
الجواب الإجماليّ:
إنّ المراد من هذا العالم وهذا العهد هو عالم الاستعداد «والكفاءات»، و«عهد الفطرة» والتکوین والخلق. فعند خروج أبناء آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام الاُمهات، وهبهم الله الاستعداد لتقبل الحقیقة التوحیدیة، وأودع ذلك السرّ الإلهي فی ذاتهم وفطرتهم بصورة إحساس داخلي کما أودعه فی عقولهم وأفکارهم بشکل حقیقة واعیة بنفسها. فبناءً على هذا، فإنّ جمیع أبناء البشر یحملون روح التوحید، وما أخذه الله من عهد منهم أو سؤاله إیّاهم: ألست بربّکم؟ کان بلسان التکوین والخلق، وما أجابوه کان باللسان ذاته.
الجواب التفصيلي:
یشیر القرآن المجید فی الآیة 172 من سورة «الأعراف» إلى التوحید الفطري ووجود الإیمان بالله في أعماق روح الانسان، وفي الحقیقة تتحدّث هذه الآیة عن أخذ العهد من ذرّیّة آدم، لکن کیف اُخِذَ هذا العهدُ؟!
لم یرد فی النص إیضاح فی جزئيّات هذا الموضوع، إلاّ أنّ للمفسّرین آراء متعددة تعویلاً منهم على الرّوایات الإسلامیة الواردة عن النّبي (صلّى الله علیه وآله) وأهل بیته (علیهم السلام) ومن أهم هذه الآراء رأیان:
1ـ حین خُلق آدم ظهر أبناؤه على صورة الذّر إلى آخر نسل له من البشر «وطبقاً لبعض الرّوایات ظَهرَ هذا الذّر أو الذرّات من طینة آدم نفسه» وکان لهذا الذرّ عقلٌ وشعور کافٍ للاستماع والخطاب والجواب، فخاطب الله سبحانه الذرّ قائلاً: ﴿...أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ...﴾ فَأجاب الذرّ جمیعاً: ﴿...بَلَىٰ شَهِدْنَا...﴾.
ثمّ عاد هذا الذرّ «أو هذه الذرات» جمیعاً إلى صُلب آدم «أو إلى طینته» ومن هنا فقد سُمّيَ هذا العالم بعالم الذرّ... وهذا العهدُ بعهد «ألست»؟
فبناءً على ذلك، فإنّ هذا العهد المشار إلیه آنفاً هو عهد تشریعىّ، ویقوم على أساس «الوعي الذاتي» بین الله تعالى والناس.
2 ـ إنّ المراد من هذا العالم وهذا العهد هو عالم الاستعداد «والكفاءات»، و«عهد الفطرة» والتکوین والخلق. فعند خروج أبناء آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام الاُمهات، وهم نطف لا تعدو الذرات الصغار، وهبهم الله الاستعداد لتقبل الحقیقة التوحیدیة، وأودع ذلك السرّ الإلهیّ فی ذاتهم وفطرتهم بصورة إحساس داخلي کما أودعه فی عقولهم وأفکارهم بشکل حقیقة واعیة بنفسها.
فبناءً على هذا، فإنّ جمیع أبناء البشر یحملون روح التوحید، وما أخذه الله من عهد منهم أو سؤاله إیّاهم: ألست بربّکم؟ کان بلسان التکوین والخلق، وما أجابوه کان باللسان ذاته!
ومثل هذه التعابیر غیر قلیلة فی أحادیثنا الیومیّة، إذ نقول مثلاً: لون الوجه یُخبر عن سرّه الباطنی «سیماهم فی وجوهم»، أو نقول: إنّ عیني فلان المجهدتین تُنبئان أنّه لم ینم اللیلة الماضیة.
وقد رُوی عن بعض اُدباء العرب وخطبائهم أنّه قال فی بعض کلامِهِ: سَل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وأینع ثمارك؟ فإن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً.
کما ورد فی القرآن الکریم التعبير على لسان الحال، کالآیة 11 من سورة فصلت، إذ جاءَ فیها: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11].
هذا باختصار هو خلاصة الرأیین أو النظرتین المعروفتین فی تفسیر الآیات آنفة الذکر.
إلاّ أنّ التّفسیر الأوّل فیه بعض الإشکالات، ونعرضها فی ما يأتي:
1ـ ورد التعبیر فی نصّ الآیات المتقدمة عن خروج الذرّیّة من بني آدم من ظهورهم، إذ قال تعالى: ﴿...مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ...﴾ مع أنّ التّفسیر الأوّل یتکلّم عن آدم نفسه أو عن طینة آدم.
2ـ إذا کان هذا العهد قد اُخذ عن وعي ذاتيّ وعن عقل وشعور، فکیف نسیَه الجمیعُ ولا یتذکّره أحد مع أنّ الفاصلة الزمانیّة بین زماننا لیست بأبعدَ مدىً من الفاصلة بین هذا العالم والعالم الآخر «أو القیامة»؟ ونحن نقرأ فی آیات عدیدة من القرآن الکریم أنّ الناس سواءً کانوا من أهل الجنّة أو من أهل النّار لا ینسون أعمالهم الدنیویة فی یوم القیامة، ویتذکّرون ما اکتسبوه بصورة جیّدة، فلا یمکن أن یُوجَّه هذا النسیان العموميّ فی شأن عالم الذر أبداً ولا مجال لتأویله!.
3ـ أيّ هدف کان من وراء مثل هذا العهد؟! فإذا کان الهدف أن یسیر المعاهدون فی طریق الحق عند تذکّرهم مثل هذا العهد، وألاّ یسلکوا إلاّ طریق معرفة الله، فینبغي القول بأنّ مثل هذا الهدف لا یتحقّق أبداً وبأيّ وجه کان؛ لأنّ الجمیع نسوه!!.
وبدون هذا الهدف یعدّ هذا العهد لغواً ولا فائدة فیه.
4ـ إنّ الاعتقاد بمثل هذا العالم یستلزم ـ فی الواقع ـ القبول بنوع من التناسخ؛ لأنّه ینبغي ـ طبقاً لهذا التّفسیر ـ أن تکون روح الإنسان قد خُلقت فی هذا العالم قبل ولادته الفعلیّة، وبعد فترة طویلة أو قصیرة جاء إلى هذا العالم ثانیةً، وعلى هذا فسوف تحوم حوله کثیر من الإشکالات فی شأن التناسخ!
غیر أنّنا إذا أخذنا بالتّفسیر الثّانی، فلا یرد علیه أيُّ إشکال ممّا سبق؛ لأنّ السؤال والجواب، أو العهد المذکور ـ عهد فطري، وما یزال کلّ منّا یحس بآثاره فی أعماق روحه، وکما یعبّر عنه علماء النفس بـ«الشعور الدیني» الذي هو من الإحساسات الأصیلة فی العقل الباطني للإنسان، وهذا الإحساس یقود الإنسان على امتداد التاریخ البشريّ إلى «طریق» معرفة الله... ومع وجود هذا الإحساس أو الفطرة لا یمکن التذرّع بأنّ أباءنا کانوا عبدةً للأصنام ونحن على آثارهم مقتدون { فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } [الروم: 30].
والإشكال الوحید الذى یَرِدُ على التّفسیر الثّانی هو أنّ هذا السؤال والجواب یتّخذ شکلاً «کنائیّاً» ویتّسم بلغة الحوار، إلاّ أنّه مع الإلتفات إلى ما بیّناه آنفاً بأنّ مثل هذه التعابیر کثیر فی اللغة العربیّة وجمیع اللغات، فلا یبقی أيُّ إشکال في هذا المجال.
ویبدو أنّ هذا التّفسیر أقرب من سواه (1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: كتاب الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، لسماحة آية الله الشيخ مكارم الشيرازي دامت بركاته.