أقرأ أيضاً
التاريخ: 9-10-2014
1798
التاريخ: 20-11-2020
3078
التاريخ: 5-05-2015
7611
التاريخ: 9-10-2014
1679
|
قال تعالى : {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] .
نرى أنّ المفسرين يفترضون للإمام معاني مختلفة ، ثم يبحثون عن معناه في هذه الآية ويذهبون يميناً وشمالاً ، غير انّ البحث بهذه الكيفية غير تام أصلاً ، لأنّه ليس لذلك اللفظ إلاّ معنى واحد كما بيّنا ، والّذي يجب التركيز عليه هو التعرض لملاك الإمامة ومعيارها وإنّه بماذا جعل الخليل إماماً في زمانه دون لوط (عليه السلام) مع أنّ الثاني كالأوّل كان نبياً ، ومع ذلك خُصّ بكونه إماماً من بين أنبياء عصره ، فلابد أن يكون هناك ملاك يختص به الخليل. وعلى الجملة نحن لا نشك انّ للكلمة في جميع موارد استعمالها معنى واحداً سواء أوقع وصفاً للكتاب أم للطريق أم للإنسان ، ولكن الّذي كان من واجب المفسرين هو تعيين ملاك الإمامة في كل مورد من موارد استعمالها حتى الآية الّتي نبحث عنها غير انّهم أهملوا تلك الناحية الحساسة في البحث.
ولأجل ذلك نطرح ما ذكره المفسرون على بساط البحث معبرين عنه بملاكات الإمامة ومعاييرها.
ذهب عدّة من المفسرين ـ منهم الرازي في « مفاتيح الغيب » ـ إلى أنّ المراد من الإمامة هنا هو النبوة.
بعبارة صحيحة : انّ ملاك إمامة الخليل نبوته ، لأنّها تتضمن مشاقاً عظيمة (1).
وقال الشيخ محمد عبده على ما في « تفسير المنار » : الإمامة هنا عبارة عن الرسالة ، وهي لا تنال بكسب الكاسب ، وليس في الكلام دليل على أنّ الابتلاء كان قبل النبوة (2).
ولا يخفى وهن هذا الرأي ، لأنّ إبراهيم (عليه السلام) كان نبياً قبل الابتلاء بالكلمات وقبل تنصيبه إماماً ، فكيف يصحّ أن تفسر الإمامة بالنبوة على ما في لفظ الرازي والرسالة على ما في لفظ المنار ؟! ويتضح ذلك بالأُمور التالية :
1. انّ نزول الوحي على إبراهيم (عليه السلام) ـ كما تدل عليه الآية : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } ـ أوضح دليل على أنّه كان نبياً متلقياً للوحي قبل نزول هذه الآية ، وليس في وسع أحد أن يقول : إنّ الخطاب إليه بقوله : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } يدلّ على كونه نبياً حينه ، ولا يدل على كونه نبياً من قبل ، وذلك لأنّ اسلوب الوحي البدائي يختلف لوناً عن الوحي الاستمراري ، فالمحاورة الموجودة في هذه الآية تعرب عن أنّه كان مأنوساً بالوحي قبل نزولها ، ولأجل ذلك لما تشرف بمقام الإمامة أطال الكلام وطلبها لذريته ، وليس هذا اللون من الكلام يشبه الوحي الابتدائي أبداً ، فإنّ الإنسان في بدء لقائه وكلامه مع شخص ، لا يتجاوز عن أُمور كلية ولا يتجاوز إلى أخص الخصوصيات ، وهي طلب المنزلة لنسله ، بل هذا يناسب كلام من كان مأنوساً بمخاطبه ومكلّمه.
ويمكن لك أن تكشف الحقيقة بالخطاب النازل على موسى في بداية الإيحاء إليه بالنبوة قال سبحانه : { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَىٰ إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ }[ القصص : 30].
ونظير ذلك ما خوطب به النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في بدء نزول الوحي ، قال سبحانه : { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }[ العلق : 1].
ومن هذا ينتج انّ الخليل كان نبياً قبل إلقاء الخطاب بالرسالة عليه ، فيكون ملاك الإمامة غير النبوة.
2. دلت الآيات على أنّ إبراهيم كان نبياً ولم يرزق أيّ ولد لا إسماعيل ولا إسحاق.
أمّا الأوّل فإنّما بُشّر به بعد ما كان نبياً وقام بتحطيم الأصنام في « بابل » وحكم عليه بالإحراق ، ولمّا نجّاه سبحانه ترك الموطن ذاهباً إلى فلسطين ، فعند ذلك جاءت البشارة بأنّه يرزق غلاماً حليماً ، قال سبحانه : { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ * فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ * قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ * قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَىٰ رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ }[ الصافات : 93 ـ 102].
وأمّا الثاني فقد بُشّر به أيضاً عندما نزلت عليه الملائكة ضيوفاً ، قال سبحانه : { وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالحَقِّ فَلا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ }[ الحجر : 51 ـ 55] ، ونزول الملائكة الذين كانوا مرسلين إلى قوم لوط ، عليه آية نبوته عند البشارة بإسحاق.
هذا من جانب ، ومن جانب آخر إنّ إبراهيم يطلب من الله سبحانه أن يرزق ذريته الإمامة كما رزقها إيّاه ، فطلبه لها دليل على أنّه كان عند إفاضة الإمامة عليه ووقت الدعاء لذريته ، صاحب ذرية وأولاد.
إذا عرفت هذين الأمرين فنقول : يجب أن تكون الإمامة الموهوبة ( عند ما كان الخليل صاحب ذرية ) غير النبوة ، وإلاّ فيلزم أن تكون هبة المنصب الّذي كان واجداً له قبل ذلك بكثير ، أشبه بتحصيل الحاصل.
والحاصل : انّ الآية تدل على أنّ الإمامة أُفيضت عليه عندما كان ذا ولد بدليل طلبها لهم ، ودلّت الآيات الماضية على أنّه كان نبياً قبل أن يرزق أيّ ولد ، فينتج انّ الإمامة الموهوبة في الأزمنة المتأخرة عن بعثته بكثير ، غير النبوة ، غير انّ بعض المفسرين لمّا وقف على ذلك الوجه وانّه لا يصحّ طلب شيء للذرية إلاّ لمن كان له بعضها صار بصدد دفعه بأنّ إبراهيم يوم خوطب بقوله سبحانه : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ... } لم يكن ذا ذريّة وإنّما طلبها لهم لأجل التعرّف من جواب الله سبحانه على أنّه هل يكون في المستقبل ذا ذرية أم لا ؟ فوقف من جوابه سبحانه على أنّه لا يموت عقيماً بل يكون ذا ذرية.
ولا يخفى أنّ ما ذكره غير صحيح ، لأنّ الحكم على الذرية على وجه الإيجاب يقتضي أن يكون الرجل رزق بعضها ، وأمّا إذا لم يكن له أي ولد فلا يستحسن في العرف ، الدعاء لهم بالإمامة ، ولأجل ذلك ترى أنّ إبراهيم يستعمل لفظ الذرية في أولاده المحقّقين ويقول : { رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ }[ إبراهيم : 37].
ويقول أيضاً : { رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً }[ البقرة : 128] ، وقد طلب ذلك عندما كان يرفع القواعد من البيت مع ولده إسماعيل.
نعم إنّ الإنسان يصحّ أن يطلب من الله ذرية صالحة تكن قرة عين له كما أمر به سبحانه بقوله : { وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا }[ الفرقان : 74] ، ولكن لا يصحّ إذا أُعطي شيئاً من جانب الله سبحانه ، أن يطلبه في الوقت نفسه لذريته مع أنّه لم يكن في وقت الطلب ذا ذرية ، فإنّ ذلك كلام خارج عن المتعارف ، وأمّا كون الطلب لأجل الوقوف على أنّه هل يرزق في المستقبل بعض الذرية أو لا ؟ فهو كما ترى.
قال العلاّمة الطباطبائي : وكيف يسع من له أدنى تدريب بأدب الكلام ، وخاصة مثل إبراهيم الخليل في خطاب يخاطب به ربّه الجليل أن يتفوّه بما لا علم له به ؟ ولو كان ذلك لكان من الواجب أن يقول : ومن ذريتي إن رزقتني ذرية أو ما يؤدّي هذا المعنى (3).
النبوة عبارة عن نزول الوحي على الإنسان ، والرسالة إبلاغه وتحقيق النبوة في مجالها ، ولكن ليس كل نبي إماماً بل الأنبياء على قسمين : منهم أئمّة ومنهم غير أئمة قال سبحانه : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }[ السجدة : 24] ، والآية بحكم « من » التبعيضية تدل على أنّه سبحانه لم يجعل كل الأنبياء أئمّة ، بل جعل البعض منهم أئمّة.
وعلى ذلك فيجب التفحص في الآيات الواردة حول الأنبياء للتعرف على الأئمّة من بينهم ، ويستظهر انّ المراد مَن يصلح أن يكون أُسوة على الإطلاق في جميع المجالات الثلاثة : قولاً وفعلاً وتقريراً ، لا في مجال خاص كالإتيان بالواجبات وترك المحرمات دون مجال كترك الأولى.
توضحيه : انّ الأنبياء على قسمين : قسم منهم يصحّ أن نجعل أقوالهم وأفعالهم وتقريراتهم على وجه الإطلاق أُسوة ، ودليلاً في مجالات الحياة ; وقسم منهم ليسوا كذلك ، لأنَّهم اقترفوا ما كان الأولى والأليق بشأنهم تركه ، ولأجل ذلك لا يصحّ أن يتخذوا أئمّة على الإطلاق ، ونرى أنّه سبحانه ينقل عن عدة منهم اقتراف أُمور لا تصحّ أن تجعل دليلاً في الحياة وأُسوة للمؤمنين ، يقول سبحانه في حق أبينا آدم : { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا }[ طه : 115].
كما ذكر تعالى عن نبيه موسى (عليه السلام) عندما وكز عدوه وقضى عليه : { هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ }[ القصص : 15].
وينقل عن نبيّه يونس قوله : { وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ }[ الأنبياء : 87].
وهذه الأعمال الصادرة من هؤلاء الأنبياء وإن لم تكن معصية ونقضاً للحكم المبرم وكانت عبارة عن ما يسمّى ب « ترك الأولى » في المصطلح ، وقد دللنا على ذلك عند البحث عن عصمة الأنبياء غير انّ هذه الأفعال حالت بينهم وبين أن يكونوا أئمّة على الإطلاق ويؤخذ بأفعالهم على وجه الإبرام ، ولأجل ذلك لم يكونوا أئمّة وأُسوة في كل شيء وإنّما كانت الإمامة ثابتة لطائفة أُخرى من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وهم الذين يصفهم سبحانه بقوله : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخَيْرَاتِ }[ الأنبياء : 73].
فالهداية المطلقة والدعوة الواسعة والأُسوة التامة خاصة لقسم من الأنبياء وإن كان كل نبي داعياً وهادياً إلى الحلال والحرام ، ويرشد إلى ذلك انّ الخليل إنّما وصل إلى ذلك المقام ، بعد ما صار خليلاً ، والخلّة هي فراغ القلب من غير الله سبحانه بحيث لا يفعل صاحبها إلاّ ما فيه رضى الله سبحانه وتعالى ، وإليك متن الحديث : إنّ الله تبارك وتعالى اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً ، وانّ الله اتّخذه نبياً قبل أن يتّخذه رسولاً ، وانّ الله اتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً ، وانّ الله اتّخذه خليلاً قبل أن يتّخذه إماماً ، فلمّا جمع له الأشياء قال : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا } (4).
فالإمامة نتيجة الخلّة وصيرورة النبي فارغاً من كل شيء سوى الله سبحانه ، وعند ذلك ، يكون إماماً مطلقاً يستدل به وأُسوة يقتدى به في المجالات الثلاثة : قولاً وفعلاً وتقريراً.
تحليل النظرية
وفيه : أوّلاً : فلأنّ هذه النظرية مبنية على ما استظهره من قوله سبحانه : {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } ، فاستظهر أنّ الأنبياء على قسمين : إمام وغيره ، بشهادة كلمة « من » ، لكن الاستظهار غفلة عن مرجع الضمير ، فالضمير يرجع إلى بني إسرائيل لا إلى الأنبياء ، قال سبحانه : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }[ السجدة : 23 ـ 24].
ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يصف إبراهيم ولوطاً وإسحاق ويعقوب أئمّة يهدون بأمره ، قال سبحانه : { وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا }[ الأنبياء : 71 ـ 73].
وعلى هذا فجعل الأنبياء على قسمين معتمداً على ما استظهر من الآية غير تام ، وإن كان أصل التقسيم صحيحاً على ما سيبيّن.
وثانياً : فلماذا لا تكون الإمامة ذات مراتب ودرجات ومقولةً بالتشكيك ويكون الكل باعتبار انّ لهم نور الوحي والنبوة ، والعصمة والمصونية ، أئمّة يقتدى بهم ، وتخصيص الإمامة بجماعة خاصة منهم بلغوا القمّة في الطهارة والفضيلة يحتاج إلى دليل خاص ، فإنّ الإنسان المثالي إذا بلغ مقام العصمة يصبح أُسوة للناس ودليلاً في الحياة ، وإماماً في القول والعمل ، فالتشدّد والتزمّت في شرطية ترك الأولى في الإمامة ، غير واضح.
نعم لو كان ما اقترفوه من الأعمال ، عصياناً صحّ القول بعدم كونهم أئمّة وأُسوة على وجه الإطلاق ، وأمّا اذا كان أمراً مباحاً وجائزاً شرعاً وإن كان الأولى تركه ، فلا وجه لإخراج المقترفين منهم عن كونهم أئمّة.
إنّ هذه النظرية تتلخّص في كلمة : وهي انّ الإمامة الّتي جاءت في هذه الآية من خصائص الخليل (عليه السلام) ، ولا تعدوه إلى أشخاص آخرين ، لاختصاص ملاكها به من الأنبياء ، وهو كونه بين الأنبياء واقعاً في قمة الهداية ومعلماً للآخرين ، وانّ الذين جاءوا بعده ساروا على الطريق الّذي اختطه.
ويظهر لك من الآيات الواردة في حقّه ، قال سبحانه : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ }[ آل عمران : 67].
{ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ }[ آل عمرن : 68].
فالآية الأُولى تجلّ إبراهيم عن أن يكون يهودياً أو نصرانياً ، وتصفه بأنّه كان حنيفاً مسلماً وما كان مشركاً ، وذلك لأنّ اليهودية والنصرانية عدلتا عن جادة التوحيد وامتزجتا بالشرك ، مضافاً إلى أنّ إبراهيم بعث قبل نزول الشريعتين.
والآية الثانية تخص الأصناف الثلاثة بأنّهم أولى بإبراهيم ، فإنّ الأوّل هم الذين اتّبعوه في عصره وما بعد عصره حتّى ظهور النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والصنف الثاني هو النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، والثالث الذين آمنوا بالنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فأولوية الصنف الأوّل به لأجل كونهم من أُمّته والثاني والثالث لوجود الوحدة بين الخطين والتشابه بين المنهجين.
نرى في بعض الآيات انّ الأمر أعظم من ذلك حيث يأمر سبحانه النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) باتّباع طريقة إبراهيم ، وهي الطريقة الحنيفية ، وخصّ منها البراءة من الشرك والنزاهة من الوثنية حتّى يعرف الخليل (عليه السلام) بأنّه أبو الإسلام والمسلمين ، وانّه هو أوّل من وصف مشاة خط التوحيد بالمسلمين ، قال سبحانه : { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ }[ النحل : 123]. ويقول أيضاً : { وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ }[ الحج : 78].
وهذه الآيات وغيرها تعرب عن إمامة إبراهيم عبر العصور والأدوار وانّه بطريقته المثلى وشريعته الحنيفية ونزاهته من ألوان الشرك في العقيدة والعمل صار مثالاً شاخصاً لجميع الأنبياء والمرسلين ، والشرائع السماوية من بدايتها إلى نهايتها الّتي تمت بشريعة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكأنّ الأنبياء في كل عصر يتّبعون منهجه ويخطون خطواته ويمشون على الخط الّذي مشى عليه ، ولأجل ذلك صار الخليل إماماً للناس ومثالاً للأُمم يتمثل به ويتخذ مناراً يقتدى به في القول والعمل.
تحليل هذه النظرية
لا شك انّ إبراهيم يعد من القمم بين الأنبياء وانّ له من الصفات الجليلة الّتي يذكرها القرآن ما ليس لغيره إلاّ أنّ تفسير ملاك الإمامة على النحو الّذي مر يوجب اختصاص الإمامة به من بين جميع الأنبياء والأولياء ولا تتعدى إلى غيره ، لأنّ الخصيصة الّتي نالها إبراهيم (عليه السلام) من جانب شريعته وطريقته حتّى صار علماً ومناراً في حقول الشرائع والنبوّات أمر يختص به ، فلو كان ملاك الإمامة هو هذا ، يجب أن يكون هو الإمام وحده دون غيره مع أنّه (عليه السلام) طلبها لذريته فأُجيب بأنّ عهده سبحانه : { لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } مشعراً بأنّ غيرهم ينالونه ، فلو كان ملاك الإمامة كون الإنسان مناراً بين الأنبياء ، وشريعته علماً بين الشرائع لاختصت الإمامة به ، ولا يناسب في المقام سؤلها للأولاد بما ذكر.
وحصيلة الجواب : انّ ما ذكر من الفضيلة لبطل التوحيد أمر لا ينكر على ضوء الآيات الّتي ذكرناها ، لكنّها لا تكون ملاكاً للإمامة بل يجب هناك شيء آخر وراءها يكون ملاكاً حتّى يصحّ طلبها لذريته وتصحّ الإجابة بنيل العدول منهم لها.
هذه النظرية تتلخّص في أنّ الإمام في الآية هو الحاكم السائد على المجتمع ، والآخذ بيد الأُمّة إلى الكمال في الحياة الفردية والاجتماعية ، فيجب على الأُمّة امتثال أوامره وتوجيهاته في الحقول السياسية والاجتماعية والقضائية والعسكرية وغير ذلك ، ولا نقف على مدى صحة هذه النظرية إلاّ بعد الوقوف على معنى النبي والرسول في القرآن الكريم حتّى نعرف أنّ الإمام يشتمل على معنى لا يشتمل عليه اللفظان ، وعلى الأصحّ يشتمل منصب الإمامة على شيء لا يوجد في منصبي النبوة والرسالة فنقول :
النبي ـ سواء أجعل بمعنى المطّلع على الغيب أو بمعنى المنبئ عن الغيب ـ إنسان مؤدّ عن الله بلا واسطة بشرية (5) ، وهذا الإنسان باعتبار اتصاله بالملأ الأعلى وكونه متلقياً للوحي ومطّلعاً عليه ومنبئاً عنه ، يسمّ نبياً ، وإذا كلّف بإبلاغ ما أُمر به وتجسيد ما أخبر به على صعيد الحياة فهو رسول ، ففي إطار النبوة ليس إلاّ قضية الاطّلاع على الغيب أو قدرة الإخبار عنه إلى الناس ولا يتعدى عنها كما أنّه في إطار الرسالة ، مأمور بالإبلاغ والبيان ولا يتعدى عن هذه الوظيفة ، وهذا هو الموضوع الهام الّذي فرغنا منه في الجزء الرابع من كتابنا : مفاهيم القرآن ولا حاجة للإعادة (6).
ولكن القول الّذي نركّز عليه هو انّ الرسول المأمور بالإبلاغ ليس له في هذا المجال أمر ولا نهي ولا إكراه ولا سيطرة ، بل تتلخص وظيفته في التذكير والتبليغ ، قال سبحانه : { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } [الغاشية : 21 ـ 22] ويقول سبحانه : { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلاغُ المُبِينُ } [المائدة : 92] ، ففي هذا المجال تتجلّى وظيفة الرسالة في بيان الحلال والحرام والمشروع والممنوع وإراءة طرق الصلاح والفلاح ، فلو صحّ في تبيين الحقيقة التمثيل بشيء أدون من الممثّل فنقول : إنّ مثل الرسول في توجيهاته الرسالية أشبه بمستنبط الأحكام من الكتاب والسنّة وإبلاغها للناس ، فإذا امتثل الناس بما يقول فقد امتثلوا إلى المشرّع الأعظم وأطاعوه ، وإن لم يقوموا بأداء ما يقول فقد خالفوا الشارع وعصوه ، وعلى هذا الضوء فالناس في صلاتهم وصومهم وحجهم وزكاتهم مطيعون لله سبحانه فقط وليس للرسول أيّ طاعة إلاّ بضرب من العناية ، كما أنّ للمفتي والمجتهد طاعة مثله ، فحين قال سبحانه : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ }[ النساء : 64] ، فهو يرشد إلى هذا النوع من الإطاعة ، فالمطاع هو الله سبحانه حقيقة والنبي مطاع بضرب من العناية إذ المفروض انّه ليس للرسول أيّ تشريع وأيّ تقنين ولا أمر ونهي فلا يكون له طاعة.
ويتضح ببيان أُمور :
الأوّل : انّ تفسير الإمامة بالنبوة والخلافة ، أو الوصاية ، أو الرئاسة في أُمور الدين والدنيا ، وكونه مطاعاً حدث من تكرّر الاستعمال بمرور الزمان كما ابتليت به سائر الألفاظ الواقعة في القرآن ، فإنّ النبوة معناها تحمّل النبأ من جانب الله ، والرسالة معناها تحمّل التبليغ ، والإطاعة من لوازم النبوّة والرسالة [ فكيف تفسّر الإمامة بالإطاعة ] والخلافة نحو من النيابة ، وكذلك الوصاية والرئاسة نحو من الطاعة للموصي والرئيس ، وهو كون الإنسان مصدراً للحكم في المجتمع ، وكل هذه المعاني غير معنى الإمامة ، إذ لا معنى لأن يقال لنبي من الأنبياء مفترض الطاعة إنّي جاعلك للناس نبياً ، أو مطاعاً فيما تبلغه ، أو رئيساً تأمر وتنهى في الدين أو وصياً أو خليفة في الأرض تقضي بين الناس في مراجعاتهم بحكم الله.
وبعبارة أُخرى : لا يصحّ أن يقال لنبي من لوازم نبوته كونه مطاعاً بعد نبوته إنّي جاعلك مطاعاً في الناس بعد ما جعلتك كذلك. ولا يصحّ أن يقال له ما يؤول إليه معناه وان اختلف معه في العبارة ، فهذه المواهب ـ أمثال الإمامة الإلهية ـ ليست مقصورة على مجرد المفاهيم اللفظية بل تصحبها المعارف الحقيقية.
الثاني : انّا نجد في كلامه تعالى انّه كلّما تعرّض لمعنى الإمامة تعرّض معها للهداية تعرضاً تفسيرياً ، قال تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا }[ الأنبياء : 72 ـ 73] ، وقال سبحانه : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ ( أي بني إسرائيل ) أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }[ السجدة : 24] ، فوصفها بالهداية وصف تعريف ثم قيّدها بالأمر ، فبيّن إنّ الإمامة ليست مطلق الهداية ، بل الهداية الّتي تقع بأمر الله والتعرّف على أنّ الإمام هو الهادي « بأمر الله » هو المهم في فهم معنى الإمامة.
الثالث : انّه سبحانه بيّن سبب هبته الإمامة بقوله : { لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } فبيّن أنّ الملاك في ذلك هو صبرهم في جنب الله وكونهم قبل ذلك موقنين : وقال سبحانه في حق إبراهيم : { وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ المُوقِنِينَ }[ الأنعام : 75] ، فإراءة الملكوت لإبراهيم كانت مقدّمة لإفاضة اليقين عليه ، وقد علمت أنّ كونهم موقنين أحد أسباب إمامتهم.
الرابع : انّ « الأمر » الّذي يكون الإمام به هادياً ليس بمعنى الإذن ، بل المراد هو الأمر التكويني الّذي بيّنت حقيقته في قوله : { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ }[ يس : 82 ـ 83].
وقال سبحانه : { وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [القمر : 50] ، والمراد بكلمة ( كُن ) ليس هو التلفّظ بل وجود الشيء المعين بلا تدرج وتغيير كما هو اللائق بأفعاله سبحانه كما أنّه مع التغير والانطباق على قوانين الحركة والزمان هو الخلق.
إذا عرفت ذلك ، نقول : إنّ شأن النبي والرسول هو إراءة الطريق وشأن الإمام هو الإيصال إلى المطلوب ، لأنّ الإنسان الكامل الّذي يهدي بأمر ملكوتي (7) ( لا بأمر لفظي ) يصاحب ذلك الأمر ، فالإمامة نحو ولاية للناس في أعمالهم ، وهدايتها ، إيصالها إيّاهم إلى المطلوب بأمر الله (8).
وقد أوضحه أيضاً في كتابه « الشيعة في الإسلام » بقوله : كما أنّ الإمام قائد ومسيّر وزعيم للأُمّة بالنسبة للظاهر من الأعمال ، كذلك هو قائد وزعيم بالنسبة للباطن من الأعمال أيضاً ، فهو المسيّر والقائد للإنسانية من الناحية المعنوية نحو خالق الكون وموجده.
إنّ كل عمل من الأعمال الحسنة والسيئة تولّد في الإنسان واقعية ، والحياة الأُخروية ترتبط بهذه الواقعيات ارتباطاً وثيقاً. والإنسان يتصف بحياة باطنية غير الحياة الظهرية الّتي يعيشها والّتي تنبع من أعماله ، وترتبط حياته الأُخروية بهذه الأعمال والأفعال الّتي يمارسها في حياته هنا ، قال سبحانه : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [ النحل : 97].
إنّ القرآن يدل على أنّ هناك حياة أسمى وروحاً أرفع من هذه الحياة للصالحين والمؤمنين ، ويؤكد على أنّ نتائج الأعمال الباطنية تلازم الإنسان دوماً ولكن الإنسان ربما لا يشعر بأنّ الأعمال الحسنة أو السيئة تكوّن في الإنسان حياة أُخروية وواقعية باطنية وسعادة وشقاء ، ومع ذلك كلّه هي مؤثرة ، والإنسان في حياته يشبه الطفل حيث يملي عليه مربّيه بألفاظ الأمر والنهي ، فهما كافلان لتكوين حياة سعيدة له ، هو يأتمر أمره ولا يشعر بما يترتّب على طاعة أمره ونهيه من النتائج ، لكنّه كلّما تقدّم في العمر استطاع أن يدرك ما قاله مربّيه ، فينال بذلك الحياة السعيدة ، وما ذلك إلاّ بما اتصف به من ملكات ، وإذا ما رفض وعصى معلمه الّذي كان يسعى له بالصلاح ، تجد حياته مليئة بالمآسي والآلام.
الإنسان يشبه المريض الّذي دأب على تطبيق أوامر الطبيب في الدواء والغذاء أو رياضة خاصة ، فهو لم يبال بشيء إلاّ ما أملاه عليه طبيبه ، فعندئذ يجد الراحة والصحة ويتحسن بتحسن صحته.
فإذن الإنسان الّذي يصبح قائداً للأُمّة بأمر من الله ، فهو قائد للحياة الظاهرية والمعنوية ، وما يتعلّق بها من أعمال تسير مع سيره ونهجه.
فالإمام فضلاً عن الإرشاد والهداية الظاهرية ، يختص بنوع من الهداية المعنوية ، فهو بواسطة الحقيقة والنور الباطني الّذي يتصف به يستطيع أن يؤثر في القلوب المهيّأة وأن يتصرف بها كيف ما شاء ويسيّرها نحو مراتب الكمال والغاية المتوخاة (9).
هذا غاية توضيح لهذه النظرية حرّرناها بشكل يقف على مرادها كل من له أدنى إلمام بالعلوم العقلية.
تحليل هذه النظرية
لا شك أنّ النفوس القوية تستطيع أن تؤثر في القلوب المهيّأة وتسيّرها نحو الكمال ، لكن البحث في تفسير الإمام الوارد في الآية الكريمة بالمتصرف في القلوب والهادي لها تكويناً ومسيرها نحو الكمال ، فانّه لا شاهد لذلك التفسير.
أمّا أوّلاً : فانّ قوله : { يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } في مقام الثناء عليهم بأنّهم لا يصدرون في أمرهم ونهيهم إلاّ عن إذنه تعالى ، فلأجل ذلك صاروا هداة واقعيين ، فمنطقهم صواب ، وفعلهم وتقريرهم حجة وكل ما يمت إليهم هداية ، وأين ذلك من كون الجملة في مقام بيان حقيقة الإمامة وانّها عبارة عن القدرة التكوينية الّتي يستطيع بها الإنسان الكامل أن يؤثر في النفوس المهيّأة لسوقها نحو الكمال.
ويظهر ما ذكرنا من رواية طلحة بن زيد عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) حيث قال : « إنّ الأئمّة في كتاب الله عزّوجل إمامان : قال الله تبارك وتعالى : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } [الأنبياء : 73] لا بأمر الناس يقدّمون أمر الله قبل أمرهم وحكم الله قبل حكمهم ، قال : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ } [ القصص : 41] يقدّمون أمرهم قبل أمر الله وحكمهم قبل حكم الله ، ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عزّ وجل » (10).
ويقول العلاّمة المجلسي (رحمه الله) حول الرواية : أي ليست هدايتهم للناس وإمامتهم بنصب الناس وأمرهم ، بل هم منصوبون لذلك من قبل الله تعالى ومأمورون بأمره (11).
وثانياً : أنّ تفسير الإمامة بالقيادة العامة للأُمّة هو كون المتلبس بها أُسوة في القول والعمل ، ليس من المعاني المبتذلة كيف ويقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) : والإمامة نظاماً للأُمّة (12).
وثالثاً : ما أفاده من أنّه لا معنى أن يقال لنبي مفترض الطاعة « إنّي جاعلك للناس إماماً أو مطاعاً » غير تام ، لما أوقفناك عليه من أنّ النبي بما هو نبي ليس له شأن إلاّ التنبّؤ ، كما أنّ الرسول ليس له شأن إلاّ إبلاغ الرسالات ، وأمّا كونه مطاعاً بالنسبة إلى الأوامر الّتي تصدر منه لأجل مصالح الأُمّة ، فهو ليس من شؤون الرسالة ، وانّما يكون من شؤون مقام آخر يتلبس به بعدهما ويحول إليه بعد الاختبار والابتلاء.
وقد أوقفناك على أنّ مثل النبي والرسول فيما يبلغ من أمر الرسالة مثل المفتي والمستنبط للأحكام من الكتاب والسنّة ليس له أمر ولا نهي ولا طاعة ولا معصية ، بل له حق الإبلاغ والإعلام لا الأمر والبعث والزجر والمنع ، كل ذلك يستوجب أن يكون له مقام آخر يناسب تلك الأُمور ، وهو مقام الإمامة والقيادة والرئاسة وما أشبهها.
ففي المجال الأوّل يكون المطاع حقيقة هو الله ، ولو نسبت الطاعة إلى الرسول فبالعناية ، وبهذا يفسر قوله : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ } [النساء : 64] ، وإلاّ فالرسول بما هو رسول ومبلّغ وواسطة بين الخالق والمخلوق لا أمر له حتى يطاع ولا نهي له حتى يعصى ، فمن أطاعه فقد أطاع الله ، ومن عصاه فإنّما عصى الله ، ونسبة الإطاعة إليه في الآية المباركة بضرب من العناية ، والمقصود من إطاعته سماع قوله ، وتطبيق العمل على كلامه نظير ما يقول الصديق للصديق « أطعت قولك » ، والمقصود جعل العمل مطابقاً لكلامه.
وبذلك يعلم أنّ ما ورد من الآيات من الأمر بإطاعة الرسول في جنب أُولي الأمر ليس المراد من الرسول فيها الرسول بما هو رسول ، بل بما له من مقام الإطاعة فيكون الرسول عنواناً مشيراً إلى قيادته وإمامته ، قال سبحانه : { أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ }[ النساء : 59].
{ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا }[ الأنفال : 46] .
والحاصل : انّ للرسول إطاعتين.
إحداهما : ضرب من العناية ، كما هو شأن كل واسطة بين الآمر والمأمور ، ولا تعدّ هذه طاعة حقيقية ، وعلى هذا المعنى تنزّل عدة من الآيات الواردة فيها طاعة الرسول.
وثانيتهما : إطاعة حقيقية عندما خلع عليه سبحانه ثوب الإمامة ولباس القيادة ، فيكون مطاعاً واقعاً ، وعلى كلا المعنيين يمكن تنزيل قوله سبحانه : { مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ }. [النساء : 80]
وعلى الجملة فما أفاده (قدس سره) فله حق عظيم علينا وعلى الأُمّة الإسلامية ـ كلام غير تام ، والله العالم.
وعلى كل تقدير فبين ما أفاده في « الميزان » وما بيّنه في الموضع الآخر فرق واضح ، لأنّه (قدس سره) في الأوّل لا يسلّم كون القيادة الظاهرية من شؤون الإمام بل يفسر الإمام بالمتصرّف في القلوب ، الهادي على نحو الإيصال إلى المطلوب ; ولكنّه يسلم في كتاب « الشيعة في الاسلام » كونها أحد شؤونه كما هو لائح من عبائره ، ولعله أمتن .
__________________
(1) مفاتيح الغيب : 1 / 490.
(2) تفسير المنار : 1 / 455.
(3) الميزان : 1 / 27.
(4) الكافي : 1 / 175 ، باب طبقة الأنبياء.
(5) الرسائل العشر للشيخ الطوسي : 11.
(6) لاحظ الجزء الرابع من هذه الموسوعة : 317 ـ 369.
(7) يريد بالأمر الملكوتي : الأمر التكويني الّذي تعلّقه بشيء نفس تحقّقه وتكوّنه ، وأين هو من الأمر اللفظي أو الذهني اللّذين ينفكان عن المراد والمأمور به ويتوقفان على مقدمات ومعدّات.
(8) الميزان : 1 / 274 ـ 276 بتلخيص.
(9) الشيعة في الإسلام : 163 ـ 166.
(10) الكافي : 1 / 216.
(11) مرآة العقول : 1 / 165 ، الطبعة القديمة الحجرية ، وفي أواخر الجزء الثاني من الطبعة الحديثة.
(12) نهج البلاغة : قسم الحكم ، الرقم 252.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|