1

المرجع الالكتروني للمعلوماتية

الأدب

الشعر

العصر الجاهلي

العصر الاسلامي

العصر العباسي

العصر الاندلسي

العصور المتأخرة

العصر الحديث

النثر

النقد

النقد الحديث

النقد القديم

البلاغة

المعاني

البيان

البديع

العروض

تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب

الأدب الــعربــي : الأدب : الشعر : العصر الاندلسي :

فضائل الأندلس/ رسالة الشقندي في الدفاع عن الأندلس

المؤلف:  أحمد بن محمد المقري التلمساني

المصدر:  نفح الطِّيب من غصن الأندلس الرّطيب

الجزء والصفحة:  مج3، ص:186-221

2023-07-16

2383

رسالة الشقندي في الدفاع عن الأندلس

ثم قال ابن سعيد : أخبرني والدي قال : كنت يوما في مجلس صاحب سبتة أبي يحيى ابن أبي زكريا صهر ناصر بني عبد المؤمن ، فجرى بين أبي الوليد الشقندي وبين أبي يحيى ابن المعلم الطنجي نزاع في التفضيل بين البرين ، فقال الشقندي : لولا الأندلس لم يذكر بر العدوة ، ولا سارت عنه فضيلة ، ولولا التوقير للمجلس لقلت ما تعلم ، فقال الأمير أبو يحيى : أتريد أن تقول كون أهل برنا عربا وأهل بركم(1) بربر ؟ فقال : حاش الله ! فقال الأمير : والله ما أردت غير هذا، فظهر في وجهه أنه أراد ذلك ، فقال ابن المعلم : أتقول هذا وما الملك والفضل إلا من بر العدوة ؟ فقال الأمير : الرأي عندي أن يعمل كل واحد منكما رسالة في تفضيل بره ، فالكلام هنا يطول ويمر ضياعاً ، وأرجو إذا أخليتما له فكركما يصدر عنكما ما يحسن تخليده ، ففعلا ذلك :

 

186

فكانت رسالة الشقندي : الحمد لله الذي جعل لمن يفخر بجزيرة الأندلس(2) أن يتكلم ملء فيه ، ويطنب ما شاء فلا يجد من يعترض عليه ولا من يثنيه ، إذ لا يقال للنهار: يا مظلم، ولا لوجه النعيم: يا قبيح.

وقد وجدت مكان القول ذا سعة                  فإن وجدت لسانا قائلا فقل

أحمده على أن جعلني ممن أنشأته ، وحياني بأن كنت ممن أظهرته ، فامتد" في الفخر باعي ، وأعانني على الفضائل كرم طباعي ، وأصلي على سيدنا محمد نبيه الكريم ، وعلى آله وصحبه الأكرمين ، وأسلم تسليما.

أما بعد؛ فإنه حرك مني ساكنا ، وملأ مني فارغاً ، فخرجت عن سجيتي في الإغضاء، مكرها إلى الحمية والإباء، منازع في فضل الأندلس أراد أن يخرق الإجماع ، ويأتي(3) بما لا تقبله النواظر والأسماع ، إذ من رأى ومن سمع لا يجوز عنده(4) ذلك ، ولا يضله من تاه في تلك المسالك ، رام أن يفضل بر العدوة على بر الأندلس فرام(5) أن يفضل على اليمين اليسار ، ويقول : الليل أضوا من النهار ، فيا عجبا كيف قابل العوالي بالزجاج ، وصادم الصفاة(6) بالزجاج ، فيا من نفخ في غير ضرم ، ورام صيد البزاة بالرخم ، كيف تتكثر بما جعله الله قليلا ً ، وتتعزر بما حكم الله أن يكون ذليلا ً؟ ما هذه المباهتة التي لا تجوز ؟ وكيف تبدي أمام الفتاة العجوز ؟ سل العيون إلى وجه من" تميل ؟ واستخبر الأسماع إلى حديث من تصغي(7)؟

 

187

لشتان ما بين اليزيدين في الندى                    يزيد سليم والأغر بن حاتم

اقن حياءك أيتها المغرد(8) بالنحيب ، المتزين بالخلق المتحبب إلى الغواني بالمشيب الخضيب، أين عرب عقلك؟ وكيف نكص على عقبه(9) فهمك ولبك؟ أبلغت العصبية من قلبك ، أن تطمس على نوري(10) بصرك ولبك؟

أما قولك " الملوك منا" فقد كان الملوك منا أيضاً، وما نحن إلا كما قال الشاعر:

فيوم علينا ويوم لنا                             ويوم نساء ويوم نسر

إن كان الآن كرسي جميع بلاد المغرب عندكم بخلافة بني عبد المؤمن ، أدامها الله تعالى ، فقد كان عندنا بخلافة القرشيين الذين يقول مشرقيهم:

وإني من قوم كرام أعزة                       لأقدامهم صبغت رؤوس المنابر

خلائف في الإسلام في الشرك قادة                بهم وإليهم فخر كل مفاخر

ويقول مغربيهم(11):

ألسنا بني مروان كيف تبدلت                       بنا الحال أو دارت علينا الدوائر

إذا ولد المولود منا تهللت                              له الأرض واهتزت إليه المنابر

وقد نشأ في مدتهم من الفضلاء والشعراء ما اشتهر في الآفاق ، وصار أثبت في صحائف(12)الأيام ، من الأطواق في أعناق الحمام:

 

188

وسار مسير الشمس في كل بلدة                    وهب هبوب الريح في البر والبحر

 ولم تزل ملوكهم في الاتساق كما قيل:

إن الخلافة فيكم لم تزل نسقا                         كالعقد منظومة فيه فرائده

إلى أن حكم الله بنثر سلكهم ، وذهاب ملكهم ، فذهبوا وذهبت أخبارهم ، ود رسوا ودرست آثارهم(13):

جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم           بعد الممات جمال الكتب والسير

فكم مكرمة أنالوها ، وكم(14) عثرة أقالوها

وإنما المرء حديث بعده               فكن حديثا حسنا لمن" وعى

وكان من حسنات ملكهم المنصور بن أبي عامر ، وما أدراك ، الذي بلغ في بلاد النصاري غازياً إلى البحر الأخضر ، ولم يترك أسيراً في بلادهم من المسلمين ، ولم يبرح(15) في جيش الهرقل وعزمة الإسكندر ، ولما قضى نحبه كتب على قبره (16):

آثاره تنبيك عن أوصافه            حتى كأنك بالعيان تراه

تالله لا يأتي الزمان بمثله                      أبدا ولا يحمي الثغور سواه

 وقد قيل فيه من الأمداح، وألف له من الكتب ، ما سمعت وعلمت ، حتى قصد من بغداد ، وعم خيره وشره أقاصي (17) البلاد ، ولما ثار بعد انتشار

 

189

هذا النظام ملوك الطوائف وتفرقوا في البلاد ، كان في تفرقهم اجتماع" على النعم لفضلاء العباد ، إذ نفقوا سوق العلوم ، وتباروا في المثوبة على المنثور والمنظوم ، فما كان أعظم مباهاتهم إلا قول : العالم الفلاني عند الملك الفلاني ، والشاعر الفلاني مختص بالملك الفلاني ، وليس منهم إلا من بذل وسعه في المكارم ، ونبهت الأمداح من مآثره ما ليس طول الدهر بنائم ، وقد سمعت ما كان من الفتيان العامرية مجاهد ومنذر وخيران ، وسمعت عن الملوك العربية : بنو عباد وبنو صمادح وبنو الأفطس وبنو ذي النون وبنو هود ، كل منهم قد خلد فيه من الأمداح ، ما لو مدح به الليل لصار أضوأ من الصباح(18)، ولم تزل الشعراء تتهادى بينهم نهادي التواسم بين الرياض ، وتفتك في أموالهم فتكة" البراض ، حتى إن أحد شعرائهم بلغ به ما رآه من منافستهم في أمداحه أن حلف أن لا يمدح أحداً منهم بقصيدة إلا بمائة دينار ، وأن المعتضد بن عباد على ما اشتهر من سطوته وإفراط هيبته كلفه أن يمدحه بقصيدة فأبى حتى يعطيه ما شرطه(19) في قسمه ، ومن أعظم ما يحكى من المكارم التي لم تسمع أختاً أن أبا غالب اللغوي ألف كتاباً ، فبذل له مجاهد العامري متلك دانية ألف دينار ومركوباً وكسى على أن يجعل الكتاب باسمه ، فلم يقبل ذلك أبو غالب . وقال : كتاب ألفته لينتفع به الناس ، وأخلد فيه همتي ، أجعل في صدره اسم غيري ، وأصرف الفخر له ، لا أفعل ذلك ، فلما بلغ هذا مجاهداً استحسن أنفته وهمته ، وأضعف له العطاء ، وقال : هو في حل من أن يذكرني فيه ، لا نصده عن غرضه(20). وإن كان كل ملوك الأندلس المعروفين بملوك الطوائف قد تنازعوا في(21) ملاءة الحضر ، فإني أخص منهم بني عباد ، كما قال الله

 

190

تعالى { فيهما فاكهة ونخل ورمان }(الرحمن:68) فإن الأيام لم تزل بهم كأعياد، وكان لهم من الحنو على الأدب، ما لم يقم به بنو حمدان في حلب، وكانوا هم وبنوهم ووزراؤهم صدوراً في بلاغي النظم والنثر ، مشاركين في فنون العلم ، وآثارهم مذكورة ، وأخبارهم مشهورة ، وقد خلدوا من المكارم التامة ، ما هو متردد" في ألسن الخاصة والعامة ، وبالله إلا سميت لي بمن تفخرون قبل هذه الدعوة المهدية، أبسقوت(22) الحاجب؟ أم بصالح البرغواطي(23) أم بيوسف بن تاشفين الذي لولا توسط ابن عباد لشعراء الأندلس في مدحه ما أجروا له ذكراً ، ولا رفعوا لملكه قدراً؟ وبعدما ذكروه بوساطة المعتمد ابن عباد فإن المعتمد قال له ، وقد أنشدوه : أيعلم أمير المسلمين ما قالوه ؟ قال : لا أعلم ولكنهم يطلبون الخبز ، ولما انصرف عن المعتمد إلى حضرة ملكه كتب له المعتمد(24) رسالة فيها:

بنم وبنا فما ابتلت جوانحنا                           شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا

حالت لفقدكم أيامنا فغدت                         سودا وكانت بكم بيضا ليالينا

فلما قرئ عليه هذان البيتان قال للقارئ:

يطلب منا(25) جواري سوداً وبيضاً ، قال : لا يا مولانا ، ما أراد إلا أن ليله كان بقرب أمير المسلمين نهاراً لأن ليالي السرور بيض ، فعاد نهاره ببعده * ليلا لأن ايام الحزن ليال سود ، فقال : والله جيد ، اكتب له في جوابه : إن دموعنا

 

191

 

تجري عليه ورؤوسنا توجعنا من بعده ، فليت العباس بن الأحنف قد عاش حتى يتعلم من هذا الفاضل رقة الشوق:

ولا تنكرن مهما رأيت مقدماً                         على حمر بغلا فثم تناسب

فاسكتوا(26) فلولا هذه الدولة، لما كان لكم على الناس صولة:

وإن الورد يقطف من قتاد                             وإن النار تقبس من رماد

وإنك إن تعرضت للمفاضلة بالعلماء(27) فأخبرني : هل لكم في الفقه مثل عبد الملك بن حبيب الذي يعمل بأقواله إلى الآن ، ومثل أبي الوليد الباجي ، ومثل أبي بكر ابن العربي ، ومثل أبي الوليد ابن رشد الأكبر ، ومثل أبي الوليد ابن رشد الأصغر ؟ وهو ابن ابن الأكبر ، نجوم الإسلام ، ومصابيح شريعة محمد عليه السلام ، وهل لكم في الحفظ مثل أبي محمد ابن حزم الذي زهد في الوزارة والمال ومال" إلى رتبة العلم ، ورآها فوق كل رتبة ، وقال وقد أحرقت كتبه(28):

دعوني من إحراق رق وكاغد              وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري

فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي   تضمنه القرطاس إذ هو في صدري

ومثل أبي عمر ابن عبد البر صاحب  " الاستذكار " و " التمهيد " ومثل أبي بكر ابن الحد حافظ الأندلس في هذه الدولة ، وهل لكم في حفاظ اللغة كابن سیده صاحب كتاب " المحكم " وكتاب " السماء والعالم " الذي إن أعمى الله بصره فما أعمى بصيرته ، وهل لكم في النحو مثل أبي محمد ابن السيد وتصانيفه ؟ ومثل ابن الطراوة ، ومثل أبي علي الشلوبين الذي بين أظهرنا الآن ، وقد سار في المغارب والمشارق ذكره ، وهل لكم في علوم اللحون والفلسفة كابن باجة،

 

192

وهل لكم في علم النجوم والفلسفة والهندسة ملك كالمقتدر بن هود صاحب سرقسطة ، فإنه كان في ذلك آية ؟ وهل لكم في الطب مثل ابن طفيل صاحب رسالة و حي بن يقظان ، المقدم في علم(29) الفلسفة ، ومثل بني زهر أبي العلاء ثم ابنه عبد الملك ثم ابنه أبي بكر ثلاثة على نسق ؟ وهل لكم في علم التاريخ كابن حيان صاحب " المتين " و " المقتبس "؟ وهل عندكم في رؤساء علم الأدب مثل أبي عمر بن عبد ربه صاحب و العقد ، ؟ وهل لكم في الاعتناء بتخليد مآثر فضلاء إقليمه والاجتهاد في حشد محاسنهم مثل ابن بسام صاحب و الذخيرة ؟ وهب أنه كان يكون لكم مثله فما تصنع الكنيسة في البيت الفارغ ؟ وهل لكم في بلاغة النثر كالفتح بن عبيد الله الذي إن مدح رفع ، وإن ذم وضع ، وقد ظهر له من ذلك في كتاب  " القلائد " ما هو أعدل شاهد ، ومثل ابن أبي الخصال في ترسيله ، ومثل أبي الحسن سهل بن مالك الذي بين أظهرنا الآن في خطبه ، وهل لكم في الشعر ملك مثل المعتمد بن عباد في قوله (30):

وليل بسد النهر انسا قطعته                           بذات سوار مثل منعطف النهر

نضت بردها عن غصن بان منعم                  فيا حسن ما انشق الكمام عن الزهر

وقوله في أبيه(31):

سميدع يهب الآلاف مبتدئاً                 وبعد ذلك يلفى وهو يعتذر(32)

له يد كل جبار يقبلها                          لولا نداها لقلنا إنها الحجر

ومثل ابنه الراضي(33)في قوله:

 

193

مروا بنا أصلا من غير ميعاد                         فأوقدوا نار قلبي أي إيقاد

لا غرو أن زاد في وجدي مرورهم                          فرؤية الماء تذكي غلة الصادي

وهل لكم ملك ألف في فنون الآداب كتاباً في نحو مائة مجلدة مثل المظفر ابن الأفطس ملك بطليوس ولم تشغله الحروب ولا المملكة عن همة الأدب ؟ وهل لكم من الوزراء مثل ابن عمار في قصيدته التي سارت أشرد من مثل ، وأحب إلى الأسماع من لقاء حبيب وصل ؟ التي منها(34):

أثمرت رمحك من رؤوس ملوكهم                لما رأيت الغصن يعشق مثمرا

وصبغت درعك من دماء كماتهم                   لما رأيت الحسن يلبس أحمرا

 ومثل ابن زيدون في قصيدته التي لم يقتل" مع طولها في النسيب أرق منها ، وهي التي يقول فيها:

 

كأننا لم نبت والوصل ثالثنا                  والسعد قد غض من أجفان واشيئا

سران في خاطر الظلماء يكتمنا             حتى يكاد لسان الصبح يفشينا

وهل لكم من الشعراء مثل ابن وهبون في بديهته بين يدي المعتمد بن عباد وإصابته الغرض حين استحسن المعتمد قول المتنبي:

إذا ظفرت منك المطي بنظرة                أثاب بها معنيي المطي ورازمه

فارتجل:

لئن جاد شعر ابن الحسين فإنما             تجيد العطايا واللها تفتح اللهـا

تنبأ عجباً بالقريض ولو درى              بأنك تروي شعره لتألها

 

194

وهل لكم مثل شاعر الأندلس ابن دراج الذي قال فيه الثعالبي(35) هو بالصقع الأندلسي كالمتنبي بصقع الشام الذي إن مدح الملوك قال مثل قوله(36):

ألم تعلمي أن التواء هو التوى              وأن بيوت العاجزين قبور

وأن خطيرات المهالك ضمن                        لراكبها أن الجزاء خطير

تخوفني طول السفار وإنه                              بتقبيل كف العامري جدير(37)

مجير الهدى والدين من كل ملحد                  وليس عليه للضلال مجير

تلاقت عليه من تميم ويعرب                        شموس تلاقت في العلا وبدور

هم يستقلون الحياة لراغب                           ويستصغرون الحطب وهو كبير

ولما توافوا للسلام ورفعت                           عن الشمس في أفق الشروق استور

وقد قام من زرق الأسنة دونها            صفوف ومن بيض السيوف سطور

رأوا ساعة الرحمن كيف اعتزازها                  آيات صنع الله كيف تنير

وكيف استوى بالبر والبحر مجلس                وقام بعبء الراسيات سرير

فجاءوا عجالا والقلوب خوافق                   وولوا بطاء والنواظر صور

يقولون والإجلال يخرس ألسنا           وحازت عيون ملأها وصدور

لقد حاط أعلام الهدى بك حائط                  وقدر فيك المكرمات قدير

 

وأنا أقسم بما حازته هذه الأبيات ، من غرائب الآيات ، لو سمع هذا المدح سيد بني حمدان لسلا به عن مدح شاعره الذي ساد كل شاعر ، ورأى أن هذه الطريقة أولى بمدح الملوك من كل ما تفنن فيه كل ناظم وناثر.

وإن ذكر الغربة عن الأوطان ، ومكابدة نوائب الزمان، قال(38) :

 

195

قالت وقد مزج الفراق مدامعاً            بمدامع وترائبـا بترائب

أتفترق حتى بمنزل غربة                     كم نحن للأيتام نهبة ناهب

ولئن جنيت عليك ترحة راحل           فأنا الزعيم لها بفرحة آيب

هل أبصرت عيناك بدرا طالعاً             في الأفق إلا من هلال غارب

 

وإن شبه قال(39):

كمعاقل من سوسن قد شيدت                     أيدي الربيع بناءها فوق القضب

شرفاتها من فضة وحماتها                     حول الأمير لهم سيوف من ذهب

وهل من شعراتكم من تعرض للذكر العفة فاستنبط ما يسحر به السحر ، ويطيب به الزهر ، وهو أبو عمر ابن فرج في قوله(40):

وطائعة الوصال عففت عنها                        وما الشيطان فيها بالمطاع

بدت في الليل سافرة فباتت                          دياجي الليل سافرة القناع

وما من لحظة إلا وفيها                        إلى فتن القلوب لها دواعي

فملكت النهى جمحات شوقي                      لأجري في العفاف على طباعي

وبت بها مبيت السقب(41) يظما                  فيمنعه الكعام من الرضاع

كذاك الروض ما فيه لمثلي                              سوى نظر وشم من متاع

ولست من السوائم مهملات                       فأتخذ الرياض من المراعي

 

وهل بلغ أحد من مشتبهي شعرائكم أن يقول مثل قول أبي جعفر اللمائي(42):

 

196

عارض أقبل في جنح الدجى                        يتهادى كتهادي ذي الوجى

بددت(43) ريح الصبا لؤلؤه                       فانبرى يوقد عنها سرجا

ومثل قول أبي حفص ابن برد(44):

وكأن الليل حين لوي                                   ذاهبا(45) والصبح قد لاحا

كلة سوداء أحرقها                                       عامد أسرج مصباحا

وهل منكم من وصف ما تحدثه الخمرة من الحمرة على الوجنة بمثل قول الشريف الطليق(46):

أصبحت شمسا وفوه مغربا                ويد الساقي المحيني مشرقا

وإذا ما غربت في فمه                          تركت في الحد منه شفقا

بمثل هذا الشعر(47) فليطلق اللسان ويفخر(48) كل إنسان.

وهل منكم من عمد إلى قول امرئ القيس(49):

سموت إليها بعد ما نام أهلها                       سمو حباب الماء حالا على حال

فاختلسه اختلاس النسيم لنفحة الأزهار، واستلبه(50) بلطف استلاب ثغر الشمس لرضاب طل الأسحار ، فلطفه تلطيفاً يمتزج بالأرواح ، ويغني في

 

197

الارتياح عن شرب الراح ، وهو ابن شهيد في قوله(51):

 

ولما تملأ من سكره                     ونام ونامت عيون الحرس

دنوت إليه على رقبة(52)                   دنو رفيق درى ما التمس

أدب إليه دبيب الكرى              وأسمو إليه سمو النفس

أقبل منه بياض الطلى                 وأرشف منه سواد اللعس

فيت به ليلتي ناعماً                     إلى أن تبسم ثغر الغلس

وقد تناول هذا المعنى ابن أبي ربيعة على عظم قدره وتقدمه فعارض الصهيل ، وقابل العذب بالزعاق ، فقال وليته سكت:

ونفضت عني العين أقبلت مشية الـ               حباب وركني خيفة القوم أزور

وأنا أقسم(53) لو زار جمل محبوبة له لكان ألطف في الزيارة من هذا الأزور الركن المنفض للعيون ، لكنه إن أساء هنا فقد أحسن في قوله(54):

قالت لقد أعييتنا حجة                        فأت إذا ما هجع الساهر

واسقط علينا كسقوط الندى               ليلة لا ناه ولا زاجر

ولله در محمد بن سفر أحد شعرائنا المتأخرين عصراً ، المتقدمين قدرا أن حيث نقل السعي إلى محبوبته فقال وليته لم يزل يقول مثل هذا ، فبمثله ينبغي يتكلم ، ومثله يليق أن يدون:

 

198

وواعدتها والشمس تجنح للنوى                   بزورتها شمسا وبدر الدجى يسري

فجاءت كما يمشي سنا الصبح في الدجى       وطوراً كما مر النسيم على النهر

فعطرت الآفاق حولي فأشعرت            بمقدمها والعرف يشعر بالزهر

فتابعت بالتقبيل آثار سعيها                          كما يتقصى قارئ أحرف السطر

ثبت بها والليل قد نام والهوى             تنبه بين الغصن والحقـف والبدر

أعانقها طوراً والثم تارة                      إلى أن دعتنا للنوى راية الفجر

وهل منكم من قيد بالإحسان فأطلق لسانه الشكر، فقال وهو ابن اللبانة(55):

بنفسي وأهلي جيرة ما استعنتهم           على الدهر إلا وانثنيت معانا

أراشوا جناحي ثم بلوه بالندى            فلم أستطع من أرضهم طيرانا

ومن يقول وقد قطع عنه ممدوحه ما كان يعتاده منه من الإحسان، فقابل ذلك بقطع مدحه له ، فبلغه أنته عتبه على ذلك ، وهو ابن وضاح (56):

هل كنت إلا طائراً بثنائكم                            في دوح مجدكم أقوم وأقعد

إن تسلبوني ريشكم وتقلصوا                        عني ظلالكم فكيف أغرد

وهل منكم شاعر رأى الناس قد ضجوا من سماع تشبيه الثغر بالأقاح ، وتشبيه الزهر بالنجوم ، وتشبيه الحدود بالشقائق ، فتلطف لذلك في أن يأتي به في منزع يصير خلقه في الأسماع جديداً ، وكليله في الأفكار حديدا ، فأغرب أحسن إغراب ، وأعرب عن فهمه بحسن تخيله أنبل إعراب ، وهو ابن الزقاق(57):

199

قد وضحا نفحا

وأغنيد طاف بالكؤوس ضحى           وحثها والصباح قد وضحا

والروض أهدى لنا شقائقه                           واسه العنبري قد نفحا

قلنا : وأين الأقاح ؟ قال لنا:                         أودعته ثغر من سقى القدحا

فظل ساقي المدام يجحد ما                            قال فلما تبسم افتضحا

وقال :

أديراها على الروض المندى                 وحكم الصبح في الظلماء ماضي

وكأس الراح تنظر عن حباب              ينوب لنا عن الحدق المراض

وما غربت نجوم الأفق لكن               نقلن من السماء إلى الرياض

وقال :

ورياض من الشقائق أضحت             يتهادى بها نسيم الرياح

زرتها والغمام يجلد منها                       زهرات تروق لون الراح

قلت : ما ذنبها ؟ فقال مجيبا:               سرقت حمرة الحدود الملاح

فانظر كيف زاحم بهذا الاختيال المخترعين ؟ وكيف سابق بهذا اللفظ المبتدعين؟

وهل منكم من برع في أوصاف الرياض والمياه وما يتعلق بذلك فانتهى إلى راية السباق ، وفضح كل من طمع بعده في اللحاق ، وهو أبو إسحاق ابن خفاجة القائل(58):

وعشي أنس أضجعتنا نشوة                          فيها يمهد مضجعي ويدمث

خلعت علي بها الأراكة ظلها                         والغصن يصفي والحمام يحدث

 

200

والشمس تجنح للغروب مريضة                   والرعد يرقي والغمامة تنفث

والقائل :

حث المدامة والنسيم عليل                  والظل خفاق الرواق ظليل      

والروض مهتز المعاطف نعمة   نشوان تعطفه الصبا فيميل

ريان فضضه الندى ثم انجلى               عنه فذهب صفحتيه أصيل

والقائل:

أذن الغمام بديمة وعقار             فامزج لحينا منهما بنضار

واربع على حكم الربيع بأجرع        هزج الندامى مفصح الأطيار

نثرت بحجر الروض فيه يد الصبا       درر الندى ودراهم الأنوار

وهفت بتغريد هنالك أيكة                  خفاقة بمهب ريح عرار

هزت له أعطافها ولربما            خلعت عليه ملاءة النوار(59)

 

201

 

والقائل :

سفيا لها من بطاح خز                          ودوح بها مطل

إذ لا ترى غير وجه شمس                           أطل فيه عذار ظل

القائل :

نهر كما سال اللمى سلسال                           وصيا بليل ذيلها مكسال

ومهب نفحة روضة مطلولة                         في جانبيها للنسيم مجال

غازلتها والأقحوانة متبسم                           والآس صدغ والبنفسج خال

والقائل :

وساق كحيل اللحظ في شأو حسنه              جماح وبالصبر الجميل حيران

ترى للصبا ناراً بخديه لم يشر              لها من سوادي عارضيه دخان

سقاها وقد لاح الهلال عشية                        كما اعوج في درع الكمي سنان

وقد جال من(60) جون الغمامة أدهم          له البرق سوط والشمال عنان

وضمخ ردع(61) الشمس نحر حديقة        عليه من الطل السقيط جمان

ونمت بأسرار الرياض خميلة                لها النور ثغر والنسيم لسان

 

والقائل في وصف فرس ولم يخرج عن طريقته:

وأشقر تضرم منه الوغى                     بشعلة من شعل الباس

من جلنار ناضر لونه                                    وأذنه من ورق الآس

يطلع للغرة في شقرة                                     حبابة تضحك في كاس

 

202

وهل منكم من يقول منادماً لنديمه وقد باكر روضاً بمحبوب وكأس ، فألفاه قد غطى محاسنه ضباب ، فخاف أن يكسل نديمه عن الوصول إذا رأى ذلك ، وهو أبو الحسن ابن بسام (62):

الا بادر فما كان سوى ما                      عهدت الكأس والبدر التمام

ولا تكسل برؤيته ضباباً                     تغص(63) به الحديقة والمدام

فإن الروض ملتم إلى أن                      توافيه فينحط اللثـام

وهل منكم من تغزل في غلام حائك بمثل قول الرصافي(64):

قالوا وقد أكثروا في حبه عد لي             لو لم تهم بمدال القدر مبتذل

فقلت: لو كان أمري في الصبابة لي                لاخترت ذاك ، ولكن ليس ذلك لي

علقته حببي الثغر عاطره                     حلو اللمى ساحر الأجفان والمقل

غزيل لم تزل في الغزل جائلة                بنائه جولان الفكر في الغزل

جذلان تلعب بالمحواك أنمله              على السدى لعب الأيام بالأمل

ضمنا بكفتيه أو فحصاً بأخمصه           تخبط الظبي في أشراك محتبل

ومثل قوله في تغلب مسكة الظلام على خلوق الأصيل(65):

وعشي رائق منظـره                             قد قطعناه على صرف الشمول

وكان الشمس في أثنائه                        ألصقت بالأرض خدا للنزول

والصبا ترفع أذيال الربى                     ومحيا الجو كالنهر الصقيل

حبذا منزلنا مغتبقا                              حيث لا يطرقنا غير الهديل

 

203

طائر شاد وغصن منن                         والدجى تشرب صهباء الأصيل

وهل منكم من يقول في موشح فيما يجره هذا المعنى:

ورداء الأصيـل                تطويه كف الظلام

وهو أبو قاسم ابن الفرس(66).

وهل منكم من وصف غلاما جميل الصورة راقصاً بمثل قول ابن خروف(67):

ومنتزع(68) الحركات يلعب بالنهى            لبس المحاسن عند خلع لباسه

متأودا كالغصن وسط رياضه                       متلاعباً كالظبي عند كناسه

بالعقل يلعب مقبلا أو مدبرا                        كالدهر يلعب كيف شاء بناسه

ويضم للقدمين منه رأسه                    كالسيف ضم ذبابته لرئاسه

وهل منكم من وصف خالا بأحسن من قول النشار(69):

ألوامي على كلفي بيحيى                     منى مين حبه أرجو سراحا

وبين الخد والشفتين خال                              كزنجي أتى روضاً صباحا

تحير في جناه فليس يدري                              أيجني الورد أم يجني الأقاحا

وهل منكم الذي اهتدى إلى معنى في لثم وردة الحد ورشف رضاب الثغر لم يهتد إليه أحد غيره ، وهو أبو الحسن سلام بن سلام المالقي(70) في قوله:

 

204

لما ظفرت بليلة من وصله                             والصب غير الوصل لا يشفيه

أنضجت وردة خده بتنفسي                          وطفقت أرشف ماءها من فيه

وهل منكم من هجا من غير النطق بإقذاع فبلغ ما لم يبلغه المقذع ، وهو المخزومي في قوله(71):

بود عيسى نزول عيسى                       عساه من دائه بريح

وموضع الداء منه عضو                      لا يرتضي مسه المسيح

ولما أقذع أتى أيضا بأبدع ، فقال:

زدت على موسى وآياته                      تفجر الماء وتخفي العصا

وهل منكم من مدح بمعنى فبلغ به النهاية من المدح ، ثم نقله إلى الهجاء فبلغ به النهاية من الذم ، وهو اليكي(72) في قوله مادحا:

قوم لهم شرف العلا في حمير                وإذا انتموا لمتونة فهم هم

لما حووا أحراز كل فضيلة                   غلب الحياء عليهم فتلثموا

وفي قوله هاجيا :

إن المرابط باخل بنواله                        لكنه بعياله يتكرم

 

205

الوجه منه مخلق بقبيح ما                     يأتيه فهو من أجله يتلثم

وهل منكم من هجا أشتر العين بمثل قول أبي العباس ابن حنون(73) الإشبيلي:

يا طلعة أبدت قبائح جمة                      فالكل منها إن نظرت قبيح

ابعينك الشتراء عين ثرة                      منها ترقرق دمعها المسفوح

شترت فقلنا: زورق في لجة                           مالت بإحدى دفتيه الريح

وكأنمـا إنسانهـا ملاحها                      قد خاف من غرق فظل يميح

وهل منكم من حضر مع عدو له جاحد لما فعله معه من الخير ، وأمامهما زجاجة سوداء فيها خمر ، فقال له الحسود المذكور : إن كنت شاعراً فقل في هذه ، فقال ارتجالا، وهو ابن مجبر(74):

سأشكو إلى الندمان أمر زجاجة                    تردت بثوب حالك اللون أستحم

نصب بها شمس المدامة بيننا                         فتغرب في جنح من الليل مظلم

وتجحد أنوار الحميا بلونها                             كقلب حسود جاحد بد منعم

وهل منكم من قال لفاضل جمع بينه وبين فاضل ، وهو أبو جعفر الذهبي(75):

 

206

أيتها الفاضل الذي قد هداني                        نحو من قد حمدته باختبار

شكر الله ما أتيت وجازا                      ك ولا زلت نجم هدى لساري

أي برق أفاد أي غمام                          وصبـاح أدى لضوء نهار

وإذا ما غدا النسيم دليلي                     لم يحلني إلا على الأزهار

وهل منكم أعمى قال في ذهاب بصره وسواد شعره، وهو التطيلي(76):

أما اشتقت مني الأيام في وطني           حتى تضايق فيما عن من وطري

ولا قضت من سواد العين حاجتها               حتى تكر على ما طل في الشعر

وهل منكم الذي طار في مشارق الأرض ومغاربها قوله ، وهو أبو القاسم محمد بن هانئ الإلبيري :

فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر                         وأمدكم فلق الصباح المسفر

وجنيتم تمر الوقائع يانعاً                      بالنصر من ورق الحديد الأخضر

وقد سمعت فائيته في النجوم ولولا طولها لأنشدتها هنا ، فإنها أحسن ما قيل في معناها.

وهل منكم من قال في الزهد مثل قول أبي وهب العباسي القرطبي(77):

أنا في حالتي التي قد تراني                             إن تأملت أحسن الناس حالا

منزلي حيث شئت من مستقر الـ           أرض أستقي من المياه زلالا

ليس لي كسوة أخاف عليها                           من مغير ولا ترى لي مالا

أجمل الساعد اليمين وسادي                         ثم أثني إذا انقلبت الشمالا

 

 

207

ليس لي والد ولا لي مولود                   ولا حزت مذ عقلت عيالا

قد تلذذت حقبة (78) بأمور              فتأملتها(79) فكانت خيالا

ومثل قول أبي محمد عبد الله بن العسال الطليطلي (80):

 

انظر الدنيا فإن أبـ                      صرتها شيئا يدوم

فاغد منها في أمان                      ان يساعدك النعيم

وإذا أبصرتها منك                     على كره تهيم

فاسل عنها واطرحها                 وارتحل حيث تقيم

وهل نشأ عندكم من النساء مثل ولادة المروانية(81) التي تقول مداعبة للوزير ابن زيدون ، وكان له غلام اسمه " علي ":

ما لابن زيدون على فضله                             يغتابني ظلماً ولا ذنب لي

ومثل زينب بنت زياد المؤدب الوادي آشية التي تقول:

ولما أبي الواشون إلا فراقنا                            وما لهم عندي وعندك من ثار

وشنوا على أسماعنا كل غارة                وقتل حماتي عند ذاك وأنصاري

غزوتهم من مقلتيك وأدمعي                        ومن نفسي بالسيف والماء والنار

وأنا أختم هذه القطع المتخيرة بقول أبي بكر ابن بقي ليكون الختام مسكا(82):

 

 

208

وضممته الكمي نشانه             

عاطيته والليل ذيله                             صهباء كالمسك الفتيق لناشق

وضممته ضم الكمي لسيفه                وذؤابتاه حمائل في عاتقي

حتى إذا مالت به سنة الكرى              زحزحته شيئا وكان معانقي

باعدته(83) عن أضلع تشتاقه            كيلا ينام على وساد خافق

وبقول القاضي أبي حفص ابن عمر القرطبي(84):

هم نظروا لواحظها فهاموا                  وتشرب لب شاربها المدام

يخاف الناس مثقلتها سواها                 أيذعر قلب حامله الحسام

سما طرفي إليها وهو باك            وتحت الشمس ينسكب الغمام

وأذكر قدها فأنوح وجداً           على الأغصان تنتدب الحمام

وأعقب بينها في الصدر غما                 إذا غربت ذكاء أتى الظلام

وقد أطلت عينان النظم(85)، على أني اكتفيت عن الاستدلال على النهار بالصباح ، فبالله إلا ما أخبرتني(86): من شاعركم الذي تقابلون" به شاعراً ممن ذكرت ؟ لا أعرف لكم أشهر ذكراً ، وأضخم شعراً ، من أبي العباس الجراوي ،

 

209

وأولى لكم أن تجحدوا فخره ، وتنسوا ذكره ، فقد كفاكم ما جرى من الفضيحة عليكم في قوله من قصيدة يمدح بها خليفة:

إذا كان أملاك الزمان أراقماً                           فإنك فيهم دائم الدهر ثعبان

فما أقبح ما وقع " ثعبان " وما أضعف ما جاء و دائم الدهر ، ، ولقد أنشدت أحد ظرفاء الأندلس هذا البيت ، فقال : لا ينكر هذا على مثل الجراوي ، فسبحان من جعل نسبه وروحه وشعره تتناسب في الثقالة(87).

وإن أردت الافتخار بالفرسان ، والتفاضل بالشجعان ، فمن كان قبلنا منهم في مدة المنصور بن أبي عامر ومدة ملوك الطوائف أخبارهم مشهورة، وآثارهم مذكورة ، وكفاك من أبطال عصرنا ما سمعت عن الأمير أبي عبد الله ابن مردنيش وأنه كان يدفع في المواكب ويشقها يمينا ويسارا منشداً:

أكر على الكتيبة لا أبالي             أحتفي كان فيها أم سواها

حتى إنه دفع يوماً في موكب من النصارى فصرع وقتل ، وظهر منه ما أعجبت به نفسه ، فقال لشيخ من خواصه عالم بأمور الحرب مشهور بها : كيف رأيت ؟ فقال له لو رآك السلطان زاد فينا لك في بيت المال ، وأعلى مرتبتك ، أمن يكون رأس جيش يقدم هذا الإقدام ، ويتعرض بهلاك نفسه إلى هلاك جيشه(88)؟ فقال له : دعني فإني لا أموت مرتين ، وإذا مت أنا فلا عاش من بعدي.

والقائد أبو عبد الله ابن قادس الذي اشتهر من شجاعته ومواقعه في النصارى وحسن بلائه ما صير النصارى من رعبه والإقرار بفضله في هذا الشأن أن يقول

 

210

أحدهم لفرسه إذا سقاه فلم يقبل على الماء : ما لك ؟ أرأيت ابن قادس في الماء ؟ وهذه مرتبة عظيمة:

                                      والفضل ما شهدت به الأعداء

 

ولقد أخبرني من أثق به أنه خرج من عسكر في كتيبة مجردة برسم الغارة على بلاد النصارى فوقع في جمع كبير منهم ، فجهد جهده في الخلاص منهم والرجوع إلى العسكر ، فجعل يقاتل مع أصحابه في حالة الفرار إلى أن كبا بأحد جنده فرسه ، وفر عنه ، فناداه مستغيثاً ، فقال اصبر ، ثم نظر إلى فارس من النصارى قد طرق فقال : اجر إلى هذا النصراني فخذ فرسه ، وركض نحوه فأسقطه ، وقال لصاحبه : ا ، ، فركب ونجا معه سالما ؛ وأمثال هذا كثير وإنما جئت بحصاة من ثبير.

وأما كرم النفس وشمائل الرياسة ، فأنا أحكي لك حكاية تتعجب منها ، وهي مما جرى في عصرنا ، وذلك أن أبا بكر ابن زهر نشأت بينه وبين الحافظ أبي بكر ابن الجد عداوة مفرطة للاشتراك في العلم والرياسة وكثرة المال والبلدية(89)، فأجرى ابن زهر يوما ذكره في جماعة من أصحابه ، وقال لقد آذانا هذا الرجل أشد أذية ، ولم يقصر في القول عند أمير المؤمنين وعند خواص الناس وعوامهم فقال له أحد عوامهم : إني(90) أذكر لك عليه عقداً فيه مخاصمة في موضع مما يعز عليه من مواضعه ، ومتى خاصمته في ذلك بلغت منه في النكاية أشد مبلغ ، فحرج ابن زهر ، وأظهر الغضب الشديد ، والإنكار لذلك ، وقال لوكيله : أمثلي يجازي على العداوة بما يجازي به السفل والأوباش ؟ وإني أجعل ابن الجد في حل من موضع الخصام ، وأمر بأن يحمل له العقد، ثم قال: وإني

 

211

 

والله ما أروم بذلك أن أصالحه ، فإن عداوته من حسد ، وأنا أسأل الله تعالى أن يديمها لأنها مقترنة بدوام نعم الله علي.

وإن تعرضت إلى ذكر البلاد ، وتفسير محاسنها، وما خصها الله تعالى به مما حرمها غيرها ، فاسمع ما يميت الحسود كمدا:

أما إشبيلية فمن محاسنها اعتدال الهواء ، وحسن المباني ، وتزيين الخارج والداخل ، وتمكن التمصر ، حتى إن العامة تقول : لو طلب لبن الطير في إشبيلية وجد ، ونهرها الأعظم الذي يصعد المد فيه اثنين وسبعين ميلا ثم يحسر ، وفيه يقول ابن سفر:

شق النسيم عليه جيب قميصه            فانساب من شطيه يطلب ثاره

فتضاحكت ورق الحمام بدوحها                   هزها فضم من الحياء إزاره

وزيادته على الأنهار كون ضفتيه مطرزتين(91) بالمنازه والبساتين والكروم والأنشام(92) متصل ذلك اتصالا لا يوجد على غيره.

وأخبرني شخص من الأكياس دخل مصر وقد سألته عن نيلها أنه (93) لا تتصل بشطيه البساتين والمنازه اتصالها بنهر إشبيلية ، وكذلك أخبرني شخص آخر دخل بغداد ، وقد سعد هذا الوادي بكونه لا يخلو من مسرة ، وأن أدوات الطرب وشرب الخمر فيه غير منكر لا ناه عن ذلك ولا منتقد ، ما لم يؤد السكر إلى شر وعربدة ، وقد رام من وليها من الولاة المظهرين للدين قطع ذلك ، فلم يستطيعوا إزالته ، وأهله أخف الناس أرواحاً ، وأطبعهم نوادر ، وأحملهم لمزاح بأقبح ما يكون من السب ، قد مرنوا على ذلك ، فصار لهم ديد نا حتى صار عندهم من لا يبتذل فيه ولا يتلاعن ممقوتاً ثقيلا" . وقد سمعت عن شرف إشبيلية الذي ذكره أحد الوشاحين في موشحة مدح بها المعتضد بن عباد :

 

212

إشبيليا عروساً وبعلها عباد

وتاجها الشرف وسلكها الواد

 

أي شرف قد حاز ما شاء من الشرف إذ عم أقطار الأرض خيره ، وسفر ما يعصر من زيتونه من الزيت حتى بلغ الإسكندرية وتزيد قراه على غيرها من القرى بانتخاب مبانيها ، وتهمتم سكانها فيها داخلا وخارجاً ، إذ هي من تبيضهم لها نجوم في سماء الزيتون.

وقيل لأحد من رأى مصر والشام أيتها رأيت أحسن هذان أم إشبيلية ؟ فقال بعد تفضيل إشبيلية : وشرفها غابة بلا أسد ، ونهرها نيل بلا تمساح . وقد سمعت عن جبال الرحمة بخارجها ، وكثرة ما فيها من التين القوطي والشعري ، وهذان الصنفان أجمع المتجولون في أقطار الأرض أن ليس في غير إشبيلية مثل" لهما ، وقد سمعت ما في هذا البلد من أصناف أدوات الطرب كالخيال والكريج والعود والروطة والرباب والقانون والمؤنس(94) والكثيرة(95) والفنار(96) والزلامي والشقرة(97)، والثورة - وهما مزماران الواحد غليظ الصوت والآخر رقيقه – والبوق(98)، وإن كان جميع هذا موجوداً في غيرها من بلاد الأندلس فإنه فيها أكثر وأوجد ، وليس في بر العدوة من هذا شيء إلا ما جلب إليه(99) من الأندلس وحسبهم الدف وأقوال واليرا وأبو قرون ودبدبة السودان وحماقي البرابر ، وأما جواريها ومراكبها برا وبحراً ومطابخها وفواكهها الخضراء واليابسة فأصناف

 

213

أخذت من التفضيل بأوفر نصيب ، وأما مبانيها فقد سمعت عن إتقانها واهتمام أصحابها بها وكون أكثر ديارها لا تخلو من الماء الجاري والأشجار المتكاثفة كالنارنج والليم والليمون والزنبوع وغير ذلك ، وأما علماؤها في كل صنف رفيع أو وضيع جدا أو هزلا" فأكثر من أن يعد وا ، وأشهر من أن يتذكروا ، وأما ما فيها من الشعراء والوشاحين والزجالين فما لو قسموا على بر العدوة ضاق بهم . والكل ينالون خير رؤسائها ورفدهم ، وما من جميع ما ذكرت في هذه البلدة الشريفة إلا وقصدي به العبارة عن فضائل جميع الأندلس ، فما تخلو بلادها من ذلك ، ولكن جعلت إشبيلية ، بل الله جعلتهـا أم تراها ، ومركز فخرها وعلاها ، إذ هي أكبر مدنها ، وأعظم أمصارها . وأما قرطبة فكرسي المملكة في القديم ، ومركز العلم ومنار التقى ومحل التعظيم والتقديم ، بها استقرت ملوك الفتح وعظماؤه ، ثم الملوك المروانية وبها كان يحيى بن يحيى راوية مالك ، وعبد الملك بن حبيب ، وقد سمعت من تعظيم أهلها للشريعة ، ومنافستهم في السؤدد بعلمها ، وأن ملوكها كانوا يتواضعون لعلمائها ، ويرفعون أقدارهم ، ويصدرون عن آرائهم ، وأنهم كانوا لا يقدمون وزيراً ولا مشاوراً ما لم يكن عالماً ، حتى إن الحكم المستنصر لما كره له العلماء شرب الخمر(100) هم بقطع شجرة العنب من الأندلس ، فقيل له : فإنها تعصر من سواها ، فأمسك عن ذلك ؛ وأنهم كانوا لا يقدمون أحداً للفتوى ولا لقبول الشهادة حتى يطول اختباره ، وتعقد له مجالس المذاكرة ، ويكون ذا مال في غالب الحال خوفا من أن يميل به الفقر إلى الطمع(101) فيما في أيدي الناس فيبيع به حقوق الدين ، ولقد أخبرت أن الحكم الربضي أراد تقديم شخص من الفقهاء يختص به للشهادة ، فأخذ في ذلك مع يحيى بن يحيى وعبد الملك وغيرهما من أعلام العلماء ، فقالوا له : هو أهل ، ولكنه شديد الفقر ومن

 

214

يكون في هذه الحالة لا تأمنه(102) على حقوق المسلمين ، لا سيما وأنت تريد انتفاعه وظهوره في الدخول في المواريث والوصايا وأشباه ذلك ، فسكت ولم ير منازعتهم ، وبقي مهموماً من كونهم لم يقبلوا قوله ، فنظر إليه ولده عبد الرحمن الذي ولي . الملك بعده ، وعلى وجهه أثر ذلك ، فقال ما بالك يا مولاي ؟ فقال ألا ترى لهؤلاء الذين تقدمهم ونن وننوه عند الناس بمكانهم حتى إذا كلفناهم ما ليس عليهم فيه شطط ، بل ما لا يعيبهم(103) ولا هو مما يرزؤهم شيئا صد ونا عنه ، وغلقوا أبواب الشفاعة ، وذكر له ما كان منهم ، فقال : يا مولاي ، أنت أولى الناس بالإنصاف ، إن هؤلاء ما قدمتهم أنت ولا نتوهت بهم ، وإنما قدمهم ونوه بهم علمهم ، أو كنت تأخذ قوماً جهالا ً فتضعهم في مواضعهم ؟ قال : لا ، قال : فأنصفهم فيما تعبوا فيه من العلم لينالوا به لذة الدنيا وراحة الآخرة ، قال صدقت ، ثم قال : وأما كونهم لم يقبلوا هذا الرجل لشدة فقره فالعلة في ذلك تنحسم بما يبقي لك في الصالحات ذكراً ، قال : وما هو ؟ قال تعطيه من مالك قدر ما يلحق به من الغنى ما يؤهله لتلك المنزلة ويزيل عنك هذا خجل ردهم لك ، وتكون هذه مكرمة ما سبقك إليها أحد ، فتهلل وجه الحكم وقال : إلي إلي ، إنها والله شنشنة عبشمية وإن الذي قال فينا لصادق :

وأبناء أملاك خضارم سادة                           صغيرهم عند الأنام كبير

ثم استدعى عبد الملك بن حبيب وسأله عن قدر ما يؤهله لتلك المرتبة من الغنى ، فذكر له عدداً ، فأمر له به في الحين ، ونبه" قدره بأن أعطاه من إصطبله مركوباً ، وكانت هذه أكرومة (104) لا خفاء بعظمها :

 

215

يفنى الزمان وما بنته(105) مخلد

ثم إنه إذا كان له من الغنى ما يكفه عن أموال الناس ، ومن الدين ما يصده عن محارم الله تعالى ، ومن العلم ما لا يجهل به التصرف في الشريعة ، أباحوا له الفتوى والشهادة ، وجعلوا علامة لذلك بين الناس القالس والرداء.

وأهل قرطبة أشد الناس محافظة على العمل بأصح الأقوال المالكية حتى إنهم كانوا لا يولون حاكما إلا بشرط أن لا يعدل في الحكم عن مذهب ابن القاسم.

وقال ابن سارة لما دخل قرطبة :

الحمد لله قد وافيت قرطبة                            دار العلوم وكرسي السلاطين

وهي كانت مجمع جيوش الإسلام ، ومنها نصر الله على عبدة (106) الصليب . يقال : إن المنصور بن أبي عامر - حين تم له ملك البرين ، وتوفرت الجيوش والأموال ـ عرض بظاهر قرطبة خيله ورجله ، وقد جمع · أقطار البلاد ما ينهض به إلى قتال العدو وتدويخ بلاده ، فنيف الفرسان على مائتي ألف ، والرجالة على ستمائة ألف . وبها حتى الآن من صناديد المسلمين وقوادهم من لا يفتر عن محاربة ولا يمل من مضاربة ، أسماؤهم بأقاصي بلاد النصارى مشهورة ، وآثارهم فيها مأثورة ، وقلوبهم على البعد بخوفهم معمورة .

ويحكى أن العمارة في مباني قرطبة والزاهرة والزهراء اتصلت إلى أن كان يمشى فيها لضوء المرج المتصلة عشرة أميال ، وأما جامعها الأعظم فقد سمعت أن ثرياته من نواقيس النصارى ، وأن الزيادة التي زاد في بنائه ابن أبي عامر من تراب نقله النصارى على رؤوسهم مما هدم من كنائس بلادهم ، وقد

 

216

 

 

سمعت أيضاً عن قنطرتها العظمى وكثرة أرحي واديها ، يقال : إنها تنيف على خمسة آلاف حجر ، وقد سمعت عن كنبانيتها وما فضل الله تعالى به تربها من بركة وما ينبت فيها من القمح وطيبه ، وفيها جبال الورد الذي بلغ الربع منه مرات إلى ربع درهم ، وصار أصحابه يرون الفضل لمن قطف بيده ما يمنحونه منه ، ونهرها إن صغر عندها عن عظمه عند إشبيلية فإن لتقارب بريه هنالك وتقطع غدره ومروجه معنى آخر وحلاوة أخرى ، وزيادة أنس ، وكثرة أمان من الغرق ، وفي جوانبه من البساتين والمروج ما زاده نضارة وبهجة.

وأما جيان فإنها لبلاد الأندلس قلعة ، إذ هي أكثرها زرعاً ، وأصرمها أبطالا، وأعظمها منعة ، وكم رامتها من عساكر النصاري عند فترات الفتن فرأوها أبعد من العيوق ، وأعز منالا من بيض الأنوق ، ولا خلت من علماء ولا من شعراء ، ويقال لها " جيان الحرير "، لكثرة اعتناء باديتها وحاضرتها بدود الحوير.

ومما يعد في مفاخرها ما ببياسة إحدى بلاد أعمالها من الزعفران الذي يسفر (107) برا وبحراً ، وما في أبدة من الكروم التي كاد العنب فيها لا يباع ولا يشترى كثرة ، وما كان بأبدة من أصناف الملاهي والرواقص المشهورات بحسن الانطباع والصنعة ، فإنهن أحذق خلق الله تعالى باللعب بالسيوف والدك ، وإخراج القروى والمرابط والمتوجه(108).

وأما غرناطة فإنها دمشق بلاد الأندلس ، ومسرح الأبصار ، ومطمح الأنفس ، لها القصبة المنيعة ذات الأسوار الشامخة ، والمباني الرفيعة ، وقد اختصت بكون النهر يتوزع على ديارها وحماماتها وأسواقها وأرحاها الداخلة والخارجة وبساتينها ، وزانها الله تعالى بأن جعلها مرتبة على بسيطها الممتد" الذي تفرعت(109)

 

217

فيه سبائك الأنهار بين زبرجد الأشجار ولنسيم نجدها وبهجة منظر حورها في القلوب والأبصار ، استلطاف يروق الطباع ، ويحدث فيها ما شاءه الإحسان من الاختراع والابتداع ، ولم تخل من أشراف أماثل ، وعلماء أكابر ، وشعراء أفاضل ، ولو لم يكن لها إلا ما خصها الله تعالى به من كونها قد نبغ فيها من الشواعر مثل نزهون القلاعية وزينب بنت زياد ، وقد تقدم شعرهما ، وحفصة بنت الحاج ، وناهيك في الظرف والأدب ، وهل ترى أظرف منها في جوابها للوزير الحسيب الناظم الناثر أبي جعفر ابن القائد الأجل أبي مروان ابن سعيد ، وذلك أنهما باتا بحور مؤمل على ما يبيت به الروض والنسيم ، من طيب النفحة ونضارة النعيم ، فلما حان الانفصال قال أبو جعفر(110):

رعى الله ليلا لم يرع بملمم                            عشية وارانا بحور مؤمل

وقد خفقت من نحو نجد أريجة                    إذا نفحت هبت بريا القرنفل

وكتبه إليها بعد الافتراق ، لتجاويه على عادتها في ذلك ، فكتبت له ما لا يخفى فيه قيمتها :

لعمرك ما سر الرياض بوصلنا            ولكنه أبدى لنا الغل والحسد

ولا صفق" النهر ارتياحاً لقربنا           ولا صدح القمري إلا بما وجد(111)

فلا تحسن الظن الذي أنت أهله           فما هو في كل المواطن بالرشد

فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه                  لأمر سوى كيما تكون لنا رصد

وأما مالقة فإنها قد جمعت بين منظر البحر والبر بالكروم المتصلة التي

 

218

 

لا تكاد ترى فيها فرجة لموضع غامر، والبروج التي شابهت نجوم السماء ، كثرة عدد وبهجة ضياء ، وتخلل الوادي الزائر لها في فصلي الشتاء والربيع في سرر بطحائها ، وتوشيحه لحصور أرجائها ، ومما اختصت به من بين سائر البلاد التين الربي المنسوب إليها ، لأن اسمها في القديم رية ، ولقد أخبرت أنه ينباع في بغداد على جهة الاستطراف (112)، وأما ما يسفر منه المسلمون والنصارى في المراكب البحرية فأكثر من أن يعبر عنه بما يحصره ، ولقد اجتزت بها مرة ، وأخذت على طريق الساحل من سهيل إلى أن بلغت إلى بليش قدر ثلاثة أيام متعجباً فيما حوته هذه المسافة من شجر التين ، وإن بعضها ليجتني جميعها الطفل الصغير من لزوقها بالأرض ، وقد حوت ما يتعب الجماعة كثرة ، وتين بليش(113) هو الذي قيل فيه للبربري : كيف رأيته ؟ قال : لا تسألني عنه ، وصبة في حلقي بالقفة ؛ وهو لعمر الله معذور ، لأنه نعمة حرمت بلاده منها ، وقد خصت بطيب الشراب الحلال والحرام ، حتى سار المثل بالشراب المالقي ، وقيل لأحد الخلعاء ، وقد أشرف على الموت : اسأل ربك المغفرة ، فرفع يديه وقال : يا رب، أسألك من جميع ما في الجنة خمر وزبيبي إشبيلية ، وفيها تنسج الخلل الموشية التي تجاوز أثمانها الآلاف ذات الصور العجيبة المنتخبة برسم الخلفاء فمن دونهم، وساحلهـا محط تجارة لمراكب(114) المسلمين والنصارى .

وأما المرية فإنها البلد المشهور الذكر ، العظيم القدر ، الذي خص أهله باعتدال المزاج ، ورونق الديباج ، ورقة البشرة ، وحسن الوجوه والأخلاق ، وكرم المعاشرة والصحبة ، وساحلها أنظف السواحل وأشرحها(115) ، وأملحها منظراً

 

219

وفيها الحصى المتون العجيب الذي يجعله رؤساء مراكش في البراريد(116) والرخام الصقيل الملوكي ، وواديها المعروف بوادي بجانة من أفرج الأودية ، ضفتاه بالرياض كالعذارين حول الثغر ، فحق أن ينشد فيها:

أرض وطئت الدر رضراضا بها           والترب مسكا والرياض جنانا(117)

وفيها كان ابن ميمون القائد الذي قهر النصارى في البحر ، وقطع سفرهم فيه ، وضرب على بلاد الرمانية ، فقتل وسبى ، وملأ صدور أهلها رعبا ، حتى كان منه كما قال أشجع(118):

فإذا تنبه رعته وإذا غفا                        سلت عليه سيوفك الأحلام

وبها كان محط مراكب النصارى ومجتمع ديوانهم ، ومنها كانت تسفر(119) لسائر البلاد بضائعهم ، ومنها كانوا يوسقون جميع البضائع التي تصلح لهم ، وقصد بضبط ذلك بها حصر ما يجتمع في أعشارهم ، ولم يوجد لهذا الشأن مثلها ، لكونها متوسطة ومتسعة قائمة بالوارد والصادر ، وهي أيضاً مصنع المؤشية النفيسة .

وأما مرسية فإنها حاضرة شرق الأندلس ولأهلها من الصرامة والإباء ما هو معروف مشهور وواديها قسيم وادي إشبيلية ، كلاهما ينبع من شقورة وعليه من البساتين المتهدبة الأغصان ، والنواعير المطربة الألحان ، والأطيار المغردة ، والأزهار المتنضدة ، ما قد سمعت ، وهي من أكثر البلاد فواكه وريحانا ، وأهلها أكثر الناس راحات وفرجاً لكون(120) خارجها معيناً على ذلك

 

 

220

بحسن منظره ، وهي بلدة تجهز منها العروس التي تنتخب شورتها لا تفتقر في شيء من ذلك إلى سواها ، وهي للمرية ومالقة في صنعة الوشي ثالثة ، وقد اختصت بالبسط التنتلية التي تسفر(121) لبلاد المشرق، وبالحصر التي تغلف بها الحيطان المبهجة للبصر ، إلى غير ذلك مما يطول ذكره ، ولم تخل من علماء وشعراء وأبطال.

وأما بالنسية فإنها لكثرة بساتينها تعرف بمطيب الأندلس ورصافتها من أحسن متفرجات الأرض، وفيها البحيرة المشهورة الكثيرة الضوء والرونق ، ويقال إنه لمواجهة الشمس لتلك البحيرة يكثر ضوء بالنسية إذ هي موصوفة بذلك ، ومما خصت به النسيج البلنسي الذي يسفر لأقطار المغرب ، ولم تخل من علماء ولا شعراء ولا فرسان يكابدون مصاقبة(122) الأعداء ، ويتجرعون فيها النعماء ممزوجة بالضراء ، وأهلها أصلح الناس مذهباً، وأمتنهم ديناً ، وأحسنهم صحبة ، وأرفقهم بالغريب.

وأما جزيرة ميورقة فمن أخصب بلاد الله تعالى أرجاء ، وأكثرها زرعاً ورزقا وماشية ، وهي على انقطاعها من البلاد مستغنية عنها ، يصل فاضل خيرها إلى غيرها ، إذ فيها من الحضارة والتمكن والتمصر وعظم البادية ما يغنيها ، وفيها من الفوائد ما فيها ولها فضلاء وأبطال اقتصروا على حمايتها من الأعداء المحدقة بها :

من كل من جعل الحسام خليله           لا يبتغي أبدا سواه معينا

هذا – زان الله تعالى فضلك بالإنصاف ، وشرف كرمك بالاعتراف ـ ما حضرني الآن في فضل جزيرة الأندلس ، ولم أذكر من بلادها إلا ما كل

 

221

بلد منها مملكة مستقلة يليها ملوك بني عبد المؤمن على انفراد ، وغيرها في حكم التبع.

وأما علماؤها وشعراؤها فإني لم أعرض منهم إلا لمن هو في الشهرة كالصباح ، وفي مسير الذكر كمسير الرياح ، وأنا أحكي لك حكاية جرت لي في مجلس الفقيه الرئيس أبي بكر ابن زهر ، وذلك أني كنت يوما بين يديه ، فدخل علينا رجل عجمي من فضلاء خراسان ، وكان ابن زهر يكرمه ، فقلت له : ما تقول في علماء الأندلس وكتابهم وشعرائهم ؟ فقال : كبرت ، فلم أفهم مقصده، واستبردت(123) ما أتى ، وفهم مني أبو بكر ابن زهر أني نظرته نظر المستبرد المنكر فقال لي : أقرأت شعر المتنبي ؟ قلت : نعم ، وحفظت ، قال : فعلى نفسك إذن فلتنكر ، وخاطرك بقلة الفهم فلتتهم ، فذكرني بقول المتنبي:

كبرت حول ديارهم لما بدت                         منها الشموس وليس فيها المشرق

فاعتذرت للخراساني ، وقلت له : قد والله كبرت في عيني بقدر ما صغرت نفسي عندي ، حين لم أفهم نبل مقصدك(124)، فالحمد لله الذي أطلع من المغرب هذه الشموس وجعلها بين جميع أهله بمنزلة الرؤوس وصلى الله على سيدنا محمد نبيه المختار من صفوة العرب ، وعلى آله وصحبه صلاة متصلة إلى(125) غابر الحقب.

 

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- م : بلدنا ... بلدكم.

2- ب : ببر الأندلس.

3- ب: ويتأتى.

4- م : له

5- م : رام.

6- م : قابل اللآلي .. الصفاح ، ب : السفة بالرجاج.

7- البيت لربيعة الرقي ، انظر الأغاني 16 : 189 وفيه هجاء ليزيد بن أسيد السلمي وكان جليلا عند المنصور والمهدي ، وتفضيل ليزيد بن حاتم الأزدي.

8- ق: المفرد .

9- م : على عقبيه، ب : على عقب.

10- م : نور، وسقطت اللفظة من ق هي و العبارة من قوله: أبلغت ... لبك.

11- البيتان من شعر محمد بن عبد الملك حفيد عبد الرحمن الناصر ( الحلة 1 : 209) قال ابن الأبار: وقد أنشد أبو منصور الثعالبي في اليتيمة من تأليفه هذا الشعر ونسبه إلى الحكم المستمر بالله ... و هذا من أغلاط أي منصور وأوهامه الفاحشة.

12- ب ودوزي على صحائف.

13- زاد في م: كما قيل.

14- م: وكم من.

15-  م : ولم يزل.

16- مر البيتان ، انظر النفح جـ : 1 ص : 398.

17- أقاصي: سقطت من م.

18- م : النهار

19- م : شرط.

20- مرت الحكاية في رسالة ابن حزم ، انظر ما تقدم من : 172 .

21- العراب إسقاط " في "، من قول الحناء : يتنازعات ملاءة الحضر.

21- ب : ابسنمود ؛ ق ودرزي : ابسقموت؛ وهو سقوط البرغواطي المتغلب على مدينة سبتة ومنه أخذها يوسف بن تاشفين ( انظر مفاخر البربر : 54 وما بعدها)

22- هو صالح بن طريف الذي استحدث لبرغواطة مذهبا مستقلا، حوالي سنة 123هـ. ( انظر الاستبصار 198 – 200 في بعض الأخبار عنه وعن مذهبه ) . وفي م : البقر واطي.

23- زاد في م: يتشرق.

24- م هو يطلب ، وسقطت " هو يطلب منا "، في ب.

25- م يبعد أمير المسلمين.

26- م : فاكتوا يا أهل العدوة.

27- ب العلماء.

28-  انظر جـ 2: 82.

29- ب : المتقدم ؛ م: في علوم.

30- ديوانه : 12 والمقتطف ، الورقة : 31 وعنوان المرقصات : 22 و القلائد : 6.

31- ديوانه : 37 – 38 وعنوان المرقصات : 22 والثاني في المقتطف : 29

32- ب : معتذر.

33- م : الراضي بالله ؛ وانظر البيتين في الحلة 2 : 71 .

34- أورد المقري قصيدة ابن عمار، في النفح جـ: 1 ص : 655.

35- م : الثعالبي في اليتيمة .

36- ديوان ابن دراج : 298.

37- الديوان : لتقبيل كف العامري سفير.

38- ديوان ابن دراج : 110 ، 112 و انظر المغرب 2 : 61.

39- ديوانه : 36

40- الأبيات لأبي عمر أحمد بن محمد بن فرج الجيالي ( الجذوة : 97 – 98 والمطمح: 80 والمغرب :2 : 56).

41- م : السقط.

42- ترجمته في المطبخ : 25 ولم يورد البيتين ؛ والذخيرة 2/1 : 132 ، وهما منسوبان لابن برد في المسيرة 2/1 : 47 ، وأوردهما ابن سعيد المالي في عنوان المرقصات : 22.

43-  الأخيرة : أتلفت .

44-  البيتان في الذخيرة : 2/1 : 48 وعنوان المرقصات : 22 .

45- الذخيرة : هاربا .

46- من قصيدة أورد أكثرها ابن بسام في الأخيرة 2/1 : 81 - 82 .

47- ب : الشاعر

48- ب م : ويفخر على .

49- هذا هو ما ذكره ابن شهيد نفسه ( الذخيرة 1/1 : 244 - 245).

50- ق : وسلبه.

51- في قوله: سقطت من م .

52- في الأصول: على قريه.

53- م : أقسم أن.

54- ينب هذا الشعر لوضاح اليمن.

55- ابو الحسين محمد بن سفر (أو صفر) شاعر المرية في عصره ، انظر المغرب 2 : 212 و التحفة : 101 والوافي 3 : 114 والنفع جـ: 1 ص : 476، وقد نسب المريني في النفح وعنوان المرقصات وأغلب الظن أن صوابه  " المريي " نسبة إلى بلده المرية.

56- البيتان في عنوان المرقصات: 36.

57- عنوان المرقصات : 38

58- مقطوعات ابن الزقاق هذه في ديوانه : 124 ، 197 ، 125 وفيه التخريجات.

59- م : في قوله؛ وأشعار ابن خفاجة هذه في ديوانه : 285 ، 356 ، 254 ، 291 ، 140، 119 ، 235 ،  123 .

60- م : الأنوار .

61- م : جال في .

62- في الأصول : درع ؛ والردع : الخلوق .

63- الأبيات في عنوان المرقصات: 36 .

64- ب م: تغص.

65- ديوان الرصافي: 121

66- ديوان الرصافي: 123.

67- ق ب : أبو القاسم ؛ والأرجح أن هذا البيت من موشحة له في المغرب 2 : 122

68- ابن خروف هذا هو علي بن محمد بن يوسف بن خروف القيسي الراحل إلى المشرق؛ توفي بحلب حوالي سنة 620 و ترجمته في الذيل والتكملة ، : 296 ،

ومصادر ترجمته في الحاشية ؛ وأبياته في الليل وصلة الملة : 110 وانظر النفع 2 : 640 ( رقم 267 ).

69- كذا في أصول النفح ؛ وفي الذيل : ومنوع.

70- أبو علي اللشار بلني من شعراء زاد المسافر ( ص: 57 ) وأبياته هنالك.

71- صاحب المقامات السبع وكتاب الذخائر و الأعلاق في أدب النفوس و مكارم الأخلاق (توفي 544). راجع ترجمته في المغرب 1:434 و الذيل و التكملة 48:4 وجعله ابن عبد الملك إشبيليا ؛ و بيتاه في المغرب.

72- هو المخزومي الأعمى الذي مرت قصته مع نزهون (النفح 1 : 190–193) ، انظر بيتيه الأولين في زاد المسافر : 75.

73- أبو العباس أحمد بن حنون ( عنوان المرقصات : حيون ) الإشبيلي ، أهله من أغنياء إشبيلية اتهم بالقيام على الموحدين ، ثم عفي عنه في مدة منصور بني عبد المؤمل ( راجع ترجمته في المغرب 1 : 244 وزاد المسافر : 50 وشعره فيهما وفي عنوان المرقصات : 44).

74- يحيى بن عجير أبو بكر من بلش ( Velez Malaga ) ، توفي سنة 088 بمراکش؛ ترجمته في زاد المسافر : 9 وبقية الملتمس رقم : 1493 و له شعر كثير سيرد في النفح ؛ وفي شرح المقصورة و الجزء الثالث من البيان المغرب.

75- هو أبو جعفر أحمد بن عتيق بن جرج المعروف بابن الذهبي من أعيان بلنسية غلبت عليه الفلسفة ، وهو من أصحاب ابن رشد ، إلا أنه اختفى حين طلب أستاذه إلى أن صدر العفو عنه ( انظر المغرب 2 : 321 و ابن أبي أصيبعة 2 : 81 و الديباج : 69 وبغية الوعاة : 144 و النصون البائعة : 36 و التكملة : 90 وأبياته في المغرب).

76- ديوان التطيلي : 49 .

77- ترجمة مسهبة في المغرب 1: 58  واياته مثبتة هناك .

78- م خيفة.

79-  المغرب : فتدبرتها .

80- م : أبي عبد الله محمد ؛ وراجع ترجمة ابن العمال في المغرب 2 : 21 والحاشية.

81- ستأتي تراجم لأديبات الأندلس في النفح وسيجري التعريف بين و بمصادر ترجمتهن هنالك.

82- اشتهرت هذه الأبيات عند المشارقة ، لعارضوها ووردت في عدة مصادر ؛ انظر المغرب 2 : 21 ومعجم الأدباء 19 : 21.

83- ب : أبعدته.

84- هو القاضي الأديب أبو حفص عمر بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمر السلمي ، كان من أهل الفتيا بمدينة فاس ثم ترقى إلى الخطابة و القضاء ، ولاء المنصور الموحدي قضاء إشبيلية ومات بها وهو قاض سنة 603 ( انظر الغصون اليانعة : 91 وصلة الصلة : 72 وزاد المسافر : 101 ؛ و القطعتان في القصون والثانية في زاد المسافر ؛ وفي الشريشي 1 : 158) .

85- م : عنان القلم في النظم

86- ق : أخبرت .

87- في الثقالة : سقطت من ب.

88- ب : هلاكهم ،  ق: هلاككم .

89- وكثرة ... والبلدية: سقطت من م.

90- م : أنا.

91- في الأصول: مطرزة.

92- الأنشام : نوع من الشجر .

93- م: فذكر أنه.

94- م : و الدنس.

95- دوزي : الكثيرة .

96- دوزي : الغثار

97- ب : والسفرة

98- قد أثبت دوزي أسماء هذه الآلات الموسيقية في ملحق المعاجم ولكنه لم يحدد مدلولاتها في الأكثر، ومن الصعب ضبط بعض أسمائها.

99- م : إليها.

100- م ق: بغض الخمر.

101- ب : للطمع .

102- ب : ومن يكن ... تؤمنه.

103- ب : بل ما لا يعنيهم.

104- م : مكرمة .

105- ب : بنيته ، والصواب " بنيت ".

106- م : عباد .

107- ب : يسافر.

108- ب : والمتوسعة.

109- م : تفرغت .

110- ستأتي اخبار ابي جعفر ابن سعيد وحلمة مفصلة في النفح

111- ق : وجدا بما وجد .

112- م : لأجل الاستطراف .

113- م : بلش .

114- م : مراكب.

115- م : وأثرتها .

116- ب : البواريد.

117- ب م : جنابا

118- هو أشجع السلمي ، وبيته من قصيدة في مدح الرشيد.

119- م : تسافر؛ وكانت سقطت من ق.

120- ب : يكون .

121- ب : تسافر.

122- ب : مصادمة ؛ م: مصاففة، وأثبتنا ما في ق.

123- في أصول النفح : تنفد الدنان .

124- ب : نواره.

125-  ويقال ... عنه: سقطت هذه العبارة من ب.

 

 

 

 

EN

تصفح الموقع بالشكل العمودي