المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

علوم اللغة العربية
عدد المواضيع في هذا القسم 2656 موضوعاً
النحو
الصرف
المدارس النحوية
فقه اللغة
علم اللغة
علم الدلالة

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
الأندلس والقوط وطليطلة.
2024-07-01
فلورندا.
2024-07-01
ألفونس.
2024-07-01
فلورندا وألفونس (المحب كثير الشكوك).
2024-07-01
لغة الحب.
2024-07-01
موكب الملك.
2024-07-01

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


موسيقية الادب العربي  
  
1251   01:17 مساءً   التاريخ: 21-4-2018
المؤلف : د. ابراهيم انيس
الكتاب أو المصدر : دلالة الألفاظ
الجزء والصفحة : ص153- 161
القسم : علوم اللغة العربية / علم الدلالة / قضايا دلالية اخرى /

 

موسيقية الادب العربي

يصف كثير من الدارسين لغتنا العربية بأنها لغة موسيقية وأنها انحدرت إلينا وقد اكتسبت هذه الصفة منذ أقدم عهودها أو أقدم نصوصها، ولكني لا اعرف احداً من هؤلاء الدارسين قد ربط بين هذه الموسيقية و بين ما شاع لدي العرب القدماء من الأمية أو ندرة الفراءة والكتابة.

وفي رأيي أن ظاهرة الموسيقية في اللغة العربية تعزي في أغلب عناصرها إلى تلك الأمية حين كان الأدب أدب الأذن لا أدب العين، وحين اعتمد القوم على مسامعهم في الحكم على النص اللغوي، فاكتسبت تلك الآذان المران والتمييز بين الفروق الصوتية الدقيقة، وأصبحت مرهفة تستريح إلي كلام لحسن وقعه أو إيقاعه، وتأبى آخر لنبوه، أو لأنه كما يعبر أهل الموسيقي نشاز.

وكما تمرن الآذان في بيئة الأمية تمرن الألسنة أيضاً، فتنطلق من عقالها وقد اكتسبت صفة الذلاقة، فلا تتعثر أو تزل في أثناء النطق. وتتعاون الأذن مع اللسان في مثل تلك البيئة علي إيثار العناصر الموسيقية من اللغة، ونفي العناصر النابية والتخلص منها، ويؤدي هذا مع مرور الأيام- و بشرط أن نظل الأمة في نهضتها الاجتماعية والحضارية - إلى انسجام في أصوات الكلام وحركاته ومقاطعه، ويقترب بذلك إلى نوع من الموسيقي أو الغناء.

ويرى الدارس للأدب العربي أن للعصر الجاهلي آثارا أدبية أكثرها من النظم، وأقلها ومن الفتر؛ بل يري أن ما روي من النتر قريب الشبه بما روي من النظم، فقيه

ص153

تلتزم القافية بين عدد من العبارات. ولكنه لا يكاد يخضع لنظام توالي المقاطع الذي تألفه في المنظوم.

ثم قد يبدو لدارس الأدب العربي أن يفسر لنا عناية هؤلاء القدماء بالأدب عمة والشعر بصفة خاصة فيل.. مس التفسير حينا من بيئة العرب، كالجاحظ حين يقسم الشعوب أقساماً، فيري أن اليونان أصحاب فلسفة ومنطق، وأن الفرس أصحاب تقليد و نقل، وأن أهل الهند أصحاب حكمة وأخلاق، فأما البيان في الشعر والنثر فحظ العرب و حظهم وحدهم.

وطوراً يلتمسه من طبيعة العربي كالقاضي الجرجاني حين يقول (إن الشعر علم من علوم العرب يشترك فيه الطبع والرواية، والذكاء، ثم تكون الدربة مادة له وقوة لكل واحد من أسبابه).

ومهما تكن الأسباب الأصلية التي ساعدت على نشأة هذه الشاعرية العربية فالذي يعنينا هنا أن نتذكر أن الأدب الجاهلي قد نما وازدهر في مجتمع لإ يصطنع الكتابة والقراءة، وظل هذا المجتمع العربي قبل الإسلام بضعة قرون يرعى تلك النهضة البيانية، ويعمل علي ازدهارها. ولم يكن للشعر خلال هذه القرون إلا الصورة الصوتية، تتردد على الأسماع فتكسبها لنران وعادة التمييز بين الكلام المشتمل على الإيقاع والنغم.

ونلحظ أسمى درجات الموسيقية في أوزان الشعر وقوافيه، أما نثرهم فنراه ممثلا خير تمثيل في خطبهم ووصاياهم تلك التي التزم فيها إلى حد كبير تردد أصوات بعينها في نهاية العبارات والجمل.

ولا شك أن كلا من الشعر والخطابة، كلام قصد به اولا وقبل كل شيء التأثير في العاطفة، وسر هذا التأثير يمكن أن يكون عن طريق الجمال في المعنى، أو عن طريق الإيقاع والنغم في اللفظ ويعجب القارئ الكاتب عادة بمعاني الكلام أكثر من إعجابه بوقعه في الأسماع، في حين أن الأمي المرهف الأذن يستجيب أولا لرنين اللفظ ونغمه، وقد ينفعل له ويتأثر به تأثراً قويا وإن خلا من جمال في مضمونه و معناه.

لهذا نرجح أن الشعر العربي القديم عنى أولا بالموسيقى، وشغلته الأوزان والأنعام عن المعاني والتعمق فيها. ولعل هذه الظاهرة لم يقتصر أمرها على الشعر العربي القديم، بل شملت كل الأشعار القديمة للأمم الأخرى، كالقعائد الجرمانية

ص154

القديمة، وأشعار اليونان في عصورهم الأولي، ونحو هذا من الأشعار التي رويت ولم تكتب، أو التي نشأت في بيئة أمية.

غير أن أمية العرب قد ظلت شائعة بينهم رغم ما وصلوا إليه في عصر ماقبل الإسلام من ناحية عقلية أرقى كثيراً مما كانت عليه البيئة الإغريقية أيام حروب طروادة، ورغم ما وصل إليه العالم الإنساني أيام هؤلاء الجاهليين من رقي وحضارة واعتماد كبير على القراءة والكتابة.

لذلك لا نغالي حين نقرر هنا أن أثر الأمية في شعر العرب القدماء أعمق من أثرها في شعر غيرهم من الأمم القديمة.

بل لا تعرف أمة اخرى من الأمم قد ظهر لها مثل ذلك الأدب الجاهلي في كثرته و إحكامه واعتزاز أهله به وتوافرهم عليه، ثم كانت مع ذلك امة أمية أو شاعت فيها الأمية على النحو الذي روي لنا عن العرب القدماء.

فالذي أود أن تذكره دائما هو أن كل الأمم قد بدأت حياتها في جو الأمية، وإنه من المحتمل أن يكون قد نشأ لبعض منها نوع من الأدب في هذا الجو أو تلك الظروف، ولكن ليس من بينها أمة قد عنيت بتلك الآداب التي نشأت في ظروف أميتها إلا العرب.

فالفارق الهام بين أمة العرب وغيرهم من الأمم، أن العرب مروا بعهودهم البدائية وهم أميون، وكان لهم آداب ترجع ربما إلى ما قبل المسيح، ثم تطورت هذه الآداب في ظل الأمية حتى اكتمل تطورها، وأخذت صورة الأدب الناضج وهي لا تزال على الأمية باقية.

عنى العرب إذن بموسيقية الكلام، لأنهم لم يكونوا أهل كتابة وقراءة، بل اهل سماع وإنشاد، وظلت هذه الخاصية بارزة في الشعر العربي في كل العصور، حتى بعد أن نشأت الموشحات، وأريد بها الخروج عن نظام القافية الواحدة والوزن الواحد، نرى أن هذه الموسيقية قد تنوعت ألوانها و تباينت نغماتها حين انتقل أبناء العرب إلى البيئات الطبيعية المتعددة الألوان، من خفيف للأشجار، وغناء للأطيار، ووفع للأمطار، واسداء مختلفة لأصوات الطبيعة حيث تمتزج فتأتلف، وتوحي بنوع من الموسيقية التي لا تسير على وتيرة واحدة كما كانت في شبه الجزيرة، ولكنها موسيقية الكلام علي كل حال. فقد ظل اثر الموسيقية الجاهلية هو السائد في كل العصور حتى بعد أن أصبحت المملكة العربية أبعد ما تكون عن الأمية أو مايشبه الأمية. لأن الأدباء

ص155

في كل العصور قد اتخذوا من تلك النماذج القديمة نصباً يحيجون إليها، ويلتمسون منها الإلهام والوحي.

ولأمر ما سمعي الأعشى بصناجة العرب، فهو مع اشتراكه في الأمية كجمهور الناس في بيئته قد عوض عن فقد البصر بسمع مرهف. وأذن أكثر حساسية،

جعلته يتجه بكل قلبه ونفسه نحو هذه الموسيقية اللفظية، ويوغل فيها حتى تميز شعره بصلاحيته للغناء أكثر من غيره.

ولأمر ما، كان أبو العلاء المعري أول شاعر عربي لغت نظر.. إلى ما سماه باللزوميات، فقد قضى ابو العلاء كل حياته يسمع ولا يكتب، وأرهفت أذنه و سمعه بعد ذلك المران الطويل.

بل لا أكون مغالياً حين أقول إن أوضح ما يتميز به الأدباء المكفوفون في أدبهم هو عنايتهم بجرس الألفاظ و وقعها الموسيقي، وكثيراً ما تشغلهم موسيقى الكلام عن مراميه وأهدافه، فيغمرون المعنى القليل بفيض من الألفاظ والعبارات المتكررة ذات المعنى الواحد أو المتشابهة الدلالة.

ويصف الناقد الحديث القصيدة العربية بخلوها من الوحدة، فلو قد اقتطف منها بعض أبياتها لم يخل هذا بكيانها، أو ينقص من من الوزن والقافية ، لأن عنايته بالموسيقى والغنم قد فاقت عنايته بالمعاني والأخيلة، فليست القصيدة مفككة الأوصال كما قد تبدو، بل شغل العربي بموسيقاها، وأصبح ينفعل لكل بيت، ويستجيب لوزنه وإيقاعه كلما تكررت القافية، واتحد نظام توالي المقاطع.

ولذا لاندهش حين يروى عن أحد الشعراء أنه قال متحدثا عن المأمون (أسمعته الساعة بيتا لو شاطرني عليه ملكه لكان قليلا) . وكان أبو نواس يسمع البيت من الحسين بن الضحاك فيتوعده بأشد الوعيد إن لم يترك له هذا البيت.

وكان القدماء من نقاد العرب يحكمون علي الشعراء و شعر هم بالبيت الواحد. فيروي عن الأصمعي قوله «أغزل بيت قالته العرب: وما ذرفت عيناك إلا لتقصري ...» ، وقوله إن أهجي بيت قالته العرب: قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم... بل سمعي زهير قاضي الشعراء ببيت من الشعر هو:

فإن الحق مقطعه ثلاث: أداء أو نفار أو جلاء

أما أمدح بيت ففي رأي بعضهم قول الخطيئة: يغشون حتى ماتهر كلابهم...

وفي رأي ثعلب قول الأعشى: فتي لو يباري الشمس ألفت قناعها...

ص156

وقال أبو عمرو هو بيت جرير: ألستم من ركب المطايا

وقال غيره بل بيت الأخطل: شمس العداوة حتي يستفاد لهم ...

فأحكامهم موجزة سريعة، ومجالس عبدالملك بن مروان مليئة بتلك الاحكام ال...ثية كقوله لكثير عزة (أما والله لولا بيت أنشدتنيه قبل هذا لحرمتك جائزتك). وكان يقارن بين العر...دق وحرير علي أساس بيت واحد لكل منها، فالفرزدق بقول (فإني أ... الموت الذي هو واقع)، فيجيبه جرير بقوله (أنا الدهر يفني الموت والدهر خالد)!!.

فالشاعر العربي لرغبته في إطالة القصيدة، وشدة اعتزازه بموسيقاها قد أحل نفسه من وحدة المعنى فيها، مكتفيا بوحدة الوزن والقوافي ، ولم تسعفه ألفاظ اللغة وكلماتها في الجمع بين هاتين الوحدتين.

وليس من نافلة القول هنا أن تعرض عرضا سريعا لقضية اللفظ والمعني، تلك القضية التي ظلت مناط البحث والجدل فترة طويلة بين النقاد القدماء وكان من بين هؤلاء النقاد من نادى بما ننادي به الآن من أن اللغة العربية ممثلة في نصوص الآداب المروية تعد من اللغات التي عنيت باللفظ أكثر من عنايتها بالمعنى، أو بعبارة أخرى عنيت بموسيقى الكلام أكثر من عنايتها بمضمونه. غير أنا في ندائنا بهذا الرأي نعزوه إلى الظروف الاجتماعية التي نشأت فيها تلك الآداب، من شيوع الأمية بين العرب، واعتمادهم على سمع والمشافهة في تلقي النصوص وتداولها.

وكان ممن تشيعوا للفظ والصياغة «الجاحظ» ، وتبعه في هذا كثيرون من الذين جاء وبعده من فاقدي الأدب ودارسيه. فلنستمع مثلا إلى أبي هلال العسكري إذ يقول (ليس الشأن في إيراد المعاني، لأن المعاني يعرفها العربي والأعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو في إجادة اللفظ وصفاته وحسنه وبهائه ... الخ).

ولم يكد ينتصف القرن الرابع الهجري حتى رأينا نقاد الأدب العربي قد انقسموا فريقين: فريق ينتصر للفظ وآخر للمعنى

ويلخص ابن رشيق (1) في كتابه العمدة هذه القضية فيقول (اللفظ جسم وروحه المعنى) ثم يقول (وللناس في هذا آراء ومذاهب، منهم من يؤثر اللفظ علي المعنى كقول بشار:

ص157

إذ ما غضبنا غضبة مضرية ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما

(ومن هؤلاء فرقة أصحاب جلبة وقعقعة بلا طائل معنى إلا القليل النادر)، ثم يقول (ومن الناس من يؤثر المعنى على اللفظ فيطلب صحته، ولا يبالي حيث وقع هجنة اللفظ وقبحه و خشونته، كابن الرومي و أبي الطيب المتنبي). ثم يختتم ابن رشيق هذا الفصل يقوله (وأكثر الناس على تفضيل اللفظ على المعنى).

ويعقد ابن جني في الخصائص (2) فصلا مستفيضا عنوانه (في الرد على من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ وإغفالها المعاني). ويقيم ابن جني من نفسه مدافعاً عن الأدب العربي، فيعلل عناية العرب بالألفاظ بقوله (لأنها لما كانت عنوان معانيها، وطريقاً إلى إظهار أغراضها و مراميها، أصلحوها و رتبوها وبالغوا في تحبيرها و تحسينها ليكون ذلك أوقع في السمع وأذهب بها في الدلالة على القصد، ألا ترى أن المثل إذا كان مجموعاً لذ سامعه فحفظه ... الخ).

ثم لا يلبث ابن جني في هذا الفصل أن يعود إلى طبيعته كنحوي لا ناقد أدب ويبدأ في شرح مدلولات بعض الصيغ فيقول (فصيغة «أفعل» للنقل وجعل الفاعل مفعولا نحو دخل وأدخلته، وصيغة «فاعل» لكونه من اثنين فصاعداً نحو ضارب زيد عمراً ... الخ).

وعلي هذا النهج العجيب يستمر في دفاعه. ولا نريد بعد هذا أن تستدرجنا قضية اللفظ والمعنى إلى أكثر مما سبق ذكره ويكفي أن كثرة من ناقدي الأدب القدماء قد فطنوا إلى عناية العرب بألفاظهم و موسيقاهم، وإن لم ينسبوا هذا إلى سبب واضح أو علة ظاهرة.

ولا تقتصر موسيقية الشعر العربي على نظام المقاطع في الأبيات، أو نظام القوافي في أواخرها، بل تشمل أيضاً تلك الظاهرة التي سماها علماء البلاغة بالجناس، وهو تردد الأصوات المتماثلة أو المتقاربة في مواضع مختلفة من البيت الواحد. وشواهده في الأدب العربي قديمة وحديثه غزيرة جدا، مما يدل على حب العرب لهذا اللون من الموسيقية الكلامية، كقول أوس بن حجر:

غر غرائر أبكار نشأن معا ... جشن الخلائق عما يتقي زور

ص158

وقول الحطيئة:

وقول كعب بن زهير:

ولقد علت و أنت خير عليمة          أن لايقربني الهوي لهوان

وقول الخنساء:

إن البكاء هو الشفاء           من الجوي بين الجوانح

وقد عني علماء البلاغة من المتأخرين بإبراز هذه الظاهرة الموسيقية، وألقوا فيها كتباً ورسائل عرضوا فيها الأمثلة من كل عصر، وقسموا الجناس إلي تام و ناقص، وفرعوا لكل قسم من القسمين فروعا يطول شرحها، ويمكن الرجوع إليها في المطولات من كتب البلاغة. ولعل أهم صفة تمير الجناس التام من الجناس الناقص هي أن التام تتردد فيه كلمة بعينها سواء صحب هذا التردد اختلاف معناها، أولم يصحبه، مثل قول ابن الرومي:

للسود في السود آثار تركن بها        وقع من البيض يثنى أعين البيض

أما في الجناس الناقص فيكتفي بتردد بعض أصوات الكلمة، كعظم الامثلة التي وردت في الشعر العربي القديم.

هذا هو ما كان من شأن الشعر العربي، أما النثر القديم فقد بدأ موسيقياً أيضاً، وظلت تلك الموسيقية تلازمه في معظم عصور اللغة، ولم يخرج عنها إلا بعض المفكرين من الأدباء أمثال ابن المقفع و غيره في عصر المأمون ممن تأثروا بما ترجم عن الفرس واليونان والهنود. ثم عادت الكتابة بعد هؤلاء إلي الموسيقية ممثلة في الأسجاع والازدواج وظلت سوقها رائجة إلي عهد قريب من عصرنا الحديث.

وقد رويت لنا نماذج من نثر الجاهليين في صورة خطب ووصايا أسست كلها وقد رويت لنا نماذج من نثر الجاهليين في صورة خطب ووصايا أسست كلها علي موسيقية اللفظ، والتزام نظام القافية أو الفاصلة، وفيها وجهت كل العناية إلي الأصوات فغمرت المعاني، وأصبح من المألوف التعبير عن المعني القليل بألفاظ كثيرة. فاستمع لما يروي عن (مرثد الخير بن ينكف): (قبل انتكاث العهد، وانحلال العقد، وتشتت الألفة، وتباين السهمة) تجد أن كل هذه العبارات ذات معنى واحد. ثم استمع إلي قول طريف بن العاصي: (تالله ما سمعت كاليوم قولا أبعد من صواب،

ص159

ولا أقرب من خطل، والله أيها الملك ما قتلوا بهجينهم بذجا، ولا رقوا به درجا، ولا أعطوا به عقلا، ولا اجتنثوا به خشلا)، فهذه كلها أمثلة يراد بها معني واحد هو أنهم لم بنالوا تأره !!!  أو استمع لنصيحة ذي الإصبع العدواني لابنه: (ألن جانبك لقومك يحبوك، وتواضع لهم يرفعوك، وابسط لهم وجهك يطيعوك) تجد أن كل هذه العبارات لا تكاد تؤدي إلا معني واحداً!!

فالنثر العربي في عصوره الأولي قد انتظمته تلك الموسيقية ممثلة في العبارات المسجوعة حيناً، أو المتوارية حيناً آخر. وقد بدا لبعض الدارسين أن الإسلام بغض من هذه الظاهرة الموسيقية حين قضي الرسول صلي الله عليه و آله وسلم بدية الجنين فقال رجل في مجلسه (كيف ندي من لا شرب ولا أكل، ولا صاح فاستهل، ومثله دمه يطل)؟ فقال الرسول (اياكم و سجع الكهان). وقد وصح ابن الأثير هذا الحادث بقوله (إن النهي لم يكن عن السجع نفسه، وإنما النهي عن حكم الكاهن الوارد باللفظ المسجوع).

ومن مظاهر الموسيقية في نثر اللغة تلك العبارات الكثيرة التي تشتمل علي ما يسمي بالازدواج أو المزاوجة مثل (حسن بسن، شيطان قيطان، عفريت نفريت) و نحو هذا من عبارات تنتهي بكلمات لا معني له اولا تستعمل مستقلة، وإنما جيء بها لتقوية البنية فيما يسبقها من كلمات بترديد الأصوات المتماثلة، وإن لم تفد معني جديداً في غائب الأحيان. وقد جمع ابن فارس في كتيب صغير مجموعة كبيرة من أمثال تلك العبارات و سمي كتابه بالإتباع والمزاوجة.

ومن العبارات التي رويت في الإتباع و تكلف الرواة لها دلالة معينة:

1-أسوان أتوان: حزين متردد لا يستقر علي حال من شدة الحزن.

2-عطشان نطشان: عطشان قلق.

3-خزيان سوآن: مستخز لقبح الأمر.

4-هنئ مرئ: أسعده الطعام و سره.

5-عيسي شويّ (شييّ): عيسى رذّل .

6-عريض أريض: الأريض الخليق للخير الحيد النبات.

7-غني ملي: غني جداً.

ص160

8-خبيث نبيث: النبيث الذي يفتش عن خفايا الناس، وكان من حق الصيغة أن تكون «ناث»، ولكن للإتباع جعلت «نبيث»!

9-خفيف ذفيف: الذفيف السريع.

10-قسيم وسيم: جميل جداً.

11-قبيح شقيح: قبيح جداً.

12-كثير بثير: كثير جداً.

13-كثير بذير: كثير مبعثر.

14-ضئيل بئيل : صغير الحجم.

15-شخيح نحيح: النحيح الذي يتنحنح إذا سئل عن الشيء.

16-سليخ مليخ: لا طعم له.

17-أشر أفر: أشر بطر.

18-هذر مذر: الكثير الكلام الفاسد.

19-حقير نقير، حقر نقر: حقير سهل القياد متهاون به!

20-شكس لكس: شكس عسير متعب.

21-سمج لج: اللمج الكثير الأكل لا يبقي علي شيء!

22-لجمعون أكتعون: كلهم.

ص161

_______________

(1) توفي في منتصف القرن الخامس لهجري.

(2) ص 223.




هو العلم الذي يتخصص في المفردة اللغوية ويتخذ منها موضوعاً له، فهو يهتم بصيغ المفردات اللغوية للغة معينة – كاللغة العربية – ودراسة ما يطرأ عليها من تغييرات من زيادة في حروفها وحركاتها ونقصان، التي من شأنها إحداث تغيير في المعنى الأصلي للمفردة ، ولا علاقة لعلم الصرف بالإعراب والبناء اللذين يعدان من اهتمامات النحو. واصغر وحدة يتناولها علم الصرف تسمى ب (الجذر، مورفيم) التي تعد ذات دلالة في اللغة المدروسة، ولا يمكن أن ينقسم هذا المورفيم الى أقسام أخر تحمل معنى. وتأتي أهمية علم الصرف بعد أهمية النحو أو مساويا له، لما له من علاقة وطيدة في فهم معاني اللغة ودراسته خصائصها من ناحية المردة المستقلة وما تدل عليه من معانٍ إذا تغيرت صيغتها الصرفية وفق الميزان الصرفي المعروف، لذلك نرى المكتبة العربية قد زخرت بنتاج العلماء الصرفيين القدامى والمحدثين ممن كان لهم الفضل في رفد هذا العلم بكلم ما هو من شأنه إفادة طلاب هذه العلوم ومريديها.





هو العلم الذي يدرس لغة معينة ويتخصص بها – كاللغة العربية – فيحاول الكشف عن خصائصها وأسرارها والقوانين التي تسير عليها في حياتها ومعرفة أسرار تطورها ، ودراسة ظواهرها المختلفة دراسة مفصلة كرداسة ظاهرة الاشتقاق والإعراب والخط... الخ.
يتبع فقه اللغة من المنهج التاريخي والمنهج الوصفي في دراسته، فهو بذلك يتضمن جميع الدراسات التي تخص نشأة اللغة الانسانية، واحتكاكها مع اللغات المختلفة ، ونشأة اللغة الفصحى المشتركة، ونشأة اللهجات داخل اللغة، وعلاقة هذه اللغة مع أخواتها إذا ما كانت تنتمي الى فصيل معين ، مثل انتماء اللغة العربية الى فصيل اللغات الجزرية (السامية)، وكذلك تتضمن دراسة النظام الصوتي ودلالة الألفاظ وبنيتها ، ودراسة أساليب هذه اللغة والاختلاف فيها.
إن الغاية الأساس من فقه اللغة هي دراسة الحضارة والأدب، وبيان مستوى الرقي البشري والحياة العقلية من جميع وجوهها، فتكون دراسته للغة بذلك كوسيلة لا غاية في ذاتها.





هو العلم الذي يهتم بدراسة المعنى أي العلم الذي يدرس الشروط التي يجب أن تتوفر في الكلمة (الرمز) حتى تكون حاملا معنى، كما يسمى علم الدلالة في بعض الأحيان بـ(علم المعنى)،إذن فهو علم تكون مادته الألفاظ اللغوية و(الرموز اللغوية) وكل ما يلزم فيها من النظام التركيبي اللغوي سواء للمفردة أو السياق.