المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17761 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24

Dirichlet Energy
26-12-2018
أقسام الكلّيّ
1-07-2015
مفهوم القياس الحراري عند فرنسيس بيكون (القرن 17م)
2023-05-08
الوفاء بطريق النقل المصرفي لقيمة الصك
12-2-2016
تصنيف العلاقات الدولية - النمط السلوكي للعلاقات الدولية
22-1-2022
مرض خناق القطن
22-6-2016


تفسير آية (90-92) من سورة المائدة  
  
17089   07:17 مساءً   التاريخ: 18-10-2017
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الميم / سورة المائدة /

قال تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)  إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة : 90 - 92].

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة : 90-91].

عطف الله تعالى على ما بين من الاحكام ، بالنهي عن أفعال أهل الجاهلية ، والنقل عنها إلى شريعة الاسلام ، فقال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} مر معناهما في سورة البقرة . قال ابن عباس : يريد بالخمر جميع الأشربة التي تسكر ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الخمر من تسع : من البتع وهو العسل ، ومن العنب ، ومن الزبيب ، ومن التمر ، ومن الحنطة ، ومن الذرة ، ومن الشعير ، والسلت . وقال في الميسر يريد القمار ، وهو في أشياء كثيرة انتهى كلامه .

{وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ} ذكرناهما في أول السورة .

{رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} لا بد من أن يكون في الكلام حذف ، والمعنى شرب الخمر وتناوله ، أو التصرف فيه ، وعبادة الأنصاب ، والاستقسام بالأزلام ، رجس أي : خبيث من عمل الشيطان ، وإنما نسبها إلى الشيطان ، وهي أجسام من فعل الله ، لما يأمر به الشيطان فيها من الفساد ، فيأمر بشرب المسكر ليزيل العقل ، ويأمر بالقمار ليستعمل فيه الأخلاق الدنية ، ويأمر بعبادة الأصنام لما فيها من الشرك بالله ، ويأمر بالأزلام لما فيها من ضعف الرأي ، والاتكال على الاتفاق . وقال الباقر عليه السلام : يدخل في الميسر اللعب بالشطرنج ، والنرد ، وغير ذلك من أنواع القمار ، حتى إن لعب الصبيان بالجوز من القمار .

{فَاجْتَنِبُوهُ} أي : كونوا على جانب منه أي : في ناحية {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} معناه لكي تفوزوا بالثواب . وفي هذه الآية دلالة على تحريم الخمر ، وهذه الأشياء من أربعة أوجه أحدها : إنه سبحانه وصفها بالرجس ، وهو النجس . والنجس محرم بلا خلاف والثاني : إنه نسبها إلى عمل الشيطان ، وذلك يوجب تحريمها والثالث : إنه أمر باجتنابها ، والامر يقتضي الايجاب . والرابع : إنه جعل الفوز والفلاح في اجتنابها ، والهاء في قوله {فَاجْتَنِبُوهُ} راجعة إلى عمل الشيطان ، تقديره فاجتنبوا عمل الشيطان ، وكل واحد من شرب الخمر ، وتعاطي القمار ، واتخاذ الأنصاب ، والأزلام ، من عمل الشيطان . ويجوز أن تكون الهاء عائدة إلى الرجس ، والرجس واقع على الخمر ، وما ذكره بعدها ، وقد قرن الله تعالى الخمر بعبادة الأوثان تغليظا في تحريمها ، ولذلك قال الباقر عليه السلام : " مدمن الخمر كعابد الوثن " وفي هذا دلالة على تحريم سائر التصرفات في الخمر من الشرب ، والبيع ، والشراء ، والاستعمال على جميع الوجوه .

ثم بين تعالى أنه إنما نهى عن الخمر لما يعلم في اجتنابه من الصلاح وخير الدارين فقال {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} قال ابن عباس : يريد سعد بن أبي وقاص ورجلا من الأنصار ، كان مواخيا لسعد ، فدعاه إلى الطعام ، فأكلوا وشربوا نبيذا مسكرا ، فوقع بين الأنصاري وسعد مراء ومفاخرة ، فأخذ الأنصاري لحى جمل فضرب به سعدا ففزر انفه (2) ، فأنزل الله تعالى ذلك فيهما . والمعنى يريد الشيطان إيقاع العداوة بينكم بالإغواء المزين لكم ذلك ، حتى إذا سكرتم ، زالت عقولكم ، وأقدمتم من القبائح على ما كان يمنعه منه عقولكم . قال قتادة : إن الرجل كان يقامر في ماله وأهله ، فيقمر ، ويبقى حزينا سليبا ، فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء . {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أي : يمنعكم عن الذكر لله بالتعظيم والشكر على آلائه {وَعَنِ الصَّلَاةِ} التي هي قوام دينكم {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} صيغته الاستفهام ومعناه النهي ، وإنما جاز في صيغة الاستفهام أن يكون على معنى النهي ، لان الله ذم هذه الأفعال ، وأظهر قبحها ، وإذا ظهر قبح الفعل للمخاطب ، ثم استفهم عن تركه ، لم يسعه إلا الإقرار بالترك ، فكأنه قيل له : أتفعله بعد ما قد ظهر من قبحه ما ظهر؟ فصار المنتهي بقوله : {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} في محل من عقد عليه ذلك بإقراره ، وكان هذا أبلغ في باب النهي من أن يقال انتهوا ولا تشربوا .

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة : 92] .

لما أمر الله تعالى باجتناب الخمر ، وما بعدها ، عقبه بالأمر بالطاعة له فيه ، وفي غيره فقال {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} والطاعة هي امتثال الامر ، والانتهاء عن المنهي عنه ، ولذلك يصح أن يكون الطاعة طاعة الاثنين بأن يوافق أمرهما وإرادتهما { وَاحْذَرُوا } هذا أمر منه تعالى بالحذر من المحارم والمناهي . قال عطاء : يريد واحذروا سخطي ، والحذر : هو امتناع القادر من الشيء لما فيه من الضرر {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} أي : فإن أعرضتم ، ولم تعملوا بما آمركم به ، {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} معناه الوعيد والتهديد ، كأنه قال : فاعلموا أنكم قد استحققتم العقاب ، لتوليكم عما أدى رسولنا إليكم من البلاغ المبين ، يعني الأداء الظاهر الواضح ، فوضع كلام موضع كلام للإيجاز ، ولو كان الكلام على صيغة من غير هذا التقدير لا يصح لان عليهم أن يعلموا ذلك ، تولوا أو لم يتولوا . وما في قوله أنما كافة لأن عن عملها .

______________________________

1. تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 410-412 .

2. فزره : شقه . كسره .

 

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنيه في تفسير هذه الآيات (1) :

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ والْمَيْسِرُ والأَنْصابُ والأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ} . تكلمنا مفصلا عن تحريم الخمر والقمار عند تفسير الآية 219 من سورة البقرة ج 1 ص 328 . وعن الأنصاب والأزلام عند تفسير الآية 3 من هذه السورة : { وما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ } . ونسب سبحانه شرب الخمر ، ولعب القمار ، وعبادة الأصنام ، والاستقسام بالأزلام ، نسب هذه إلى الشيطان لأنه يحبذها ويغري بها . { فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .

ضمير اجتنبوه يعود إلى الرجس ، وهو أمر بالاجتناب ، والأمر يدل على الوجوب ، بخاصة عند بيان السبب ، وقد بيّن هنا ان سبب وجوب الاجتناب هو الفلاح . .

ولو لم يكن من دليل على تحريم الخمرة إلا مساواتها مع عبادة الأصنام لكفى .

فكيف إذا عطفنا عليها الآية 219 من سورة البقرة ، والآية 32 من الأعراف ، والأحاديث المتواترة ، وإجماع المسلمين من عهد الرسول ( صلى الله عليه وآله ) إلى اليوم ، وإلى آخر يوم .

{ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ والْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ والْمَيْسِرِ ويَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وعَنِ الصَّلاةِ } . بعد أن أكد سبحانه تحريم الخمر والميسر ، وقرنهما بعبادة الأصنام ، وجعلهما رجسا من عدو الإنسان ، وبيّن ان اجتنابهما سبيل إلى الفلاح - بعد هذا أشار جل ثناؤه إلى أن فيهما مفسدتين : إحداهما اجتماعية ، وهي قطع الصلات ، وإيقاع العداوة والبغضاء بين الناس . وثانيهما دينية ، وهي الصد عن ذكر اللَّه وعبادته ، ثم طلب سبحانه الانتهاء عن الخمر والميسر بأبلغ تعبير : ( فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ) . والإسلام يحرص كل الحرص على أن يصل الإنسان بخالقه وبمجتمعه ، وأن يكون عند اللَّه والناس في مكان الرضا والتكريم .

{ وأَطِيعُوا اللَّهً وأَطِيعُوا الرَّسُولَ } في ترك الخمر والميسر وغيرهما من المحرمات { واحْذَرُوا } ما يصيبكم من عذاب اللَّه إذا خالفتم أمره وأمر رسوله . قال الإمام علي ( عليه السلام ) : انصح الناس لنفسه أطوعهم لربه ، وأغشهم لنفسه أعصاهم لربه . { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } . وقد أداه كاملا ، وأقام الحجة على الناس ، وخرج عن عهدة التبليغ ، ومن خالف فهو وحده المسؤول .

____________________________

1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 122 -123 .

 

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

قوله تعالى : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} ، إلى آخر الآية قد تقدم الكلام في أول السورة في معنى الخمر والميسر والأنصاب والأزلام فالخمر ما يخمر العقل من كل مائع مسكر عمل بالتخمير ، والميسر هو القمار مطلقا ، والأنصاب هي الأصنام أو الحجارة التي كانت تنصب لذبح القرابين عليها وكانت تحترم ويتبرك بها ، والأزلام هي الأقداح التي كانت يستقسم بها ، وربما كانت تطلق على السهام التي كانت يتفاءل بها عند ابتداء الأمور والعزيمة عليها كالخروج إلى سفر ونحوه لكن اللفظ قد وقع في أول السورة للمعنى الأول لوقوعه بين محرمات الأكل فيتأيد بذلك كون المراد به هاهنا هو ذلك.

فإن قلت : الميسر بعمومه يشمل الأزلام بالمعنى الآخر الذي هو الاستقسام بالأقداح ، ولا وجه لإيراد الخاص بعد العام من غير نكتة ظاهرة فالمتعين حمل اللفظ على سهام التفؤل والخيرة التي كان العمل بها معروفا عندهم في الجاهلية قال الشاعر :

فلئن جذيمة قتلت ساداتها               فنساؤها يضربن بالأزلام

وهو كما روي أنهم كانوا يتخذون أخشابا ثلاثة رقيقة كالسهام أحدها مكتوب عليه (افعل) والثاني مكتوب عليه لا تفعل والثالث غفل لا كتابة عليه فيجعلها الضارب في خريطة معه وهي متشابه فإذا أراد الشروع في أمر يهمه كالسفر وغير ذلك أخرج واحدا منها فإن كان الذي عليه مكتوب (افعل) عزم عليه ، وإن خرج الذي مكتوب عليه (لا تفعل)  تركه ، وإن خرج الثالث أعاد الضرب حتى يخرج واحد من الأولين ، وسمي استقساما لأن فيه طلب ما قسم له من رزق أو خير آخر من الخيرات.

فالآية تدل على حرمته لأن فيه تعرضا لدعوى علم الغيب ، وكذا كل ما يشاكله من الأعمال كأخذها الخيرة بالسبحة ونحوها.

قلت : قد عرفت أن الآية في أول السورة : {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ} ظاهرة في الاستقسام بالأقداح الذي هو نوح من القمار لوقوعه في ضمن محرمات الأكل ، ويتأيد به أن ذلك هو المراد بالأزلام في هذه الآية.

ولو سلم عدم تأيد هذه بتلك عاد إلى لفظ مشترك لا قرينة عليه من الكلام تبين المراد فيتوقف على ما يشرحه من السنة ، وقد وردت عدة أخبار من أئمة أهل البيت عليه‌ السلام في جواز الأخذ بالخيرة من السبحة وغيرها عند الحيرة.

وحقيقته أن الإنسان إذا أراد أن يقدم على أمر كان له أن يعرف وجه المصلحة فيه بما أغرز الله فيه من موهبة الفكر أو بالاستشارة ممن له صلاحية المعرفة بالصواب والخطأ ، وإن لم يهده ذلك إلى معرفة وجه الصواب ، وتردد متحيرا كان له أن يعين ما ينبغي أن يختاره بنوع من التوجه إلى ربه.

وليس في اختيار ما يختاره الإنسان بهذا النوع من الاستخارة دعوى علم الغيب ولا تعرض لما يختص بالله سبحانه من شئون الألوهية ، ولا شرك بسبب تشريك غير الله تعالى إياه في تدبير الأمور ولا أي محذور ديني آخر إذ لا شأن لهذا العمل إلا تعين الفعل أو الترك من غير إيجاب ولا تحريم ولا أي حكم تكليفي آخر ، ولا كشف عما وراء حجب الغيب من خير أو شر إلا أن خير المستخير في أن يعمل أو يترك فيخرج عن الحيرة والتذبذب.

وأما ما يستقبل الفعل أو الترك من الحوادث فربما كان فيه خير وربما كان فيه شر على حد ما لو فعله أو تركه عن فكر أو استشارة ، فهو كالتفكر والاستشارة طريق لقطع الحيرة والتردد في مقام العمل ، ويترتب على الفعل الموافق له ما كان يترتب عليه لو فعله عن فكر أو مشورة.

نعم ربما أمكن لمتوهم أن يتوهم التعرض لدعوى علم الغيب فيما ورد من التفاؤل بالقرآن ونحوه فربما كانت النفس تتحدث معه بيمن أو شامة ، وتتوقع خيرا أو شرا أو نفعا أو ضرا ، لكن قد ورد في الصحيح من طرق الفريقين : أن النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله كان يتفاءل بالخير ويأمر به ، وينهى عن التطير ويأمر بالمضي معه والتوكل على الله تعالى.

فلا مانع من التفاؤل بالكتاب ونحوه فإن كان معه ما يتفاءل به من الخير وإلا مضى في الأمر متوكلا على الله تعالى ، وليس في ذلك أزيد مما يطيب به الإنسان نفسه في الأمور والأعمال التي يتفرس فيها السعادة والنفع ، وسنستوفي البحث المتعلق بهذا المقام في كلام موضوع لهذا الغرض بعينه .

فتبين أن ما وقع في بعض التفاسير من حمل الأزلام على سهم التفاؤل واستنتاج حرمة الاستخارة بذلك مما لا ينبغي المصير إليه.

وأما قوله : {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ} فالرجس الشيء القذر على ما ذكره الراغب في مفرداته فالرجاسة بالفتح كالنجاسة والقذارة هو الوصف الذي يبتعد ويتنزه عن الشيء بسببه لتنفر الطبع عنه.

وكون هذه المعدودات من الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسا هو اشتمالها على وصف لا تستبيح الفطرة الإنسانية الاقتراب منها لأجله ، وليس إلا أنها بحيث لا تشتمل على شيء مما فيه سعادة إنسانية أصلا سعادة يمكن أن تصفو وتتخلص في حين من الأحيان كما ربما أومأ إليه قوله تعالى : {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما} [البقرة : 219] ، حيث غلب الإثم على النفع ولم يستثن .

ولعله لذلك نسب هذه الأرجاس إلى عمل الشيطان ولم يشرك له أحدا ، ثم قال في الآية التالية : { إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ}.

وذلك أن الله سبحانه عرف الشيطان في كلامه بأنه عدو للإنسان لا يريد به خيرا البتة قال تعالى : {إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} : [يوسف : 5] ، وقال : {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} : الحج : 4 ، وقال : {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً ، لَعَنَهُ اللهُ} : النساء : 118 ، فأثبت عليه لعنته وطرده عن كل خير.

وذكر أن مساسه بالإنسان وعمله فيه إنما هو بالتسويل والوسوسة والإغواء من جهة الإلقاء في القلب كما قال تعالى حكاية عنه : {قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ، إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ } [الحجر : 42] ، فهددهم إبليس بالإغواء فقط ، ونفى الله سبحانه سلطانه إلا عن متبعيه الغاوين ، وحكى عنه فيما يخاطب بني آدم يوم القيامة قوله : {وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم : 22] ، وقال في نعت دعوته : {يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ ـ إلى أن قال ـ إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} فبين أن دعوته لا كدعوة إنسان إنسانا إلى أمر بالمشافهة بل بحيث يرعى الداعي المدعو من غير عكس .

وقد فصل القول في جميع ذلك قوله تعالى : {مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس : 5] ، فبين أن الذي يعمل الشيطان بالتصرف في الإنسان هو أن يلقي الوسوسة في قلبه فيدعوه بذلك إلى الضلال .

فيتبين بذلك كله أن كون الخمر وما ذكر بعدها رجسا من عمل الشيطان هو أنها منتهية إلى عمل الشيطان الخاص به ، ولا داعي لها إلى الإلقاء والوسوسة الشيطانية التي تدعو إلى الضلال ، ولذلك سماها رجسا وقد سمى الله سبحانه الضلال رجسا في قوله : {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ، وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} [الأنعام :126] .

ثم بين معنى كونها رجسا ناشئا من عمل الشيطان بقوله في الآية التالية : {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} أي إنه لا يريد لكم في الدعوة إليها إلا الشر ولذلك كانت رجسا من عمله.

فإن قلت : ملخص هذا البيان أن معنى كون الخمر وأضرابها رجسا هو كون عملها أو شربها مثلا منتهيا إلى وسوسة الشيطان وإضلاله فحسب ، والذي تدل عليه عدة من الروايات أن الشيطان هو الذي ظهر للإنسان وعملها لأول مرة وعلمه إياها.

قلت : نعم ، وهذه الأخبار وإن كانت لا تتجاوز الآحاد بحيث يجب الأخذ بها إلا أن هناك أخبارا كثيرة متنوعة واردة في أبواب متفرقة تدل على تمثل الشيطان للأنبياء والأولياء وبعض أفراد الإنسان من غيرهم كأخبار أخر حاكية لتمثل الملائكة ، وأخرى دالة على تمثل الدنيا والأعمال وغير ذلك والكتاب الإلهي يؤيدها بعض التأييد كقوله تعالى : {فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا } [مريم : 17] ، وسنستوفي هذا البحث إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الإسراء في الكلام على قوله تعالى : {سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء : 1] ، أو في محل آخر مناسب لذلك.

والذي يجب أن يعلم أن ورود قصة ما في خبر أو أخبار لا يوجب تبدل آية من الآيات مما لها من الظهور المؤيد بآيات أخر ، وليس للشيطان من الإنسان إلا التصرف الفكري فيما كان له ذلك بمقتضى الآيات الشريفة ، ولو أنه تمثل لواحد من البشر فعمل شيئا أو علمه إياه لم يزد ذلك على التمثل والتصرف في فكره أو مساسه علما فانتظر ما سيوافيك من البحث .

وأما قوله تعالى : {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فتصريح بالنهي بعد بيان المفسدة ليكون أوقع في النفوس ثم ترج للفلاح على تقدير الاجتناب ، وفيه أشد التأكيد للنهي لتثبيته أن لا رجاء لفلاح من لا يجتنب هذه الأرجاس.

قوله تعالى : {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} إلى آخر الآية قال الراغب في المفردات : العدو التجاوز ومنافاة الالتيام فتارة يعتبر بالقلب فيقال له : العداوة والمعاداة ، وتارة بالمشي فيقال له : العدو ، وتارة في الإخلال بالعدالة في المعاملة فيقال له : العدوان والعدو قال : {فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} وتارة بأجزاء المقر فيقال له : العدواء يقال : مكان ذو عدواء أي غير متلائم الأجزاء فمن المعاداة يقال : رجل عدو وقوم عدو قال : {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} وقد يجمع على عدى (بالكسر فالفتح) وأعداء قال : {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ} ، انتهى.

والبغض والبغضاء خلاف الحب والصد الصرف ، والانتهاء قبول النهي وخلاف الابتداء.

ثم إن الآية ـ كما تقدم ـ مسوقة بيانا لقوله : {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ} أو لقوله : {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ} أي إن حقيقة كون هذه الأمور من عمل الشيطان أو رجسا من عمل الشيطان إن الشيطان لا بغية له ولا غاية في الخمر والميسر ـ اللذين قيل : إنهما رجسان من عمله فقط ـ إلا أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء بتجاوز حدودكم وبغض بعضكم بعضا ، وأن يصرفكم عن ذكر الله وعن الصلاة في هذه الأمور جميعا أعني الخمر والميسر والأنصاب والأزلام.

وقصر إيقاع العداوة والبغضاء في الخمر والميسر لكونهما من آثارهما الظاهرة ؛ أما الخمر فلأن شربها تهيج سلسلة الأعصاب تهيجا يخمر العقل ويستظهر العواطف العصبية ؛ فإن وقعت في طريق الغضب جوزت للسكران أي جناية فرضت وإن عظمت ما عظمت ، وفظعت ما فظعت مما لا يستبيحه حتى السباع الضارية ، وإن وقعت في طريق الشهوة والبهيمية زينت للإنسان أي شناعة وفجور في نفسه أو ماله أو عرضه وكل ما يحترمه ويقدسه من نواميس الدين وحدود المجتمع وغير ذلك من سرقة أو خيانة أو هتك محرم أو إفشاء سر أو ورود فيما فيه هلاك الإنسانية ، وقد دل الإحصاء على أن للخمر السهم الأوفر من أنواع الجنايات الحادثة وفي أقسام الفجورات الفظيعة في المجتمعات التي دار فيها شربها.

وأما الميسر وهو القمار فإنه يبطل في أيسر زمان مسعاة الإنسان التي صرفها في اقتناء المال والثروة والوجاهة في أزمنة طويلة فيذهب به المال وربما تبعه العرض والنفس والجاه فإن تقمر وغلب وأحرز المال أداه ذلك إلى إبطال السير المعتدل في الحياة والتوسع في الملاهي والفجور ، والكسل والتبطؤ عن الاشتغال بالمكسب واقتناء مواد الحياة من طرقها المشروعة ، وإن كان هو المغلوب أداه فقدان المال وخيبة السعي إلى العداوة والبغضاء لقميرة الغالب ، والحسرة والحنق.

وهذه المفاسد وإن كانت لا تظهر للأذهان الساذجة البسيطة ذاك الظهور في النادر القليل والمرة والمرتين لكن النادر يدعو إلى الغالب ، والقليل يهدي إلى الكثير والمرة تجر إلى المرات ولا تلبث إن لم تمنع من رأس أن تشيع في الملإ ، وتسري إلى المجتمع فتعود بلوى همجية لا حكومة فيها إلا للعواطف الطاغية والأهواء المردية.

فتبين من جميع ما تقدم أن الحصر في قوله : {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} راجع إلى مجموع المعدودات من حيث المجموع غير أن الصد عن ذكر الله وعن الصلاة من شأن الجميع ، والعداوة والبغضاء يختصان بالخمر والميسر بحسب الطبع.

وفي إفراز الصلاة عن الذكر في قوله تعالى : {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} مع كون الصلاة من أفراد الذكر دلالة على مزيد الاهتمام بأمرها لكونها فردا كاملا من الذكر ، وقد صح عن النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله : أنه قال : الصلاة عمود الدين ، ودلالة القرآن الكريم في آيات كثيرة جدا على الاهتمام بأمر الصلاة بما لا مزيد عليه مما لا يتطرق إليه شك وفيها مثل قوله تعالى : {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ} (إلى آخر الآيات) [ المؤمنون : 2] ، وقوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} [ الأعراف : 170] ، وقوله تعالى : {إِنَ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ، إِلَّا الْمُصَلِّينَ} الآيات [ المعارج : 22] وقوله : {اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ} : [العنكبوت : 45] ، وقال تعالى : {فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ} [ الجمعة : 9 ] ، يريد به الصلاة ، وقال : {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [ طه : 14] ، إلى غير ذلك من الآيات.

وقد ذكر سبحانه أولا ذكره وقدمه على الصلاة لأنها هي البغية الوحيدة من الدعوة الإلهية ، وهو الروح الحية في جثمان العبودية ، والخميرة لسعادة الدنيا والآخرة ؛ يدل على ذلك قوله تعالى لآدم أول يوم شرع فيه الدين : {قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى} [ طه : 124 ] ، وقوله تعالى : {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ، قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً} [الفرقان : 18] ، وقوله تعالى : {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [ النجم : 30].

فالذكر في الآيات إنما هو ما يقابل نسيان جانب الربوبية المستتبع لنسيان العبودية وهو السلوك الديني الذي لا سبيل إلى إسعاد النفس بدونه قال تعالى : {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [ الحشر : 19] .

وأما قوله تعالى : {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فهو استفهام توبيخي فيه دلالة ما على أن المسلمين لم يكونوا ينتهون عن المناهي السابقة على هذا النهي ، والآية أعني قوله : {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ) ، (إلخ) كالتفسير يفسر بها قوله : {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما} أي إن النفع الذي فرض فيهما مع الإثم ليس بحيث يمكن أن يفرز أحيانا من الإثم أو من الإثم الغالب عليه كالكذب الذي فيه إثم ونفع ، وربما أفرز نفعه من إثمه كالكذب لمصلحة إصلاح ذات البين.

وذلك لمكان الحصر في قوله : {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ} ، إلخ بعد قوله : {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ} فالمعنى أنها لا تقع إلا رجسا من عمل الشيطان ، وأن الشيطان لا يريد بها إلا إيقاع العداوة والبغضاء بينكم في الخمر والميسر وصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فلا يصاب لها مورد يخلص فيه النفع عن الإثم حتى تباح فيه ، فافهم ذلك .

قوله تعالى : {أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} ، إلى آخر الآية  تأكيد للأمر السابق باجتناب هذه الأرجاس أولا بالأمر بطاعة الله سبحانه وبيده أمر التشريع ، وثانيا بالأمر بطاعة الرسول وإليه الإجراء ، وثالثا بالتحذير صريحا.

ثم في قوله : {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} تأكيد فيه معنى التهديد وخاصة لاشتماله على قوله : {فَاعْلَمُوا} فإن فيه تلويحا إلى أنكم إن توليتم واقترفتم هذه المعاصي فكأنكم ظننتم أنكم كابرتم النبي صلى‌ الله‌ عليه‌ وآله في نهيه عنها وغلبتموه ، وقد جهلتم أو نسيتم أنه رسول من قبلنا ليس له من الأمر شيء إلا بلاغ مبين لما يوحى إليه ويؤمر بتبليغه ، وإنما نازعتم ربكم في ربوبيته.

وقد تقدم في أول الكلام أن الآيات تشتمل على فنون من التأكيد في تحريم هذه الأمور ، وهي الابتداء بقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، ثم الإتيان بكلمة الحصر ، ثم التوصيف بالرجس ، ثم نسبتها إلى عمل الشيطان ، ثم الأمر بالاجتناب صريحا ، ثم رجاء الفلاح في الاجتناب ، ثم ذكر مفاسدها العامة من العداوة والبغضاء والصرف عن ذكر الله وعن الصلاة ، ثم التوبيخ على عدم انتهائهم ، ثم الأمر بطاعة الله ورسوله والتحذير عن المخالفة ، ثم التهديد على تقدير التولي بعد البلاغ المبين .

__________________________

1. تفسير الميزان ، ج6 ، ص 97-104 .

 

تفسير الأمثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

مراحل تحريم الخمر وحكمها النهائي :

سبق أنّ ذكرنا في المجلد الثّالث من هذا التّفسير في ذيل الآية (43) من سورة النساء ، إنّ معاقرة الخمر في الجاهلية وقبيل الإسلام كانت منتشرة انتشارا أشبه بالوباء العام ، حتى قيل : أنّ حبّ عرب الجاهلية كان مقصورا على ثلاثة : الشعر والخمر والغزو .

ويستفاد من بعض الرّوايات ، أنّه حتى بعد تحريم الخمر فإن الإقلاع عنها كان شاقّا على بعض المسلمين ، حتى قالوا : ما حرم علينا شيء أشد من الخمر (2) ! من الواضح أنّ الإسلام لو أراد أن يحارب هذا البلاء الكبير الشامل بغير أن يأخذ الأوضاع النفسية والاجتماعية بنظر الاعتبار لتعذر الأمر وشق تطبيق التحريم ، لذلك اتخذ أسلوب التحريم التدريجي وإعداد الأفكار والأذهان لاقتلاع هذه الآفة من جذورها ، وهي العادة التي كانت قد تأصلت في نفوسهم ، وعروقهم ، ففي أوّل الأمر وردت إشارات في الآيات المكية تستقبح شرب الخمر ، كما في الآية (67) من سورة النحل : {وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} .

فهنا «سكر» وتعني الشراب المسكر الذي كانوا يستخرجونه من التمر والعنب ، قد وضع في قبال الرزق الحسن ، فاعتبره شرابا غير طيب بخلاف الرزق الحسن ، إلّا أنّ تلك العادة الخبيثة ـ عادة معاقرة الخمرة ـ كانت أعمق من أن تستأصل بهذه الإشارات ، ثمّ أنّ الخمر كانت تؤلف جانبا من دخلهم الاقتصادي لذلك ، عند ما هاجر المسلمون إلى المدينة وأسسوا أولى الحكومات الإسلامية ، نزلت آية ثانية أشد في تحريم الخمر من الاولى ، لكي تهيئ الأذهان أكثر إلى التحريم النهائي ، تلك هي الآية (219) من سورة البقرة : {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما}.

فها هنا إشارة إلى منافع الخمر الاقتصادية لبعض المجتمعات ، كالمجتمع الجاهلي ، مصحوبة بإشارة إلى أخطارها الكبيرة ومضارها التي تفوق كثيرا منافعها الاقتصادية .

ثمّ في الآية (43) من سورة النساء : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ} يأمر الله المسلمين أمرا صريحا بأن لا يقيموا الصّلاة وهم سكارى حتى أدركوا ما يقولونه أمام الله.

واضح أنّ هذا لم يكن يعني أنّ شرب الخمر في غير الصّلاة جايز ، بل هي مسألة التدرج في تحريم الخمر مرحلة مرحلة ، أي أنّ هذه الآية كأنّها تلتزم الصمت ولا تقول شيئا صراحة في غير مواقع الصّلاة .

إنّ تقدم المسلمين في التعرف على أحكام الإسلام واستعدادهم الفكري لاستئصال هذه المفسدة الاجتماعية الكبيرة التي كانت متعمقة في نفوسهم ، أصبحا سببا في نزول آية صريحة تماما في تحريم الخمر حتى سدت الطريق أمام الذين كانوا يتصيدون الأعذار والمسوغات ، وهذه الآية هي موضوع البحث.

وإنّه لمما يستلفت النظر أنّ تحريم الخمرة يعبر عنه في هذه الآية بصورة متنوعة :

1 ـ فالآية تبدأ بمخاطبة المؤمنين : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي أنّ عدم الصدوع بهذا الأمر لا ينسجم مع روح الإيمان.

2 ـ استعمال «إنّما» التي تعني الحصر والتوكيد.

3 ـ وضعت الخمر والقمار إلى جانب الأنصاب (3) (وهي قطع أحجار لا صورة لها كانت تتخذ كالأصنام) للدلالة على أنّ الخمر والقمار لا يقلان ضررا عن عبادة الأصنام ، ولهذا جاء في حديث شريف أنّ رسول الله صلى ‌الله‌ عليه ‌واله ‌وسلم قال : «شارب الخمر كعابد الوثن» (4) .

4 ـ الخمر والقمار وعبادة الأصنام ، والاستقسام والأزلام (ضرب من اليانصيب) (5) لها قد اعتبرها القرآن رجسا وخبثا : {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ} .

5 ـ وهذه الأعمال القبيحة كلّها من أعمال الشيطان : {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ} .

6 ـ وأخيرا يصدر الأمر القاطع الواجب الإتباع : {فَاجْتَنِبُوهُ} .

لا بدّ من التنويه بأنّ لتعبير «فاجتنبوه» مفهوما أبعد ، إذ أنّ الاجتناب يعني الابتعاد والانفصال وعدم الاقتراب ، ممّا يكون أشد وأقطع من مجرّد النهي عن شرب الخمر.

7 ـ وفي الختام يقول تعالى أن ذلك : {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لا فلاح لكم بغير ذلك .

8 ـ وفي الآية التّالية لها يعدد بعضا من أضرار الخمر والقمار ، التي يريد الشيطان أن يوقعها بهم : {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} .

9 ـ وفي ختام هذه الآية يتقدم باستفهام تقريري : {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ؟ أي بعد كل هذا التوكيد والتوضيح ، ثمّة مكان لخلق المبررات أو للشك والتردد في تجنب هذين الإثمين الكبيرين ؟ لذلك نجد أنّ عمر الذي كان شديد الولع بالخمر (كما يقول مفسرو أهل السنة) والذي كان ـ لهذا السبب ـ لا يرى في الآيات السابقة ما يكفي لمنعه ، قال عند ما سمع هذه الآية : انتهينا ، انتهينا! لأنّه رأى فيها الكفاية .

10 ـ في الآية الثالثة التي تؤكّد هذا الحكم ، يأمر المسلمين : {وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا} .

ثمّ يتوعد المخالفين بالعقاب ، وأنّ مهمّة رسول الله صلى ‌الله‌ عليه‌ واله‌ وسلم هي الإبلاغ : {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} .

__________________________

1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 621-623 .

2. تفسير «المنار» ، ج 7 ، ص 51.

3. انظر المجلد الثّالث ، من هذا التّفسير بشأن الأنصاب والنصيب .

4. هامش تفسير الطبري ، ج 7 ، ص 31 ، وقد جاء هذا الحديث في تفسير «نور الثقلين» ، ج 1 ، ص 69 عن الإمام الصادق عليه‌ السلام .

5. انظر شرح كيفية الأزلام في المجلد الثالث من هذا التّفسير .




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .