بطليموس السابع ينقلب إلى إنسان ويصدر القوانين العادلة
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج16 ص 335 ــ 341
2025-12-15
22
من المدهش حقًّا أن ما وصل إلينا من المؤرخين القدامى عن الفترة الأخيرة من حياة «إيرجيتيس الثاني» يكاد يناقض تمامًا ما عرفناه عنه في خلال مدة حكمه الأولى؛ فقد ظهرت لنا أخلاقه ومعاملاته للشعب في ثوب جديد يدعو إلى الدهشة إذا ما قُرِنَ بأيام حكمه في بادئ عهده، وتدل الأحوال على أن ضميره قد استيقظ بصورة جلية؛ فكان أول ما قام به أنه أخذ يلتفت إلى إدارة البلاد، والسهر على راحة الشعب، وتخفيف عبء الحياة عن المظلومين بين أفراده، ومن ثم أخذ يتقبل بصدر رحب شكاوى رعاياه وتظلماتهم، كما أخذ يحميهم من تعسف الموظفين، ولا أدل على ذلك من التظلم الذي قدمه كهنة الإلهة «إزيس» صاحبة معبد الفيلة؛ فقد قدموا ظلامة بأنهم أُجْبِرُوا على القيام بتقديم كل لوازم الموظفين والأجناد الذين كانوا يمرون بهم أثناء تأدية أعمالهم، ومن ثم أصبح هؤلاء الكهنة في حالة خراب شامل من جراء ما ابْتُزَّ منهم من أموال ظلمًا وعدوانًا، وقد كانت هذه الحالة المحزنة ناشئة من الانقسام في حكم البلاد أيام الاضطرابات التي وقعت بين هذا العاهل وبين «كليوباترا الثانية»، ومن أجل ذلك أصدر «إيرجيتيس» — حسمًا لكل المنازعات والشكاوى والتظلمات، ولوضع الأمور في نصابها — مرسومًا في عام 118ق.م لتنظيم كل الأحوال في طول البلاد وعرضها، وهذا المرسوم صدر باسم الملوك الثلاثة (أي بطليموس إيرجيتيس الثاني، وكليوباترا الثانية أخته، وكليوباترا الثالثة زوجه)؛ ومن ثم نفهم أن المرأة قد بدأت تشترك في حكم البلاد بصورة جدية منذ هذه الفترة من عهد البطالمة. وهذا المرسوم وصل إلينا مُدَوَّنًا في ورقة عُثِرَ عليها في بلدة «أم البرجات» «تبتنيس» وقد نشرها العالمان «جرنفل» و«هنت» عام 1902 ميلادية، وهذه البردية تُعتبر من أهم الوثائق التي تضع أمامنا صورة واضحة عن سير الحكومة البيروقراطية في عهد البطالمة المتأخر.
ويعتقد المؤرخ «بريسكه» Preisicke بحق أن هذا المرسوم يُعد بمثابة اتفاق بين «كليوباترا الثانية» والملك «بطليموس البطين». وسنرى أن «بطليموس» قد نزل عن أشياء كثيرة من حقوقه، ولا نزاع في أن الارتباك الذي كان ضاربًا أطنابه في البلاد وقتئذ يرجع سببه بدرجة عظيمة إلى الهبات التي كانت قد أُعطيت أيام الشقاق الذي كان سائدًا بين الحكومتين المتناهضتين وأتباعهما، وكانت تلك الهبات لم يُصَدَّقْ عليها إلا من حكومة واحدة، ومن ثم وُجد أن كثيرًا من الأهلين كانوا يملكون أراضي فعلًا دون مستند أكيد معتمد يثبت ملكيتهم لهذه الأراضي، يُضاف إلى ذلك أن معابد مصرية كانت قد انحازت لإحدى الحكومتين، وتسلمت منها هبات من الأراضي، وكذلك امتيازات من الملك «إيرجيتيس الثاني» أو الملكة «كليوباترا الثانية»؛ كل ذلك كان لا بد من إعادة النظر فيه من جديد. وعلى أية حال كان الغرض الذي يرمي إليه المرسوم أن يضرب صفحًا عما حدث في فترة الانشقاق، وأن تُعتبر الممتلكات الحالية فعلية من الوجهة القانونية الصحيحة. وعلى ذلك فإنه كان لزامًا على الملكة «كليوباترا الثانية» أن تعترف بالهبات التي وهبها «إيرجيتيس الثاني» لأتباعه أو بعبارة أخرى أعداء «كليوباترا الثانية»، كما يجب على «إيرجيتيس الثاني» بدوره أن يعترف بالهبات التي وهبتها «كليوباترا الثانية» لأتباعها أي لأعداء «إيرجيتيس الثاني»؛ وأن يأخذ كل من الطرفين على عاتقه بألا يتدخل في شئون الآخر.
هذا، ويُلحظ أن هذه الوثيقة قد عُنْوِنَتْ بعبارة عفو شامل، ولم يُسْتَثْنَ من هذا العفو إلا القتلة وأولئك الذين خرقوا الحرمات المقدسة، وكل الجرائم والأحكام الجنائية حتى 9 برمودة العام الثاني والخمسين من حكم الملك «إيرجيتيس الثاني» (= 28 مارس عام 118ق.م).
وهاك بعض ما جاء في هذا المرسوم من مواد هامة:
أولًا: إعلان عفو شامل لكل الجرائم التي ارْتُكِبَتْ في البلاد قبل شهر برمودة من العام الثاني والخمسين، ولا يستثنى من ذلك إلا القتلة ولصوص المعابد.
ثانيًا: الأفراد الذين اشتركوا في النهب وهربوا بسبب ذلك سيُسْمَحُ لهم إذا عادوا إلى وطنهم أن يزاولوا حياتهم التي كانوا عليها من قبل ذلك، وما بقي من أملاكهم لا تستولي عليه الحكومة.
ثالثًا: يُلْغَى كل المتأخر من الضرائب إلا في حالة المزارعين الملكيين الذين يزرعون نصيبهم بمقتضى إيجار وراثي.
رابعًا: النزول عن ديون الحكومة التي كان قد فرضها الحاكم العسكري فيما يتعلق بتوليهم الوظيفة؛ (ومن المحتمل أن كل الموظفين أصحاب المكانة كان عليهم أن يدفعوا مبالغ ضخمة مقابل وظائفهم) (1).
خامسًا: يجب أولًا على محصلي العوائد في الإسكندرية ألا يستولوا على البضائع التي كانت في منطقة «إكزهايرسيس» Exhairesis (وهي التي يمكن أن تُحْضَر إليها السلع دون ضريبة إلى المدينة)، وأية بضاعة محرمة استُولي عليها في «إكزهايرسيس» يجب أن تُوَرَّد إلى إدارة السكرتير المالي، ولن يكون المسافرون على الأقدام من المدينة إلى داخل البلاد عرضة لأي ضريبة يجمعها جباة العوائد، باستثناء العوائد القانونية (يُحْتَمَلُ أن ذلك يعني البضائع التي كانت تُحْمَل على ظهور الحمير والجمال)، ويجب أن تُفْحَصَ بأيدي مراقبي الضرائب، ولكن البضائع التي يحملها الإنسان على رأسه أو على ظهره أو في يده من الأشياء التي تُوجَد مع الفقراء؛ فإنه يُسْمَحُ أن تمر دون أخذ ضريبة عليها. وعلى أية حال فإن الأفراد الذين يسيرون على الأقدام عليهم أن يدفعوا عوائد عن الأشياء التي تُنْقَلُ بالقوارب من شاطئ لآخر، ولا يُسْتَوْلَى على البضائع التي ترد مهربة إلا عند البوابة التي تؤدي من الميناء إلى المدينة Xenixkon emporion.
سادسًا: في مقدور كل أولئك الذين يملكون أراضيَ فعلًا وكانوا قد استولوا عليها بطريقة غير قانونية في خلال الاضطرابات؛ أن يضموها إلى ملكيتهم بأن ينزلوا أولًا عن الأرض لملوكهم، فيدفعون إيجار سنة من المحصول، ثم يتسلمون الأرض ثانية من الملوك بوصفها هبة قانونية. هذا، ولن يُفْرَض عليهم غرامات عن السنين السابقة لسنة 52 الحالية. كما يثبت الوطنيون المصريون الذين استولوا بصورة غير قانونية على أراضٍ من أراضي الجنود المرتزقة، وتصبح هذه الأراضي ملكًا لهم.
سابعًا: تُلغى بعض الخدمات التي كان على الجنود المرتزقة أن يفرضوها على أصحاب الأراضي الذين ذُكِرُوا في الفقرة السابقة.
ثامنًا: تثبت دخول المعابد الفعلية وتصبح ملكها، وكذلك الأراضي التي تديرها المعابد بنفسها فإنها تستمر في إدارتها دون تدخل أي فرد (والواقع أن هذا مشروع وضعه الملك يجب بمقتضاه ألا يتدخل عماله في أمور المعابد).
تاسعًا: تُلْغَى الضرائب المتأخرة على المعابد.
عاشرًا: تُدْفَع مصاريف دفن العجول المقدسة من الخزانة الملكية.
حادي عشر: تثبت ملكية وظائف الكهانة التي اشْتُرِيَتْ من الحكومة.
ثاني عشر: يثبت امتياز اللجوء لتلك المعابد التي تتمتع به.
ثالث عشر: يجب أن تُفْحَصَ المخالفات فيما يخص المكاييل والموازين التي يستعملها محصلو دخل الحكومة النوعي.
رابع عشر: أولئك الذين يزرعون من جديد أرض الكروم أو أرض بساتين الفاكهة التي كانت قد أصبحت بورًا؛ سيملكون هذه الأراضي دون ضرائب لمدة خمس سنوات، أما في السنين الثلاث التي تلي ذلك فيدفعون ضرائب مخففة. أما الأراضي التي تقع في الإقليم المرتبط بالإسكندرية فإن زارعيها يُعْطَوْنَ ثلاثة أعوام أخرى دون ضريبة.
خامس عشر: تبقى الأراضي أو المنازل التي اشْتُرِيَتْ من التاج ملكًا شرعيًّا للمشترين (ويظن المؤرخ «بريسكه» أن المقصود من هذه الفقرة هو أن كلًّا من «إيرجيتيس» و«كليوباترا الثانية» قد اتفقا على تبادل الاعتراف فيما يخص العقود والمعاملات بين جيران كل منهما).
هذا، ويُلحظ أن الأسطر التي أعقبت الفقرة السابقة قد وُجِدَتْ مهشمة من أول السطر 102 حتى السطر 133، ولا يمكن استنباط شيء منها يمكن الأخذ به. ثم يأتي بعد ذلك:
سادس عشر: إن أصحاب البيوت التي حُرِقَتْ أو دُمِّرَتْ يمكنهم أن يعيدوا بناءها كما كانت (أي دون استصدار أمر آخر كان يجب أن يُحْصَلَ عليه فيما يتعلق ببناء جديد)، وكذلك المعابد يمكن إعادة بنائها (والمعابد الصغيرة دون شك التي أقامها أفراد أو قرى؛ وذلك لأن الأحزاب المتناحرة كانت على ما يظهر لم تسكت عن هدم مباني بعضها بعضًا)، ولكن على شرط ألا يزيد ارتفاعها عن عشر أذرع، ويُسْتَثْنَى من هذا التنازل بلدة «بانوبوليس» (ولا بد أن هذه البلدة كانت مركز حركة ثورية. ويقترح كل من الأثريين «جرنفل» و«هنت» أن القطعة التي جاءت في «ديدور» وهي التي تتحدث عن «بانوبوليس» بمثابة معقل وطني للثورة في عهد «بطليموس فيلومتور» قد أُسِيء وضعها، وأن الحصار الذي كان قد ضُرِبَ حولها كان قد وقع فعلًا فقط قبل عام 118ق.م بقليل، ولكن المؤرخ مارتن يضع هذا الحادث في عام 130ق.م(2)، والظاهر أنه يُحتمل أن مكانًا مثل ذلك كان مركزًا للثورة الوطنية في عهد «فيلومتور» وقد ظل مكانًا ملائمًا بمثابة معقل حصين للثوار. ومن المحتمل أن المادة التي حرمت على «بانوبوليس» Panopolis أن تقيم معابد لا يزيد ارتفاعها على خمس عشرة قدمًا قد كانت إجراءً لضمان الأمن لا عقابًا؛ وذلك لأن المباني بالحجر التي تبلغ هذا الارتفاع كان من الممكن استعمالها لحرب الشوارع).
سابع عشر: إن أولئك الذين يعملون مزارعين أو عمال مصانع في خدمة الملك قد أصبحوا محميين من اضطهادات الموظفين مثل الحاكم الحربي للمقاطعة والسكرتير المالي وضباط الشرطة وغيرهم.
ثامن عشر: لا ينبغي لحكام المقاطعات الحربيين وكذلك الموظفين الآخرين أصحاب الرتب العالية أن يستولوا لأنفسهم على أرض جيدة ويزرعوها لا سيما إذا كانت تُزْرَع فعلًا من قبل بوصفها جزءًا من أرض التاج بزراع ملكيين.
تاسع عشر: لا ينبغي لطبقات خاصة من الناس أن يوطنوا عندهم جنودًا مرتزقين وهذه الطبقات تشمل: (1) الإغريق الذين يعملون في الجيش. (2) الكهنة. (3) الزراع الملكيين. (4) أولئك الذين يشتغلون ببعض صناعات مُرَخَّص لهم بها بتصاريح من التاج؛ مثل: نساجي الصوف، وصناع النسيج، ورعاة الخنازير، ومربي الإِوَزِّ، وصناع الزيت والجعة، والنحالين. وفي الأماكن التي يكون فيها لأي عضو من الطوائف المذكورة بيت آخر خلافًا للبيت الذي يسكن فيه؛ فإنه يكون للجنود المرتزقين أصحاب الأطيان الحق في أن يسكنوا فيها بشرط ألا يحتلوا أكثر من نصف البيت المذكور.
عشرون: لا ينبغي لحكام المقاطعات الحربيين ولا للموظفين الآخرين أصحاب الوظائف العالية أن يجبروا أي فرد من الناس على أن يشتغل لحسابهم دون أجر.
واحد وعشرون: (هذه الفقرة معناها غامض غير أنه يُفْهَم منها أنها تعفي رجال الشرطة والحرس في كل البلاد من التزامات يمكن أن تُفْرَضَ عليهم بسبب ارتكاب مخالفات حدثت في الماضي).
اثنان وعشرون: تُرْفَعُ الغرامات التي فُرِضَتْ على أولئك الذين لم يؤدوها على حسب القانون، وذلك فيما يخص احتكار الزيت.
ثلاثة وعشرون: تُلْغَى الغرامات التي وقعت على أولئك الذين لم يقوموا بتوريد الحسك والبوص لإصلاح الجسور (جسور النيل).
أربعة وعشرون: تُلْغَى الغرامات التي وقعت على أولئك الذين لم يزرعوا قطع أرضهم على حسب القانون حتى عام 51 (من حكم هذا الملك). أما عن عام 52 وما بعده فإن القانون يُطَبَّق.
خمسة وعشرون: تُلْغَى الغرامات التي وقعت على أولئك الذين قطعوا أشجارًا في حوزتهم دون إذن من الحكومة.
ستة وعشرون: (هذه الفقرة تحدد موضوع السلطة القضائية عند الإغريق وعند السكان المصريين. والقانون هنا يحدد أنه في الحالات التي يكون في حزب إغريقي يتنازع مع حزب آخر مصري فإن المسألة يحدد الفصل فيها على حسب اللغة التي دُوِّنَتْ بها الوثائق؛ فإذا كانت الوثائق باللغة الديموطيقية، فإن القضية يُنْظَر فيها أمام قاضٍ مصري؛ ليحكم فيها على حسب القانون المصري، وإذا كانت الوثائق بالإغريقية؛ فإن القضية تُقَدَّم أمام قاضٍ إغريقي Chrematistaie وإذا كان الفريقان المتخاصمان مصريين فإن القضية يُفْصَل فيها أمام قاضٍ مصري Laokritai وقد تحدثنا عن هذا الموضوع في غير هذا المكان).
سبعة وعشرون: لا ينبغي أن يُحْجَز على أشخاص المزارعين الملكيين، وكذلك العمال الذين يعملون في المعامل التي يكون فيها للتاج مصلحة بسبب دين؛ إذ يمكن الحجز على سلعهم، ولكن ذلك لا يُطبق على الآلات اللازمة لأعمالهم.
ثمانية وعشرون: لا ينبغي أن يُجْبَر عمال النسيج على العمل للموظفين دون أجور مجزية.
تسعة وعشرون: لا يجوز لأي موظف أن يستولي على قوارب لاستعماله الشخصي.
ثلاثون: لا يجوز لأي موظف أن يسجن أي فرد من أجل مخاصمة شخصية أو من أجل دين له. وإذا كان لديه أية تهمة يوجهها لأي شخص فعليه أن يرفع دعواه أمام المحكمة المختصة (3).
هذه هي مواد مرسوم العفو الشامل الذي أصدره «بطليموس السابع» وشريكتاه في الملك «كليوباترا الثانية» أخته و«كليوباترا الثالثة» زوجه. ومن بين سطوره نفهم ما كانت عليه حالة البلاد من الناحيتين القضائية والإدارية، ولحسن الحظ لدينا قضية عن ملكية وقعت أطوارها في عهد هذا الملك، وتُعْتَبَر في الواقع المصدر الأصلي للمعلومات الخاصة بالنظام القانوني في عهد البطالمة بوجه عام. ومن أجل ذلك كان لزامًا علينا أن نذكر شيئًا عن هذه القضية الفذة في بابها، وأعني بذلك قضية «هرمياس».
.............................................
1- راجع: Grenfell and Hunt, Tebtunis I. p. 33.
2- راجع: V. Martin, Les Epistratèges P. 49.
3- راجع: Tebtunis I, No. 5.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة