حسن الهاشمي
العلاقة بين العتبة العباسية المقدسة وبين حوزة النجف الاشرف علاقة تكاملية ولا سيما بعد سقوط الصنم عام 2003م، وتطوّرت هذه العلاقة بشكل واضح، وانتقلت من علاقة رمزية إلى علاقة تفاعلية وداعمة ومؤسسية، اذ قامت العتبة بإنشاء مدارس دينية تحت إشراف علماء مرتبطين بالحوزة، وان لدور المرجعية في توجيه العتبة ثقافيا وفكريا شاهد للعيان، دون تدخل مباشر في إدارتها اليومية، وان العتبة تُعدّ منبرا عمليا وعلميا لتطبيق رؤى المرجعية في التثقيف والإغاثة والتعليم.
وان أهم المشاريع التي قامت بها العتبة: إحياء التراث الحوزوي، تحقيق المخطوطات، طباعة كتب الفقه والأصول، ونشر تراث أعلام النجف (مثل الشيخ الطوسي والشيخ الانصاري والسيد الخوئي وغيرهم) وأنها بحق أصبحت راعية للثقافة الحوزوية، إضافة الى خدمة طلبة العلوم الدينية: توفير السكن، المكتبات، الدورات التعليمية، والدعم المالي والأكاديمي لبعض طلبة الحوزة، خاصة من الدول الأخرى.
وفي هذا الإطار فان العلاقة ليست تنافسية، بل تكاملية، حيث تعمل العتبة كمؤسسة تنفيذية وتربوية بإشراف الحوزة وبتوجيه المرجعية، ومنذ 2003م أصبحت العتبات المقدسة ذراعا ثقافيا واجتماعيا ساندا للحوزة العلمية في النجف، تُسهم في نشر العلم، خدمة الطالب، وحماية الهوية الدينية، مع الحفاظ على استقلال الحوزة في القرار العلمي والديني.
مشاريع العتبة العباسية الدينية امتداد لحوزة النجف
المدارس الدينية التابعة للعتبة العباسية المقدسة تُعدّ من المبادرات المهمة التي تصب في منهجية الحوزة العلمية في النجف الأشرف، حيث تجمع بين الأصالة الحوزوية والتجديد في أساليب التعليم، وأبرز المدارس والمشاريع التعليمية في العتبة العباسية هي:
1ـ المدرسة السجادية: افتُتحت في النجف الأشرف، وتُعتبر من المحطات التربوية المهمة لتعزيز القيم العلمية والدينية، وتسعى الى تنمية العلوم والمعارف لدى الطلاب، وتسهم في وجود أماكن تعليمية تصب في هذا المجال.
2ـ معهد تراث الأنبياء للدراسات الحوزوية الإلكترونية: يُعدّ أول حوزة إلكترونية في تاريخ حوزة النجف الأشرف، أُنشئت لتلبية الطلبات المتزايدة من خارج العراق للدراسة في النجف، خاصة من النساء المتحولات إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، حيث يصعب عليهن المجيء إلى العراق، يقع مقر المعهد في المدينة القديمة في النجف الأشرف، ويتيح للطلبة الدراسة فيه من داخل وخارج العراق، مع وجود دراسة داخلية للطلبة الراغبين في الدراسة الواقعية.
بسبب وجود طلبات من خارج العراق من النساء والرجال للدراسة في النجف الأشرف، وبسبب وجود عوائق عديدة تحول دون ذلك؛ جعل من هذا المعهد بديلا عن المجيء، وخصوصاً ان اغلب الطلبات كانت من النساء المعتنقات مذهب أهل البيت (عليهم السلام).
وإنها تعد بحق تجربة رائدة في مجال الدراسات الحوزوية الإلكترونية، حيث يقدّم لطلبته من النساء والرجال ومن مختلف أنحاء العالم الدروس الفقهية والعقائدية ودروساً في تفسير القرآن الكريم وأحكام التلاوة والتجويد، وعلوم اللغة العربية والمنطق إضافة الى دورات في فقه النساء ومناسك الحج، كما يتيح المعهد لطلبته الأعزاء توفير جو علمي رائع للمناقشات والمباحثات فيما بينهم وبين الأساتذة.
3ـ معهد القرآن الكريم للرجال والنساء: أول معهد متخصص في الدراسات والبحوث القرآنية وهو صرحٌ قرآنيّ مبارك، ومنار علم، حمل بين طياته رسالة مقدّسة وهي رسالة تعليم القرآن الكريم، وأخذ على عاتقه نشر علوم ومفاهيم كتاب الله المجيد، الغاية منه نشر العلوم القرآنيّة والمساهمة في إعدادِ مجتمعٍ قرآنيّ فاعل، في جميع مجالات القرآن الكريم وعلومه.
يحتوي المعهد على عدة فروع في تسع محافظات وهي كل من (كربلاء المقدسة، البصرة، ذي قار، ميسان، المثنى، واسط، الديوانية، بابل، النجف الأشرف) وهي تقوم بالنشاطات التالية.
اقامة العديد من البحوث والدّراسات القرآنيّة فضلاً عن طبع المصحف الشريف وإصدار الكتب وإقامة الختمات والمحافل والأماسي القرآنيّة التي يحضرها عدد من القرّاء الكبار.
وعلى مستوى دوليّ إقامة الكثير من الدّورات القرآنيّة الوطنية والعالمية، ودورات أخرى احداها لمنتسبي العتبة العبّاسيّة المقدّسة والثانية لمعلّمي التّربية الإسلاميّة، وحلقات لتعليم الزائرين الكرام، ودورات قرآنيّة وتثقيفية لطلبة الجامعات والمعاهد العراقيّة من مختلف محافظات العراق.
فتح الدورات الصّيفيّة للطلبة والطالبات من المراحل الدّراسية الابتدائية والمتوسطة والاعدادية، اضافةً الى العديد من المشاريع القرآنيّة المميّزة كان أهمها (المشروع الوطنيّ) لإعداد القرّاء في العراق والمسابقة الفرقيّة الوطنيّة الأولى ومشروع (أمير القرآء الوطنيّ الأول).
وبسبب التوسّع الحاصل في المشاريع القرآنيّة التي يتبنّاها المعهد تداعت الحاجة الى تهيئة مكانٍ خاصٍّ به يتلاءم مع هذا التوسّع ويلبّي طموحها تحت مسمى (المجمّع القرآنيّ)، لأجل الرقيّ والمساهمة بنشر الثقافة القرآنيّة.
ولكي تكون لها تغطية شرعية في نشرها لعلوم القرآن والعترة، فما هي علاقة هذه المدارس بحوزة النجف العريقة، من الواضح ان المدارس الدينية التابعة للعتبة العباسية تصب في نفس المنهج الذي تقوم به الحوزة العلمية في النجف الأشرف، حيث تُسهم في توفير بيئة تعليمية متكاملة تجمع بين السكن والمذاكرة والتفاعل العلمي بين الطلبة، كما تُعزز هذه المدارس من مكانة النجف كعاصمة للعلم، وتُسهم في الحفاظ على تراثها العلمي والديني، نقولها بصراحة ان المدارس الدينية في العتبة العباسية تُعتبر جزءا لا يتجزأ من الحوزة العلمية في النجف الأشرف، حيث تُسهم في تطوير التعليم الديني، وتوفير بيئة مناسبة للطلبة، مع الحفاظ على التراث العلمي والديني للنجف.
ومن هذا المنطلق عقد ممثل المرجعية الدينية العليا والمتولي الشرعي للعتبة العباسية المقدسة، سماحة السيد أحمد الصافي، يوم الثلاثاء، 7 يناير 2025م اجتماعا ضمّ عددا من الشخصيات العلمية لمناقشة الاستعدادات اللازمة للاحتفاء بمناسبة (ألفيّة حوزة النجف الأشرف) المزمع عقدها عام 1448هـ .
القيمة الفكرية لحوزة النجف الأشرف
حوزة النجف الأشرف تُعدّ من أعرق وأهم المراكز الدينية والعلمية في العالم الإسلامي، وتتمتع بقيمة فكرية استثنائية على مدى أكثر من ألف عام، والقيمة الفكرية لحوزة النجف تتركز على:
1ـ المرجعية الفكرية العليا: تُعتبر مركزا لتشكيل الفكر الشيعي الإمامي، ومرجعا للمسلمين في فهم العقيدة والفقه والأخلاق، وخرجت منها مئات الشخصيات المرجعية التي قادت الأمة دينيا وفكريا، مثل الشيخ الطوسي، والشيخ الأنصاري، والسيد الخوئي، والسيد السيستاني.
2ـ الاجتهاد والانفتاح العلمي: تميّزت بتعميق الاجتهاد الأصولي والعقلي، مع الحفاظ على النص، وشجعت على حرية الرأي داخل الضوابط والأطر الشرعية، ومناقشة القضايا العقدية والفلسفية والمنطقية بعمق.
3ـ التنوع والانفتاح الثقافي: استقطبت طلابا من مختلف الدول، وأسهمت في التفاعل بين الثقافات الإسلامية، وكانت فضاءً للتلاقي بين الفكر الإسلامي وفلسفات العصر، خاصة في القرن العشرين.
4ـ دورها السياسي والاجتماعي: دعمت حركات التحرر الوطني، وأصدرت مواقف حاسمة ضد الاستعمار، كما في ثورة العشرين، ولعبت دورا قياديا في الحفاظ على وحدة العراق ونبذ الطائفية بعد 2003م.
5ـ التوازن بين الأصالة والتجديد: حافظت على منهج تقليدي رصين، مع انفتاح نسبي على أدوات البحث الحديثة، ودعمت مشاريع التعليم الإلكتروني وتوسيع الحوزة خارج النجف.
حوزة النجف ليست فقط مؤسسة دينية، بل منظومة فكرية عميقة أسهمت في حفظ الإسلام، وتشكيل وعي الأمة، والربط بين الدين والواقع، لهذا فقد أكّد سماحة السيد الصافي على "أهمية هذا الموضوع لما له من معانٍ عظيمة تكشف القيمة الفكرية والعلمية للحوزة المباركة، التي خرّجت الآلاف من الفقهاء والمفكرين والأدباء، وأخذت على عاتقها نشر الإسلام والمذهب في أرجاء المعمورة".
مراحل تأسيس حوزة النجف وشمولية العلوم
حوزة النجف الأشرف تأسست كمدرسة علمية دينية قبل أكثر من ألف عام، ومرت بعدة مراحل تطور علمي وفكري، حتى أصبحت من أهم مراكز الدراسات الإسلامية في العالم الشيعي، وامتازت بشمولية علومها وتنوعها.
مراحل تأسيس الحوزة وتطورها:
1ـ المرحلة الأولى (القرن الخامس الهجري الموافق 1009م):
- المؤسس الحقيقي: الشيخ الطوسي (1067 م).
- هاجر إلى النجف بعد اضطراب الأوضاع في بغداد، وأسّس أول نواة للحوزة.
- كتب أهم مؤلفاته فيها، مثل "التهذيب" و"الاستبصار".
- جعل النجف مركزا علميا بدلا من بغداد.
2ـ المرحلة الثانية (القرون 1100ـ 1800م):
- استمرار النشاط العلمي رغم التحديات السياسية.
- ظهور علماء مثل ابن إدريس الحلي والعلامة الحلي.
- تأسيس المدارس العلمية مثل المدرسة العلوية.
3ـ المرحلة الثالثة (الصفوية إلى القاجارية):
- في ظل الدولة الصفوية، برزت حوزة قم، لكن النجف حافظت على استقلالها العلمي.
- في العصر القاجاري، عاد النشاط بقوة في النجف.
4ـ المرحلة الرابعة (القرن 18002000م):
- عصر الشيخ مرتضى الأنصاري، الذي طوّر علم الأصول والاجتهاد.
- تخرج منه أعلام مثل السيد الخوئي والسيد محمد باقر الصدر.
- الحوزة شاركت في ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني.
5ـ المرحلة الخامسة (ما بعد 2003م):
- عادت الحوزة إلى نشاطها العلني بعد سقوط النظام البعثي.
- توسّعت إلكترونيا (مثل معهد تراث الأنبياء).
- نشطت في الشأن السياسي والاجتماعي، مع حفظ استقلالها.
شمولية العلوم في حوزة النجف:
1ـ الفقه والأصول: العمود الفقري للحوزة، وتُدرّس فيه أعمق المباحث الاجتهادية.
2ـ العقائد والفلسفة والكلام: حاضرة بقوة، مع مناهج مستندة لمدرسة الصدر والخواجة نصير الدين الطوسي.
3ـ المنطق واللغة والبلاغة: تُدرّس كأدوات ضرورية لفهم النصوص.
4ـ التفسير وعلوم القرآن: موجودة، لكن بدرجة أقل من الفقه، مع توجّه متزايد نحو دعمها.
5ـ التاريخ والسيرة: تُدرّس في سياق فهم التراث والوعي الرسالي.
6ـ الاجتماع والسياسة: ضمنيا في دروس الفقه السياسي ومباحث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
حوزة النجف نشأت من رحم الحاجة إلى العلم والاستقلال، ومرت بمراحل صقلتها فكريا، حتى صارت حاضرة شاملة للفقه والفكر والعقيدة، ومؤثرة دينيا وسياسيا في العالم الإسلامي، ومن أجل ان نحافظ على هذا التراث الديني أقرّ الاجتماع مشاريع علمية متعددة، منها إقامة مؤتمر خاص بشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي (قدس سره)، وتأليف موسوعة علمية كبرى عن أثر حوزة النجف الأشرف في مختلف العلوم الإسلامية، كعلم الكلام، وعلم الفقه، وعلم أصول الفقه، وعلوم اللغة العربية وغيرها، وتدوين تاريخ مفصّل عن أهم الأحداث التي مرّت بها هذه المدينة المقدسة وحوزتها المباركة منذ تأسيسها.
التراث الديني والثقافي في النجف
النجف الأشرف تُعدّ من أغنى المدن الإسلامية بالتراث الديني والثقافي، لما تمثّله من مكانة علمية وروحية وتاريخية في وجدان المسلمين، وخاصة أتباع مذهب أهل البيت (عليهم السلام).
التراث الديني في النجف:
1ـ مرقد الإمام علي (ع): محور القداسة في المدينة، وقبلة للزوار والعلماء، ومركز إشعاع ديني وروحي.
2ـ الحوزة العلمية: من أقدم وأعمق المدارس الدينية الشيعية، خرّجت آلاف الفقهاء والمجتهدين منذ القرن الخامس الهجري.
3ـ المرجعية الدينية العليا: تعد النجف موطن المرجعيات الكبرى، مثل الشيخ الطوسي، السيد الخوئي، والسيد السيستاني.
4ـ المؤلفات الدينية: أنتجت مكتبات النجف آلاف الكتب في الفقه، الأصول، الكلام، التفسير، والحديث.
التراث الثقافي في النجف:
1ـ اللغة والأدب: النجف عُرفت بمواكبها الأدبية، وشعرائها مثل محمد مهدي الجواهري، والشيخ السماوي، وتقام فيها المحافل والندوات الأدبية منذ قرون.
2ـ المكتبات والمخطوطات: تضم مكتبات عريقة مثل مكتبة الإمام أمير المؤمنين، ومكتبة الروضة الحيدرية، وتحتوي على آلاف المخطوطات النادرة بالعربية والفارسية.
3ـ العمارة الإسلامية: عمارة الروضة العلوية، المدارس القديمة، والأسواق المحيطة تحمل طابعا تراثيا فريدا.
4ـ المواكب والشعائر: مظاهر عاشوراء والأربعين في النجف تحمل طابعا ثقافيا وروحيا متجذرا.
النجف الأشرف ليست مدينة دينية فقط، بل مركز حضاري وفكري، يجمع بين العمق الديني والتنوع الثقافي، مما يجعلها أحد أركان الهوية الإسلامية الشيعية في التاريخ والمعاصرة؛ وانها حمت العراق وهويته مرتين: احدهما في 1920م ضد الاستعمار البريطاني البغيض، والآخر في 2014م من خلال فتوى الدفاع الكفائي والذي انقذته وانقذت بلدان المنطقة من المد التكفيري الضال؛ لهذا فقد أخذت العتبة العباسية المقدسة على عاتقها التجهيز للاحتفال بـ (ألفيّة حوزة النجف الأشرف) واستنفار طاقاتها لما لهذه المناسبة من أهمية في إحياء التراث الديني والثقافي لهذه المدينة العظيمة، والحوزة المباركة على مستوى العراق والعالم الإسلامي.







وائل الوائلي
منذ 6 ايام
"المهمة".. إصدار قصصي يوثّق القصص الفائزة في مسابقة فتوى الدفاع المقدسة للقصة القصيرة
(نوافذ).. إصدار أدبي يوثق القصص الفائزة في مسابقة الإمام العسكري (عليه السلام)
قسم الشؤون الفكرية يصدر مجموعة قصصية بعنوان (قلوب بلا مأوى)
EN