الفضائل
الاخلاص والتوكل
الامر بالمعروف والنهي عن المنكر
الإيثار و الجود و السخاء و الكرم والضيافة
الايمان واليقين والحب الالهي
التفكر والعلم والعمل
التوبة والمحاسبة ومجاهدة النفس
الحب والالفة والتاخي والمداراة
الحلم والرفق والعفو
الخوف والرجاء والحياء وحسن الظن
الزهد والتواضع و الرضا والقناعة وقصر الامل
الشجاعة و الغيرة
الشكر والصبر والفقر
الصدق
العفة والورع و التقوى
الكتمان وكظم الغيظ وحفظ اللسان
بر الوالدين وصلة الرحم
حسن الخلق و الكمال
السلام
العدل و المساواة
اداء الامانة
قضاء الحاجة
فضائل عامة
آداب
اداب النية وآثارها
آداب الصلاة
آداب الصوم و الزكاة و الصدقة
آداب الحج و العمرة و الزيارة
آداب العلم والعبادة
آداب الطعام والشراب
آداب الدعاء
اداب عامة
حقوق
الرذائل وعلاجاتها
الجهل و الذنوب والغفلة
الحسد والطمع والشره
البخل والحرص والخوف وطول الامل
الغيبة و النميمة والبهتان والسباب
الغضب و الحقد والعصبية والقسوة
العجب والتكبر والغرور
الكذب و الرياء واللسان
حب الدنيا والرئاسة والمال
العقوق وقطيعة الرحم ومعاداة المؤمنين
سوء الخلق والظن
الظلم والبغي و الغدر
السخرية والمزاح والشماتة
رذائل عامة
علاج الرذائل
علاج البخل والحرص والغيبة والكذب
علاج التكبر والرياء وسوء الخلق
علاج العجب
علاج الغضب والحسد والشره
علاجات رذائل عامة
أخلاقيات عامة
أدعية وأذكار
صلوات و زيارات
قصص أخلاقية
قصص من حياة النبي (صلى الله عليه واله)
قصص من حياة الائمة المعصومين(عليهم السلام) واصحابهم
قصص من حياة امير المؤمنين(عليه السلام)
قصص من حياة الصحابة والتابعين
قصص من حياة العلماء
قصص اخلاقية عامة
إضاءات أخلاقية
الخلق السيّئ مصدر للذنوب.
المؤلف: الشيخ علي حيدر المؤيّد.
المصدر: الموعظة الحسنة
الجزء والصفحة: ص 193 ـ 213.
2023-03-02
2195
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام):"يا علي، لكلّ ذنب توبة، إلّا سوء الخلق فإنّ صاحبه كلّما خرج من ذنب دخل في ذنب آخر" (1).
الأخلاق سلباً وإيجاباً:
إنّ سوء الخلق يعدّ مِن أكبر الأمراض النفسيّة التي لها آثارها السلبيّة الكثيرة على حياة الفرد الدنيويّة والأخرويّة ويُعبّر عنه علماء الأخلاق بأنّه انحراف نفسانيّ يسبب انقباض الإنسان وغلظته وشراسته نقيض حسن الخلق.
ومن هنا كان لسوء الخلق آثار سيّئة ونتائج خطيرة تنعكس على صاحب الخلق السيّئ وتحطّ من كرامته أولاً، وربّما تضاعفت نتائجه السلبيّة فيكون حينذاك سبباً لمختلف المآسي والأزمات الجسميّة والنفسيّة والمادّيّة، ولذا فإنّ سوء الخلق مفتاح للذنوب والذنوب تحطّ من قيمة الإنسان الأخرويّة فضلاً عن قيمته الدنيويّة، إذ إنّ صاحب الخلق السيّئ يقع في مطبّات عديدة في سير حياته من منزله إلى عمله إلى مجتمعه لانحرافه النفسيّ عن الآداب والفضائل الأخلاقيّة التي وضعتها الشريعة الإسلاميّة أو الاجتماع الإنسانيّ
اللائق من تسامح ولين الجانب والعفو ومن هنا جاء قوله تعالى لرسوله الكريم (صلى الله عليه وآله): {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
وفي معنى فظّاً جاء أيّ جافياً سيّئ الخلق (2).
والله تعالى بخطابه هذا يكشف عن حقيقة اجتماعيّة مهمّة خلاصتها:
إنّ النّاس يميلون إلى مَن كان ليّن الجانب وصاحب أخلاق حسنة وما شابه مِن فضائل نفسيّة رفيعة ويتفرّقون عن كلّ إنسان عبوس وسيّئ الخلق، والرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) لم يكن سيّئ الخلق وإنّما كان صاحب خلق عظيم وأديب الله تعالى وبعث ليتمّم مكارم الأخلاق ولكن آيات القرآن الحكيم تخاطب الرسول (صلى الله عليه وآله) وتريد من ذلك تعليمنا نحن من باب «إيّاك أعني واسمعي يا جارة» والمحصّل من الآية الشريفة: إنّ الإنسان إذا كان خلقه سيّئاً فالنّاس يتفرّقون عنه وبذلك يفقد راحته الشخصيّة من جهة ويحطّم حياته الاجتماعيّة مع الآخرين وبالتالي لا يصل إلى سموّه وأهدافه في الحياة الدنيا فضلاً عن الآخرة.
وذلك لأنّ سيّئ الأخلاق يجرّه سوء خلقه إلى الكثير من المعاصي والذنوب بما يحطّ من درجاته في الآخرة وينفر عن الناس فلكلّ إنسان في هذه الحياة أواصر وعلاقات اجتماعيّة كالعشرة مع الزوجة والأولاد في البيت أو مع أمّه وأبيه وإخوته في المنزل أو مع أقاربه أو مع أصدقائه أو مجتمعه في الدائرة أو المعمل أو المدرسة وما شابه. ففي كلّ جانب من جوانب الحياة المذكورة لا بدّ للإنسان من العشرة والتعامل مع الآخرين فإذا كان سيّئ الأخلاق فإنّ سوء خلقه يجعله فظّاً غليظاً فيمجّه الآخرون وينفرون منه.
سوء الخلق حرب مع الزوجة:
إذ يدخل صاحب الخلق السيّئ إلى البيت فيتنازع مع زوجته لأدنى مشكلة ويعاملها بسوء وأحياناً يضربها وقد يحدث فيها عاهة مستديمة وهذا خلاف الشرع إذ يقول تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19].
وقد ذكر الفقهاء للعشرة بالمعروف مراتب منها:
1 - التعامل معها بما أمر الله من أداء حقوقها كالنفقة وحسن العشرة وحمايتها والإجمال في القول والفعل.
2- ألّا يضرّ بها ولا يسيء القول فيها ويكون منبسط الوجه معها.
3 - أن يتصنّع لها كما تتصنّع له في التحبيب والتجميل ويشاطرها أفراحها وأحزانها.
كما يرى بعض الفقهاء أيضاً أنّ العشرة بالمعروف من الواجبات الشرعيّة وإن اختلفوا في مراتبها، «إنّ العشرة بالمعروف مع الزوجة (في الجملة) واجبة» (3).
هذا من ناحية الزوج والكلام - طبعاً - يجري من طرف الزوجة أيضاً مع زوجها في وجوب العشرة بالمعروف بل إنّ "جهاد المرأة حسن التبعّل" (4).
وذلك بأنّ تبادله الشعور بالمسؤوليّة وتطيعه ولا تخرج عن أمره وتداريه مداراة حسنة وتبذل نفسها له وتحافظ على بيتها وعفّتها وأمّا صاحب الخلق السيّئ فإنّه لا يستطيع حسن العشرة والتعامل مع زوجته بما يوجبه الشرع والتعامل الإنسانيّ عادة، لانحرافه النفسانيّ ومرضه الأخلاقيّ وسيطرة القوة الغضبيّة عليه فتأتي تصرّفاته لا مسؤولة عادة وشعواء فتنفر منه زوجته فضلاً عن اكتساب الإثم أو الذنب لما أخلّ بأحد الواجبات أو ارتكب بعض المحرّمات كالإيذاء للآخرين، وعلى فرض أنّه تاب وندم على فعله مع زوجته فقد يقع في مشكلة أخرى لو لم يحسن خلقه وهي:
سوء الخلق حرب مع الأبناء:
وقد يتنازع سيّئ الأخلاق مع ابنه فيضربه والضرب - خارج حدود التأديب محرّم وفيه الديّة على تفصيل مذكور في الفقه وقد ذكر ذلك أكثر الفقهاء.
«لا إشكال في حرمة ضرب المسلم والكافر المحترم لذمّة أو نحوها.. ومن ذلك ضرب اليتيم وضرب الزوجة وضرب الأولاد» (5).
بل إنّ الإسلام ليس فقط حرّم ضرب الأولاد وإيذاءهم وإنّما أمرنا باحترامهم ومحبّتهم والرفق بهم.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أحبّوا الصبيان وارحموهم» (6).
وجاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: «ما قبّلت صبيّاً قط، فلمّا ولّى قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هذا رجل عندي أنّه مِن أهل النّار» (7).
ولكن سيّئ الخلق في الكثير من الأحيان لا يتمكّن أن يعمل بأحكام الإسلام بسبب غلظته وسوء خلقه الناشىء من الغضب وسيطرته عليه ولعلّ المشكلة الأكبر من ذلك أنّ صاحب الخلق السيّئ يواجه في حياته أحياناً مشاكل ويرتكب ذنوباً يعدّها الإسلام من الكبائر أو من الذنوب التي يرتبط بها مصير الإنسان وعاقبته ارتباطاً كبيراً.
إنّ الذي نمى على سوء الأخلاق والتعامل الإجتماعيّ الفظّ لا يفترق عنده الأمر عادة بين أقرب الناس إليه أو غيرهم في الغالب إذ يكون صاحب سلوك واحد وطبيعة واحدة مع والديه أو زوجته وأولاده أو أصدقائه وزملائه وغيرهم، الأمر الذي يوقعه في أزمات ومشاكل كبيرة في الدنيا كما يوقعه في معاصي كبيرة فمثلاً: قد تحصل له مشكلة مع والديه فينهرهما أو يغضب منهما أو يقاطعهما والقرآن يقول: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23].
فالله سبحانه لا يرضى من الولد أن يقول لوالديه كلمة «أفّ» وهي كلمة تذمّر بسيطة فكيف بالقطيعة أو المسبّة أو - لا سمح الله -الضرب؟
عن الامام الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ..}: إن أضجراك فلا تقلّ لهما أفٍ، ولا تنهرهما إنّ ضرباك (8).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً: «أدنى العقوق (أفّ)، ولو علم الله عزّ وجلّ شيئاً أهون منه لنهى عنه» (9).
بل إنّ عقوق الوالدين أحياناً يسبّب للإنسان المعصية الدائمة حتّى لا يعود ينفع معها أيّ عمل صالح حتّى لو قام ليله وصام نهاره وتصدّق بجميع ماله.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يُقال للعاقّ اعمل ما شئت فإنّي لا أغفر لك» (10).
إذن عقوق الوالدين محرّم بنصّ الكتاب والسنّة وإجماع العلماء على ذلك.
عاقبة سوء الخلق:
وهنا ننقل قصة سعد بن معاذ صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان من أصحابه المهمين لنتعرّف أكثر على عاقبة سوء الأخلاق وخاصّة مع الأهل.
عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «أُتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقيل له: إنّ سعد بن معاذ قد مات فقام رسول الله وقام أصحابه، فحمل، فأمر بغسل سعد وهو قائم على عضادة الباب فلمّا أنّ حُنّط وكُفّن وحمل على سريره، تبعه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بلا حذاء ولا رداء، ثم كان يأخذ يمنة السرير مرّة ويسرة السرير مرّة حتّى انتهى به إلى القبر فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتّى لحّده وسوّى عليه اللبن، وجعل يقول: ناولني حجراً، ناولني تراباً رطباً، يسدّ به ما بين اللبن.
فلمّا أن فرغ وحثا التراب عليه وسوّى قبره، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّي لأعلم أنّه سيبلى ويصل إليه البلى، ولكن الله عزّ وجلّ يحبّ عبداً إذا عمل عملاً فأحكمه، فلمّا أن سوى التربة عليه، قالت أم سعد مِن جانب هنيئاً لك الجنّة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) يا أمّ سعد مه! لا تجزمي على ربّك فإنّ سعداً قد أصابته ضمّة
قال فرجع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ورجع النّاس فقالوا: يا رسول الله لقد رأيناك صنعت على سعد ما لم تصنعه على أحد، إنّك تبعت جنازته بلا رداء ولا حذاء!
فقال (صلى الله عليه وآله): إنّ الملائكة كانت بلا حذاء ولا رداء فتأسّيت بها، قالوا: وكيف تأخذ يمنة السرير مرّة ويسرة السرير مرّة، قال: كانت يدي في يد جبرائيل آخذ حيث ما أخذ، فقالوا: أمرت بغسله وصلّيت على جنازته، ولحّدته، ثم قلت: إنّ سعداً أصابته ضمة، فقال (صلى الله عليه وآله): نعم إنّه كان في خلقه مع أهله سوء» (11).
إذن لم تشفع أعمال سعد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجهاده وطاعاته أمام سوء خلقه مع أهله فليكن في ذلك العبرة الكافية لسيّىء الخلق.
قطيعة الرحم:
ومن المعاصي التي قد يرتكبها سيّىء الأخلاق قطيعة الرحم وذلك لأنّه قد تحدث له مشكلة مع أرحامه وأقاربه فيقطع الصلة معهم وقطع الرحم منهي عنه، قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22].
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ثلاثة لا يدخلون الجنّة: مدمن خمر، ومؤمن سحر، وقاطع رحم» (12).
وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «أقبح المعاصي قطيعة الرحم والعقوق» (13).
ومن الواضح أنّ لقطيعة الرحم آثاراً وضعيّة سيّئة عديدة ذكرتها الأخبار منها:
1- تقصير الأعمار.
2- الإقتار في الرزق.
3- تنزّل البلاء وذلك بمحق الديار وهلاكها.
4- الخسران المبين في الدين والدنيا.
فسيّئ الخلق ربّما يقطع صلته بأرحامه وأحياناً لمشكلة بسيطة بسبب انحرافه النفسيّ ولكن تترتّب عليه الآثار الوضعيّة السيّئة لقطع الرحم بالإضافة إلى تفرّق الأقارب عنه. فضلاً عن العصيان.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أبغض الأعمال إلى الله الشرك بالله ثم قطيعة الرحم ثم الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف» (14).
وقال (صلى الله عليه وآله) أيضاً: «قال تعالى [حديث قدسيّ]: أنا الرحمن وهذه الرحم شققت لها اسماً من اسمي فمَن وصلها وصلته ومَن قطعها قطعته» (15).
بينما إذا تخلّى عن هذه الخصلة السيّئة فإنّه بحسن أخلاقه يصل أرحامه فمن جهة يعدّ مطيعاً لله سبحانه بصلة أرحامه الواجبة، ومن جهة أخرى يحصل على المنافع الوضعيّة لصلة الأرحام.
قال الإمام الباقر (عليه السلام): «صلة الأرحام: تزكّي الأعمال، وتنمّي الأموال، وتدفع البلوى، وتيسّر الحساب، وتنسىء في الأجل» (16).
هدم العلاقة مع المجتمع:
ثمّ إنّ صاحب الخلق السيّئ عادة يعيش في عزلة عن أصدقائه وأبناء مجتمعه إذ لا تبقي له فظاظته صديقاً فيهجره الناس ويهجر الناس والمجتمع فلا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر وإذا كان مشتركا في مشروع خيري أو مؤسّسة أو هيئة وما شابه من الخدمات الإجتماعيّة فإنّه يفسد العمل لسوء خلقه ونزاعاته ويجر الويلات على مشروعه وأيضاً يفسد عمله المعاشيّ فالنّاس لا يتعاملون مع مَن ينهرهم أو يؤذيهم بل ينجذبون إلى المعاملة الحسنة والأخلاق ولتوضيح ذلك اذكر لك هذه القصة:
كتب أسوت ماردن في كتابه (تهذيب النفس) يقول:
أعرف مديراً لأحد المطاعم أصبح ثريّاً، وحصل على صيت طيّب بسبب سيرته الأخلاقيّة الحسنة في محلّه حتّى إنّي علمت أنّ المسافرين والسيّاح يطوون طريقاً طويلاً حتّى يصلوا إلى مطعمه، حيث يجدون أنفسهم في محلّه وكأنّهم يعيشون في بيئتهم ومحيطهم الخاص. فحينما يصل الزبائن إلى محلّه يُستقبَلون بفرح وسرور لا يرونه في سائر المطاعم بل لا يرون هنا ما كانوا يجدونه من التكلّف المتعب البارد. فالعمّال في هذا المطعم يحاولون ما أمكن أن يرتبطوا مع الزبائن بروابط المودّة والصداقة لا كرابطة المشتري والعامل.
وواضح أنّ هذه الصفة لا تختصّ بأحد دون آخر بل كل واحد منّا يحبّ هكذا مطعم ويفضّل الأكل عنده كما يحبّ التاجر حسن الأخلاق وكذا الطبيب والمهندس وكلّ إنسان يحترم نفسه ويحترم عمله يجب أن يتحلّى بحسن الأخلاق ليحبّه النّاس؛ لأنّ حسن الأخلاق مِن أهمّ ما يجتذب الإنسان ويشدّه إلى غيره بالودّ والمحبّة ولولاه لتنافر الناس بعضهم عن بعض ولتحكّمت العداوة وصارت حياتهم بؤساً وشقاء.
وفي الحديث الشريف عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «ولو كنّا لا نرجو جنّة، ولا نخشى ناراً، ولا ثواباً ولا عقاباً، لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق، فإنّها ممّا تدلّ على سبيل النجاح» (17).
ومن خلال ما تقدّم يتّضح لنا أنّ صاحب الخلق السيّىء يقع في مشاكل عديدة من جرّاء مرضه النفسيّ وسيطرة الحالة الغضبيّة على تصرّفاته فيقع في محذورات عديدة فضلاً عن تفرّق أهله وأصدقائه ومجتمعه عنه.
لذا جاء في الحديث الشريف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي افتتحنا به بحثنا هذا، أنّ لكلّ ذنب توبة والله تعالى يحبّ الإنسان الذي يرتكب الذنب ثم يتوب عنه بعد أن يتفكّر في أحوال يوم القيامة والثواب والعقاب ويحاول أن يتجنّب الذنوب لمعرفته بعواقبها فيستغفر ربّه ولا يكون في غفلة من أمره. أمّا صاحب الخلق السيّئ الذي لم يحسّن من خلقه فإنّه كلما تاب وقع في ذنب آخر فهو مرة يتوب عن سوء تصرّفه مع زوجته ثم يقع في محذور آخر وهو ضرب ولده أو قطع رحمه أو تركه الأمر بالمعروف فهو لم يستفد من أسباب التوبة التي جعلها الله تعالى لارتباط العبد به دائماً وإنّما انحرافه النفسيّ يجرّه إلى الذنب وإن تاب منه مع عدم التفكّر في أحوال نفسه فهو واقع في مشكلة أخرى. ومن هنا جاء قول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): «إلّا سوء الخلق فإنّ صاحبه كلّما خرج من ذنب دخل في ذنب آخر» وهذا لا يعني عدم قبول توبته أبداً لأنّ الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].
وقال تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].
وإنّما الحديث يشير إلى جهة التسلسل في الوقوع في الذنوب بسبّب سوء الخلق فجاء لغرض معالجة النفس وتطييبها من المساوىء وعلاج النفس يقتضي المجاهدة والاقتداء بسيرة الرسول الأعظم وأهل بيته المعصومين (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين).
تهذيب النفس وتأديبها:
ولكن السؤال هو: كيف يكون الإنسان حسن الأخلاق؟
وقبل الإجابة التامّة نقول: إنّ الإنسان مكوّن من بدن وروح وظاهر وباطن ولكلّ منهما مظاهر وآثار في المرض والسلامة فأمراض البدن ظاهريّة كالحمى والاعتلالات الجسميّة ونحوها وقد تكفّل بعلاجها «علم الطب».
أمّا الروح فاعتلالها باطنيّ أيّ نفسيّ ولكن لهذه الاعتلالات الخفيّة مظاهر وآثار من مظاهرها الرذائل الخلقيّة وسوء التعامل مع الناس والذي يتكفّل بعلاج الباطن هو «علم الأخلاق».
فسوء الخلق هو وصف للنفس الباطنة يوجب فسادها وانقباضها وتغيّرها مع النّاس وإيذاءهم بل ويوجب بطلان الأعمال الصالحة أيضاً كما ذكر علماء الأخلاق.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): «إنّ سوء الخلق ليفسد العمل كما يفسد الخلّ العسل» (18).
ومن هنا قال علماء الأخلاق أيضاً: إنّ الإنسان من ناحية الجسم يشابه الحيوانات وبالجسم يقيم لمدة من الزمان في هذا العالم الحسّي ويزول، أمّا من ناحية الروح فهو يشابه المجرّدات والملائكة والمجرّد باقٍ لا يفنى، فإذا ما تغلّب على قواه الجسديّة والشهويّة وهذّب نفسه صار في مصافّ المجرّدات وعندها تتغلّب الروح على البدن ويتخلّص من متعلّقات الجسم وزوال الكدورات المادّيّة وتظهر فيه آثار الروحانيّات من العلم بحقائق الأشياء والأنس بالله تعالى والحبّ له والتحلّي بفضائل الصفات.
فصاحب الخلق السيّىء إذا التفت إلى هذا الأمر أي عرف موضوع دائه أو شخّص الداء وهو يكمن في الروح فعليه أن يقبل عليها ويتخلّى أولاً عن رذائل الأخلاق ويتحلّى بالفضائل منها وما يسمّى بجهاد النفس (بالتهذيب والتأديب).
ومن الواضح أنّ لتهذيب النفس وتأديبها أساليب وطرقاً نشير إلى بعضها بمقدار ما يسمح به البحث فنقول:
التربية والتهذيب:
1- الالتزام بالعبادات والقيام بها بقلب خاشع وحضور دائم يسبّب تهذيب النفس وسموّها الأخلاقيّ والمعنويّ وذلك لأنّ لكلّ عمل عبادي فوائد نفسيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة فمثلاً المصلّي لا ينفصل في عمله عن ذكر الآخرة والتوحيد إذا أتى بشرائط الصلاة بل وأيضاً فإنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، هذا بشكل شخصيّ أمّا بشكل جماعيّ فإنّ صلاة الجماعة تسبّب زيادة التقارب الأخويّ والتعارف ثم التعاطف، وكذلك في الصيام صبر وتحمّل ومواساة، وفي الحج تعارف وفضائل وتبادل منفعة إلى آخر العبادات ولا مجال هنا لذكر فضائلها وفوائدها جميعاً. والإنسان إذا التزم بأعماله العباديّة وجاء بها بشرائطها الشرعيّة الخاصّة التي ذكرها الفقهاء في الكتب الفقهيّة فإنّه سوف يحصّل على نتائجها الإيجابيّة ويتمتّع بفوائدها وفضائلها النفسيّة والمعنويّة هو أولاً ثمّ مجتمعه ثانياً.
التدبر في القرآن:
2- قراءة القرآن والتدبّر في آياته. فإنّ في القرآن أحكاماً وأخلاقاً وقصصاً وعبراً لا يمكن تحصيلها من أيّ كتاب آخر فمن أراد الشفاء من الرذائل فعليه بتعلّم القرآن.
قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): "تعلّموا كتاب الله تبارك وتعالى فإنّه أحسن الحديث وأبلغ الموعظة، وتفقّهوا فيه فإنّه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنّه شفاء لما في الصدور، وأحسنوا تلاوته فإنّه أحسن القصص" (19).
رفع المعنويات:
3 - الأدعية والأذكار:
إنّ من أفضل الأعمال وألّذها بل وأسهلها أيضاً أحياناً التي تدر على صاحبها بالخيرات والفضائل والسعادة احيانا وترتفع به معنوياًّ أكثر وأكثر: الدعاء. وعادة لو سأل الإنسان حاجته من شخص متمكّن لاحتاج إلى ذكر ألفاظ معيّنة وما شابه لقضاء حاجته وبالتالي يحصل على شيء مادّيّ بسيط، فكيف بالذي يسأل الله تعالى حاجته وهو الرحيم الكريم الذي لا يصل إلى رحمته وكرمه شيء.
ومن وصايا الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام): «واعلم أنّ الذي بيده خزائن ملكوت الدنيا والآخرة قد أذن لدعائك، وتكفّل لإجابتك وأمرك أن تسأله فيعطيك وهو رحيم كريم لم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى مَن يشفع لك إليه، ثمّ جعل في يدك مفاتيح خزائنه بما أذن فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب
خزائنه.." (20).
والإمام السجاد (عليه السلام) وضع صحيفة كاملة لنا في الدعاء ومن أراد فضائل الأخلاق فليغترف من منهل أهل البيت (عليه السلام) الذين ما تركوا لحظة في حياتهم إلّا وكانت لهم فيها مناجاة مع الله تعالى وذكر لله تعالى.
ومِن دعاء الإمام السجاد (عليه السلام) في مكارم الأخلاق:
"اللّهُمّ صلّ على محمّد وآله واكفني ما يشغلني الاهتمام به واستعملني بما تسألني غداً عنه واستفرغ أيامي فيما خلقتني له وأغنني وأوسع عليّ في رزقك ولا تفتنّي بالنظر وأعزّني ولا تبتلينّي بالكبر وعبّدني لك ولا تفسد عبادتي بالعجب وأجرِ للنّاس على يدي الخير ولا تمحقه بالمنّ وهب لي معالي الأخلاق واعصمني من الفخر.." (21).
صحبة الأخيار:
4- ومن العوامل الأخرى المهمة صحبة الأخيار والأصدقاء الفاضلين لاكتساب الصفات الحسنة، ومجانبة قرناء السوء والابتعاد عن مواطنهم، فإن للرفيق الأثر البالغ في عكس سلوكيّاته على الآخرين، فإن كان صالحاً فقد عكس صفات الخير وإن كان سيّئاً فإنّه يلطخ نفوس رفاقه بالشرّ وسوء الأخلاق وأنتم تقرأون في مساء كلّ جمعة آخر النهار دعاء السمات الذي يقول فيه: «واكفني مؤونة قرين السوء» (22).
أي التعوّذ من هؤلاء الأصحاب، وهذا ما أكّدته الأحاديث الشريفة
والتجارب الواقعية ومن الأحاديث الشريفة:
قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «ينبغي للعاقل أن يكثر من صحبة العلماء والأبرار» (23).
صاحب أخا ثقة تحظى بصحبته *** فالطبع مكتسب من كلّ مصحوب
كالريح آخذة ممّا تمرّ به *** نتناً من النتن أو طيباً من الطيب
وعنه (عليه السلام) أيضاً: «من حسن الاختيار مقارنة الأخيار، ومفارقة الأشرار» (24). و«عاشر أهل الفضل تسعد وتنبل» (25).
إنّ أخاك الصدق مَن يسعى معك *** ومَن يضرّ نفسه لينفعك
ومَن إذا ريب الزمان صدعك *** شتّت فيك شمله ليجمعك (26)
ومِن التجارب الواقعيّة على اكتساب الصفات من خلال القرناء:
يُذكَر أنّ هناك قرية في «هوليود بالولايات المتّحدة الأمريكيّة» مخصّصة لإخراج أفلام «الكاوبوي» التي تمتلىء بمظاهر الإجرام والقتل والسرقة فأصبح أهالي تلك القرية المقرّبون لهم مجموعة قتلة وسراق وزناة لماذا؟ إمّا لأنّ المساوئ حينما تنتشر تفقد قبحها في أذهان الناس فيتصرّفون وفقها، أو لأنّ نفس الإنسان تتأثّر بالمحيط الخارجيّ وتنعكس عليها صفاته وهذا ما أراده الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) من التنبيه عليه لصاحب الخلق السيّئ بأن يعالج مرضه النفسيّ، وإن لم يعمل على تبديله فإنّه وإن تاب يبقى يحمل المساوئ في تصرّفاته مع معاشرته لأهل بيته.
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه *** فكلّ قرين بالمقارن يقتدي
الاقتداء بالعلماء:
5- مطالعة سير الأخيار والنابغين للتعرّف على عواقب الأمور وعمل الخير، بأن يلقّن نفسه ذلك في كلّ صغيرة وكبيرة، وذلك بالتمعّن والتدبّر في سيرة الرسول الأعظم وأهل بيته (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) والأخيار من أصحابه كعمّار بن ياسر وأبي ذر الغفاريّ وسلمان الفارسيّ والمقداد، وكذلك سير العلماء الأعلام والتعرّف على النقاط المشرقة في علاقاتهم الروحيّة وأعمالهم ومواقفهم وحسن معاشرتهم للنّاس الداعية إلى التلبّس بالصفات الحسنة ومعالجة النفس من أشرارها وتعبّىء الإنسان علماً وبعد نظر في عواقب الأمور ونتائج الاختبار والعمل وفقها.
وأصحاب الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) أو الأئمة (عليهم السلام) المخلصون وعلماؤنا الأعلام قد تعلّموا من الرسول وأهل بيته (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) بعد النظر وحسن المعاشرة، وعمل الخير والنظر في عواقب الأمور ولذلك عندما يدخل ضرار بن ضمرة على معاوية بعد وفاة أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال معاوية لضرار صف لي عليّاً، فقال: اعفني من ذلك ، فقال معاوية أقسمت عليك لتصفنّه لي، فقال ضرار: إن كان لا بدّ من ذلك فإنّه كان والله بعيد المدى شديد القوى يقول فصلاً ويحكم عدلاً يتفجّر العلم من جوانبه وتنطق الحكمة من لسانه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان غزير الدمعة طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما جشب، وكان فينا كأحدنا يجيبنا إن سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع قربنا منه وقربه منّا لا نكاد نكلّمه هيبة له، يعظّم أهل الدين ويحبّ المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد بالله يا معاوية لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه قابضاً على لحيته الشريفة يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين وهو يقول إليكِ عنّي يا دنيا غرّي غيري، إليّ تعرّضتِ أم إليّ تشوقتِ هيهات هيهات فإنّي قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيكِ، فعمرك قصير، وخطرك كبير، وعيشك حقير ثم قال (عليه السلام): آه آه مِن قلّة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق ثمّ بكى ضرار وبكى معاوية وقال رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك (27).
الأسوة الحسنة:
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].
والأسوة يعني القدوة من الاقتداء بسيرة أو فعل أو قول والافتداء بأخلاق الرسول (صلى الله عليه وآله) نجاة من عذاب الآخرة وسير في طريق الكمال ونيل رضا الله تعالى، ومن كان يريد النجاة من رذائل الأخلاق باتصافه بفضائلها عليه أن يتعرف على أخلاق الرسول الأعظم وأهل بيته المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وعلى حسن معاشرتهم للأهل والأصحاب وحتى الأعداء والافتداء بسيرتهم؛ لأنّها من طرق علاج النفس ومداواتها من مساوئها.
فقد وصف الله تعالى نبيّه بالخلق العظيم {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] وهو الذي أقرّ على نفسه بأنّه متمّم الأخلاق، قال (صلى الله عليه وآله): «إنّما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» (28).
وهنا ننقل جملة من أحواله وخلقه (صلى الله عليه وآله) لنتأسّى به (صلى الله عليه وآله) ونتجنّب مساوئ الأخلاق.
عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «ما صافح رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحداً قطّ فنزع يده من يده حتّى يكون الرجل هو الذي ينزع يده.
وما فاوضه أحد قطّ في حاجة أو حديث فانصرف حتّى يكون الرجل هو الذي ينصرف.
وما نازعه أحد الحديث فيسكت حتّى يكون هو الذي يسكت وما رُئي مقدّماً رجله بين يدي جليس له قط.
ولا خيرَ بين أمرين إلّا أخذ بأشدّهما، وما انتصر لنفسه من مظلمة حتّى ينتهك محارم الله فيكون حينئذٍ غضبه لله تبارك وتعالى.
وما أكل متّكئاً قطّ حتّى فارق الدنيا.
وما سُئِلَ شيئاً قط فقال: لا، وما ردّ سائل حاجة قط إلّا بها أو بميسور من القول، وكان أخفّ النّاس صلاة في تمام، وكان أقصر الناس خطبة وأقلّهم هذراً.
وكان يُعرف بالريح الطيّب إذا أقبل، وكان إذا أكل مع القوم كان أوّل من يبدأ وآخر من يرفع يده، وكان إذا أكل أكل ممّا يليه، فإذا كان الرطب والتمر جالت يده (29)، وإذا شرب شرب ثلاثة أنفاس وكان يمصّ الماء مصّاً ولا يعبّه عبّاً، وكان يمينه لطعامه وشرابه وأخذه وإعطائه، فكان لا يأخذ إلّا بيمينه، ولا يعطي إلّا بيمينه، وكان شماله لما سوى ذلك من بدنه، وكان يحبّ التيمّن في كلّ أموره، وكان يقول:
إنّ خياركم أحسنكم أخلاقاً، وكان لا يذمّ ذوّاقاً ولا يمدحه، ولا يتنازع أصحابه الحديث عنده، وكان المحدّث عنه يقول: لم أرَ بعيني مثله قبله ولا بعده (صلى الله عليه وآله)" (30).
في مدرسة الرسول (صلى الله عليه وآله):
ولقد امتاز الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) بحسن العشرة مع زوجاته وأهل بيته وأصحابه بل حتّى مع أعدائه ومن الشواهد على ذلك:
قالت عائشة ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما دعاه أحد من أصحابه ولا أهل بيته إلّا قال: لبّيك (31).
وممّا يشهد له بالفضل والعفو واللين ومحاسن الأخلاق المواقف التي وقفها الرسول الأعظم من قريش وساداتها الذين لم يتركوا جهداً أو فعلاً أو قولا في سبيل إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه، وعندما فتح مكة ودخلها منتصراً لم يردّ الكيل بالكيل وإنّما عفى عن القوم الظالمين وسطّر أروع العبر للأجيال القادمة ويومها دخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنّون أنّ السيف لا يرفع عنهم، فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله) البيت الحرام وأخذ بعضادتي الباب وقال: «لا إله إلاً الله أنجز وعده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده».
ثم قال: «ما تظنّون؟ وما أنتم قائلون؟» فقال سهيل بن عمرو: نقول خيراً، ونظنّ خيراً، أخ كريم وابن عم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «فإنّي أقول لكم كما قال أخي يوسف: لا تثريبَ عليكم اليوم يغفر الله
لكم وهو أرحم الراحمين.
ثمّ قال قولته المشهورة: «فاذهبوا فأنتم الطلقاء» فخرج القوم كأنّما أُنشروا من القبور، ودخلوا في الإسلام (32).
وهذه الأخلاق الرائعة الفاضلة في التعامل مع العدو والصديق كانت من
أسباب انتشار الإسلام ورفع رايته على أنحاء المعمورة حيث بدأ أهل الأديان الأخرى يدخلون في دين الله لما رأوه من أخلاق النبي (صلى الله عليه وآله) الربّانيّة.
نموذج آخر:
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إنّ يهوديّاً كان له على رسول الله (صلى الله عليه وآله) دنانير فتقاضاه، فقال له: يا يهوديّ ما عندي ما أعطيك. فقال: فإنّي لا أفارقك يا محمد حتّى تقضيني، فقال: إذاً أجلس معك، فجلس معه حتّى صلّى في ذلك الموضع الظهر والعصر والمغرب والعشاء والآخرة والغداة، وكان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتهدّدونه ويتواعدونه، فنظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إليهم فقال: ما الذي تصنعون به؟ فقالوا يا رسول الله يهوديّ يحبسك؟ فقال (صلى الله عليه وآله): لم يبعثني ربّي عزّ وجلّ بأن أظلم معاهداً ولا غيره، فلمّا علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله، وشطر مالي في سبيل الله..» (33).
فمَن كان يريد أن يحسّن خلقه فليتمعّن فيما نقلناه من جملة أحواله وأخلاقه فهي من أفضل المكارم وأزينها وهذا ما حكم به العقل أيضاً لما فيها من صلاح ونجاح في الحياة. ومَن يريد التيقّن أكثر فعليه بالتجربة فكلا الطريقين قد صارا واضحين - الخلق الحسن والسيئ - بما قدّمناه من بيان سابق وتذكّر أحوال الموصوفين بسوء الخلق فهم بعيدون عن الله تعالى وعن رحمته والنّاس يبغضونهم ويشمئزّون منهم وأعمالهم في النتيجة فاشلة والله تعالى يأبى لهذا الإنسان قبول توبته.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «"أبى الله لصاحب الخلق السيّىء بالتوبة، فقيل: يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال: لأنّه إذا تاب من ذنب وقع في أعظم من الذنب الذي تاب منه" (34).
وأمّا صاحب الخلق الحسن فعكس ذلك فهو محبوب عند الله تعالى وعند الناس، وتوبته أيضاً مقبولة.. ولا يفوتنا هنا أن نذكر أهل البيت (عليه السلام) فهم امتداد طبيعيّ لأخلاق الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) والمنهل العذب لمَن أراد الفضائل ومكارم الأخلاق والعلاج الشافي للقلوب وخصوصاً وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتلميذه الأكبر أمير المؤمنين (صلّى الله عليه وآله) قال الإمام الباقر (عليه السلام): «إنّ عليّاً (عليه السلام) صاحب رجلاً ذمّيّاً، فقال له الذمّي: أين تريد يا عبد الله؟
قال: أريد الكوفة، فلمّا عدل الطريق بالذميّ عدل معه علي، فقال له الذمّي: أليس زعمت تريد الكوفة؟
قال: بلى، فقال له الذمّي: فقد تركت الطريق، فقال: قد علمت، فقال له: فلِمَ عدلت معي وقد علمت ذلك؟
فقال له علي (عليه السلام): هذا من تمام حسن الصحبة أن يشيّع الرجل صاحبه هنيئة إذا فارقه وكذلك أمرنا نبيّنا، فقال له: هكذا قال؟
قال: نعم، فقال له الذمّي: لا جرم إنّما تبعه من تبعه لأفعاله الكريمة، وأنا أشهدك أنّي على دينك، فرجع الذمّي مع علي (عليه السلام) فلمّا عرفه أسلم» (35).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) كلمة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): ص153.
(2) مجمع البيان: المجلّد الأول، ص 527، آل عمران.
(3) راجع موسوعة الفقه: الواجبات ج 92، ص 191 (بتصرّف).
(4) مستدرك الوسائل: ج 14، ص 247، باب 62، ح 5.
(5) راجع موسوعة الفقه: المحرّمات، ج 93، ص 234.
(6) البحار: ج 101، ص 92، باب 105، ح 14، ط ـ بيروت.
(7) فروع الكافي: ج 6، ص 50، باب برّ الأولاد، ح 7.
(8) البحار: ج 71، ص40، باب 2، ح 3.
(9) أصول الكافي: ج 2، ص348، باب العقوق، ح 1، ط 3.
(10) البحار: ج 71، ص 80، باب 2، ح 82.
(11) البحار: ج70، ص298، باب 135، ح 11، ط ـ بيروت.
(12) البحار: ج71، ص90، باب 3، ح9.
(13) تصنيف غرر الحكم: ص 406، ط ـ الأولى.
(14) جامع السعادات: ج 2، ص265.
(15) المصدر نفسه.
(16) الوافي: ج3، ص94 عن الكافي.
(17) المستدرك: ج 2، ص283.
(18) الكافي: ج2، ص 321، باب سوء الخلق، ح1.
(19) البحار: ج74، ص 290، باب 14، ح 2، ط ـ بيروت.
(20) البحار: ج 74، ص 204، باب 8، ح 1، ط ـ بيروت.
(21) الصحيفة السجّاديّة: دعاء مكارم الأخلاق.
(22) مفاتيح الجنان: دعاء السمات.
(23) تصنيف غرر الحكم: ص 429 ـ 430 ط ـ الأولى.
(24) المصدر نفسه.
(25) المصدر نفسه.
(26) المستطرف: ج1، ص 266.
(27) راجع المجالس السنية: المجلس 183، ص 104.
(28) مجمع البيان: المجلّد 5، ص 500، سورة القلم.
(29) أي: أخذ من كلّ جانب.
(30) مكارم الأخلاق: ص23، ط 6.
(31) كحل البصر في سيرة سيد البشر (صلى الله عليه وآله): ص 94.
(32) راجع البحار: ج 21، ص 132، باب فتح مكة، ط ـ بيروت.
(33) البحار: ج 16، ص 216، باب 9، ح 5، ط ـ بيروت.
(34) البحار: ج 70، ص 299، باب سوء الخلق، ح 12.
(35) البحار: ج 41، ص 53، باب 104، ح 5، ط ـ بيروت.