أقرأ أيضاً
التاريخ: 28-9-2017
4296
التاريخ: 30-9-2017
2499
التاريخ: 28-9-2017
3202
التاريخ: 28-9-2017
2817
|
قال تعالى : {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 9 - 17].
{كذبت قبلهم} أي قبل كفار مكة {قوم نوح فكذبوا عبدنا} نوحا كما كذبك يا محمد هؤلاء الكفار وجحدوا نبوتك {وقالوا مجنون} أي هو مجنون قد غطي على عقله {وازدجر} أي زجر بالشتم والرمي بالقبيح عن ابن زيد وقيل معناه زجر بالوعيد وتوعد بالقتل فهو مثل قوله {لئن لم تنته يا نوح لتكونن من المرجومين} {فدعا ربه أني مغلوب فانتصر} أي فقال يا رب قد غلبني هؤلاء الكفار بالقهر لا بالحجة فانتصر أي فانتقم لي منهم بالإهلاك والدمار نصرة لدينك ونبيك وفي هذا دلالة على وجوب الانقطاع إلى الله تعالى عند سماع الكلام القبيح من أهل الباطل .
ثم بين سبحانه إجابته لدعاء نوح (عليه السلام) فقال {ففتحنا أبواب السماء} هاهنا حذف معناه فاستجبنا لنوح دعاءه ففتحنا أبواب السماء أي أجرينا الماء من السماء كجريانه إذا فتح عنه باب كان مانعا له وذلك من صنع الله الذي لا يقدر عليه سواه وجاز ذلك على طريق البلاغة {بماء منهمر} أي منصب انصبابا شديدا لا ينقطع {وفجرنا الأرض عيونا} أي شققنا الأرض بالماء عيونا حتى جرى الماء على وجه الأرض {فالتقى الماء} يعني فالتقى الماءان : ماء السماء وماء الأرض وإنما لم يثن لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير.
{على أمر قد قدر} فيه هلاك القوم أي على أمر قد قدره الله تعالى وهو هلاكهم وقيل على أمر قد قدره الله تعالى وعرف مقداره فلا زيادة فيه ولا نقصان وقيل معناه أنه كان قدر ماء السماء مثل(2) ما قدر ماء الأرض عن مقاتل وقيل معناه على أمر قدر عليهم في اللوح المحفوظ {وحملناه على ذات ألواح} أي وحملنا نوحا على سفينة ذات ألواح مركبة(3) بعضها إلى بعض وألواحها خشباتها التي منها جمعت {ودسر} أي مسامير شدت بها السفينة عن ابن عباس وقتادة وابن زيد وقيل هو صدر السفينة يدسر بها الماء عن الحسن وجماعة وقيل هي أضلاع السفينة عن مجاهد وقيل الدسر طرفاها وأصلها والألواح جانباها عن الضحاك.
{تجري} السفينة في الماء {بأعيننا} أي بحفظنا وحراستنا وبمرأى منا ومنه قولهم عين الله عليك وقيل معناه بأعين أوليائنا ومن وكلناهم بها من الملائكة وقيل معناه تجري بأعين الماء التي اتبعناها {جزاء لمن كان كفر} أي فعلنا به وبهم ما فعلنا من إنجائه وإغراقهم ثوابا لمن كان قد كفر به وجحد أمره وهو نوح (عليه السلام) والتقدير لمن جحد نبوته وأنكر حقه وكفر بالله فيه {ولقد تركناها} أي تركنا هذه الفعلة التي فعلناها {آية} أي علامة يعتبر بها وقيل معناه تركنا السفينة ونجاة من فيها وإهلاك الباقين دلالة باهرة على وحدانية الله تعالى وعبرة لمن اتعظ بها وكانت السفينة باقية حتى رآها أوائل هذه الأمة عن قتادة وقيل في كونها آية أنها كانت تجري بين ماء السماء وماء الأرض وقد كان غطاها على ما أمر الله تعالى.
{فهل من مدكر} أي متذكر يعلم أن ذلك حق فيعتبر به ويخاف وقيل معناه فهل من طالب علم فيعان عليه عن قتادة {فكيف كان عذابي ونذر} هذا استفهام عن تلك الحالة ومعناه التعظيم لذلك العذاب أي كيف رأيتم انتقامي منهم وإنذاري إياهم وقال الحسن النذر جمع نذير وإنما كرر سبحانه هذا القول في هذه السورة لأنه سبحانه لما ذكر أنواع الإنذار والعذاب عقد التذكير بشيء منه على التفصيل.
{ولقد يسرنا القرآن للذكر} أي سهلناه للحفظ والقراءة حتى يقرأ كله ظاهرا وليس من كتب الله المنزلة كتاب يقرأ كله ظاهرا إلا القرآن عن سعيد بن جبير والتيسير للشيء هو تسهيله بما ليس فيه كثير مشقة على النفس فمن سهل له طريق العلم فهو حقيق بأخذ الحظ الجزيل منه لأن التسهيل أكبر داع إليه وتسهيل القرآن للذكر هو خفة ذلك على النفس بحسن البيان وظهور البرهان في الحكم السنية والمعاني الصحيحة الموثوق بها لمجيئها من قبل الله تعالى وإنما صار الذكر من أجل ما يدعى إليه ويحث عليه لأنه طريق العلم لأن الساهي عن الشيء أوعن دليله لا يجوز أن يعلمه في حال سهوه فإذا تذكر الدلائل عليه والطرق المؤدية إليه تعرض لعلمه من الوجه الذي ينبغي له {فهل من مدكر} أي متعظ معتبر به ناظر فيه.
___________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج9 ، ص312-315.
2- ليس في سائر النسخ لفظة (ما).
3- في سائر النسخ : (جمع بعضها).
أشار سبحانه في الآيات السابقة ان محمدا (صلى الله عليه واله وسلم) أنذر قومه فما أغنت النذر . .
وفي الآيات التي نحن بصددها أشار إلى ان شأن محمد (صلى الله عليه واله وسلم) في ذلك مع قومه تماما كشأن نوح مع قومه {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا} لئن كذّب بك قومك يا محمد فقد كذّب قوم نوح عبدنا نوحا : وقوله تعالى : فكذبوا تفسير لقوله : كذبت ، فكأنّ سائلا يسأل : من كذبت هذه الجماعة ؟ فأجاب سبحانه بأنهم كذبوا عبدنا نوحا { وقالُوا مَجْنُونٌ} تماما كما قالت قريش عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) . . وهذا الشتم عادي وطبيعي بالنسبة إلى العاجزين عن الجواب {وازْدُجِرَ} يشير بهذا سبحانه إلى ما جاء في الآية 116 من سورة الشعراء :
{قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} ردعوه وزجروه عن التبليغ ، وهددوه إذا هو أصر بالرجم والقتل .
{فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} . لما ضاق نوح بقومه وضاقوا به التجأ إلى خالقه وقال : لقد غلبت على أمري ، وقلَّت حيلتي ، وانتهى دوري في التبليغ والانذار ، وبقي أمرك وقضاؤك في هؤلاء الكفرة الفجرة ، فانتقم منهم بعذابك ،
وانتصر لدينك ورسولك . . وتجدر الإشارة إلى أن نوحا ما دعا على قومه إلا بعد اليأس من هدايتهم ، فلقد لبث يدعوهم بلا جدوى ألف سنة إلا خمسين عاما كما جاء في الآية 14 من سورة العنكبوت {فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً}. دعا نوح على قومه ، فاستجاب اللَّه لدعوته ، وأغرقهم بماء تدفق من السماء ، وتفجر من الأرض {فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} . التقى الماء المتدفق من السماء مع الماء المتفجر من الأرض ، فكان بحرا عظيما أتى على كل شيء ، وما سلم إلا من كان في السفينة . وكان هذا الطوفان والإهلاك بأمر اللَّه وقدره ، فقوله تعالى : {عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} في معنى قوله تعالى : {وكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} - 38 - الأحزاب .
{وحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ ودُسُرٍ} . ضمير حملناه يعود إلى نوح . والألواح الأخشاب ، ودسر مسامير ، والمعنى ان سفينة نوح كانت عادة كغيرها مصنوعة من الخشب والمسامير ولكنها {تَجْرِي بِأَعْيُنِنا} بحفظ اللَّه وحراسته ، ولهذا نجت من المخاطر وإلا ما استطاعت الصمود لأهوال الطوفان {جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ} .
وكلمة الجزاء تشير إلى السبب الموجب للطوفان وإهلاك من هلك به من الكافرين .
{ولَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} . أي ترك سبحانه أخبار سفينة نوح لتكون عظة لمن يتعظ بالعبر ، وينتفع بالنذر {فَكَيْفَ كانَ عَذابِي ونُذُرِ} . حقا كان الطوفان مدمرا ، أما نوح البشير النذير فقد كان صادقا فيما بلَّغ وأنذر . {ولَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} . أنزل سبحانه القرآن للتذكير والاتعاظ ، ويسر معانيه على الافهام لينتفعوا به ، لا ليتغنوا بكلماته أو يتداووا بآياته أو يحرفوها ويشتروا بها ثمنا قليلا {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ؟ هل يعتبر ويتعظ بما جاء في القرآن الجاحدون والذين يتاجرون بالدين ويحرفون الكلم عن مواضعه تبعا لأهوائهم وأغراضهم . وتقدمت قصة نوح في سورة هود وغيرها .
___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص192-193.
إشارة إلى بعض ما فيه مزدجر من أنباء الأمم الدارجة خص بالذكر من بينهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وآل فرعون فذكرهم بأنبائهم وأعاد عليهم إجمال ما قص عليهم سابقا من قصصهم وما آل إليه تكذيبهم بآيات الله ورسله من أليم العذاب وهائل العقاب تقريرا لقوله: {ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر}.
ولتوكيد التقرير وتمثيل ما في هذه القصص الزاجرة من الزجر القارع للقلوب عقب كل واحدة من القصص بقوله خطابا لهم: {فكيف كان عذابي ونذر} ثم ثناه بذكر الغرض من الإنذار والتخويف فقال: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر}.
قوله تعالى: {كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر} التكذيب الأول منزل منزلة اللازم أي فعلت التكذيب، وقوله: {فكذبوا عبدنا} إلخ، تفسيره كما في قوله: { وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ } [هود: 45].
وقيل: المراد بالتكذيب الأول التكذيب المطلق وهو تكذيبهم بالرسل وبالثاني التكذيب بنوح خاصة كقوله في سورة الشعراء: { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105] ، والمعنى: كذبت قوم نوح المرسلين فترتب عليه تكذيبهم لنوح، وهو وجه حسن.
وقيل: المراد بتفريع التكذب على التكذيب الإشارة إلى كونه تكذيبا إثر تكذيب بطول زمان دعوته فكلما انقرض قرن منهم مكذب جاء بعدهم قرن آخر مكذب، وهو معنى بعيد.
ومثله قول بعضهم: إن المراد بالتكذيب الأول قصده وبالثاني فعله.
وقوله: {فكذبوا عبدنا} في التعبير عن نوح (عليه السلام) بقوله: {عبدنا} في مثل المقام تجليل لمقامه وتعظيم لأمره وإشارة إلى أن تكذيبهم له يرجع إليه تعالى لأنه عبد لا يملك شيئا وما له فهو لله.
وقوله: {وقالوا مجنون وازدجر} المراد بالازدجار زجر الجن له أثر الجنون، والمعنى: ولم يقتصروا على مجرد التكذيب بل نسبوه إلى الجنون فقالوا هو مجنون وازدجره الجن فلا يتكلم إلا عن زجر وليس كلامه من الوحي السماوي في شيء.
وقيل: الفاعل المحذوف للازدجار هو القوم، والمعنى: وازدجره القوم عن الدعوة والتبليغ بأنواع الإيذاء والتخويف، ولعل المعنى الأول أظهر.
قوله تعالى: {فدعا ربه أني مغلوب فانتصر} الانتصار الانتقام، وقوله: {أني مغلوب} أي بالقهر والتحكم دون الحجة، وهذا الدعاء تلخيص لتفصيل دعائه، وتفصيل دعائه مذكور في سورة نوح وتفصيل حججه في سورة هود وغيرها.
قوله تعالى: {ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر} قال في المجمع،: الهمر صب الدمع والماء بشدة، والانهمار الانصباب، انتهى.
وفتح أبواب السماء وهي الجو بماء منصب استعارة تمثيلية عن شدة انصباب الماء وجريان المطر متواليا كأنه مدخر وراء باب مسدود يمنع عن انصبابه ففتح الباب فانصب أشد ما يكون.
قوله تعالى: {وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر} قال في المجمع،: التفجير تشقيق الأرض عن الماء، والعيون جمع عين الماء وهوما يفور من الأرض مستديرا كاستدارة عين الحيوان.
انتهى.
والمعنى: جعلنا الأرض عيونا منفجرة عن الماء تجري جريانا متوافقا متتابعا.
وقوله: {فالتقى الماء على أمر قد قدر}أي فالتقى الماءان ماء السماء وماء الأرض مستقرا على أمر قدره الله تعالى أي حسب ما قدر من غير نقيصة ولا زيادة ولا عجل ولا مهل.
فالماء اسم جنس أريد به ماء السماء وماء الأرض ولذلك لم يثن، والمراد بأمر قد قدر الصفة التي قدرها الله لهذا الطوفان.
قوله تعالى: {وحملناه على ذات ألواح ودسر} المراد بذات الألواح والدسر السفينة، والألواح جمع لوح وهو الخشبة التي يركب بعضها على بعض في السفينة، والدسر جمع دسار ودسر وهو المسمار الذي تشد بها الألواح في السفينة، وقيل فيه معان أخر لا تلائم الآية تلك الملاءمة.
قوله تعالى: {تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر} أي تجري السفينة على الماء المحيط بالأرض بأنواع من مراقبتنا وحفظنا وحراستنا، وقيل: المراد تجري بأعين أوليائنا ومن وكلناه بها من الملائكة.
وقوله: {جزاء لمن كان كفر} أي جريان السفينة كذلك وفيه نجاة من فيها من الهلاك ليكون جزاء لمن كان كفر به وهو نوح (عليه السلام) كفر به وبدعوته قومه، فالآية في معنى قوله: { وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} - إلى أن قال - {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } [الصافات: 80].
قوله تعالى: {ولقد تركناها آية فهل من مدكر{ ضمير {تركناها} للسفينة على ما يفيده السياق واللام للقسم، والمعنى: أقسم لقد أبقينا تلك السفينة التي نجينا بها نوحا والذين معه، وجعلناها آية يعتبر بها من اعتبر فهل من متذكر يتذكر بها وحدانيته تعالى وأن دعوة أنبيائه حق، وأن أخذه أليم شديد؟ ولازم هذا المعنى بقاء السفينة إلى حين نزول هذه الآيات علامة دالة على واقعة الطوفان مذكرة لها، وقد قال بعضهم في تفسير الآية على ما نقل: أبقى الله سفينة نوح على الجودي حتى أدركها أوائل هذه الأمة(2)، انتهى.
وقد أوردنا في تفسير سورة هود في آخر الأبحاث حول قصة نوح خبر أنهم عثروا في بعض قلل جبل آراراط وهو الجودي قطعات أخشاب من سفينة متلاشية وقعت هناك، فراجع.
وقيل: ضمير {تركناها} لما مر من القصة بما أنها فعله.
قوله تعالى: {فكيف كان عذابي ونذر} النذر جمع نذير بمعنى الإنذار، وقيل: مصدر بمعنى الإنذار.
والظاهر أن {كان} ناقصة واسمها {عذابي} وخبرها {فكيف}، ويمكن أن تكون تامة فاعلها قوله: {عذابي} وقوله: {فكيف} حالا منه.
وكيف كان فالاستفهام للتهويل يسجل به شدة العذاب وصدق الإنذار.
قوله تعالى: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} التيسير التسهيل وتيسير القرآن للذكر هو إلقاؤه على نحو يسهل فهم مقاصده للعامي والخاصي والأفهام البسيطة والمتعمقة كل على مقدار فهمه.
ويمكن أن يراد به تنزيل حقائقه العالية ومقاصده المرتفعة عن أفق الأفهام العادية إلى مرحلة التكليم العربي تناله عامة الأفهام كما يستفاد من قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [الزخرف: 3، 4].
والمراد بالذكر ذكره تعالى بأسمائه أو صفاته أو أفعاله، قال في المفردات،: الذكر تارة يقال ويراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة وهو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتبارا بإحرازه، والذكر يقال اعتبارا باستحضاره وتارة يقال لحضور الشيء القلب أو القول، ولذلك قيل: الذكر ذكران: ذكر بالقلب وذكر باللسان وكل واحد منهما ضربان: ذكر عن نسيان وذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ، وكل قول يقال له ذكر.
انتهى.
ومعنى الآية: وأقسم لقد سهلنا القرآن لأن يتذكر به، فيذكر الله تعالى وشئونه، فهل من متذكر يتذكر به فيؤمن بالله ويدين بما يدعو إليه من الدين الحق؟.
فالآية دعوة عامة إلى التذكر بالقرآن بعد تسجيل صدق الإنذار وشدة العذاب الذي أنذر به.
_____________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج19 ، ص58-61.
2- رواه في الدر المنثور عن عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة.
قصّة قوم نوح عبرة وعظة :
جرت السنّة القرآنية في كثير من الموارد أنّ الله سبحانه يستعرض حالة الأقوام السابقة والعاقبة المؤلمة التي انتهوا إليها إنذاراً وتوضيحاً (للكفّار والمجرمين) بأنّ الإستمرار في طريق الضلال سوف لن يؤدّي بهم إلاّ إلى المصير البائس الذي لاقته الأقوام السابقة.
وفي هذه السورة، إكمالا للبحث الذي تناولته الآيات السابقة، في إثارات وإشارات مختصرة ومعبّرة حول تاريخ خمسة من الأقوام المعاندة إبتداءً من قوم نوح كما في قوله تعالى: {كذّبت قبلهم قوم نوح فكذّبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدُجر}. فمضافاً إلى تكذيبه وإتّهامه بالجنون صبّوا عليه ألوان الأذى والتعذيب ومنعوه من الإستمرار في أداء رسالته.
فتارةً يقولون له مهدّدين ومنذرين {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء: 116].
وتارةً اُخرى يضغطون رقبته بأيديهم حتّى يفقد وعيه، ولكنّه ما أن يفيق إلى وعيه حتّى يقول: «اللهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون»(2).
وخلاصة القول فإنّ قوم نوح مارسوا كلّ وسيلة لأذى نبيّهم، ومع ذلك فإنّه لم يتوقّف عن التبليغ والإرشاد أملا في هدايتهم.
والجدير بالذكر أنّنا نلاحظ أنّ لفظ (التكذيب) قد ورد مرّتين، ولعلّ السبب أنّه ورد في الحالة الاُولى (مختصراً) وفي الثانية (مفصّلا).
والتعبير بـ «عبدنا» إشارة إلى أنّ هؤلاء القوم المعاندين والمغرورين في الواقع يبارزون الله تعالى لا مجرّد شخص «نوح».
كلمة (وازدجر) أصلها (زجر) بمعنى الطرد، وهو الإبعاد المقترن بصوت شديد، كما أنّه يطلق على كلّ عمل يراد منه منع الشخص من الإستمرار به.
والظريف في هذه الآية أنّ الفعل (قالوا) أتى بصورة فعل معلوم (وازدجر) بصيغة فعل مجهول ولعلّ ذلك للإشارة إلى أنّ عدم ذكر الفاعل هنا للترفّع عن ذكر قوم نوح بسبب سوء وقبح الأعمال التي مارسوها والتي كانت أقذر وأقبح من أقوالهم، ممّا يكون سبباً في عدم ذكرهم بالصيغة المعلومة كما في قوله تعالى: {قالوا}.
ثمّ يضيف تعالى أنّ نوح عندما يئس من هداية قومه تماماً: {فدعا ربّه أنّي مغلوب فانتصر}(3).
والغلبة المذكورة في الآية الكريمة لم تكن غلبة في الحجّة والدليل أو البرهان على عدم صحّة الدعوة، وإنّما كانت تتجسّد بالظلم والجناية والتكذيب والإنكار وأنواع الزجر والضغوط ... ولهذا فإنّ هؤلاء القوم لا يستحقّون البقاء، فانتقم لنا منهم وانصرنا عليهم.
نعم، فهذا النّبي العظيم كان يطلب من الله المغفرة لقومه ما دام يأمل في هدايتهم وصلاحهم، ولكن عندما يئس منهم غضب عليهم ولعنهم ودعا ربّه أن ينتقم منهم.
ثمّ يشير هنا إشارة معبّرة وقويّة في كيفية العذاب الذي إبتلوا به وصبّ عليهم حيث يقول سبحانه: {ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر}.
إنّ تعبير إنفتاح أبواب السماء لتعبير رائع جدّاً، ويستعمل عادةً عند هطول الأمطار الغزيرة.
(منهمر) من مادّة (همر) على وزن (صبر) وتعني النّزول الشديد للدموع أو الماء، ويستعمل هذا التعبير أيضاً عندما يستدر الحليب من الضرع حتّى النهاية.
والعجيب هنا أنّه ورد في أقوال المفسّرين أنّ قوم نوح كانوا قد اُصيبوا بالجدب لعدّة سنوات قد خلت، وكانوا يرتقبون بتلهّف سقوط المطر عليهم، وفجأة ينزل المطر ولكن لا ليحيي أرضهم ويزيد خيرهم بل ماحقاً ومميتاً لهم(4).
ويذكر أنّ الماء الذي أدّى إلى الطوفان لم يكن من هطول الأمطار فقط، بل كان من تفجير العيون في الأرض حيث يقول تعالى: {وفجّرنا الأرض عيوناً} (5)وهكذا إختلط ماء السماء بماء الأرض بمقدار مقدّر وملأ البسيطة: {فالتقى الماء على أمر قد قدر}.
إنّ هذا التعبير يجسّد حالة الطوفان الذي غمر الأرض، إلاّ أنّ بعض المفسّرين فسّروا عبارة {قد قدر} بقولهم: إنّ كميّتي المياه المتدفّقة من الجانبين المتقابلين كانتا متساويتين في مقاديرهما بصورة دقيقة، إلاّ أنّ الرأي الأوّل هو الأرجح.
وخلاصة الأمر: إنّ الماء قد فار من جميع جهات الأرض وفجّرت العيون وهطلت الأمطار من السماء، واتّصل الماء بعضه ببعض وشكّل بحراً عظيماً وطوفاناً شديداً.
وتترك الآيات الكريمة مسألة الطوفان، لأنّ ما قيل فيها من الآيات السابقة يعتبر كافياً فتنتقل إلى سفينة نجاة نوح (عليه السلام) حيث يقول تعالى: {وحملناه على ذات ألواح ودسر}.
(دسر) جمع (دِسار) على وزن (كتاب)، كما يقول الراغب في المفردات، أنّها في الأصل بمعنى الإبعاد أو النهر بشدّة مقترناً مع حالة عدم الرضا، ولكون المسمار عندما يتعرّض للطرق الشديد يدخل في الخشب وما شاكل فيقال له (دسار).
وذكر قسم من المفسّرين أنّ معنى هذه الكلمة هو(الحبل) مشيرين بذلك إلى حبال أشرعة السفينة وما إلى ذلك، والتّفسير الأوّل هو الأرجح نظراً لذكر كلمة (ألواح).
على كلّ حال، فإنّ التعبير القرآني هنا ظريف، لأنّه كما يقول الباريء عزّوجلّ بأنّنا وفي وسط ذلك الطوفان العظيم، الذي غمر كلّ شيء أودعنا أمر نجاة نوح وأصحابه إلى مجموعة من المسامير وقطع من الخشب، وأنّها أدّت هذه الوظيفة على أحسن وجه، وهكذا تتجلّى القدرة الإلهيّة العظيمة.
ويمكن أن يستفاد من هذا التعبير طبيعة البساطة التي كانت عليها سفن ذلك الزمان والتي هي بعيدة عن التعقيد والتكلّف قياساً مع السفن المتقدّمة في العصور اللاحقة. ومع ذلك فإنّ سفينة نوح (عليه السلام) كان حجمها بالقدر المطلوب وطبق الحاجة، وطبقاً للتواريخ فإنّ نوح (عليه السلام) قد أمضى عدّة سنين في صنعها كي يتمكّن من وضع {من كلّ زوجين إثنين} من مختلف الحيوانات فيها.
ويشير سبحانه إلى لطف عنايته للسفينة المخصّصة لنجاة نوح (عليه السلام) حيث يقول سبحانه (تجري بأعيننا) أي أنّ هذه السفينة تسير بالعلم والمشيئة الإلهيّة، وتشقّ الأمواج العالية بقوّة وتستمر في حركتها تحت رعايتنا وحفظنا.
إنّ التعبير (بأعيننا) كناية ظريفة للدلالة على المراقبة والرعاية للشيء ويتجسّد هذا المعنى بوضوح في قوله تعالى في الآية (37) من سورة هود: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37].
بعض المفسّرين ذهبوا إلى أنّ المقصود من {تجري بأعيننا} هو الإشارة إلى الشخصيات المهمّة التي كانت على ظهر السفينة، وبناءً على هذا فإنّ المقصود من قوله تعالى: {تجري بأعيننا}(6) أنّ تلك السفينة كانت تحمل عباد الله الخالصين المخلصين، ونظراً لطبيعة الموارد التي استعمل فيها هذا التعبير في الآيات القرآنية الاُخرى فإنّ الرأي الأوّل هو الأصحّ.
ويحتمل أيضاً أنّ المراد بجملة (بأعيننا) هو الملائكة التي كان لها الأثر في هداية سفينة نوح (عليه السلام)، ولكن هذا الرأي ضعيف أيضاً لسبب أعلاه.
ثمّ يضيف تعالى: {جزاءً لمن كان كفر}(7).
نعم إنّ نوح (عليه السلام) كسائر الأنبياء الإلهيين يعتبر نعمة إلهيّة عظيمة وموهبة من مواهبة الكبيرة على البشرية، إلاّ أنّ قومه الحمقى كفروا به وبرسالته(8).
ثمّ يقول سبحانه وكنتيجة لهذه القصّة العظيمة موضع العظّة والإعتبار: {ولقد تركناها آية فهل من مدّكر}.
والحقيقة أنّ كلّ ما كان يستحقّ الذكر في هذه القصّة قد قيل، وكلّما ينبغي للإنسان الواعي المتّعظ أن يدركه فهو موجود.
وإستناداً إلى هذا التّفسير المنسجم مع الآيات السابقة واللاحقة، فإنّ الضمير في (تركناها) يرجع إلى قصّة الطوفان وماضي نوح (عليه السلام) ومخالفيه. ولكن البعض يرى أنّ المراد هو(سفينة نوح) لأنّها بقيت مدّة من الزمن شاخصة لأنظار العالم، وكلّما يراها أحد تتجسّد أمامه قصّة الطوفان الذي حلّ بقوم نوح (عليه السلام). ومع علمنا بأنّ بقايا سفينة نوح (عليه السلام) كانت حتّى عصر الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كما أنّ البعض من المعاصرين ادّعى رؤية بقاياها في جبال (آرارات) في القفقاز، عندئذ يمكن أن يكون المعنيان مقصودين في الآية الكريمة.
ولهذا فإنّ قصّة نوح (عليه السلام) كانت آية للعالمين، وكذا سفينته التي بقيت ردحاً من الزمن بين الناس(9).
وفي الآية اللاحقة يطرح الله سبحانه سؤالا معبّراً ومهدّداً للكافرين الذين اتّبعوا نفس المنهج الذي كان عليه قوم نوح حيث يقول سبحانه: {فكيف كان عذابي ونذر}.
هل هذه حقيقة واقعة، أم قصّة واُسطورة؟
ويضيف مؤكّداً هذه الحقيقة في آخر الآية مورد البحث في قوله تعالى: {ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر}.
نعم إنّ هذا الكتاب العظيم الخالي من التعقيد والمجسّد لعناصر التأثير من حيث عذوبة ألفاظه وجاذبيتها، وحيوية عباراته وصراحتها في عرض المطالب ترغيباً وتهديداً، وطبيعة قصصه الواقعية ذات المحتوى الغزير بالإضافة إلى قوّة دلائله وأحكامها ومنطقه المتين، وإحتوائه على كلّ ما يلزم من عناصر التأثير ... لذا فإنّ القلوب المهيأة لقبول الحقّ والمتفاعلة مع منطق الفطرة والمستوعبة لمنهج العقل تنجذب بصورة متميّزة، والشاهد على هذا أنّ التأريخ الإسلامي يذكر لنا قصصاً عديدة عجيبة محيّرة من حالات التأثير العميق الذي يتركه القرآن الكريم على القلوب الخيّرة.
ولكن ما العمل حينما تكون النطفة لبذرة ما ميتة، حتّى لوهيّأ لزراعتها أخصب الأراضي، وسقيت بماء الكوثر، واعتني بها من قبل أمهر المزارعين، فإنّها لن تنمو ولن تزهر وتثمر أبداً.
______________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج13 ، ص382-386.
2 ـ تفسير الكشّاف وأبو الفتوح والرازي هامش الآية مورد البحث.
3 ـ (انتصر): طلب العون كما في الآية (41) سورة الشورى، وهنا جاءت بمعنى طلب الإنتقام على أساس العدل والحكمة كما فسّرها البعض في التقدير (انتصر لي).
4 ـ روح المعاني هامش الآية مورد البحث.
5 ـ «عيوناً»: يمكن أن تكون تميّزاً للأرض والتقدير فجّرنا عيون الأرض، ثمّ إنّ العيون مفعول به منفصل وقد جاءت بصورة تمييز كي تعبّر عن المبالغة والأهميّة وكأنّ الأرض جميعاً تحوّلت إلى عيون.
6 ـ «أعين» جمع عين، وإحدى معانيها العين الباصرة، والمعنى الآخر لها هو: الشخصية المعتبرة. ولها معان اُخرى.
7 ـ يجدر بالملاحظة هنا أنّ فعل (كفر) مبني للمجهول، والمراد به نوح (عليه السلام) الذي كُفِر به، وليس فعلا معلوماً يشير إلى الكفّار.
8 ـ إذا لم يكن في الآية شيء مقدّر فيكون نائب الفاعل للفعل (كفر) هوشخص نوح (عليه السلام) حين أنّه (عليه السلام) يكون النعمة التي (كفر) بها، أمّا إذا قلنا أنّ للآية محذوف مقدّر، فيكون تقديره (كفر به) فعندئذ تكون إشارة إلى عدم الإيمان بنوح (عليه السلام)وتعاليمه.
9 ـ لقد ذكرت أبحاث مفصّلة حول قصّة قوم نوح (عليه السلام) في هامش الآيات الكريمة 25 ـ 49 من سورة هود.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|