الأدب
الشعر
العصر الجاهلي
العصر الاسلامي
العصر العباسي
العصر الاندلسي
العصور المتأخرة
العصر الحديث
النثر
النقد
النقد الحديث
النقد القديم
البلاغة
المعاني
البيان
البديع
العروض
تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب
الحكم المستنصر
المؤلف: أحمد بن محمد المقري التلمساني
المصدر: نفح الطِّيب من غصن الأندلس الرّطيب
الجزء والصفحة: مج1، ص:382-387
22-5-2022
2203
الحكم المستنصر
ولما توفي الناصر لدين الله (1) تولى الخلافة بعده ولي عهده الحكم المستنصر بالله فجرى على رسمه، ولم يفقد من ترتيبه إلا شخصه، وولي حجابته جعفر المصحفي، وأهدي له يوم ولايته هدية كان فيها من الأصناف ما ذكره ابن حيان في المقتبس وهي: مائة مملوك من الإفرنج ناشئة (2) على خيول صافنة كاملو الشكة والأسلحة من السيوف والرماح والدرق والتراس والقلانس الهندية، وثلاثمائة ونيف وعشرون درعا مختلفة الأجناس، وثلاثمائة خوذة كذلك، ومائة بيضة هندية، وخمسون خوذة خشبية (3) من بيضات الفرنجة من غير الخشب (4) يسمونها الطشطانة (5) ، وثلاثمائة حربة إفرنجية، ومائة ترس سلطانية (6) ، وعشرة جواشن فضة مذهبة، وخمسة وعشرون قرنا مذهبة من قرون الجاموس، انتهى.
قال ابن خلدون (7) : ولأول وفاة الناصر طمع الجلالقة في الثغور، فغزا الحكم المستنصر بنفسه، واقتحم بلد فرذلند بن غندشلب (8) ، فنازل شنت اشتبين (9)
(382)
وفتحها عنوة واستباحها، وقفل، فبادروا إلى عقد السلم معه وانقبضوا عما كانوا فيه، ثم أغزى غالبا مولاه بلاد جليقية وسار إلى مدينة سالم لدخول دار الحرب، فجمع له الجلالقة، ولقيهم فهزمهم واستباحهم وأوطأ العساكر بلد فرذلند ودوخها، وكان شانجة (10) بن رذمير ملك البشكنس قد انتقض، فأغزاه الحكم التجيبي صاحب سرقسطة في العساكر، وجاء ملك الجلالقة لنصره، فهزمهم، وامتنعوا بقورية (11) ، وعاثوا في نواحيها، وقفل، ثم أغزى الحكم أحمد بن يعلى ويحيى بن محمد التجيبي إلى بلاد برشلونة، فعاثت العساكر في نواحيها، وأغزى هذيل بن هاشم ومولاه غالبا إلى بلاد القومس، فعاثا فيها، وقفلا، وعظمت فتوحات الحكم وقواد الثغور في كل ناحية، وكان من أعظمها فتح قلهرة (12) من بلاد البشكنس على يد غالب، فعمرها الحكم، واعتنى بها، ثم فتح قطوبية (13) على يد قائد وشقة وغنم فيها من الأموال والسلاح والأقوات والأثاث وفي بسطها من الغنم والبقر والرمك والأطعمة والسبي ما لا يحصى.
وفي سنة أربع وخمسين سار غالب إلى بلد ألبة، ومعه يحيى بن محمد التجيبي وقاسم بن مطرف بن ذي النون، فابتنى حصن غرماج (14) ، ودوخ بلادهم، وانصرف.
وظهرت في هذه السنة مراكب المجوس في البحر الكبير، وأفسدوا بسائط أشبونة وناشبهم الناس القتال، فرجعوا إلى مراكبهم، وأخرج الحكم
(383)
القواد لاحتراس السواحل، وأمر قائد البحر عبد الرحمن بن رماحس بتعجيل حركة الأسطول،ثم وردت الأخبار بأن العساكر نالت منهم في كل جهة من السواحل.
ثم كانت وفادة أردون بن أذفونش ملك الجلالقة، وذلك أن الناصر لما أعان عليه شانجة بن رذمير - وهو ابن عمه، وهو الملك (15) من قبل أردون - وحمل النصرانية على طاعته، واستظهر أردون بصهره فرذلند قومس قشتيلة، وتوقع مظاهرة الحكم لشانجة كما ظاهره أبوه الناصر، فبادر إلى الوفادة على الحكم مستجيرا به، فاحتفل لقدومه، وعبى العساكر ليوم وفادته، وكان يوما مشهودا وصفه ابن حيان كما وصف أيام الوفادات قبله، ووصل إلى الحكم وأجلسه، ووعده بالنصر من عدوه،وخلع عليه، وكتب بوصوله ملقيا بنفسه، وعاقده على موالاة الإسلام، ومقاطعة فرذلند القومس، وأعطى على ذلك صفقة يمينه. ورهن ولده غرسية، ودفعت الصلات والحملان له ولأصحابه، وانصرف معه وجوه نصارى الذمة ليوطدوا له الطاعة عند رعيته، ويقبضوا رهنه.
وعند ذلك بعث ابن عمه شانجة بن رذمير ببيعته وطاعته مع قواميس أهل جليقية وسمورة وأساقفتهم، يرغب في قبوله، ويمت بما فعل أبوه الناصر معه، فتقبل بيعتهم على شروط شرطها كان منها هدم الحصون والأبراج القريبة من ثغور المسلمين.
ثم بعث ملكا برشلونة وطركونة وغيرهما يسألان تجديد الصلح وإقرارهما على ما كانا عليه، وبعثا بهدية، هي: عشرون صبيا من الخصيان الصقالبة، وعشرون قنطارا من صوف السمور، وخمسة قناطير من القصدير، وعشرة أدراع صقلبية، ومائتا سيف فرنجية، فتقبل الهدية وعقد لهم على أن يهدموا
(384)
الحصون التي تضر بالثغور، وأن لا يظاهروا عليه أهل ملتهم، وأن ينذروا بما يكون من النصارى في الإجلاب على المسلمين.
ثم وصلت رسل غرسية بن شانجة ملك البشكنس في جماعة من الأساقفة والقواميس يسألون الصلح، بعد أن كان توقف وأظهر المكر، فعقد لهم الحكم، فاغتبطوا ورجعوا.
ثم وفدت على الحكم أم لذريق بن بلاشك القومس (16) بالغرب من جليقية، وهو القومس الأكبر، فأخرج الحكم لتلقيها أهل دولته، واحتفل لقدومها في يوم مشهود مشهور، فوصلت وأسعفت، وعقد السلم لابنها كما رغبت، ودفع لها مالا تقسمه بين وقدها، دون ما وصلت به هي، وحملت على بغلة فارهة بسرج ولجام مثقلين بالذهب وملحفة ديباج، ثم عاودت مجلس الحكم للوداع، فعاودها بالصلات لسفرها، وانطلقت.
ثم أوطأ عساكره أرض العدوة من المغرب الأقصى والأوسط، وتلقى دعوته ملوك زناتة من مغراوة ومكناسة، فبثوها في أعمالهم، وخطبوا بها على منابرهم، زاحموا بها دعوة الشيعة فيما بينهم، ووفد عليه من بني خزر وبني أبي العافية، فأجزل صلتهم، وأكرم وفادتهم، وأحسن منصرفهم، واستنزل بني إدريس من ملكهم العدوة في ناحية الريف، وأجازهم البحر إلى قرطبة، ثم جلاهم إلى الإسكندرية.
وكان محبا للعلوم، مكرما لأهلها، جماعا للكتب في أنواعها بما لم يجمعه أحد من الملوك قبله، قال أبو محمد بن حزم: أخبرني تليد الخصي - وكان على خزانة (17) : العلوم والكتب بدار بني مروان - أن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة، وفي كل فهرسة عشون ورقة (18) ، ليس فيها
(385)
إلا ذكر أسماء الدواوين لا غير، وأقام للعلم والعلماء سوقا نافقة جلبت إليها بضائعه من كل قطر. ووفد على أبيه (19) أبو علي القالي صاحب كتاب الأمالي من بغداد فأكرم مثواه، وحسنت منزلته عنده، وأورث أهل الأندلس علمه، واختص بالحكم المستنصر واستفاد علمه؛ وكان يبعث في الكتب (20) إلى الأقطار رجالا من التجار، ويرسل (21) إليهم الأموال لشرائها، حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه، وبعث في كتاب الأغاني إلى مصنفه أبي الفرج الأصفهاني، وكان نسبه في بني أمية، وأرسل إليه فيه بألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق، وكذلك فعل مع القاضي أبي بكر الأبهري المالكي في شرحه لمختصر ابن عبد الحكم، وأمثال ذلك. وجمع بداره الحذاق في صناعة النسخ والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد، فأوعى من ذلك كله، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده، إلا ما يذكر عن الناصر العباسي بن المستضيء، ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البربر، وأمر بإخراجها وبيعها الحاجب واضح من موالي المنصور بن أبي عامر، ونهب ما بقي منها عند دخول البربر قرطبة واقتحامهم إياها عنوة، انتهى كلام ابن خلدون ببعض اختصار.
ولنبسط الكلام على الحكم فنقول (22) : إن الحكم المستنصر اعتلى سرير الملك ثاني يوم وفاة أبيه يوم الخميس، وقام بأعباء الملك أتم قيام، وأنفذ الكتب إلى الأفاق بتمام الأمر له،ودعا الناس إلى بيعته، واستقبل من يومه النظر في تمهيد سلطانه، وتثقيف مملكته، وضبط قصوره، وترتيب أجناده، وأول ما أخذ
(386)
البيعة على صقالبة قصره الفتيان المعروفين بالخلفاء الأكابر، كجعفر صاحب الخيل والطراز وغيره من عظمائهم، وتكفلوا بأخذها على من وراءهم وتحت أيديهم من طبقتهم وغيرهم، وأوصل إلى نفسه في الليل دون هؤلاء الأكابر من الكتاب والوصفاء والمقدمين والعرفاء، فبايعوه، فلما كملت بيعة أهل القصر تقدم إلى عظيم دولته جعفر بن عثمان بالنهوض إلى أخيه شقيقه أبي مروان عبيد الله المتخلف بأن يلزمه الحضور للبيعة دون معذرة، وتقدم إلى موسى بن أحمد بن حدير بالنهوض أيضا إلى ابي الأصبغ عبد العزيز شقيقه الثاني، فمضى إليهما كل واحد منهما في قطيع من الجند، وأتيا بهما إلى قصر مدينة الزهراء، ونفذ غيرهما من وجوه الرجال في الخيل لإتيان غيرهما من الإخوة، وكانوا يومئذ ثمانية، فوافى جميعهم الزهراء في الليل، فنزلوا في مراتبهم بفصلان (23) دار الملك، وقعدوا في المجلسين الشرقي والغربي، وقعد المستنصر بالله على سرير الملك في البهو الوسط من الأبهاء المذهبة القبلية التي في السطح الممرد، فأول من وصل إليه الإخوة فبايعوه، وأنصتوا لصحيفة البيعة، والتزموا الأيمان المنصوصة بكل ما انعقد فيها، ثم بايع بعدهم الوزراء وأولادهم وإخوتهم، ثم أصحاب الشرطة وطبقات أهل الخدمة، وقعد الإخوة والوزراء والوجوه عن يمينه وشماله، إلا عيسى بن فطيس فإنه كان قائما يأخذ البيعة على الناس، وقام الترتيب على الرسم في مجالس الاحتفال المعروفة، فاصطف في المجلس الذي قعد فيه أكابر الفتيان يمينا وشمالا إلى آخر البهو كل منهم على قدره في المنزلة، عليهم الظهائر البيض شعار الحزن، قد تقلدوا فوقها السيوف، ثم تلاهم الفتيان الوصفاء، عليهم الدروع السابغة والسيوف الحالية، صفين منتظمين في السطح، وفي الفصلان المتصلة به ذوو الأسنان من الفتيان الصقالبة الخصيان لابسين البياض، بأيديهم السيوف، يتصل بهم من دونهم من طبقات
(387)
الخصيان الصقالبة، ثم تلاهم الرماة متنكبين قسيهم وجعابهم، ثم وصلت صفوف هؤلاء الخصيان الصقالبة صفوف العبيد الفحول شاكين في الأسلحة الرائقة والعدة الكاملة، قامت التعبية في دار الجند والترتيب من رجالة العبيد عليهم الجواشن والأقبية البيض، وعلى رؤوسهم البيضات الصقيلة (24) ، وبأيديهم التراس الملونة والأسلحة المزينة، انتظموا صفين إلى آخر الفصل، وعلى باب السدة الأعظم البوابون وأعوانهم، ومن خارج باب السدة فرسان العبيد إلى باب الأقباء، واتصل بهم فرسان الحشم وطبقات الجند والعبيد والرماة، موكبا إثر موكب، إلى باب المدينة الشارع إلى الصحراء، فلما تمت البيعة أذن للناس بالانفضاض، إلا الإخوة والوزراء وأهل الخدمة فإنهم مكثوا بقصر الزهراء إلى أن احتمل جسد الناصر - رحمه الله - إلى قصر قرطبة للدفن هنالك في تربة الخلفاء.
وفي ذي الحجة من سنة خمسين تكاثرت الوفود بباب الخليفة الحكم من البلاد للبيعة والتماس المطالب، من أهل طليطلة وغيرها من قواعد الأندلس وأصقاعها، فتوصلوا إلى مجلس الخليفة بمحضر جميع الوزراء والقاضي منذر بن سعيدوالملأ، فأخذت عليهم البيعة، ووقعت الشهادات في نسخها.
__________
(1) سياق الخبر جسبما ورد في ابن خلدون 4: 144.
(2) ك: ناشبة.
(3) ق ك: وخمسون هندية خشبية.
(4) كذا ولعلها: " من خير الخشب " .
(5) ابن خلدون: الطاشانة؛ والطشطانة (Tistina) كلمة مشتقة من البروفنسالية (Testa) (أي الرأس Tete) وتكتب أيضا طشتانية وتعني " الخوذة " .
(6) ابن خلدون: سلطانية الجنس.
(7) تاريخ ابن خلدون 4: 144 والكلام متصل بما قيله في النقل عنه.
(8) فرذلند (Fernando Ferdinand)؛ غند شلب (جنثالث) (Gonzalo).
(9) شنت اشتيبين (وفي ق ك ط قدمت الباء الموحدة على الياء) (San Esetban) وبها يسمى غير موضع بالأندلس، ولكن المعنى هنا المدينة القريبة من وشقة (Huesca)
(10) ق ج ك ط: شنجة.
(11) قورية (Coria) من مدن كورة ماردة وكانت تعرف قبل فتح العرب باسم (Caurium).
(12) في ك: قلمرية (Coimbra) فهي حسب التقسيمات القديمة من قسم طركونة ومن قواعد منطقة نبره (نافار).
(13) كذا في ق ك ج ط وعند دوزي، ولعل الصواب: قطريبه (Yerba).
(14) غرماج (Gormaz)؛ (وانظر أخبارا عما حدث لهذا الحصن في المقتبس: 234 ط. بيروت).
(15) ق: المملك.
(16) لذريق بن بلاشك (أو بلشك) (Rodrigo Velasques) وأمه هي: (Oneca).
(17) انظر الجمهرة: 100 وابن خلدون 4: 146.
(18) الجمهرة: خمسون ورقة.
(19) ك: قال أبو محمد بن خلدون ولما وفد... أكرم.
(20) ك: في شراء الكتب.
(21) ج: ويسدي؛ ط ق: ويسري.
(22) انظر أزهار الرياض 2: 286 والنص متفق مع النفح حتى آخر قصيدة المرادي ص:
394.
(23) الفصلان والفصل: جمع فصيل، ويقابل (Porticus) باللاتينية، وهو الرحبة عند مدخل البيت، وتكون الفصلان فيما يبدو على شكل رحاب وصحون متوالية تحددها هيئة الأعمدة.
(24) ك: الصقلبية؛ وفي بعض النسخ: الصقلية.