عبادة الأولياء والشهداء في العهد البطلمي
المؤلف:
سليم حسن
المصدر:
موسوعة مصر القديمة
الجزء والصفحة:
ج15 ص 519 ــ 523
2025-11-07
57
من الظواهر التي تلفت النظر بصورة قوية كثرة الأضرحة والمقامات التي نجدها منتشرة في مصر عن غيرها من البلدان الإسلامية؛ إذ الواقع أنه لا تكاد توجد قرية من قرى ريف مصر وصعيدها إلا وفيها ضريح أو مقام لرجل أو سيدة تعد في نظر السكان من أولياء الله الصالحين، ويتساءل المرء لماذا اختُصت مصر بهذا العدد العظيم من هؤلاء الأولياء أو الشهداء دون غيرها، وقد يقف الباحث الأجنبي حائرًا مذهولًا أمام هذا السؤال؛ لأنه قد لا يعرف الكثير عن العادات المصرية التي ورثها عن أجداده المصريين منذ أقدم العهود، وبقيت يتناقلها الابن عن الأب، وبخاصة فيما يتعلق بالعبادات والشعائر الدينية، والواقع أنه عند درس الوثائق الديموطيقية صادفنا عدة أولياء وشهداء كانوا يعدون في نظر القوم بمثابة آلهة لهم مكانتهم عند الشعب، وسنحاول أن نفسر أصل هؤلاء الأولياء والشهداء فيما يلي: كانت مصر منذ أقدم عهودها مقسمة مقاطعات صغيرة بلغ عددها يومًا ما على حسب ما روته الأخبار اثنتين وأربعين مقاطعة، وكانت كل مقاطعة مقسمة وحدات صغيرة لكل منها إدارتها الخاصة، وإلهها المحلِّي الخاص الذي كان يعد المسيطر عليها من الناحية الروحية، وبعد فترة من الزمن اتحدت هذه الوحدات معًا وكونت المقاطعة؛ ولكن كانت كل وحدة أو قرية محافظة على إلهها المحلِّي، هذا في حين أن المقاطعة كان لها إلهها الذي يسيطر على كل المقاطعة، وتدين له كل أجزائها، وبعد ذلك اتحدت مقاطعات الشمال وكونت وحدة قائمة بذاتها وهي الوجه البحري، وأصبح لها إلهها الخاص بها الذي كان ينشر سلطانه على كل مقاطعات الشمال، وقد حدث نفس التطور في الوجه القبلي، وأخيرًا اتحد القطران معًا، وتألف منهما جميعًا المملكة المصرية المتحدة، وكان في العادة يصبح أقوى آلهة المقاطعات أو المدن الكبيرة الإله المسيطر على جميع آلهة القطرين؛ هذا مع العلم أن كل قرية ومدينة ومقاطعة كانت تحتفظ بإلهها المحلِّي، ولا تجد عنه حولًا مهما كانت الأحوال، ومن ثَم نجد أن كل بلدة أو قرية كانت تحتفظ بآلهتها بالتوارث على مرِّ السنين.
وعلى الرغم من تقلب الأحوال السياسية في البلاد، وتغير الحكام فيها فإن القوم ظلوا على عبادة آلهتهم، والاحتفاظ بإقامة شعائرها على مر الدهور حتى نهاية العهد الروماني، وحتى لما جاء الإسلام وتغيرت ديانة القوم ظلت عادة التمسك بالتضرع للآلهة باقية في نفوس المصريين فاتخذوا بدلًا من الآلهة أولياء الله الصالحين الذين يعتقدون في ظهور الكرامات على أيديهم، وإن من يقرن ما يحدث الآن في أضرحة هؤلاء الأولياء والشهداء بما كان يحدث في مصر القديمة ليجد أن الفرق قليل، وبخاصة عندما نعلم أن الأولياء والشهداء في نظر عامة الشعب المصري هم في الواقع في مرتبة الآلهة، ومن ثم فإن رجال الدين يعدون ذلك في نظرهم بدعة يحاربونها بكل ما لديهم من قوة، والغريب أننا لا نجد مثل هذا المظهر في بلد عربي غير مصر على تلك الصورة القوية.
وسنرى في درس متون العهد الديموطيقي البطلمي أن هؤلاء الأولياء والشهداء كانوا يُعامَلون معاملة السادة والآلهة، وكانت تُحبَس عليهم الأوقاف، وتقرب لهم القربات، وتقام لهم الصلوات كما هي الحال في مصرنا الحالية، وكما كان هناك أولياء ذكورًا وإناثًا في العهدين الفرعوني والبطلمي كذلك نجد أولياء ذكورًا وإناثًا في عهدنا الحاضر منذ ظهور الإسلام في مصر يقدَّسون بل ويعبدهم العامة؛ جهلًا منهم.
دلت الوثائق الديموطيقية التي درسناها — وهي التي ترجع إلى عهد البطالمة، وما قبله — على وجود أضرحة أولياء من كلا الجنسين، وقد جاء ذكرهم في عقود خاصة بوصايا أو بيع أو إيجار أو اتفاقات عن مدافن أو المحافظة على موميات، وكذلك جاء ذكرهم في عقود خاصة باستحقاقات أو مرتبات خاصة بأولئك الذين يقومون على خدمتهم.
والألفاظ الدالة على الأماكن التي يثوي فيها هؤلاء الأولياء ذكورًا كانوا أو إناثًا في الجبَّانة غامضة بعض الشيء من حيث المعنى، ولكن تدل شواهد الأحوال على أن الولي المتوفَّى كان يُدفَن في قبر (حت) وكان لهذا القبر بطبيعة الحال مقصورة أو ضريح (ست).
وأحيانًا كان يُبنَى للولي مقام كبير (ما) لإقامته فيه. هذا ونجد في المتون الديموطيقية كلمتين يعبران عن «الولي» أو الشيخ وهاتان الكلمتان هما «حرى» ومعناها «السيد» و«حسي» ومعناها المقرب، والكلمتان في معناهما تنطبقان على كلمة «ولي» كما نفهما الآن، فيقال مثلًا السيد البدوي وسيدي أبو الحجاج، وهذا ما نجده في الديموطيقية.
وإيضاحًا لذلك نورد هنا بعض الأمثلة التي جاءت في العقود الديموطيقية لهذا العهد البطلمي الأول، فلدينا عقد بيع أبرم في السنة الرابعة من حكم «بطليموس الأول» (302ق.م) جاء فيه أن حانوتي «أمنمؤبي» القاطن في الجهة الغربية من طيبة، باع بيتًا لربيبه أحد جنود معبد آمون، كما باع مدفنا (ست) في جبَّانة «جمي» (= مدينة هابو) كما باع بئرًا دفنه مع السماح بإدخال من يريد من أهله، وكذلك أعطاه القربات التي أتت من ريع أوقاف هذا المدفن الخاص بسيدنا (حرى) «إلهك»، ويقول المتن بعد ذلك إنه في الجهة الجنوبية توجد طريق تؤدي إلى قبر «أمنحوتب» (أي الملك «أمنحوتب الأول» أحد ملوك الأسرة الثامنة عشرة، وكان مؤلَّهًا عند المصريين، وبخاصة عند العمال الذين كانوا يقيمون في هذه الجهة) أو معبده الجنازي، وكان يقع على جوانب هذا الضريح ثلاثة أضرحة أخرى لأولياء آخرين؛ وهم: «بدى-حر-برع» إله البحارة، والولي «بانا»، والولي «باتف». هذا ونجد في المتن أن كلًّا منهم كان يُدعَى وليًّا أو شيخًا، ومن ثم فإنه من الجائز أن هؤلاء الأولياء كانوا متجمعين حول إلههم العظيم «أمنحوتب الأول» ناصر العمال في الأزمان القديمة (في دير المدينة).
ولدينا متن آخر مؤرخ بالسنة الرابعة والثلاثين من عهد «بطليموس الثاني» ذكر أن امرأة أوصت لابنها الذي كان يعمل حانوتيًّا لأمنمؤبي (آمون الأقصر) في غربي طيبة بنصيبها في بيتٍ على الشاطئ الشرقي لطيبة بالإضافة إلى نصيبها في بعض مقابر على الشاطئ الغربي مع نصيبها كذلك في أوليائي (الضمير للمرأة المتكلمة) الذين دفنوا فيها (أي المقابر) وكذلك نصيب «شهدائي» مع ريع أملاكهم التي حددت بالنسبة لكل شيء يُحصَّل منها الآن، وما سينتج لنا في المستقبل من أرض المعبد والبلد. ومن ثَم نفهم أن هؤلاء الأولياء والشهداء أو الآلهة على رأي المصريين كانت لهم ممتلكات محبوسة عليهم، أو مقررة لهم، سواء أكان ذلك من الأرض، أم من المعبد، أم المدينة.
هذا ونجد في عهد «بطليموس الثالث» أن حانوتيًّا قد نزل لابنه عن المقابر والموميات الآتية: (يقصد بذلك دخل الأوقاف التي حُبِست عليها) الولي «حر برع» الشهيد وعشيرته والقبر الذي دفن فيه أهله، وقبر «بدى حربرع» الحفار وعشيرته والولية «تيتا» وعشيرتها، وقبر «أسخومنوس» السيد، والشهيد ملكي المسمَّى «أبريز-خوى»، وقبر «جمروس» السيد وعشيرته، و«سحبمين» بن «باتو» وكل فرد تابع للولي «حر برع».
وإنه لمما يلفت النظر أن الكلمة الدالة على غريق، وهي «حسي» كانت في الأصل معناها الممدوح، والظاهر أنها تشير إلى فكرة أن الشخص المغرق قد ضحَّى بنفسه، وعمل ما هو مقبول عند الإله. ففي معبد «دندور» بإقليم بلاد النوبة نقرأ أن رجلين مؤلهين، وهما «بتيسى» و«بحور» كانا يعبدان في العهد الروماني في مصر، وكان كل منهما يلقب «حسي» (= المغرق) وكذلك كان يدعى كل منهما «حرى»، والكلمة الأخيرة كانت مخصصة بحية، ويقول الأثري «شتيندورف»:إنه اسم إله، ويميل الأستاذ «جرفث» إلى القول بأن الرجل أو المرأة يمكن أن ينعت بلفظة حسي «مغرق» وفي الوقت نفسه كان يحمل لقب «حرى» وبعد نقاش طويل استنبط أن لقب «حرى» كان يحصل عليه الرجل أو المرأة، وذلك بسبب أنه شهيد (حسي).
ويقول الأستاذ مصطفى الأمير: إنه — على ضوء براهين عدة في متناولنا الآن — يظهر أن لفظة «حرى» هي اللقب العادي، وذلك لوجودها بنسبة واحد إلى خمسة في الأمثلة التي عرفت حتى الآن، ولا بد إذن أنها كانت تحمل معنًى خاصًّا بها بصرف النظر عن مصاحبتها مع كلمة «حسي»، وعلى ذلك فإن نظرية «جرفث» لا تتفق مع هذا الرأي تمامًا، والرأي الأصوب هو أن كلمة «حرى» تعادل كلمة سيد وكلمة «حس» تقابل كلمة شهيد.
هذا وقد عرفنا من ثماني عشرة وثيقة من جبَّانة «طيبة» جاء فيها ذكر مائة وليٍّ وعشرين شهيدًا، كما عرفنا أن نسبة عدد الأولياء الذكور للنساء هي أربعة لواحدة، ونسبة عدد الشهداء للشهيدات بنسبة تسعة لواحدة، وهذه الوثائق جميعها عُثِر عليها في جبَّانة ذراع أبو النجا، ومن الغريب أنه في الوثائق الأخرى «الطيبية» التي عُثِر عليها في «دير المدينة» وهي الموجودة في متحف تورين لم يُذكَر فيها أولياء أو شهداء، والظاهر أن موقع أضرحة هؤلاء الأولياء والشهداء هو جبَّانة ذراع أبو النجا؛ وذلك لأجل أن يكونوا على مقربة من قبر الملك «أمنحوتب الأول» أو معبده الجنازي، لأنه كان يُعتبَر الإله الخاص لهذه الجبَّانة كما أشرنا إلى ذلك من قبل.
وفي اعتقادي أن هاتين العبادتين المختلفين أي عبادة الولي وعبادة الشهيد تمثلان المذهبين الهامين في الديانة المصرية القديمة؛ فعبادة الأولياء تمثل مذهب عبادة الشمس؛ أي المذهب الروحاني، وأن كلمة «حرى» مشتقة من كلمة حر أو حور الذي يُعتَبر مظهرًا من مظاهر الإله «رع» أو بعبارة أخرى المذهب الشمسي. أما عبادة الشهيد أي «حسي» فتمثل عبادة الإله «أوزير» أو العبادة الشعبية، وبخاصة عندما نعلم أن «أوزير» هو الإله المغرق، وكان يسمى مغرق المغرقين، أو بعبارة أخرى: شهيد الشهداء.
وتدل شواهد الأحوال على أن عبادة الأولياء وعبادة الشهداء كان قد زاد التمسك بها في زمن الاضطهاد الإمبراطوري، وبخاصة عندما نعلم أن معبد «دندور» ببلاد النوبة قد أقيم لعبادة الأخوين «بتيسى» و«فيلور» ولدي «كوبر» في تلك الفترة، وعلى أية حال لدينا صورة ناطقة للتضحية بالغرق في قصة «أنتينوس» Antinos الذي مات غرقًا؛ ليدفع الأذى عن عشيقه الإمبراطور «هدريان» وبذلك أصبح مؤلَّهًا في نظر الرومان.
ولا نزاع في أن تأليه الأشخاص لم يكن بالأمر الغريب عن الديانة المصرية القديمة، فقد رأينا أن الشعب المصري قد ألَّه «أمنحوتب» بن «حابو» في خلال الأسرة الثامنة عشرة، وبقيت ذكراه بوصفه إلهًا حتى العهد البطلمي. هذا وقد أسهب الأستاذ مصطفى الأمير في التحدث في موضوع الأولياء والشهداء لمن يريد المزيد.
الاكثر قراءة في العصور القديمة في مصر
اخر الاخبار
اخبار العتبة العباسية المقدسة