x

هدف البحث

بحث في العناوين

بحث في المحتوى

بحث في اسماء الكتب

بحث في اسماء المؤلفين

اختر القسم

القرآن الكريم
الفقه واصوله
العقائد الاسلامية
سيرة الرسول وآله
علم الرجال والحديث
الأخلاق والأدعية
اللغة العربية وعلومها
الأدب العربي
الأسرة والمجتمع
التاريخ
الجغرافية
الادارة والاقتصاد
القانون
الزراعة
علم الفيزياء
علم الكيمياء
علم الأحياء
الرياضيات
الهندسة المدنية
الأعلام
اللغة الأنكليزية

موافق

الأدب

الشعر

العصر الجاهلي

العصر الاسلامي

العصر العباسي

العصر الاندلسي

العصور المتأخرة

العصر الحديث

النثر

النقد

النقد الحديث

النقد القديم

البلاغة

المعاني

البيان

البديع

العروض

تراجم الادباء و الشعراء و الكتاب

محمود صفوت الساعاتي

المؤلف:  عمر الدسوقي

المصدر:  في الأدب الحديث

الجزء والصفحة:  ص:133-143ج1

30-9-2019

5118


محمود صفوت الساعاتي(1):
وهاك مثلًا لشاعرٍ استطاع بمواهبه أن يفصح عن شخصيته، وإن تراءت من بعيدٍ حائلة اللون، غير واضحة المعالم، تحاول جهدها أن تظهر من خلال هذه السدف الغليظة من التقاليد الموروثة في الشعر العربيّ, ولا سيما عصور الركة والانحلال, وقد أوتي حظًّا من اللسن والفصاحة فاستطاع أن يجيد في غير ما موضع من شعره، حتى ليعده بعضهم طليعةً للنهضة الحديثة، وممهدًا للطريق الذي سلكه البارودي من بعد.
ولد الساعاتي بالقاهرة سنة 1241هـ-1825م, وظلَّ بها إلى أن بلغ الثانية عشرة، ثم ارتحل إلى الإسكندرية فأقام بها ثمانية أعوام، ولم يدخل الساعاتي الأزهر كما دخله علي أبو النصر, وعلي الليثي، ومحمد شهاب، وعبد الله فكري, وغيرهم، بل يقال: إنه لم يتعلم النحو, وإنما استظهر ديوان المتنبي, وكثيرًا من أشعار القدماء فاستقام لسانه، وعظم مخزونه من الأدب، وقد ظهر تأثير المتنبي في شعره واضحًا، وكان بينه وبين النحاة مناقشات طويلة كما سنرى.
وكان تلميذا للشيخ حسن قويدر، يغشى مجلسه, ويأخذ عنه الأدب، وكان الشيخ قويدر غنيًّا كريمًا، ومات سنة 1845، وكانت سن الساعاتي حينئذ عشرين سنة، وهذا كل ما نعلمه عن ثقافة هذا الشاعر وحياته حتى هذه السن، وقد رثى الشيخ قويدر بقصيدة مطلعها:
بكت عيون العلا وانحطت الرتب ... ومزقت شملها من حزنها الكتب
وفيها يقول: وقد حشاها بالمبالغات السخيفة، وهي ليست قوية النسج, مما يدل على أنها من أوائل ما نظم:
(1/133)
يا شمس فضل فدتك الشهب قاطبة ... إذ عنك لا أنجم تغني ولا شهب
لما أصابك لا قوس ولا وتر ... سهم المنية كاد الكون ينقلب
ما حيلة العبد والأقدار جارية ... العمر يوهب والأيام تنتهب
لو افتدتك المنايا عندما فتكت ... بخيرنا لفدتك العجم والعرب
وأمست لفقدك عين العلم سائلة ... ترجو الشفاء وأنَّى ينجح الطلب
إلى آخر هذا النظم الذي ينبئنا بأن ذوق الشاعر لم يكن قد تهذَّب بعد، وأنه يحاكي الشعراء المتأخرين في نسجهم الضعيف, واستعاراتهم السمجة، مثل "عين العلم سائلة" وغير ذلك.
وفي سن العشرين بدا له أن يحج إلى بيت الله الحرام، وهناك اتصل بأشراف مكة "آل عون"، فأكرموه، واصطحبوه معهم في غزواتهم, وحروبهم مع آل سعود وأمراء اليمن، وظل بجوارهم خمس سنواتٍ يسجل انتصاراتهم، ويسبغ عليهم مديحه، ولما عزل الأمير محمد بن عون عن إمارة مكة، ورحل إلى الآستانة, صحبه الشاعر ثمة، ومكث معه قليلًا، ثم تركه، ورجع إلى مصر، ولسنا ندري سببًا لتركه: أيئس من عودة الأمير إلى أريكته, فأراد أن يبحث عن شخصٍ آخر يستظل بظله؟ أم أن الأمير رأى نفسه معزولًا قليل المال, فبرم بصحبة شاعرٍ يعوله وينفق عليه في غربته؟ ولما عاد إلى إمارته لم يستدع شاعره الصداح، وفي شعر الساعاتي ما يدل على أن القطيعة كانت من الأمير من مثل قوله يخاطبه:
أوليتني الآلاء ثم تركتني ... مثل الذي حلت به اللأواء
ما كان ذا أملي الذي أملته ... فيكم وأنتم سادة كرماء
ويقول:
وحبوتموني بعدها بقطيعة ... أكذا يكون تكرم وحباء
(1/134)
وقال مرةً يعاتبه، ويظهر يأسه منه، وكأنه يودعه إلى غير رجعة:
قضى العبد بعض الواجبات بقصده ... إليكم وقد جوزي بما هو أعظم
ونال الذي قد كان يرجوه وانقضت ... أمانيه منكم، والسلام عليكم
وعلى الرغم من هذه القطيعة, فقد ظل الشاعر يتحسر على أيامه الخاليات، وعلى المودة المفقودة، ويتعذر عن جرم لا ندري كنهه للشريف محمد، ولأولاده من بعده عبد الله، وحسين، وعلي، فيقول للشريف عبد الله:
شددت بكم بعد الإله عزائمي ... فكنت عليهم بالعذاب شديدًا
وإني أعيذ النفس بعد لعفوكم ... وإن جلَّ ذنبي أو مكثت بعيدًا
ويقول مرة أخرى للشريف عبد الله:
فإني لم أبرح على العهد مخلصًا ... وإن طال عهد البعد واشتقت معهدًا
ويبدو أن الشريف عبد الله كان يصله على البعد، ولكن كان يأمل أن يستدعيه لديه:
يقلدني فضلًا عن البعد بيننا ... وأطمع حرصًا في شنوف المسامر
ويتذلل للشريف حسين, ويطلب العفو:
أقلني وبادر بالجميل فإنني ... أرى العفو دومًا ممن صفات الأماجد
ولما يئس الشاعر من صلاتهم، والعودة إليهم بعد كل ما قدمه من زلفى ومن قصائد يرسلها إليهم في كل المناسبات, قال للشريف حسين:
عللت نفسي غرورًا بالمواعيد ... فكان تعليلها عنوان تفنيد
إلى متى وإلى كم لا أرى زمني ... إلّا كذا بين تقريب وتبعيد؟!
قالوا ذكاؤك محسوب عليك كما ... يروى، فقلت حديث غير مردود
(1/135)
وما كان أغنى الشاعر عن هذه الضراعة والذلة, وهذا الإلحاح المشين في الطلب, وأغلب الظن أنه لم يكن يراه بهذا المنظار, وإنما يقتفي آثار الألى عبدوا له طريق المدح, والإلحاف في المسألة من لدن النابغة الذبياني حتى عصر إسماعيل، ولم يجد في قوله هذا ما يخل بالكرامة أو يشين المروءة، ونحن إنما نحكم عليه وعلى أمثاله من الذين طبعوا الشعر العربيّ بهذا الطابع؛ لأننا في عصرٍ تغيرت فيه قيم الأشياء، وصرنا نعتد بالأدب الشعبيّ القوميّ، وبالشعور الخاص، والعواطف الكامنة في نفس الأديب، ونجوى خياله وروحه، أكثر من التفاتنا إلى شعر المناسبات، والسير في ركاب العظماء، والتمدح بمناقب الأغنياء, ولكننا نتساءل: ألم يكن بمصر أمراء يكفون الشاعر لو تقرب منهم مؤنة هذا التسول؟ ولماذا قصر في مدح إسماعيل إذا لم يثبه سعيد على مديحه إياه ثوابًا يرضيه؟ وهل ثلاث قصائد تكفي في إسماعيل, وهو من هو حدبًا على الأدب والأدباء، وهو الذي أظل بعطفه العليين أبا نصر والليثي، هما دون الساعاتي قدرةً على النظم, ومتانة شعر, وسمو خيال, أيهما المقصر: إسماعيل إذ لم يضم إلى حاشيته وندمائه هذا الشاعر؟ أو الساعاتي إذ انصرف إلى مديح آل عون بمكة، واشتهر بإخلاصه لهم، وجعل شعره حبسًا عليهم إلّا القليل، ورأى أن باب إسماعيل قد سبقه إليه شاعران آخران, واحتلّا لدنه مكانةً ومقامًا؟ فلم يشأ أن يدع طريقًا عرفه، ونوالًا جربه وذاق حلاوته، وينافس آخرين في أمرٍ لا يعرف مصيره، فظلَّ على ولائه لآل عون يمدحهم في كل مناسبة: إذا غزوا، وإذا أبلوا من مرض، وإذا ولد لهم مولود، ويقول فيهم:
أحبهم ما دمت حيًّا ديانةً ... وأرغب لكن عن سواهم ترفعًا
وقد سار شعري بين شرق ومغرب ... فما اختيار غير البيت والآل موضعًا
وما طار في الآفاق بدعًا مديحهم ... ولكنه نشر زكي تضوعًا
(1/136)
وكان يرى أنهم هم الذين أطلقوا لسانه بعطاياهم، وعلموه الشعر، ولولاهم ما نظم قصيدًا:
نظمت حالي ولولا سلك فضلكم ... ما كان قولي ولا فعلي بمتنظم
علمتني الحمد والشكر الجزيل على ... فعل الجميل بما توليه من نعم
ما كنت لولاكم أبغي الفوائد من ... نظم الفوائد في اسم ولا علم
وعلى الرغم من هذا الولاء، ومن دءوب الشاعر على مدحهم في كل مناسبة, وهو عنهم بعيد, فإنهم لم يستجيبوا لرجائه دعوته إليهم، ولعل للمنافسات التي كانت بين الشاعر، وبين بعض الحجازين(2) أثرًا في هذه الجفوة، فقلما خلت حاشية أمير عظيم, سمح النفس, سخي اليد من أمثال هؤلاء الحساد لكلِّ من نال لديه حظوةً أو نبغ وقصروا, وما أمر المتنبي وسيف الدولة بمجهول، ولقد بلى
(1/137)
الساعاتي بمثل ما بُلِيَ به المتنبي من هؤلاء النحاة الذين يحاولون الوقيعة بينه(3) وبين ممدوحه, كما فعلوا مع أبي الطيب من قبل، لكنه انتصر عليهم في كل مرةٍ تعرضوا فيها لأدبه، وأغلب الظن أنهم لم يتركوه يهنأ بهذه المنزلة، وحاولوا جهدهم أن يزحزحوه عن مكانه، وفي ذلك يقول معرضًا بهم:
لا تعدلوا بالشعر كل معمم ... كالثور ذي القرنين بالإسكندر
ما كل من يملي القصيدة ناظم ... قد ينتمي للشعر من لم يشعر
لو كان فيهم شاعر لوقفت في ... ديوانه أدبًا، ولم أتكبر
يا آل محسن لم يزل إحسانكم ... يدع الدنيء على حماكم يجتري
بل يحاول أن يوقع بهم كما حاولوا الوقيعة به، وأن يفسر بغضهم له لإخلاصه لآل عون:
فما أبغضوا مثلي سدًى غير أنهم ... يعدون مدحي فيكم كالمأتم
ألم تر حسانًا ولى أسوة به ... وما كان يلقى من عد آل هاشم
إذا زعموا أني مع الفضل جاهل ... فقل لهم: هاتوا فصاحة عالم
فدعني من قول النحاة فإنهم ... تعدوا لصرف النطق في غير لازم
وما أنا إلّا شاعر ذو طبيعة ... ولست بسرَّاقٍ كبعض الأعاجم
(1/138)
شعره:
قدمنا عند الكلام على الساعاتي، والمدرسة التي ينتمي إليها, بأن له شخصية في شعره، وأن هذه الشخصية استطاعت البروز والوضوح على الرغم من كثافة التقاليد الشعرية الموروثة.
أجل! استطاع أن يتخلص في بعض قصائده من المحسنات البديعية، وأن يرتفع بديباجته عن درك الغثاثة والركة، وأن يعبِّرَ عن شعره تعبيرًا واضحًا، وأن يشعرك على الرغم من معانيه المطروقة بأنه أحسن التقليد وأضفى عليه شيئًا من نفسه وروحه, ومع كل هذا فمعظم شعره من ذلك النوع الذي ساد أيام المماليك وبني عثمان, وقلما خلت قصيدة من تاريخ وتعمد للصناعة والزخرف.
1- ترى الشاعر يجيد في الحماسة، ويقوى شعره وتشرق ديباجته، اسمعه يقول مادحًا سعيدًا، وقد عزم على زيارة المصطفى -عليه السلام:
ملأت قلوب العرب رعبًا فما دروا ... بعثت لهم بالكتب أم بالكتائب
تركتهم في أمرهم بين صادق ... وآخر في تيهٍ من الظن كاذب
تسير لهم في بحرٍ جيش عرموم ... يفيض بموج الحتف من كل جانب
إذا هتفوا باسم العزيز تزلزلت ... جبال عليها الذل ضربة لازب
فكيف إذا يممت بالشهب أرضهم ... وزاحمت ما في أفقهم بالنجائب
وجُرد عليها الأسد في قصب القنا ... ترى الأسد في الآجام مثل الثعالب
وخيرٌ من هذا قوله يمدح الشريف ابن عون, ويصف غزوته لبني سليم:
وأضرمتم النيران فيهم وأضرموا ... لهم نار حرب مثل نار الحباحب(4)
كررتم على أهل الجبال بمثلها ... جبال رجال سيرت بالركائب
وما ثبتوا إلّا قليلًا وزلزلوا ... وأبطالكم ما بين ضارٍّ وضارب
(1/139)
رأوا باترات البيض تغمد فيهم ... وتخرج من أصلابهم والترائب
فملوا ومالوا للهزيمة بعدها ... وملتم على أرواحهم ميل ناهب
فهذه الديباجة القوية، وهذه الفحولة قد طال انتظار الشعر العربيّ لها, ولعل في حفظ الشاعر للمبتنبي ما جعله يجيد في الحماسة ووصف المعارك، كما كان المتنبي يجيدها وهو يمدح سيف الدولة، وقد شهد الساعاتي معارك آل عون مع أعدائهم, كما شهد المتنبي معارك سيف الدولة مع الروم وغيرهم.
2- ومن الأغراض التي وُفِّقَ الشاعر للقول فيها العتاب، وقد سلمت له أبيات جيدة في هذا الباب مثل قوله يعاتب آل عوان:
إني على العهد القديم وإنما ... حظ الأديب عداوة الأرزاق
عاملتموني بالجفاء، رويدكم ... الورد ذو أرجٍ بلا إحراق
مالي أراكم تنكرون مكانتي ... الشمس لا تخفى من الإشراق
قلدتم غيري الجميل وقلتم ... حسب الخغرد زينة الأطواق
أسديتم الجدوى له وسددتم ... طرق الرجاء عليَّ بالإطراق
إن لم يكن مثلي يسيء ومثلكم ... يغضي، فإين مكارم الأخلاق؟
ويقول معاتبًا صهرًا له:
هلّا اتخذتم سوى أعراضنا غرضًا ... يُرْمَى وصيرتم الإكثار تقليلا
إنا لنضرب صفحًا عن بوادركم ... ولو أردنا أسأنا الرد تنكيلا
لكن نصون عن الفحشاء ألسنةً ... هي الأسنة تجريحًا وتعديلا
فليتكم تحسنون الظن إذ حسنت ... منا الظنون، وكان الود مأمولا
رأيت وصلكم قطعًا وحبكم ... بغضًا ونصركم للصهر تخذيلا
ومن عتابه الرقيق قوله:
كنا وكنتم فأكثرنا زياراتكم ... ونحن مثلان في فقر وإفلاس
كانت مناسبة الحالين تجمعنا ... ومن يدوم على حال من الناس
(1/140)
والعتاب، كما نعلم، بابًا ليس جديدًا في الشعر العربيّ، بل طرقه قبل الساعاتي كثيرون, وأتت معانيه فيه مما وردت عند غيره من شعراء العتاب، وكان الساعاتي أحيانًا يستعمل الكلام المألوف العاديّ في العتاب, حتى يفهم المعاتب ما يقول:
3- وقد ظهرت شخصيته في نصائحه التي قدمها لممدوحيه، والتفاته للشعب، وطلب الرأفة به، وحسن معاملته، كقوله للشريف ابن عون:
فما استقام عماد الملك منتصبًا ... إلّا إلى قائم بالعلم والعمل
ودولة الجد ما انقادت ولا خضعت ... إلّا إلى عادل للشرع ممتثل
ما راقب الله مولى في رعيته ... إلّا وأدرك منها غاية الأمل
ويطلب العفو لأعداء ممدوحه محاكيًا المتنبي في توسطه لدى سيف الدولة لبني كلاب، فمن ذلك قوله:
للسلم قد جنحوا فمنوا واصفحوا ... ما قتل نصفهم من الإنصاف
وإذا أساءوا أحسنوا لمسيئهم ... وراعوا مقام بقية الأحلاف
وإذا هم اقتتلوا وشدوا أصلحوا ... ما بينهم خير من الإجحاف
4- وكانت له دعابات طريفة تدل على روح مرحة، وبديهة طيعة، ونكتة رائقة, وهذا طابع المصريين غالبًا لا يستطيعون عنه حولًا، فمن ذلك قوله يعزي منافسه وحاسده الشيح زين العابدين المكيّ، وقد نفقت فرسه في طريق جدة:
قضت وهي تدعو فالق الحب والنوى ... بقلب كئيب دقه الحب والنوى
فكيف يعزى الشيخ في الفرس التي ... به طوت الأسفار صبرًا على الطوى
وكانت به تجري مع الريح خفة ... وأشبعها جريًا فعاشت على الهوى
وإن حملت ما لا تطيق لضعفها ... تعوج منها الظهر والذنب استوى
قضت، وهي ما ذاقت شعيرًا لزهدها ... فما شعرت إلّا وعرقوبها التوى
(1/141)
ألَا أيها الخل الذي طال حزنه ... عليها وفي أحشائه التهب الجوى
فعش أنت واسلم والحمير كثيرة ... ومثلك معدوم النظير لما حوى
ألا تذكرنا هذه القصيدة بالبهاء زهير حين يقول:
لك يا صديقي بغلة ... ليست تساوي خردلة
تمشي فتحسب أنها ... فوق الطريق مشكلة
هي روح الدعابة المصرية تتجلى دائمًا حين ينطلق شعراء مصر على سجيتهم, لا يتكلفون القول، ولا يتزمتون.
ومن دعاباته الظريفة قوله معرضًا ببعض النحاة, وواصفًا لهم ولحركاتهم وخلطهم:
إذا ارتفعت بالنحو أعلام علمنا ... جعلنا جواب الشرط حذف العمائم
ليعلم من بالنصب يرفع نفسه ... بأن حروف الخفض غير الجوازم
ويعلم من أعياه تصريف اسمه ... بأنا صرفناه كصرف الدراهم
نصبنا على حالٍ من العلم والعلى ... وكنا على التمييز أهل المكارم
لأنا رأينا كل ثور معمم ... يكلف قرنيه بنطح النعائم
يجر من الإذلال فضل كسائه ... كأن الكسائي عنده غير عالم
إذا نظر الكراس حرك رأسه ... وصاح: أزيد قام أم غير قائم؟
وقال: المنادى اسم شرط مضارع ... وظرف زمان نحو جاء ابن آدم
وجمعك للتكسير اسم إشارة ... كقولك: نام الشيخ فوق السلالم
5- وقد تغنى الشاعر في بعض قصائده بمصر وأمجادها، وإن لم يظهر من الروح الوطنية مثل الذي أظهره رفاعة الطهطاوي، فمن ذلك قوله مادحًا إسماعيل:
على أنها من جنة الخلد غيضة ... رياض بها عين وأنت ضياء
فأبصرت فردوسًا تدانت قطوفها ... وللنيل فيها كوثر وشفاء
ومصر هي الدنيا جميعًا وربها ... عزيز وأهلوها هم النجباء
(1/142)
وكان الساعاتي يدرك أنه مطبوع على قول الشعر، وأنه استطاع أن ينجو ببعض شعره من آفات القول، وأوضار الشعر التي انتشرت في زمانه، وقبل زمانه، ويقول في هذا:
فلا تحسبني بالوضيع مكانهً ... في القائلين وما أقول هذاء
ويقول:
وما أنا إلّا ناظم در فكرتي ... ولم أنتحل فيما أقول وأسرق
ويقول:
وما أنا إلّا شاعر ذو طبيعة ... ولست بسراق كبعض الأعاجم
على أن هذا كله لا يعفي الشاعر من أنه أراق ماء وجهه في الطلب؛ حيث يقول مادحًا توفيق باشا:
أريد ورودًا من نداكم لأرتوي ... كما يطلب الصادي على البعد موردا
فسيرت آمالي دليل قصائدي ... لنيل الأماني علَّ أبلغ مقصدا
وأنه كان يرى الشعر ثمنًا للمال، وأن المسألة بيع وشراء، وأخذ وعطاء:
مني المدائح والمنائح منكم ... لا غبن إن كليهما آلاء
تعتاض من بذل النضار جواهرًا ... هذا بذلك وفي البقاء نماء
وأنه أسرف في الصناعات اللفظية، واستعمال المحسنات البديعية, كما يدل على ذلك معظم شعره، وقد نظم قصيدةً كاملةً في مدح الرسول -عليه السلام- معارضًا بها ابن حجة الحموي، والبوصيري، وكل بيت منها يشتمل على محسن بديعيّ، وفيها يقول، وقد بلغ عدد أبياتها مائة وخمسين بيتًا:
(1/143)
:براعة استهلال 
السفح الدموع لذكر السفح والعلم ... أبدى البراعة في استهلاله بدم
التورية:
وكم بكيت عقيقًا والبكاء ... بدر، وتوريتي كانت لبدرهم
الجناس التام:
أقمار تم تعالوا في منازلهم ... فالصب مدمعه صب لبعدهم
وأن الشعر عنده -كما كان عند معاصريه- مهارة لفظية، وصناعة خالية من الروح والشعور، ومقدرة على صياغة منظومة, فمن ذلك قوله موريًا:
قالوا: اتخذ لك خادمًا، فأجبتهم: ... أنّى يكون لناظم الشعر الرقيق؟
قالوا: التمس لك طيب عيش، قلت: لا ... يرجى لرب اللفظ والمعنى الدقيق
وقوله في الجناس، وكل القصيدة على هذا المنوال:
أيا من به صار الزمان سعيدًا ... ومن كل وفاه آنس عيدًا
أما التأريخ الشعريّ، والألغاز فكثيرة.
هذا، وقد شغل الساعاتي عدة مناصب في الدولة، فمن موظف بالمعية، إلى موظف في مجلس الأحكام المصرية "وكان بمثابة هيئة الاستئناف العليا في عهدنا"، وكان يرأسه الأمير إسماعيل في عهد سعيد, ومدح من حكام مصر في العهد السابق سعيدًا، وإسماعيل، وتوفيقًا، ومات في سنة 1298هـ-1880م, قبل أن تندلع الثورة العرابية.

__________
)1) هو محمود صفوت بن مصطفى أغا الزيلع, الشهير بالساعاتي، والساعاتي لقب غلب عليه؛ لأنه مهر في إصلاح الساعات, ولا ندري على التحقيق أكان إصلاح الساعات حرفةً له أم هوايةً كما يقول بعضهم.
(2) من المنافسين للشاعر في الحجاز, الشيح زين العابدين المكيّ، وكان نحويًّا، اعترض مرةً على قول الساعاتي:
وأبصرت في كف ابن عون مهندًا ... يرويه قرم بالضرب خبير بأن الضراب في اللغة: النكاح، وليس فيه ضراب بمعنى الضرب، واحتج الشاعر مؤيدًا رأيه بقول الحارث بن ظالم المري:
وقومي إن سألت بني لؤي ... بمكة علموا الناس الضرابا
أقاموا للكتائب كل يوم ... سيوف المشرفية والحربا
واستشهد بقول المتنبي, وكان من الحفاظ لشعره:
وكل السيوف إذا طال الضراب بها ... يمسها غير سيف الدولة السأم
وقوله:
إنما بدر رزايا عطايا ... ومنابواه وطعان وضراب
وقوله:
بغيرك راعيًا عبث الذئاب ... وغيرك صارمًا ثلم الضراب
فأفحمه بهذا الاستشهاد, وفات المكيّ أن الضراب مصدر قياسيّ لضارب كقاتل وناضل، ولكنها حزازات النفوس تزل الحصا.
(3) من ذلك أنهم خطئوه في قوله يمدح الشريف, ويصف أعداءه بالجبن:
كأنهم فوق السوابق خرد ... لهن متون الصافنات جياد
بأن في ذلك انحطاطًا لمقدار من يقاومه حيث شبههم بنسوة، فكأنه انتصر على نساء لا على أبطال, ومكنته ذاكرة واعية لما استظهر من شعر المتنبي في الصغر من إفحامهم بقوله يمدح سيف الدولة.
فصبحهم وبسطهم حرير ... ومساهم وبسطهم تراب
ومن في كفه منهم قناة ... كمن في كفه منهم خضاب
(4) الحباحب: فراشية صغيرة تضيء بالليل.


 شعار المرجع الالكتروني للمعلوماتية




البريد الألكتروني :
info@almerja.com
الدعم الفني :
9647733339172+