أقرأ أيضاً
التاريخ: 19-8-2016
1335
التاريخ: 20-8-2016
1856
التاريخ: 14-8-2017
1352
التاريخ: 19-8-2016
1651
|
مالك بن الحارث الأشتر.
توفي سنة 39.
كان من زعماء العراق الأشداء، فارسا صنديدا لا يشق له غبار، شديد البأس رئيس أركان الجيش لعساكر أبي الحسن ع في معاركه. وهو من لهاميم مذحج الابطال المغاوير وسيد قروم النخع وشجعانها المساعير. ومن رواسي الجبل في الحلم ومن السحاب الثقل في الكرم والسخاء. وكان الأشتر بالكوفة اسود من الأحنف بالبصرة.
اما في السياسة فكان من الأكياس الحازمين، يجمع بين اللين والعنف فيسطو في موضع سطو ويرفق في موضع الرفق. وقد شهد له بذلك أمير المؤمنين ع فقال عنه: انه ممن لا يخاف وهنه ولا سقطته، ولا بطؤه عما الاسراع اليه أحزم ولا اسراعه إلى ما البطء عنه أمثل.
وهو خطيب منبر وقائد عسكر وشاعر ناثر. وقد استطاع ان يخمد بذلاقة لسانه من الفتن العمياء ما أعيا السيف اطفاؤه في كثير من المواقف والمشاهد التي نصر فيها الحق وحارب الباطل. كان أمير المؤمنين ع حين رجع عن صفين رد الأشتر إلى عمله بالجزيرة، فلما اضطربت مصر على محمد بن أبي بكر استدعى أمير المؤمنين ع الأشتر اليه وهو يومئذ بنصيبين وارسل إليه هذا الكتاب:
أما بعد فإنك ممن استظهر به على إقامة الدين واقمع به نخوة الأليم وأسد به الثغر المخوف.
إلى أن يقول: فأقوم علي للنظر فيما ينبغي واستخلف على عملك اهل الثقة والنصيحة من أصحابك والسلام.
فاقبل الأشتر إلى علي فلما دخل عليه حدثه حديث مصر وخبره خبر أهلها، وقال له: ليس لها غيرك فاخرج إليها رحمك الله فاني لا أوصيك اكتفاء برأيك واستعن بالله على ما أهمك واخلط الشدة باللين وارفق ما كان الرفق أبلغ واعزم على الشدة حين لا يغنى عنك الا شدة.
فخرج الأشتر من عنده فاتى رحله. وأتت معاوية عيونه فأخبروه بولاية الأشتر مصر، فعظم ذلك عليه، وقد كان طمع في مصر، فعلم أن الأشتر ان قدم عليها كان أشد من محمد بن أبي بكر، فبعث إلى رجل من
اهل الخراج يثق به، وقال له: ان الأشتر قد ولي مصر فان كفيته لم آخذ منك خراجا ما بقيت وبقيت فاحتل في هلاكه ما قدرت.
فخرج الأشتر حتى انتهى إلى القلزم حيث تركب السفن من مصر إلى الحجاز فأقام به، فقال له ذلك الرجل وكان ذلك المكان مكانه أيها الأمير هذا منزل فيه طعام وعلق، وانا رجل من اهل الخراج فأقم واسترح واتاه بالطعام حتى إذا طعم سقاه مشربة عسل قد جعل فيه سما فلما شربها مات.
ولما بلغ عليا موت الأشتر، قال: انا لله وانا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين، اللهم إني احتسبه عندك فان موته من مصائب الدهر، ثم قال: رحم الله مالكا فقد كان وفيا بعهده وقضى نحبه ولقي ربه. مع انا قد وطنا أنفسنا ان تصبر على كل مصيبة بعد مصابنا برسول الله، فإنها من أعظم المصائب.
وحدث أشياخ النخع قالوا: دخلنا على أمير المؤمنين حين بلغه موت الأشتر فوجدناه يتلهف ويتأسف عليه، ثم قال: لله در مالك وما مالك؟!
والله لو كان من جبل لكان فندا ولو كان من حجر لكان صلوا، اما والله ليهون موتك عالما وليفرحن عالما، على مثل مالك فلتبك البواكي، وهل موجود كمالك.
قال علقمة بن قيس النخعي: فما زال يتلهف ويتأسف حتى ظننا أنه المصاب به دوننا، وعرف ذلك في وجهه أياما.
ومن أقوال أمير المؤمنين فيه:
كان لي كما كنت لرسول الله وسئل بعضهم عن الأشتر فقال: ما أقول في رجل هزمت حياته اهل الشام وهزم موته اهل العراق.
وقد وصفه أمير المؤمنين لأهل مصر حين ولاه عليها في كتاب كتبه إليهم: لقد وجهت إليكم عبدا من عباد الله لا ينام في الخوف ولا ينكل من الأعداء حذر الدوائر أشد على الكافرين من حريق النار، فاسمعوا وأطيعوا فإنه سيف من سيوف الله لا نابي الضريبة ولا كليل الحد...
موقفه يوم رفع المصاحف :
لما رفع أصحاب معاوية المصاحف يدعون إلى حكم القرآن قال أمير المؤمنين: انهم والله ما رفعوها حقا، انهم يعرفونها ولا يعملون بها، وما رفعوها لكم الا خديعة ومكيدة أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحق مقطعه ولم يبق الا ان يقطع دابر الذين ظلموا.
فجاءه زهاء عشرين ألفا مقنعين بالحديد وشاكي السلاح سيوفهم على عواتقهم وقد سودت جباههم من السجود يتقدمهم مسعر بن فدكي وزيد بن حصين وعصابة من القراء الذين صاروا خوارج من بعد، فنادوه يا علي:
أجب القوم إلى كتاب الله إذ دعيت اليه والا قتلناك!
فقال لهم: أنا أول من دعا إلى كتاب الله وأول من أجاب اليه وليس يحل لي ولا يسعني ان أدعي إلى كتاب الله فلا اقبله، اني انما أقاتلهم ليدينوا بحكم القرآن، فإنهم قد عصوا الله فيما امرهم ونقضوا عهده ونبذوا كتابه، ولكني قد أعلمتكم انهم قد كادوكم وانهم ليسوا بالعمل بالقرآن يريدون.
قالوا فابعث إلى الأشتر ليأتيك، وكان الأشتر صبيحة ليلة الهرير قد أشرف على معسكر معاوية ليدخله. فأرسل اليه يزيد بن هانئ فاتاه فبلغه. فقال الأشتر: قل له ليس هذه الساعة ينبغي لك ان تزيلني فيها عن موقفي اني قد رجوت ان يفتح الله بي فلا تعجلني. فرجع يزيد بن هاني إلى علي فأخبره. وارتفع الرهج وعلت الأصوات من قبل الأشتر وظهرت دلائل الفتح والنصر لأهل العراق ودلائل الخذلان والادبار على اهل الشام.
فقال له القوم: والله ما نراك الا أمرته بقتل القوم، قال: رأيتموني ساررت رسولي؟ أ ليس انما كلمته على رؤوسكم علانية وأنتم تسمعون!
قالوا فابعث اليه فليأتك والا والله اعتزلناك! قال: ويحك يا يزيد، قل له اقبل فان الفتنة قد وقعت.
فاتاه فأخبره. فقال الأشتر: أ لرفع هذه المصاحف؟! قال: نعم.
قال: أما والله لقد ظننت انها حين رفعت ستوقع اختلافا وفرقة، وقال الله لنا، أ ينبغي ان ندع هذا أو ننصرف عنه!.
فقال له يزيد: أ تحب انك ظفرت هاهنا وأمير المؤمنين بمكانه الذي هو به يفرج عنه ويسلم إلى عدوه! قال: سبحان الله، والله ما أحب ذلك.
قال: فإنهم قالوا لترسلن إلى الأشتر فليأتينك أو لنقتلنك كما قتلنا عثمان، أو لنسلمك إلى عدوك!.
فاقبل الأشتر، فصاح: يا اهل الذل والوهن، أ حين علوتم القوم فظنوا انكم لهم قاهرون، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها، وقد والله تركوا ما امر الله فيها وسنة من أنزلت عليه، فلا تجيبوهم أمهلوني فواقا فاني قد أحسست بالفتح، قالوا: لا، قال: فأمهلوني عدو الفرس، فاني قد طمعت في النصرة.
قالوا إذن ندخل معك في خطيئتك. قال: فحدثوني عنكم، وقد قتل أماثلكم وبقي أراذلكم متى كنتم محقين حيث كنتم تقتلون اهل الشام فأنتم الآن حين أمسكتم عن القتال مبطلون أم الآن محقون فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم وكانوا خيرا منكم في النار! قالوا عنا منك يا اشتر، قاتلناهم في الله وندع قتالهم في الله، انا لسنا نطيعك فاجتنبنا، قال خدعتم والله فانخدعتم ودعيتهم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب الجباه السود كنا نظن ان صلاتكم زهادة في الدنيا وشوق إلى لقاء الله، فلا أرى فراركم الا إلى الدنيا من الموت الا قبحا يا أشباه النيب الجلالة ما أنتم برائين بعدها عزا ابدا فابعدوا كما بعد القوم الظالمون.
فسبوه وسبهم وضربوا بسياطهم وجه دابته وضرب بسوطه وجوه دوابهم. فصاح لهم علي فكفوا.
ولما كتبت صحيفة التحكيم دعي لها الأشتر ليوقعها فيمن وقعها فقال: لا صحبتني يميني ولا نفعتني بعدها الشمال ان كتب لي في هذه الصحيفة اسم على صلح ولا موادعة، أ ولست على بينة من ربي ويقين من ضلالة عدوي، أ ولستم قد رأيتم الظفر إن لم تجمعوا على الخور! فقال له رجل انك والله ما رأيت ظفرا ولا خورا هلم فاشهد على نفسك وأقرر بما في هذه الصحيفة فإنه لا رغبة بك عن الناس. قال: بلى والله ان لي لرغبة عنك في الدنيا للدنيا وفي الآخرة للآخرة، ولقد سفك الله بسيفي هذا دماء رجال ما أنت بخير منهم عندي ولا أحرم دما. ثم قال: لكن رضيت بما
صنع علي أمير المؤمنين ودخلت فيما دخل فيه وخرجت مما خرج منه فإنه لا يدخل الا في هدى وصواب.
بطولته في القتال من الصور التي نقلها نصر بن مزاحم عن بسالة الأشتر يوم صفين قوله: كان الأشتر في ميمنة الناس وابن عباس في الميسرة وعلي في القلب.
والأشتر في هذه الحال يسير ما بين الميمنة والميسرة فيأمر كل قبيلة أو كتيبة من القراء بالاقدام على التي تليها فلم يزل يفعل ذلك حتى أصبح والمعركة خلف ظهره. وجعل يقول لأصحابه وهو يزحف بهم ازحفوا قيد رمحي هذا فان فعلوا قال ازحفوا قاب هذا القوس. ثم دعا بفرسه وركز رايته وكانت مع حيان بن هوذه النخعي، واقبل الأشتر على فرس له كميت محذوف قد وضع مغفرة على قربوس السرج وهو يقول: اصبروا يا معشر المؤمنين فقد حمي الوطيس!.
وخرج يسير في الكتائب ويقول: الا من يشتري نفسه لله ويقاتل مع الأشتر حتى يظهر أو يلحق بالله فلا يزال الرجل من الناس يخرج إليه ويقاتل معه.
ويقول واحد في تلك الحال: اي رجل هذا لو كان له نية!. فيقول له صاحبه: وأي نية أعظم من هذه ثكلتك أمك وهبتك، ان رجلا فيما قد ترى قد سبح في الدماء وما أضجرته الحرب وقد غلت هام الكماة من الحر وبلغت القلوب الحناجر، وهو كما ترى يقول هذه المقالة!.
ثم الأشتر في أصحابه فقال شدوا فدى لكم عمي وخالي شدة ترضون بها لله وتعزون بها الدين، فإذا شددت فشدوا، ثم نزل وضرب وجه دابته، ثم قال لصاحب رايته: اقدم فاقدم بها ثم شد على القوم وشد معه أصحابه يضرب العدو حتى بهم إلى معسكرهم فقاتلوا عند المعسكر قتالا شديدا فقتل صاحب رايته. واخذ علي لما رأى الظفر قد جاء من قبله بحده بالرجال.
رأيه في علي بن أبي طالب قال من خطبة له: معنا ابن عم نبينا وسيف من سيوف الله علي بن أبي طالب صلى مع رسول الله لم يسبقه إلى الصلاة ذكر حتى كان شيخنا. لم يكن له صبوة ولا نبوة ولا هفوة ولا سقطة، فقيه في دين الله تعالى عالم بحدود الله وعليكم بالحزم والجد. واعلموا انكم على حق وان القوم على الباطل. انما تقاتلون معاوية وأنتم مع البدريين قريب من مائة بدري سوى ما حولكم من أصحاب محمد، أكثر ما كان معكم رايات فقد كانت مع رسول الله، وعدونا مع رايات قد كانت مع المشركين على رسول الله، فمن يشك في قتال هؤلاء الا ميت القلب، أنتم على احدى الحسنيين، اما الفتح أو الشهادة، عصمنا الله وإياكم بما عصم به من أطاعه واتقاه، وألهمنا وإياكم طاعته وتقواه واستغفر الله لي ولكم.
وله من خطبة أخرى في صفين: الحمد لله الذي جعل فينا ابن عم نبيه أقدمهم هجرة وأولهم اسلاما، سيف من سيوف الله حبه الله على أعدائه. فانظروا إذا حمي الوطيس ونار القتال وتكسر المران، وجالت الخيل بالابطال فلا اسمع الا غمغمة أو همهمة فاتبعوني وكونوا في أثري.
الأشتر زعيم الثورة الشعبية:
قال سعيد بن العاص الأموي والي عثمان على الكوفة لسماره:
السواد يقصد سواد العراق بما فيه من مزارع وبساتين بستان لقريش وبني أمية!.
فقال له الأشتر: أ تزعم ان السواد الذي أفاده الله على المسلمين بأسيافنا بستان لك ولقومك!. والله ما يزيد أوفاكم فيه نصيبا الا ان يكون كأحدنا، وتكلم معه القوم، فقال عبد الرحمان الأسدي وكان على شرطة سعيد: أثر دون على الأمير مقالته!. وأغلظ لهم، فقال الأشتر: من ها هنا؟ لا يفوتنكم الرجل فوثبوا عليه فوطئوه وطا شديدا حتى غشي عليه.
ثم إن سعيدا نفى الأشتر مع تسعة آخرين إلى الشام بامر عثمان، ثم ردوهم إلى الكوفة، وكان فساد الحكم قد بلغ ذروته فلم يطق الأشتر وصحبته السكوت. فنفوهم مرة ثانية إلى حمص، وكتب عثمان إلى الأشتر وصحبه: اما بعد فاني سيرتكم إلى حمص فإذا اتاكم كتابي هذا فاخرجوا إليها فإنكم لستم تالون الاسلام وأهله شرا. والسلام فلما قرأ الأشتر الكتاب قال: اللهم أسوأنا نظرا للرعية وأعملنا فيهم بالمعصية فعجل له النقمة.
فكتب بذلك سعيد بن العاص إلى عثمان وسار الأشتر وأصحابه إلى حمص. ثم عادوا إلى بلدهم.
واستمر استهتار الحكام وعتبهم بالناس قال الطبري: اجتمع ناس من المسلمين في الكوفة فتذاكروا اعمال عثمان وما صنع فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا اليه رجلا يكلمه ويخبره باحداثه فأرسلوا اليه عامر بن عبد الله التميمي وهو الذي يدعى عامر بن عبد قيس، فاتاه فدخل عليه، فقال إن ناسا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في اعمالك فوجدوك قد ركبت أمورا عظاما فاتق الله عز وجل وتب اليه وانزع عنها.
فقال له عثمان: انظر إلى هذا فان الناس يزعمون أنه قارئ، ثم يجئ فيكلمني في المحقرات فوالله ما يدري أين الله. قال عامر: انا لا أدري أين الله؟! قال: نعم والله ما تدري أين الله. قال عامر: بلى والله اني لأدري ان الله بالمرصاد لك.
وكان سعيد بن العاص ومعظم عمال عثمان الذين ضج الناس من عسفهم موجودين في المدينة فعقد عثمان منهم مؤتمرا للنظر في امر النقمة الشعبية فكان من أبي سعيد بن العاص القضاء على الزعماء ومن رأي عبد الله بن عامر قوله: تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك وان تجبرهم في المغازي حتى يذلوا لك فلا يكون همة أحدهم الا نفسه.
ثم رد عثمان عماله إلى بلدانهم وأمرهم بالتضييق على الناس وأمرهم بتجمير الناس في البعوث أي ارسالهم إلى الغزو وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه ويحتاجوا اليه.
ورجع سعيد بن العاص أميرا على الكوفة يحمل هذه التعليمات فخرج اهل الكوفة عليه بالسلاح فتلقوه فردوه وقالوا: لا والله لا يلي علينا حكما ما حملنا سيوفنا.
فرجع سعيد بن العاص إلى عثمان مطرودا، فأرسل عثمان مكانه أبا موسى الأشعري.
ولما تلاقت الوفود بعد ذلك في المدينة مجتمعة على اعمال عثمان وعماله كان الأشتر على اهل الكوفة مطالبا بما تطالب به الوفود كلها، وعند ما تطورت الأمور إلى الحالة التي لم يكن أحد يظن انها ستتطور إليها وحوصر عثمان وهدد بالقتل، لم يدخل الأشتر في هذا.
فقد قال الطبري وهو يصف حصار عثمان: فاعتزل الأشتر فاعتزل حكيم جبلة زعيم البصريين، وكان ابن عديس زعيم المصريين وأصحابه هم الذين يحصرون عثمان وكانوا خمسمائة.
ولما قتل عثمان كان الأشتر هو الذي قاد الجماهير إلى بيعة علي بن أبي طالب ع.
وقال الأستاذ احمد الجندي:
من شخصيات التاريخ الاسلامي النادرة، ومن ابطال الحرب البارزين في أيام العرب، جمع البطولة إلى النجدة، والشجاعة إلى الدين، والفصاحة والبلاغة إلى الكرم والأدب، ورغم ما مر بك من صفات الرجل فان التاريخ لم ينصفه، ولم يحص مآثره وأمجاده، لان ما به من صفات لا يمكن حصرها ولا يتأتى تعدادها. انه يمثل العربي الصحيح، العربي الذي لا يقرب العيوب ولا يداني الدنس، العربي الذي يرخص الروح في سبيل الذود عن الكرامة والدفاع عن الحياض، هذه الكلمات المعسولة التي مرت بك ليست ألفاظا تقال في معرض الحديث عن مالك الأشتر، وانما هي كلمات لها معانيها ومدلولاتها وآثارها في شخص بطل طبق على نفسه القواعد الموضوعة والحدود المرسومة حتى بلغ مرتبة المثل الأعلى للرجل الكامل.
ولد هذا البطل المشهور قبل الاسلام بقليل وقد عاصر النبي ص ولكنه لم يره ولم يسمع حديثه، غير أن مالكا ذكر عند النبي فقال فيه:
انه المؤمن حقا.
وهذه شهادة تعدل شهادة الدنيا بأسرها لأنها صدرت عن أعظم انسان في الدنيا وهي دليل على أن مالكا قد كان شابا في عهد النبي له وزن وله رأي في قومه وانه دخل في الاسلام كما دخل فيه غيره من عظماء هذا العهد المبارك، بل لقد عد بين المجاهدين الذين أبلوا البلاء الحسن في حروب الردة وموقفه معروف من أبي مسيكة الأيادي وهو زعيم من زعماء المرتدين وحديث مالك اليه حديث المؤنب المعتز باسلامه وعروبته وشجاعته حتى لقد دعاه للمبارزة غير هياب ولا وجل مما يدل على أنه قد كان يومذاك شابا في ريعان الشباب. فإذا أضفنا إلى هذا ان مالكا الأشتر قد صرع عبد الله بن الزبير في وقعة الجمل وان عمره كان إذ ذاك على ما يروي المؤرخون، ثمانين عاما فتكون ولادته، إذن، قبل بعثة النبي بعقدين أو ما يزيد على ذلك قليلا. ولكنا لا نخلو من الشك في أن سنه قد بلغت إلى هذا الحد في معركة الجمل لأنه عاش بعد ذلك أيام حرب صفين كلها وانه في نهاية هذه الحرب، وبعد التحكيم، عين واليا على مصر من قبل الإمام علي ع ولسنا نرى ان يعمد الامام إلى تسليم قطر من أهم الأقطار الاسلامية لرجل شيخ هم، بل نرجح انه كان إذ ذاك في طور الكهولة وانه تجاوز الستين بقليل.
اما اسمه المفصل فهو:
مالك بن الحارث بن عبد يغوث بن مسلمة بن ربيعة... إلى أن ينتهي بالنخع ثم يصل إلى مذحج جده الأعلى والذي تسمت به قبيلة من أشهر القبائل اليمنية العربية وأشدها قوة ومنعة. ولقد شهد أول ما عرف خطبة عمر في الجابية كما شهد وقعة اليرموك وشترت عينه فيها، وقيل إنها شترت استرخى جفنها في حروب الردة مع أبي مسيكة الأيادي. وسكن أخيرا في الكوفة وترك فيها نسلا.
لهذا البطل شخصيتان: أولاهما شخصيته قبل الاسلام وأثناءه وفي زمن الخليفتين أبي بكر وعمر، وكان خلالها غير بارز الصورة ولا ظاهر الملامح، وكان معدودا بين الفرسان النابهين، ولكن التاريخ لم يهتم بشأنه في هذه الفترة إذ كان منشغلا بالجهاد.
وشخصيته الثانية تبدأ بالثورة على عثمان حتى نهاية حياته وفيها انضم إلى معسكر علي بن أبي طالب وظل وإياه حتى قتل مسموما على طريق مصر على ما رواه المؤرخون.
كان رفيقا لعمار بن ياسر الصحابي الجليل وقد تألم لمقتله كثيرا وثارت ثورته يومذاك على جند معاوية فأبلى فيهم وأذاقهم الويل في كراته الشديدة عليهم انتقاما لرفيقه وثأرا لصديقه.
كان الأشتر صاحب دين، وكان معدودا في التابعين وكان على جانب كبير من التقشف والزهادة ودليل ذلك اعجابه الشديد بأبي ذر الغفاري، وكان مالك أحد الذين زاروا الصحابي الجليل رغم غضب الخليفة عليه، حتى لقد مات أبو ذر بين يديه وتولى مالك دفنه وابنه تأبينا ينم على الالم لما لقيه من عنت وغبن، كما ينم على الاستياء والحقد على أولئك الذين آذوا صاحب الرسول الأعظم فلم يعرفوا له قدره ومكانته، ولقد وضع الشيخ أبا ذر في حفرته الأخيرة ثم جرد سيفه فمسح به القبر ثم تكلم عن صاحبه فقال: ان أبا ذر رأى منكرا فغيره بلسانه وقلبه حتى جفي ونفي وحرم واحتقر ثم مات وحيدا غريبا، ثم تثور حفيظة مالك فيدعوا على المعتدين بقوله اللهم فاقصم من حرمه ونفاه.
ولكن الغريب في امر مالك انه كان يثور امام الناس جميعا الا الامام ع فقد كان يحبه حبا غير من طبيعته الثائرة وهذب من طبعه العرم ورقق من نفسه المزمجرة المحنفة، فكان إذا سمع الأمر من علي تلقاه كامر عسكري لا تجوز مناقشته ولا تحق مداورته، وهكذا تراجع مالك يوم صفين نزولا عند رغبة الامام، وهكذا قبل أن يكون واليا في منطقة الجزيرة، وهي منطقة تافهة، الا انها واقعة على حدود الشام. وهكذا أيضا قبل أن يكون واليا على مصر بدلا من محمد بن أبي بكر، حتى لقي حتفه في الطريق على أغلب الروايات.
وانتهت بموت مالك حياة حافلة بالدين والايمان والشجاعة والنجدة فعد بذلك من الابطال الميامين في تاريخ الفترة الأخيرة من خلافة الراشدين.
ولقد سر معاوية بمقتله، فقال: كانت لعلي يمينان قطعت إحداهما بصفين يقصد عمار بن ياسر وقطعت الأخرى بمصر ويقصد مالكا.
أما الإمام علي المحب المفجوع بصديقه الأمين فقد قال فيه: كان لي مالك كما كنت لرسول الله.
وقال أيضا وقد جاء خبره. إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أني احتسبه عندك فان موته من مصائب الدهر.
وقال: لله در مالك، أما والله ليهدن موتك عالما ليفرحن عالما، على مثل مالك فلتبك البواكي، وهل موجود كمالك.
بقي ان نذكر لك ناحية أخرى هامة عند هذا الرجل الكبير، فقد كان شاعرا من شعراء البطولة ولكن البطولة غلبت عليه رغم موهبته الشعرية.
يبرز شاب في معركة الجمل لمالك فيلقيه مالك أرضا ويهم بقتله فيذكره الشاب الصريع بالقرآن ويتلو عليه حاميم والشاب يعلم ان مالكا لا يؤخذ بامر كما يؤخذ بالقرآن فيقول الأشتر مجيبا.
يذكرني حاميم والسيف مصلت * فهلا تلا حاميم قبل التقدم
هتكت له بالرمح جيب قميصه * فخر صريعا لليدين وللفم
على غير شئ غير أن ليس تابعا * عليا ومن لا يتبع الحق يندم
وقد اختصر الأشتر مذهبه السياسي في البيت الأخير وذلك: ان من لا يتبع عليا مخالف للحق وحقت عليه الندامة ووجب قتاله وهي أبيات على بساطتها تدل على قوة في الشكيمة وبلاغة في الأداء لا تأتيان الا للشعراء.
ويدعو عبد الله بن الزبير إلى البراز فينزل إليه وهو شاب في عنفوان الشباب ويلتقي بمالك وقد بلغ الثمانين من العمر على قول بعض الروايات، وكان رغم سنه يصوم في الحرب، فيصرع عبد الله ويجثم على صدره فيصبح عبد الله مستغيثا.
اقتلوني ومالكا * واقتلوا مالكا معي فيهيب مالك عن فريسته ثم يروي الحكاية مخاطبا عائشة:
أ عائش لولا انني كنت طاويا * ثلاثا لألقيت ابن أختك هالكا
غداة ينادي والرماح تنوشه * كوقع الصياصي اقتلوني ومالكا
فنجاه مني شبعه وشبابه * وأني شيخ لم أكن متماسكا
وابن أخت عائشة هو عبد الله بن الزبير وأمه أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين.
وكان يصور نفسه في الحرب تصويرا صادقا فيقول:
لأوردن خيلي الفراتا * شعث النواصي أو يقال ماتا كما يقول لاحد مبارزيه محذرا مخوفا:
بليت بالأشتر ذاك المذحجي * بفارس في حلق مدجج
كالليث ليث الغابة المهيج * إذا دعاه القرن لم يعرج
وانظر إلى قوله يخاطب عمرو بن العاص حين هم بمبارزته وهو ملآن حنقا عليه لأنه في رأيه مورث النار ومحرك للخلاف، وانه أيضا صاحب الحيلة في الحرب:
يا ليت شعري كيف لي بعمرو * ذاك الذي أوجبت فيه نذري
ذاك الذي اطلبه بوتري * ذاك الذي فيه شفاء صدري
ذاك الذي ان القه بعمري * تغل به عند اللقاء قدري
وليس خافيا اني انما اتيت بشعر هذا الفارس البطل لا دلل على أنه كان مطبوعا على قول الشعر وان أيامه الرهيبة المخوفة لم تترك له الفرصة الكافية للتجويد في هذا الفن واتقانه، الاتقان اللازم لكل فن، ولكن نفسه بالفتح في شعره يدل على أن وراءه طبعا شاعرا أصيلا وان الشعر بالنسبة له صديق ورفيق يلجأ إليه للتنفيس عن صدره كلما حزبه امر أو نبا به منزل.
والشعراء الفرسان لا يستطيعون ان ينصرفوا إلى فنهم انصرافا تاما لانشغالهم بمزية أخرى غير مزية الشعر ولان شهرتهم في الشجاعة والبطولة تغلب على شهرهم الفنية فهم يظلون في المرتبة التالية بالنسبة للشعراء المتفرغين ان صحت التسمية.
هذا هو مالك الأشتر البطل المعروف والسيد المشهور، فهو فارس وسياسي وشاعر.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
الأمين العام للعتبة العسكرية المقدسة يستقبل قائد الفرقة الرابعة الشرطة الاتحادية
|
|
|