أقرأ أيضاً
التاريخ: 7-01-2015
3369
التاريخ: 5-5-2016
2900
التاريخ: 21-4-2016
3023
التاريخ: 5-01-2015
3254
|
نشر الليل أبراده، واجتمعت مجالس السحر تطوي وحشة المساء بحلو الحديث، وأهم الأخبار، وكانت رحبة الكوفة لم تنس بعد حلقات الماضين، وقد جمعت عليه الصحابة والتابعين وقد حصرت أكثرهم حروب الأيام، وصراع الحق والباطل، وحقد الأمويين على العلويين، ولم يكن ذلك الحقد بالشيء البسيط الذي يمكن أن يقتلع فتخبو جذوته، إنما عمقه أكثر مما يتصور، ويمكن أن نقف على مدى عمقه، عندما نستمع إلى مطرف بن المغيرة بن شعبة ـ وأبوه أحد أعوان معاوية الأشداء ـ يقول: وفدت مع أبي ـ المغيرة ـ إلى معاوية، فكان أبي يأتيه فيتحدث عنده، ثم ينصرف إلي، فيذكر معاوية، ويذكر عقله، ويعجب مما يرى منه حتى إذا جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء، فرأيته مغتماً، فانتظرته ساعةً، وظننت أنه لشيءٍ حدث فينا، أو في عملنا فقلت له: مالي أراك مغتماً منذ الليلة؟
قال: يا بني إني جئت من عند أخبث الناس.
قلت له: وما ذاك؟
قال: ذهبت لمعاوية وقلت له وقد خلوت به: إنك قد بلغت مناك يا أمير المؤمنين، فلو أظهرت عدلاً، وبسطت خيراً، فإنك قد كبرت، ولو نظرت إلى إخوانك من بني هاشم، فوصلت أرحامهم، فو الله ما عندهم اليوم شيءٌ تخافه.
فقال لي: هيهات هيهات، ملك أخو تيمٍ فعدل، وفعل ما فعل، فو الله ما عدا أن هلك، فهلك ذكره، إلا أن يقول قائلٌ: أبو بكرٍ، ثم ملك أخو عدي، فاجتهد، وشمر عشر سنين فو الله ما عدا أن هلك، فهلك ذكره إلا أن يقول قائلٌ: عمر، ثم ملك أخونا عثمان، فملك رجلٌ لم يكن أحدٌ في مثل نسبه، فعمل ما عمل، وعمل به، فو الله ما عدا أن هلك، فهلك ذكره، وذكر ما فعل به، وإن أخا هاشم يصرخ به في كل يومٍ خمس مراتٍ أشهد أن محمداً رسول الله فأي عملٍ يبقى مع هذا، لا أم لك، والله إلا دفناً، دفناً ..
هكذا كان حقد البيت الأموي بالنسبة لآل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين فضلهم الله على العالمين، وجعلهم من أهل بيتٍ، أذهب عنه الرجس، وطهره تطهيراً..
وسكت المتحدث قليلاً، وهو كأنه يستعرض الأحداث في ذهنه، ويتذكرها وينتقي أكثرها عبرةً وضمت الحلقة فيمن ضمت عدداً يهمهم أخبار الأمجاد من مدرسة الإمام علي (عليه السلام) أولئك الذين بلغ بهم الإيمان بهذا البيت الطاهر إلى حد التفاني وكان المتحدث يقطع أوصال الليل بالحكايات والعبر.
وقال: وليكن حديثنا الليلة عن بطل من الأبطال، ومؤمنٍ رائع الإيمان ومجاهدٍ بين يدي الإمام علي (عليه السلام) سجل تأريخه بأنصع صفحةٍ هو: عبد الله بن بديل بن ورقاء بن عبد العزيز بن ربيعة الخزاعي..
سيدٌ من سادات خزاعة، وبطلٌ من صفين، وصحابي رافق القائد الأول، رسول الله في بعض غزواته: كحنين، والطائف وتبوك، وهو لم يتخط عتبة الشباب إلا بقليلٍ، فقد حمل السلاح مجاهداً بين يدي الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم انحاز إلى ابن عمه علي بن أبي طالبٍ، يتابعه متابعة الظل.
حتى كان يوم صفين، وابن بديل فارسٌ معلم لا يخفى أثره، فإن إيمانه بقضيته كانت أكبر من كل شيءٍ لديه، فلا يهم إذن لو تعرض لمخاطر الحرب، أو تعرض للموت، ما دام هو الحق.
وقبل أن تلتحم الجيوش، وتلمع السيوف، وقف هذا الرجل المجاهد خطيباً في قومه، وسيفه مشهورٌ في يده: ألا إن معاوية ادعى ما ليس له، ونازع الأمر أهله، ومن ليس مثله، وجادل بالباطل ليدحض به الحق، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب، وزين لهم الضلالة، وزرع في قلوبهم حب الفتنة، ولبس عليهم الأمور، وزادهم رجساً إلى رجسهم، وأنتم والله على نورٍ، وبرهانٍ مبينٍ..
قاتلوا الطغاة الجفاة، قاتلوهم ولا تخشوهم، وكيف تخشوهم، وفي أيديكم كتاب ربكم ظاهرٌ مبينٌ: { أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ } [التوبة: 13-14] ..
لقد قاتلتهم مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والله ما هم في هذه بأزكى ولا أتقى، ولا أبر، انهضوا إلى عدو الله، وعدوكم.. .
كان معاوية وصحب معاوية، وفي مقدمتهم عمرو بن العاص، على علمٍ أنهم على الباطل، ولكن الدنيا، وعليها يتكالب المتكالبون.
فقد نقلت الرواية: إن معاوية طلب إلى ابن العاص أن يسوي صفوف أهل الشام، فقال له عمرو: على أن لي حكمي، إن قتل الله ابن أبي طالب، واستوثقت لك البلاد.
فقال معاوية: أليس حكمك في مصر؟
قال ابن العاص: وهل مصر تكون عوضاً عن الجنة، وقتل ابن أبي طالب ثمناً لعذاب النار، الذي {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف: 75] ؟
فقال معاوية: إن لك حكمك أبا عبد الله إن قتل ابن أبي طالب، رويداً لا يسمع أهل الشام كلامك .
وهذا الحوار الذي يحتوي المقايضة بين معاوية وابن العاص، ويعطينا صورةً واضحةً عن مدى إيمان الرجلين بقضيتهم المفتعلة، ألا وهي الثأر لعثمان، فلم يكن موضوع عثمان إلا جسراً نصبه معاوية وبطانته، من أجل البلوغ إلى أهدافهم، ومطامعهم الدنيوية في حين أننا نلمس في أصحاب الإمام علي الإيمان الصحيح، والصدق والإخلاص في أقوالهم، وأفعالهم، وهم من أجل هذا لا يبالون، أوقع الموت عليهم، أم وقعوا على الموت..
وابن بديل، عندما يندفع هذا الاندفاع لم يكن إلا مثلاً حياً لأصحاب علي (عليه السلام) الذي عرفوا أبا الحسنين حق معرفته، وأن القتال إلى جانبه واجبٌ، لأنه إمام زمانهم، وبيعته في رقبتهم ، بالإضافة إلى أن هذه الصفوة من أصحاب علي (عليه السلام) كانوا ـ في الحقيقة ـ مثالاً رائعاً في وفائهم، وإيمانهم، ونستطيع أن نلمس الصورة الرائعة، التي أبرزها أحد أصحاب علي ـ وأيضاً ـ في صفين.
ذلك هو: أثال بن حجل بن عامر المذحجي، فقد نادى الأشتر يوماً من أيام صفين في أصحابه: أما من رجلٍ يشري نفسه لله؟.
فخرج أثال بن حجل بن عامر، فنادى بين العسكريين: هل من مبارز؟.
فدعا معاوية ـ وهو لا يعرفه ـ أباه حجل بن عامر ـ وكان من أصحابه، فقال: دونك الرجل.. فبرز كل واحدٍ منهما إلى صاحبه، فبدره الشيخ بطعنةٍ، وطعنه الغلام، وانتسبا فإذا هو ابنه، فنزلا، فاعتنق كل واحدٍ منهما صاحبه وبكيا، فقال له الأب: يا بني، هلم إلى الدنيا ؟ فقال له الغلام: يا أبي هلم إلى الآخرة، ثم قال: يا أبت، والله لو كان من رأيي الانصراف إلى أهل الشام، لوجب عليك أن يكون من رأيك لي أن تنهاني، وا سوأتاه.. فماذا أقول لعلي وللمؤمنين الصالحين ؟ كن على ما أنت عليه، وأنا على ما أنا عليه.
فانصرف حجل إلى صف الشام، وانصرف ابنه أثال إلى أهل العراق، فخبر كل واحدٍ منهما أصحابه.
وقال حجل في ذلك:
إن حـجل بـن عـامرٍ وأثالا ... أصـبحا يـضربان في الأمثال
أقـبل الفارس المدجج في النقع ... أثــال يـدعو يـريد نـزالي
دون أهل العراق يخطر كالفحل ... عـلـى ظـهر هـيكلٍ ذيـال
فـدعاني لـه ابن هندٍ ومازال ... قـليلاً فـي صـحبه أمـثالي
فـتـناولته بـبـادرة الـرمح ... وأهــوى بـأسـمر عـسال
فـأطعنا وذاك من حدث الدهر ... عـظيمٌ، فـتىً بشيخ بجال(1)
شـاجراً بـالقناة صـدر أبـيه ... وعـزيزٌ عـلي طـعن أثـال
لا أبـالي حين اعترضت أثالا ... وأثــال كـذاك لـيس يـبالي
فـافـترقنا عـلـى الـسلامة ... والـنفس يـقيها مؤخر الآجال
لا يـراني عـلى الهدى وأراه ... مـن هـداي على سبيل ضلال
وانتهى الشعر إلى أصحاب علي (عليه السلام) فرد عليه ولده أثال قائلاً:
إن طـعني وسط العجاجة حجلاً ... لـم يكن في الذي نويت عقوقا
كـنت أرجو به الثواب من الله ... وكـوني مـع الـنبي رفـيقا
لم أزل أنصر العراق على الشا ... م أرانــي بـفعل ذاك حـقيقا
قال أهل العراق إذ عظم الخطب ... ونــق الـمـبارزون نـقيقاً
مـن فتىً يسلك الطريق إلى الله ... فـكنت الـذي سـلكت الطريقا
حاسر الرأس لا أريد سوى المو ... ت أرى الأعـظم الـجليل دقيقا
فـإذا فـارسٌ تـقحم في الرو ... ع حـذباً مثل السحوق عتيقا(2)
فـبداني حـجلٌ بـبادرة الطعن ... ومــا كـنت قـبلها مـسبوقا
فـتـلقيته بـعـالية الـرمـح ... كـلانـا يـطـاول الـعـيوقا
أحـمد الله ذا الـجلالة والقدرة ... حـمـداً يـزيـدني تـوفـيقا
إذ كـففت الـسنان عنه ولم اد ... ن فـتيلاً مـنه، ولا تفروقا(3)
قـلت لـلشيخ: لست أكفر نعما ... ك لـطيف الـغذاء والتفنيقا(4)
غـير أني أخاف أن تدخل النا ... ر، فـلا تعصني، وكن لي رفيقا
وكـذا قـال لـي فغرب تغريباً ... وشـرقت راجـعاً تـشريقا(5)
ولعلنا لمسنا في أبيات أثال مدى الإيمان بعقيدته، وهو مطمئنٌ تمام الاطمئنان أنه على الحق، ويرجو الثواب من وراء جهاده هذا.
وكل أصحاب علي (عليه السلام) على وتيرةٍ واحدةٍ، لا فرق بين الصغير والكبير منهم، فإذا ما رأينا أثال، وهو غلام يافع، كما تشير الرواية إلى ذلك، فلا نستغرب بعد ذلك على ابن بديل ـ وهو الصورة المثلى للإنسان المجاهد، وهو القائد لجيش المشاة لعلي (عليه السلام) ـ أن يضجر من طول الانتظار للقتال، وأخوه عبد الرحمن إلى جانبه، فيكلم الإمام في البراز فيوافق، وبرز وزحف ومن معه من جيشه، وعليه درعان، ويحمل سيفين، وهو ينشد:
لـم يـبق غير الصبر والتوكل والترس، والرمح، وسيف مصقل
تـم الـتمشي في الرعيل الأول مشي الجمال في حياض المنهل
وحمل ابن بديل ومعه الأبطال الذين بايعوه على الموت يشقون الصفوف يطلبون معاوية، وهو يدفع بإخوانه المقاتلين إلى حيث معاوية، يبغي قتله، وشعر ابن أبي سفيان بالخطر فصاح بالجموع المحتشدة حوله: ويلكم، الصخر والحجارة إذا عجزتم عن السلاح، فرضخه الناس بالصخر والحجارة، حتى أثخنوه فسقط ، فأقبلوا عليه بسيوفهم فقتلوه.
وجاء معاوية ووقف عليه، وأراد أن يمثل به، ومنعه بعض من رافقه، فقال: اكشفوا عن وجهه، فأنا لا نمثل به قد وهبناه، فكشفوا عن وجهه.
فقال معاوية: هذا كبش القوم ورب الكعبة، اللهم اظفرني بالأشتر، والله ما مثل هذا إلا كما قال الشاعر:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شـمرت عـن ساقها الحرب شمرا
ويـحمي إذا مـا الـموت كـان لـقاؤه ... قـدى الـشبر يـحمي الأنف أن يتأخرا
كـلـيثٍ هـزبرٍ كـان يـحمي ذمـاره ... رمـتـه الـمنايا قـصرها فـتقطرا
ومسحةٌ من إعجابً وذهولً رفت على سحنة معاوية، وعيناه مشرودتان إلى ابن بديل، وقد مزقته السيوف والحجارة، ثم انكفأ، وهو يقول: إن نساء خزاعة، لو قدرت على أن تقاتلني ـ فضلاً عن رجالها ـ لفعلت، فكيف بهذا البطل!!
وبلغ النبأ إلى الإمام علي (عليه السلام)، فأسرع إلى ساحة المعركة يكشف المحاربين عن طريقه، حتى وصل إلى جثمان ابن بديل ووقف عليه متاثراً، وهو يشد جراحه، واحدةً تلو الأخرى ثم قال: جزاكم الله خيراً، أديتم ما عليكم، وبقي ما علينا .
وإلى جانب آخر من المعركة كان أخوه عبد الرحمن بن بديل قد وقع قتيلاً في تلك الحملة.
وهكذا تلاقت أرواحهما، متعانقةً تصعد إلى بارئها راضيةً مرضيةً، وهو جزاء المجاهدين، وسكت المتحدث، حيث انقضى من الليل أكثره، وتعرف السامرون، ولكن ذكرى ابن بديل بقيت كضوء القمر، ينعش الليل بأنواره من الدهور .
ـــــــــــــــــ
(1) البجال : الكبير.
(2) الحذب : الضخم. السحوق: النخلة الطويلة.
(3) التفروق : قمع التمر.
(4) التفنيق : التنعيم.
(5) راجع شرح النهج ـ ابن أبي الحديد: 2/448 ـ 449.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|