1

بمختلف الألوان
في وطنٍ تئنُّ روحه من ثِقل الأيام، وتتوقُّ أجياله إلى فجرٍ يمحو ظلام اليأس، انبعث نورٌ من قلب مدينة مقدسة، نورٌ يملأ الوطن ضياءً، وأيدٍ أمينة تعانق آماله واحلامه. سطع نور العتبة العباسية المقدسة، التي لطالما كانت مَوئِلاً للعلم والمعرفة، لتتجاوز دورها الديني وتصبح حاضنة حقيقية للطاقات الشابة،... المزيد
أخر المواضيع
الرئيسة / مقالات ثقافية
مأساة العقل: عندما نجيب عن أسئلة لم تُطرح
عدد المقالات : 81
مأساة العقل: عندما نجيب عن أسئلة لم تُطرح
الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي
16/10/2025
كم مرة أجابنا بسرعة، ظنًّا أننا نفهم، لنكتشف بعد ذلك أن السؤال لم يكن كما تصوّرنا هذه هي مأساة العقل، الذي يسبق الفهم بالعجلة، ويختزل الحقيقة في صورة الإجابة الأولى.
في مسيرتي الأكاديمية الطويلة، التي تشعّبت بين قاعات الدرس وأروقة الامتحانات ومناقشات الطلبة، ترسّخت في ذهني قناعةٌ لم تتبدّد مع مرور الأعوام، بل ازدادت رسوخًا مع التجربة والتأمل.
قناعةٌ مفادها أن أغلب الإخفاقات في الإجابة لا تنشأ من ضعف المعرفة، بل من ضعف الفهم للسؤال نفسه، وهو ما يجعل العقل عاجزًا عن تقديم الجواب الصحيح مهما توفّرت لديه المعلومات.
كنت أرى ذلك المشهد يتكرر أمامي مرارًا: طالبٌ مجتهدٌ، يحمل في رأسه زادًا من المعلومات، لكنّه حين يجلس إلى ورقة الامتحان، يضع قلمه على السطر قبل أن يضع عقله على السؤال. يقرأ العبارة الأولى، ثم يهرع إلى الإجابة، وكأنّ الزمن يطارده، أو كأنّ السؤال عدوّ يريد أن يفلت منه قبل أن يصيبه برصاصة الجواب.
وما يزيد الأمر مأساويةً، أن هذه العجلة غالبًا ما تكون مصحوبة بثقة زائفة، فالمُجيب يشعر بأنه يعرف، بينما هو في الحقيقة يسبح في محيطٍ من سوء الفهم.
غير أنّ المأساة لا تكمن في العجلة وحدها، بل في تلك العادة الذهنية الخطيرة التي تترسخ منذ المراحل الأولى في التعليم، حين يقرأ الطالب شيئًا ثم يعيد تركيبه في ذهنه وفق ما يريد هو لا وفق ما ورد أمامه.
إنّه لا يجيب عن السؤال المطروح، بل عن سؤالٍ آخر اخترعه خياله، يراه أقرب إلى ما يعرف أو إلى ما يحبّ أن يقول. ومن هنا يبدأ الانفصال بين العقل والموضوع، وبين الفهم والإجابة، وهو انفصال قد يظلّ مرافقًا للفرد مدى حياته إذا لم يُعالج.
كنت أحرص دائمًا على أن أقول لطلابي:
اقرأوا السؤال مرّتين قبل أن تكتبوا كلمة واحدة، فربّ دقيقةٍ في الفهم خيرٌ من ساعةٍ في الجواب.
لكن مع مرور الوقت، تبيّن لي أن المشكلة ليست أكاديمية فحسب، ولا يمكن حصرها في جدران الصفوف أو قاعات الامتحانات. لقد اكتشفت، بدهشةٍ مؤلمة، أن هذه ليست ظاهرة طلابية، بل اجتماعية شاملة، وأنّ ما كنت أظنه نتيجةً لضغط الامتحان، هو في الحقيقة نموذجٌ مصغّر لطبيعة التفكير السائد في مجتمعاتنا.
فنحن في الغالب لا نُحسن الإصغاء إلى السؤال، سواء جاء من أستاذٍ في قاعة، أو من مفكرٍ في مقالة، أو من سياسيٍّ في خطاب، أو حتى من جارٍ في نقاشٍ عابر.
ما إن نسمع الكلمات الأولى حتى نقاطع الفكرة بعجلة الاستنتاج، فنقيسها على ما في أذهاننا من قوالب مسبقة، ونُسقط عليها أحكامًا محفوظة، ثم نُجيب بما نظنّ أنه ردٌّ مقنع، بينما هو في جوهره جوابٌ عن سؤالٍ لم يُطرح أصلًا.
وتتفاقم المشكلة حين تتشابك هذه العادة مع ثقافة الانفعال والغضب، فتتحول المسائل البسيطة إلى صراعات كلامية، ويصبح الحوار معركة إثبات وجود لا وسيلة للتفاهم.
ولعلّ أكثر ما يفضح هذه الظاهرة في عصرنا هو ما نراه على منصّات التواصل الاجتماعي، حيث يتحول الحوار في كثير من الأحيان إلى سلسلة من سوء الفهم المتبادل.
يكتب أحدهم فكرة محددة، فيها رأي أو تحليل، فيأتيه الرد لا على ما قال، بل على ما توهّم الآخر أنه قال.
تتحوّل الكلمات إلى مرايا مشوّهة، تعكس ما في النفوس لا ما في النصوص. فتُبنى التهم على الظن، وتُشنّ الحروب اللفظية على أساس سوء قراءةٍ لا سوء نية.
كم من مرةٍ رأيت تعليقًا على منشورٍ يتحدث عن مسؤولية المعارضة وقت الحرب، فيردّ عليه آخر ساخطًا: وهل تبرّر الدكتاتورية بينما صاحب المنشور لم يبرّر شيئًا، بل كان يناقش فكرةً أخرى تمامًا
وهنا تتجلّى الظاهرة في صورتها المجتمعية العارية: العقل لا يقرأ ليفهم، بل يقرأ ليثبت أنه على صواب، حتى لو كان الجواب عن سؤالٍ لم يُسأل.
لقد غدت هذه العادة الذهنية مرضًا مستفحلًا، لا يقتصر على الأفراد، بل يمتد إلى الإعلام والخطاب العام والسياسة أيضًا.
كم من أزمةٍ تفاقمت لأن أحدهم أساء فهم الرسالة أو حرّف السؤال وكم من حوارٍ انتهى إلى خصومة لأن الطرفين كانا يتحدثان عن موضوعين مختلفين، ظنّ كلٌّ منهما أنه يفهم الآخر
إنّ جذور هذه الظاهرة عميقة في بنية التفكير العربي المعاصر، الذي يغلب عليه التسرّع والانفعال والرغبة في الانتصار لا في الفهم.
نحن لا نمارس التأمل قبل الردّ، ولا نُدرّب أبناءنا على الإصغاء بوصفه فضيلة معرفية.
في مدارسنا، يُكافأ الطالب الذي يجيب بسرعة أكثر مما يُكافأ الذي يسأل بدقة.
وفي مجتمعاتنا، يُعاب من يتأنّى في الفهم، ويُمدح من يردّ فورًا وكأنّ سرعة اللسان دليلُ ذكاء.
إنّ أولى خطوات الإصلاح الفكري هي أن نتعلّم كيف نقرأ السؤال على وجهه الصحيح، لأنّ السؤال هو مفتاح الوعي، ومن ضيّع المفتاح تاه في الأبواب.
فلا يمكن لعقلٍ أن يبني معرفة إذا كان ينطلق من فهمٍ مغلوط لما يُطرح عليه. ولا يمكن لأمّةٍ أن تتقدّم وهي تجيب عن الأسئلة الخطأ، وتغفل الأسئلة الحقيقية التي تصنع مستقبلها.
لقد أدركت، بعد سنواتٍ من المراقبة والتعليم، أن التربية على فنّ الفهم أهمّ من كل الدروس التي نلقّنها.
فالفهم ليس تلقّيًا، بل مشاركة عقلية، وهو مهارة لا تُكتسب من الكتب وحدها، بل من الصبر على الإصغاء، والتواضع أمام السؤال، واحترام المعنى قبل الجواب.
إننا نحتاج، في بيوتنا ومدارسنا ومنصّاتنا، إلى ثورة هادئة في طريقة التفكير. نحتاج أن نربّي أبناءنا على أن الذكاء ليس في سرعة الردّ، بل في دقّة الإصغاء. وأنّ السؤال ليس فخًّا نُفلت منه بالدهاء، بل جسرٌ نعبر عليه إلى فهمٍ أعمق.
وأنّ الإجابة الصحيحة لا تُبنى على الحفظ، بل على الوعي بالمراد. حين نُصلح علاقتنا بالسؤال، نُصلح علاقتنا بالحقيقة. وحين نتعلّم أن نفهم قبل أن نحكم، نكون قد خطونا أول خطوةٍ في طريق النضج الإنساني والعقلي.
فما أكثر الذين يُخطئون الجواب لأنهم لم يُحسنوا قراءة السؤال، وما أقلّ الذين يوقنون أن الفهم نصف العلم، والإنصات نصف الفهم.
وكم هو مؤسف أن يستمر هذا النمط من التفكير من جيلٍ إلى جيل، حتى أصبحنا أمام مجتمعٍ يجيب بسرعة، لكنه يخطئ كثيرًا في فهم ماهية السؤال الحقيقي، فتتوالى الأخطاء، وتتكاثر الفجوات بين الفكر والواقع، بين العقل والجواب، وبين المعرفة والفهم العميق.
اعضاء معجبون بهذا
جاري التحميل
ثقافية
عدد الاعجابات بالمقال :0
عدد التعليقات : 0
منذ ساعتين
2025/10/17م
مأساة العقل: عندما نجيب عن أسئلة لم تُطرح الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي 16/10/2025 كم مرة أجابنا بسرعة، ظنًّا أننا نفهم، لنكتشف بعد ذلك أن السؤال لم يكن كما تصوّرنا هذه هي مأساة العقل، الذي يسبق الفهم بالعجلة، ويختزل الحقيقة في صورة الإجابة الأولى. في مسيرتي الأكاديمية الطويلة، التي تشعّبت بين... المزيد
عدد المقالات : 81
عدد الاعجابات بالمقال :0
عدد التعليقات : 0
منذ 3 ايام
2025/10/14م
كثيرًا ما تحسم مصائر الشعوب والدول سياسيًا من خلال المعارك العسكرية الفاصلة التي تكون بداية توجه سياسي جديد يختلف عن النمط السابق. ولعل أهم معركة سياسية في تاريخ إنجلترا كانت معركة هيستينغز الشهيرة عام 1066، التي غيرت مجرى التاريخ الإنجليزي تمامًا على جميع الأوجه سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، بل... المزيد
عدد المقالات : 53
عدد الاعجابات بالمقال :0
عدد التعليقات : 0
منذ 5 ايام
2025/10/12م
يمر العراق اليوم بأزمة سياسية خانقة تمثل حصيلة مباشرة لتراكمات اثنين وعشرين عاما من سوء إدارة الحكم وتغول الأحزاب السياسية في بنية الدولة والمجتمع. لقد أفضت تلك الحقبة إلى انهيار شبه شامل في مستويات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بحيث غدا المواطن العراقي يشعر بالاغتراب عن دولته، تماما... المزيد
عدد المقالات : 6
عدد الاعجابات بالمقال :1
عدد التعليقات : 0
منذ اسبوعين
2025/10/01م
بحر آرال كان في منتصف القرن العشرين رابع أكبر بحيرة داخلية في العالم، يقع بين كازاخستان وأوزبكستان. غير أن المشاريع السوفيتية في الستينيات، التي حولت مجاري الأنهار المغذية له لريّ القطن، تسببت في انكماشه بشكل كارثي. خلال عقود قليلة فقد البحر أكثر من 90 من مساحته، وانقسم إلى أجزاء صغيرة مع تدهور بيئته... المزيد
عدد المقالات : 53
أدبية
عدد الاعجابات بالمقال :1
عدد التعليقات : 0
منذ شهرين
2025/08/13م
رُوَّادُ الولاء : شعراء أضاءوا بالحقِّ فطُمِسَ نورُهم لطالما تهادت على بساط التاريخ أسماءٌ كالشموس، بينما توارت في حنايا الظل أسماءٌ أُخر، لوّحتْ أقلامُها بمِدادٍ من لهيبٍ لا يقلُّ حممًا عن دماء السيوف في ساحات الوغى. أولئك كانوا حَمَلَةَ هَمِّ آل البيت الكرام، فكانت قصائدُهم صرخةَ حقٍّ تُردِّدُها... المزيد
عدد المقالات : 60
عدد الاعجابات بالمقال :1
عدد التعليقات : 0
منذ شهرين
2025/08/13م
في قريةٍ صغيرةٍ محاطةٍ بجبالٍ شاهقة، عاش رجلٌ يدعى هشام، معروفٌ بحكمته وطيب قلبه، لكنه كان يعاني من فقرٍ شديد. رغم ذلك، لم يشكُ يومًا ولم يطلب من أحد، بل كان دائم التوكل على الله. في ليلةٍ شتويةٍ عاصفة، ضاعت ماشية أحد أغنياء القرية في الجبال. أرسل الرجل خدمه للبحث، لكنهم عادوا خائبين. حينها، تقدم هشام... المزيد
عدد المقالات : 12
عدد الاعجابات بالمقال :1
عدد التعليقات : 0
منذ شهرين
2025/08/12م
في فضاءات القصيدة العراقية، ينهض فالح حسون الدراجي كصرحٍ شعريٍّ نادر، يُجسّد آلام أمةٍ وهموم وطنٍ مزقته رياحُ الظلم. إنه ليس مجرد شاعرٍ ينسج الكلمات، بل **مؤرِّخٌ للجرح** بصوته الشعبي الصادق، و**مناضلٌ بالكلمة** في ساحات المواجهة ضد الطغيان. فشعره **سيفٌ مصقول** من حقائق المعاناة، و**مرآةٌ عاكسة** لتاريخ... المزيد
عدد المقالات : 60
عدد الاعجابات بالمقال :1
عدد التعليقات : 0
منذ شهرين
2025/08/12م
في زاوية السوق، جلس رجل أشيب، يضم كفيه الفارغتين إلى صدره كمن يحمي كنزًا لا يُرى. كان اسمه "يعقوب"، رجل عُرف يومًا بحكمته الراجحة ولسانه البليغ، لكنه اليوم بات شبحًا لمن كان. نشب خلاف بين تاجرين، وارتفعت الأصوات، فتوجهت الأنظار إلى يعقوب، الذي كان الحَكم في مثل هذه النزاعات. قال أحدهم: "يا يعقوب، احكم... المزيد
عدد المقالات : 12
علمية
سلسلة مفاهيم في الفيزياء الجزء التاسع والستون: الوجود خارج المكان والزمان: تأملات في طبيعة الدالة الموجية الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي 16/10/2025 نحن كائنات واعية، قادرة على استقبال المعلومات من خلال حواسنا عن الواقع الذي نعيش فيه والذي... المزيد
التواصل البكتيري هو عملية معقدة تمكن الكائنات الدقيقة من التنسيق والتفاعل مع بعضها البعض من خلال إرسال واستقبال إشارات كيميائية. تعتمد البكتيريا على هذه العملية للبقاء في بيئاتها المتغيرة ولتنظيم سلوكها الجماعي وهي تعتبر آلية حيوية تساعدها في... المزيد
سلسلة مفاهيم في الفيزياء الجزء الثامن والستون: ما لا يُحاط بموضع: تأملات في وجود لا يعرف المكان والزمان الأستاذ الدكتور نوري حسين نور الهاشمي 15/10/2025 ليست للدالة الموجية موضع محدد، وليس من المنطقي أن نسأل عن مقدار وجودها في منطقة معينة من... المزيد
آخر الأعضاء المسجلين

آخر التعليقات
علماء السنة يقولون ما أخذنا العطاء حتى...
عبد العباس الجياشي
2024/12/20م     
دور الجغرافية في حماية الغلاف الجوي من...
علي الفتلاوي
2025/08/12م     
تجربة شخصية ومراجعة علمية لحالة حنف القدم:...
محسن حسنين مرتضى السندي
2025/06/15م     
اخترنا لكم
إصدارات
2025/09/29
صدر عن قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العباسية المقدسة، كتاباً توثيقياً حمل عنوان: (تاريخ السدانة في العتبة العباسية...
المزيد

صورة مختارة
رشفات
الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)
2025/09/29
( مَن صبر أُعطي التأييد من الله )
المزيد

الموسوعة المعرفية الشاملة
القرآن وعلومة الجغرافية العقائد الاسلامية الزراعة الفقه الاسلامي الفيزياء الحديث والرجال الاحياء الاخلاق والادعية الرياضيات سيرة الرسول وآله الكيمياء اللغة العربية وعلومها الاخبار الادب العربي أضاءات التاريخ وثائقيات القانون المكتبة المصورة
www.almerja.com