لمناسبة ذكرى مرور أربعين يوماً على رحيل المرجع الديني الكبير سماحة آية الله العظمى السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم "طيب الله ثراه"، أقامت الأمانة العامة للعتبة الكاظمية المقدسة مجلساً تأبينياً، وكان في استقبال المعزّين خادم الإمامين الكاظمين الجوادين، الأمين العام للعتبة الكاظمية المقدسة الدكتور حيدر حسن الشمّري، وأعضاء مجلس إدارته الموقر وخدّام العتبة المقدسة، وممثل المرجعية الدينية في مدينة الكاظمية المقدسة سماحة الشيخ حُسين آل ياسين، ونجل الفقيد سماحة السيد رياض الحكيم، وكوكبة من السادة من أسرة آل الحكيم المباركة، وحضر المجلس العزائي وفود العتبات المقدسة والمزارات الشريفة، ومسؤولي رئاسة ديوان الوقف الشيعي، وكوكبة من السادة الأجلاء والمشايخ الفضلاء ونُخبة من الشخصيات العلمية والأكاديمية والاجتماعية.
استهل الحفل بتلاوة مباركة من الذكر الحكيم شنّف بها أسماع الحاضرين الحاج همام عدنان، ثم قراءة سورة الفاتحة المباركة ترحماً على روح الفقيد وشهداء وأموات الحوزة العلمية الشريفة، بعدها كلمة الأمانة العامة للعتبة الكاظمية المقدسة ألقاها أمينها العام الدكتور حيدر الشمّري قائلاً: (نقف اليوم لتأبين عَلَم من أعلام الأمة وطوداً شامخا خط بيده دروب الصبر والجهاد، وبقلمه سُبُل العلم والفضيلة، وبمداده رسائل الله إلى العباد.. إنه سماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم طيب الله ثراه.. فبعد مرور أربعين يوما على فراقه المفجع نجتمع اليوم في رحاب القداسة والطهر من جوار الإمامين الكاظمين الجوادين لنؤبّن عالما ربانيا كرّس حياته للعلم والتدريس والتأليف ونذر نفسه لخدمة الدين والمذهب والدفاع عنهما في جميع محطات حياته المليئة بالعلم والجهاد ومقارعة الظالمين.. رجلا لم يخف في الله لومة لائم إذ عانى خلال أكثر من ثماني سنوات في سجون الطاغية في العهد المباد متعرضا لمختلف وسائل وأنواع التعذيب الجسدي وكان ثابتا صابرا خلال تلك المدة العصيبة يعمل على شد عزيمة السجناء وتقويتهم فكان ملاذا لهم عند الشدة والخوف يستلهمون منه شجاعة علي وصبر الحسن وجهاد الحسين.
وأضاف: عندما نتأمل بيان سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله) حينما نعى سماحة المرجع الكبير آية الله العظمى السيد محمد سعيد الحكيم (طاب ثراه) سيشعر من لا يعرفه عن كثب بعلو مقامه (قدس سره) ومكانته العظيمة في نفوس المراجع والعلماء وفي الحوزة العلمية الشريفة فقد لقبه بالعالم الرباني وهي أعلى منزلة للناس عندما صنفهم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بقوله: (الناس ثلاثة: فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة وهمج رعاع) فسماحة السيد الحكيم كان في أعلى سلم الكمال في العلم والمعرفة والتقوى والورع.. وكذلك نعته في بيانه بـ (فقيه أهل البيت) وهذا شرف لا يدانيه شرف بأن ينسب لأهل بيت العصمة والطهارة ليس بالنسب العائلي فحسب بل بالفقاهة والعمل وخدمة الشريعة المقدسة).
ولله در الشاعر حينما قال:
يا أيها العَلَمُ الحكيمُ تصدعت *** لما رَحَلتَ شعائرٌ وعلوم
كنت الأب الراعي لها فتيتمت *** هيهات بعدك أن يقرّ يتيم
شابهت زين العابدين بمحنةٍ *** وبيوم فقدٍ فالمصاب جسيم
أنت السعيد بقرب جدك في الثرى *** مسك ومزاجه تسنيم
والقائم المهدي بعدك قلبه *** طول الغياب مقرح مكلوم
لا صوّت الناعي يؤرخ ناعياً *** يوم على آل النبي عظيم
بعدها كلمة لممثل المرجعية الدينية في مدينة الكاظمية المقدسة سماحة الشيخ حُسين آل ياسين "دامت توفيقاته" قائلاً:(تحية وتعزية من شغاف القلب وكأني بسيدنا الأستاذ الحكيم "رضوان الله عليه" يقول معرّفاً بنفسه الزكية: " هاؤم اقرأوا كتابيه أني ظننت ملاقٍ حسابيه، كدحت إلى ربي كدحاً، وقُلت لهُ ربِ زدني علماً، بعد أن رباني أبواي زرعاً أخرجَ شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقهِ يُعجب الزُرّاع ليغيظ به الكفار)، نعم لم يجد الكسل ولا الممل ولا طول الأمل إلى قلبه طريقاً، وبالتالي لم يكن لديه شك لله، أبوه إذ لقبه سعيدا، سعيد وأي سعيد حتى في قعر السجون وأشد التعذيب، سعيد بحقيقة الإيمان بالله الواحد الأحد الفرد الصمد والذل له تعالى، سعيد بحقيقة الإيمان بأحمد "صلّى الله عليه وآله وسلم"، سعيد بحقيقة الإيمان بالعترة الطاهرة وفكرهم وسنتهم تعلماً وتفقهاً وتعمقاً وتعليماً وتفهيماً وتأليفاً ونشراً، سعيد بإعلانه الدائم بأن العصمة إنما هي لأهل العصمة "عليهم السلام" وأننا صنايع لهم، وهم صنايع ربهم ولا يقاس بهم أحد، سعيد بجوار أمير المؤمنين "عليه السلام" واللوذ به والاستمرار بتعمير حوزته التليدة، وحُب شيعته وخدمتهم بعيداً عن زخارف الدنيا ومغرياتها وأهواء الساعين إليها، برؤية منضبطة موروثة ثابتة تؤتي أُكلها كلّ حين بإذن ربها ورعاية الإمام المهدي "عجل الله فرجه الشريف").
وشهد الحفل التأبيني قصيدة متلفزة للشاعر الدكتور الشيخ محمد حسين الصغير، أعقبها كلمة لشريحة الأكاديميين ألقاها نيابة عنهم رئيس جامعة بغداد الأستاذ الدكتور منير السعدي أشار خلالها إلى مكانة العُلماء الدعاة الربانيين، وبيّن شذرات من المسيرة العلمية والفكرية والعقائدية للفقيد "قدس سره"، ومنزلته الرفيعة، وتواضعه مبيناً أنه كان مثالاً للصبر، مستشهداً بقطوف من مناهل علمه وفكره الغزير ومؤلفاته وتراجمه التي بلغت (24) عنواناً في مختلف المجالات العلمية مسلطاً الضوء على كتابه "مصباح المنهاج" الذي يتألف من سبعة عشر مجلداً.
وكانت هناك مشاركة لفرقة إنشاد الجوادين بأنشودة " سلاماً حوزة النجف"، وكذلك عرض تقرير مصور عن مسيرة الفقيد "طيب الله ثراه" بعنوان: (حكيم الخُلود) من إنتاج قناة الجوادين في العتبة الكاظمية المقدسة.
بعدها استمع الحضور إلى كلمة المواكب والهيئات الحُسينية في مدينة الكاظمية المقدسة ألقاها نيابة عنهم الأستاذ مصطفى الصائغ جاء فيها: نشاطركم الآلم والحزن ونحن نؤبن اليوم سماحة المرجع الديني الكبير آية الله السيد محمد سعيد الحكيم "قدس سره" في ذكرى مرور أربعين يوماً على فقده ورحيله. موضحاً مواقفه الوطنية السديدة بعد عام 2003م، ومؤازرته لفتوى العصر، فضلاً عن دوره الكبير الذي أعطى من خلاله صورة بهية عن حوزتنا الشريفة، بأنها حوزة علمية وعملية شاملة، ومرجعيتنا الرشيدة لا تتخذ من الدين وسيلة لتحقيق غايات دنيوية، بل تجسّر روحها وأعمارها سبلاً للغاية المرجوة الحقّة، فضلاً عن مواقفه المشرّفة على الصعيد الاجتماعي ونحن كأبناء المواكب والهيئات الحُسينية نستذكر مناصرته حين أحيا وناصر الشعائر والممارسات الدينية والعبادية بالفعل والقول
والتقرير، وهذا دليل واضح على الروح العقائدية والمرجعية الشاملة المعتدلة لأتباع أهل البيت "عليهم السلام".
وتخلل الحفل التأبيني قصيدة مؤرخة للشاعر الأستاذ رياض عبد الغني الكاظمي قال فيها:
لا أعزّي بكم فمن ستلاقي *** جُعل من لقائك الفذّ عيدا
بعد عمرٍ قضيته في جهادٍ *** عشت فيه محمداً وسعيدا
وسنين العطاء علماً وصبراً *** صغتها للأنام عقداً فريدا
كل خطوة خطوتَ فيها جهاد *** أرّخ قد قضى الحكيم شهيدا 1443هـ
كما شهد الحفل كلمة لنجل السيد الفقيد سماحة السيد رياض الحكيم "دامت توفيقاته" تقدّم خلالها بالشكر والتقدير إلى الحضور الكريم ومنهم من تجشم عناء السفر داعياً لهم بالتسديد لاستكمال خطى ومسيرة السيد محمد سعيد الحكيم "قدس سره" في الحفاظ على الشريعة والمقدسات.
واختتم الحفل التأبيني فضيلة الشيخ إبراهيم النصيراوي بقراءة مجموعة من المراثي، وقراءة دعاء الفرج لبقية الله الإمام المهدي المنتظر "عجل الله فرجه الشريف"، والابتهال إلى المولى العليّ القدير أن يرحم فقيد الحوزة العلمية الشريفة، ويسكنه فسيح جناته، وأن يُلحقه بركب سيد الشهداء الإمام أبي عبد الله الحسين "عليه السلام" وأن يُلهم أهله وذويه ومحبّيه ومقلديه الصبر والسلوان ويربط على قلوبهم ويشدّ من أزرهم إنه نعم المولى ونعم النصير.
وتؤكد الأمانة العامة للعتبة الكاظمية المقدسة من خلال إقامتها هذا الحفل التأبيني على ضرورة الاهتمام والاحتفاء بالشخصية الفذّة للسيد محمد سعيد الحكيم "رضوان الله عليه" ومآثره و مسيرته الخالدة، وصفحات حياته المشرقة لأجل الحفاظ على تراثه الديني والعلمي والمعرفي والثقافي والحضاري لتتأسى بهِ الأجيال القادمة.