقيقة جديدة مؤكدة، ويرجع الفضل في ذلك إلى المنظر الذي حُفِرَ على واجهة جدار محراب معبد «إدفو»، وهذه الحقيقة هي رفع ابن «إيرجيتيس الثاني» و«كليوباترا الثانية» إلى مرتبة الإله المحسن (إيرجيتيس) بعد موت الأول.
أما تفسير المنظر الذي يقابل السابق، وهو الذي ظهرت فيه «كليوباترا الثالثة» فليس فيه أية صعوبة، ومعناه واضح، وذلك أن الطفل الممثل فيه هو «بطليموس العاشر سوتر الثاني»، وشخصية الملكة في هذا المنظر مؤكدة باللقب الذي تحمله، وهو «زوج الملك» وهو اللقب الذي يميزها من «كليوباترا الثانية» التي كانت تحمل لقب الأخت الزوجة، وذلك في الفترة التي تلت مدة شقاقها مع «إيرجيتيس الثاني».
وعلى أية حال فإن «إيرجيتيس الثاني» عندما قدم تكريمًا لزوجه الأولى بوصفها أمًّا فإنه لم يكن في استطاعته أن ينسى أنه مدين إلى زوجه الثانية بالابن الذي دُعِيَ ليكون خليفته على ملك أرض الكنانة. ومن الجائز أنه كان يأمل كذلك من وراء هذا العمل الذي منح ترضية عادلة لكل من زوجيه قد جلب في هذه الأسرة الغريبة التي تتألف من زوج وامرأتين الهدوء والسلام الظاهرين الذين لم يذق طعمهما أبدًا على وجه التأكيد هذا الملك إذا كان كل ما نُسِبَ إليه صحيحًا.
وخلاصة القول إن هذا التفسير الذي أوردناه هنا لحل هذا الارتباك الأسري من حيث ترتيب ملوك البطالمة لا يخرج عن كونه نظرية في ظاهرها مقبولة غير أن الحل النهائي الحاسم لا يزال نفتقر إليه، وقد لا يكون بعيدًا ظهوره؛ لأن جوف أرض مصر مليء بالمفاجآت التي لا ينقطع معينها.
.....................................................
1- راجع: E. Chassinat, Le Temple d’Edfu, T. IV. P. 91–93 et 248-249; T. X, P1. LXXXVIII et XCIII; T. XIII, P1. CCCCXXXIX et CCCXLVI; Mélanges Maspero I, p. 513 etc
2- راجع: «شو» بن «رع» يلعب دور الملك هنا.
3- راجع: Brugech. Thesaurus. P. 886.
4- راجع: B.L.T. II, p. 82 note 1.
5- E. Chassinat, Le Temple d’Edfu, T. VIII, P. 9.
6- راجع: Diod., XXXIV.
7- راجع: B.L. T. II, p. 81.
8- راجع: Ibid. T. IV, P. III-IV.
9- راجع: Ibid. T. IV, p. 327–402; Ibid, IV, P. IV.
10- راجع: B. L. II, p. 82.
11- راجع: Justin, XXXVIII,8, P. 11–13.
12- راجع: Daressy Bull. de l’Inst. Franç. D’archeolog. Orientale, T. VI
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة