أقرأ أيضاً
التاريخ: 10-5-2017
7690
التاريخ: 1-3-2017
8349
التاريخ: 10-5-2017
9255
التاريخ: 14-2-2017
5714
|
قال تعالى : { أَو كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَو بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [البقرة: 259].
{أو كالذي مر} أي أوهل رأيت كالذي مر ومعناه إن شئت فانظر في قصة الذي حاج إبراهيم وإن شئت فانظر إلى قصة الذي مر {على قرية} وهو عزير عن قتادة وعكرمة والسدي وهو المروي عن أبي عبد الله وقيل هو أرميا عن وهب وهو المروي عن أبي جعفر وقيل هو الخضر عن ابن إسحاق والقرية التي مر عليها هي بيت المقدس لما خربه بخت نصر عن وهب وقتادة والربيع وعكرمة وقيل هي الأرض المقدسة عن الضحاك وقيل هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت عن ابن زيد {وهي خاوية على عروشها} أي خالية وقيل خراب عن ابن عباس والربيع والضحاك وقيل ساقطة على أبنيتها وسقوفها كان السقوف سقطت ووقعت البنيان عليها قال {أنى يحيي هذه الله بعد موتها} أي كيف يعمر الله هذه القرية بعد خرابها وقيل كيف يحيي الله أهلها بعد ما ماتوا وأطلق لفظ القرية وأراد به أهلها كقوله {واسأل القرية} ولم يقل ذلك إنكارا ولا تعجبا ولا ارتيابا ولكنه أحب أن يريه الله إحياءها مشاهدة كما يقول الواحد منا كيف يكون حال الناس يوم القيامة وكيف يكون حال أهل الجنة في الجنة وكيف يكون حال أهل النار في النار وكقول إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى أحب أن يريه الله إحياء الموتى مشاهدة ليحصل له العلم به ضرورة كما حصل العلم دلالة لأن العلم الاستدلالي ربما اعتورته الشبهة.
{فأماته الله مائة عام} أي مائة سنة {ثم بعثه} أي أحياه كما كان {قال كم لبثت} في التفسير أنه سمع نداء من السماء كم لبثت يعني في مبيتك ومنامك وقيل إن القائل له نبي وقيل ملك وقيل بعض المعمرين ممن شاهده عند موته وإحيائه {قال لبثت يوما أو بعض يوم} لأن الله أماته في أول النهار وأحياه بعد مائة سنة في آخر النهار فقال يوما ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال أو بعض يوم فقال {بل لبثت مائة عام} معناه بل مكثت في مكانك مائة سنة {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} أي لم تغيره السنون وإنما قال {لم يتسنه} على الواحد لأنه أراد به جنس الطعام والشراب أي أنظر إلى ما تركته أنه لم يتسنه وقيل أراد به الشراب لأنه أقرب المذكورين إليه وقيل كان زاده عصيرا وتينا وعنبا وهذه الثلاثة أسرع الأشياء تغيرا وفسادا فوجد العصير حلوا والتين والعنب كما جنيا لم يتغيرا.
{وانظر إلى حمارك} معناه انظر إليه كيف تفرق أجزاؤه وتبدد عظامه ثم انظر كيف يحييه الله وإنما قال له ذلك ليستدل بذلك على طول مماته {ولنجعلك آية للناس} فعلنا ذلك وقيل معناه فعلنا ذلك إجابة لك إلى ما أردت وقوله {ولنجعلك آية للناس} أي حجة للناس في البعث {وانظر إلى العظام كيف ننشرها} كيف نحييها وبالزاي كيف نرفعها من الأرض فنردها إلى أماكنها من الجسد وتركب بعضها على بعض {ثم نكسوها} أي نلبسها {لحما} واختلف فيه فقيل أراد عظام حماره عن السدي وغيره فعلى هذا يكون تقديره وانظر إلى عظام حمارك وقيل أراد عظامه عن الضحاك وقتادة والربيع قالوا أول ما أحيا الله منه عينه وهو مثل غرقىء البيض(2) فجعل ينظر إلى العظام البالية المتفرقة تجتمع إليه وإلى اللحم الذي قد أكلته السباع الذي يأتلف إلى العظام من هاهنا ومن هاهنا ويلتزم ويلتزق بها حتى قام وقام حماره.
{فلما تبين له} أي ظهر وعلم وإنما علم أنه مات مائة سنة بشيئين ( أحدهما ) بإخبار من أراه الآية المعجزة في نفسه وحماره وطعامه وشرابه وتقطع أوصاله ثم اتصال بعضها إلى بعض حتى رجع إلى حالته التي كان عليها في أول أمره ( والآخر ) أنه علم ذلك بالآثار الدالة على ذلك لما رجع إلى وطنه فرأى ولد ولده شيوخا وقد كان خلف آباءهم شبابا إلى غير ذلك من الأمور التي تغيرت والأحوال التي تقلبت .
وروي عن علي (عليه السلام) أن عزيرا خرج من أهله وامرأته حامل وله خمسون سنة فأماته الله مائة سنة ثم بعثه فرجع إلى أهله ابن خمسين سنة وله ابن له مائة سنة فكان ابنه أكبر منه فذلك من آيات الله وقيل أنه رجع وقد أحرق بخت نصر التوراة فأملأها من ظهر قلبه فقال رجل منهم حدثني أبي عن جدي أنه دفن التوراة في كرم فإن أريتموني كرم جدي أخرجتها لكم فأروه فأخرجها فعارضوا ذلك بما أملى فما اختلفا في حرف فقالوا ما جعل الله التوراة في قلبه إلا وهو ابنه فقالوا عزير ابن الله.
{قال} أي قال المار على القرية {أعلم} أي أتيقن ومن قرأ اعلم فمعناه على ما تقدم ذكره من أنه يخاطب نفسه وقيل أنه أمر من الله تعالى له {أن الله على كل شيء قدير} أي لم أقل ما قلت عن شك وارتياب ويحتمل أنه إنما قال ذلك لأنه ازداد بما شاهد وعاين يقينا وعلما إذ كان قبل ذلك علم استدلال فصار علمه ضرورة ومعاينة .
_________________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2 ، ص173-174.
2- الغرقىء : البيض الذي يؤكل .
كانت الآية السابقة مثالا للكافر الذي اتخذ الطاغوت وليا ، وخرج من النور إلى الظلمات ، وهذه الآية مثال للمؤمن الذي اتخذ اللَّه وليا ، وخرج من الظلمات إلى النور .
{ أَو كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها } . لم يفصح اللَّه سبحانه عن اسم القرية ، ولا عن اسم المار بها ، ومن هنا اختلف المفسرون : هل كان كافرا ، أو نبيا أو صدّيقا ؟ . وإذا لم يكن كافرا فهل هو عزير أوارمياء أو الخضر ؟ . وأيضا اختلفوا في القرية : هل هي بيت المقدس ، أو غيره ؟ . ولا دليل على التعيين ، ولا للقائلين به الا الإسرائيليات .
ومعنى خاوية خالية من السكان ، والعروش سقوف البيوت ، والمراد ان بيوت القرية منهدمة وليس فيها أحد ، والاستعظام كان لإحياء أهل القرية ، لا للقرية نفسها .
ونقول لمن زعم ان الذي مر على القرية كان كافرا ، لأنه شكك في قدرة اللَّه ، نقول له : ليس كل من مرّت شبهة بذهنه ، وطلب لها مخرجا يكون من الكافرين ، بل العكس هو الصحيح ، فلقد طلب إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيي الموتى ، وهو داعية الايمان والإيقان . . هذا إلى أن طلب المزيد من العلم بقدرة اللَّه من صميم الايمان ، وبهذا يتبين خطأ من قال : ان الذي مر على القرية كان كافرا ، لا لشيء الا لأنه قال : {أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها } .
كلا ، ليس هذا إنكارا ، ولكن مشهد الخراب العنيف جعله في حيرة ، وعجز عن ادراك السبيل التي بها يعود أهل القرية إلى الحياة .
{فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ } . موتا حقيقيا ، لا مجازيا ، إذ لا موجب للتأويل .
{ ثُمَّ بَعَثَهُ } . كما كان ، ولا يكثر شيء على من يقول للكون بمن فيه ، وما فيه : كن فيكون . ولا شيء أعجب وأغرب ممن قاس الخالق على المخلوق في قدرته . . ولا أدري : ما هو الوجه والقاسم المشترك المصحح للقياس .
حساب القبر :
{قالَ كَمْ لَبِثْتَ } . هذا سؤال على وجه التقرير ، دون الاستفهام . { قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَو بَعْضَ يَوْمٍ }. ولولا الإجماع والاخبار لأمكن القول بأنه لا حساب في القبر ، ولا سؤال إلا يوم الحشر ، استنادا إلى هذه الآية ، والى الآية 55 من سورة الروم : {ويَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ} .
ولا سبب لقسم المجرمين ، وغفلتهم عن الأمد الذي مر على موتهم الا عدم الحياة ، لأن الاحساس بالزمن لا يكون الا مع الحياة والوعي .
وقال الشيخ المفيد في كتاب أوائل المقالات ، فصل (القول في أحوال المكلفين من رعايا الأئمة بعد الوفاة) : (ان الناس في ذلك على أربع طبقات : الأولى عرفت الحق وعملت به ، وهذه تحيا وتسعد بعد الموت ، وقبل النشر . الطبقة الثانية : عرفت الحق ، ولم تعمل به عنادا ، وهذه أيضا تحيا ، ولكن في العذاب والشقاء . الطبقة الثالثة : اقترفت الآثام والمعاصي تهاونا ، لا عنادا واستحلالا للحرام ، وهذه مشكوك في حياتها بعد الموت ، وقبل النشر . الطبقة الرابعة :
المقصرون عن الطاعة من غير عناد ، والمستضعفون من سائر الناس ، وهؤلاء لا يحيون ، بل يبقون في عالم الأموات إلى يوم النشر) .
وأخذ الشيخ المفيد هذا التقسيم من روايات عن أهل البيت ( عليهم السلام ) ، منها :
(لا يعذّب في القبر كل ميت ، وانما يعذب من محض الكفر محضا ، وينعم من محض الإيمان محضا ، وما سوى هذين يلهى عنه ولا يسأل عن شيء إلى يوم البعث والنشور) .
وقد تكلمنا عن ذلك مفصلا في كتاب فلسفة المبدأ والمعاد ، فصل {بين الدنيا والآخرة} وفصل (حساب القبر) .
{ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } . قال لم يتسنه بالإفراد ، دون التثنية ، لأن الطعام والشراب من فصيلة واحدة ، من حيث سرعة الفساد إليهما ، ومعنى لم يتسنه لم يتغير بمرور السنين ، بل بقي على حاله ، وهذه معجزة إلهية ، لأن الطعام والشراب يسرع إليهما الفساد ، وأخشى أن يقول من يحاول تطبيق القرآن على العلم الحديث : انهما كانا في ثلاثة . .
{وانْظُرْ إِلى حِمارِكَ} . كيف صار رميما ، مع بقاء طعامك وشرابك على حالهما ، وهذا أبلغ في المعجزة ، واظهار المقدرة في خرق العوائد ، لأن الجو واحد ، والظروف واحدة ، فلو كانت هي المؤثرة لأسرع البلى إلى الطعام والشراب قبل أن يسرع إلى الحمار ، لأنه أقوى منهما على البقاء ، فموته هو مع بقائهما مائة سنة على ما كانا عليه من أصدق الدلائل على ان اللَّه لا يعجزه شيء على الإطلاق .
وقيل : ان الحمار بقي حيا طوال المائة عام بلا طعام ولا شراب . . وعلى الحالين فان اللَّه سبحانه قد فعل ذلك ليزيل تعجب عزير ، واستبعاده لإحياء أهل القرية ، وأيضا ليجعله آية على وجود البعث عند من علم بحاله من أهل عصره ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : {ولِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ } .
{وانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً } . اختلفوا في هذه العظام :
هل هي عظام عزير ، أو عظام حماره ؟ . وقال قائل : انها عظام صاحب الحمار ، وان اللَّه سبحانه أحيا أولا عينيه ، لينظر إلى بقية جسده كيف يتجمع ويحيا . .
وهذا قول على اللَّه بلا علم ، والأرجح انها عظام الحمار ، لقول صاحبه : لبثت يوما أو بعض يوم . إذ لوكان قد رأى عظامه هو رميما لتنبه إلى طول الأمد .
وننشزها بالزاي ، أي نرفعها ، ونركّب بعضها ببعض ، كساها سبحانه لحما ، تماما كما بدأ أول خلقه يعيده ، قال الإمام علي ( عليه السلام ) : ليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من شأنها واختراعها .
{فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهً عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . قال هذا بعد أن مر بالتجربة الشخصية التي لا تقبل الشك ، وكيف يشك ، وقد شاهد بالعيان معاجز ثلاثا : الأولى إعادته إلى الحياة بعد الموت . الثانية : احياء حماره .
الثالثة : بقاء طعامه مائة عام .
والعبرة التي نستخلصها من هذه القصة ان العاقل لا ينبغي له أن ينكر ما يعجز عقله عن إدراكه ، أولا يتفق مع ما قرأه في كتاب أو صحيفة ، أو سمعه من أستاذ ، بل ينبغي أن يتحفظ ، حتى فيما يراه مخالفا لقوانين الطبيعة . .
فلقد أثبت العلم انه لا قوانين لها مطلقة ونهائية .
________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص406-409.
قوله تعالى: {أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها}، الخاوية هي الخالية يقال: خوت الدار تخوي خواء إذا خلت، والعروش جمع العرش وهوما يعمل مثل السقف للكرم قائما على أعمدة، قال تعالى: {جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} [الأنعام: 141] ، ومن هنا أطلق على سقف البيت العرش، لكن بينهما فرقا، فإن السقف هوما يقوم من السطح على الجدران والعرش هو السقف مع الأركان التي يعتمد عليها كهيئة عرش الكرم، ولذا صح أن يقال في الديار إنها خالية على عروشها ولا يصح أن يقال: خالية على سقفها.
وقد ذكر المفسرون وجوها في توجيه العطف في قوله تعالى: {أو كالذي}، فقيل: إنه عطف على قوله في الآية السابقة: {الذي حاج إبراهيم}، والكاف اسمية، والمعنى أوهل رأيت مثل الذي مر على قرية "إلخ"، وقد جيء بهذا الكاف للتنبيه على تعدد الشواهد، وقيل: بل الكاف زائدة، والمعنى: أ لم تر إلى الذي حاج إبراهيم أو الذي مر على قرية "إلخ"، وقيل: إنه عطف محمول على المعنى، والمعنى: أ لم تر كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر على قرية، وقيل: إنه من كلام إبراهيم جوابا عن دعوى الخصم أنه يحيي ويميت، والتقدير: وإن كنت تحيي فأحي كإحياء الذي مر على قرية "إلخ" فهذه وجوه ذكروه في الآية لتوجيه العطف لكن الجميع كما ترى.
وأظن - والله أعلم - أن العطف على المعنى كما مر في الوجه الثالث إلا أن التقدير غير التقدير، توضيحه: أن الله سبحانه لما ذكر قوله: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}، تحصل من ذلك: أنه يهدي المؤمنين إلى الحق ولا يهدي الكافر في كفره بل يضله أولياؤه الذين اتخذته من دون الله أولياء، ثم ذكر لذلك شواهد ثلاث يبين بها أقسام هدايته تعالى، وهي مراتب ثلاث مترتبة: أولاها: الهداية إلى الحق بالبرهان والاستدلال كما في قصة الذي حاج إبراهيم في ربه، حيث هدى إبراهيم إلى حق القول، ولم يهد الذي حاجه بل أبهته وأضله كفره، وإنما لم يصرح بهداية إبراهيم بل وضع عمدة الكلام في أمر خصمه ليدل على فائدة جديدة يدل عليها قوله: {والله لا يهدي القوم الظالمين}.
والثانية: الهداية إلى الحق بالإراءة والإشهاد كما في قصة الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها فإنه بين له ما أشكل عليه من أمر الإحياء بإماتته وإحيائه وسائر ما ذكره في الآية، كل ذلك بالإراءة والإشهاد.
الثالثة: الهداية إلى الحق وبيان الواقعة بإشهاد الحقيقة والعلة التي تترشح منه الحادثة، وبعبارة أخرى بإراءة السبب والمسبب معا، وهذا أقوى مراتب الهداية والبيان وأعلاها وأسناها كما أن من كان لم ير الجبن مثلا وارتاب في أمره تزاح شبهته تارة بالاستشهاد بمن شاهده وأكل منه وذاق طعمه.
وتارة بإراءته قطعة من الجبن وإذاقته طعمه وتارة بإحضار الحليب وعصارة الإنفحة وخلط مقدار منها به حتى يجمد ثم إذاقته شيئا منه وهي أنفى المراتب للشبهة.
إذا عرفت ما ذكرناه علمت أن المقام في الآيات الثلاث – وهو مقام الاستشهاد - يصح فيه جميع السياقات الثلاث في إلقاء المراد إلى المخاطب بأن يقال: إن الله يهدي المؤمنين إلى الحق: أ لم تر إلى قصة إبراهيم ونمرود، أولم تر إلى قصة الذي مر على قرية، أولم تر إلى قصة إبراهيم والطير، أو يقال إن الله يهدي المؤمنين إلى الحق: إما كما هدى إبراهيم في قصة المحاجة وهي نوع من الهداية، أو كالذي مر على قرية وهي نوع آخر، أو كما في قصة إبراهيم والطير وهي نوع آخر، أو يقال: إن الله يهدي المؤمنين إلى الحق وأذكرك ما يشهد بذلك فاذكر قصة المحاجة، واذكر الذي مر على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم رب أرني.
فهذا ما يقبله الآيات الثلاث من السياق بحسب المقام، غير أن الله سبحانه أخذ بالتفنن في البيان وخص كل واحدة من الآيات الثلاث بواحد من السياقات الثلاث تنشيطا لذهن المخاطب واستيفاء لجميع الفوائد السياقية الممكنة الاستيفاء.
ومن هنا يظهر: أن قوله تعالى: {أو كالذي}، معطوف على مقدر يدل عليه الآية السابقة، والتقدير: إما كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر على قرية، ويظهر أيضا أن قوله في الآية التالية: {وإذ قال إبراهيم}، معطوف على مقدر مدلول عليه بالآية السابقة والتقدير: اذكر قصة المحاجة وقصة الذي مر على قرية، واذكر إذ قال إبراهيم رب أرني "إلخ".
وقد أبهم الله سبحانه اسم هذا الذي مر على قرية واسم القرية والقوم الذين كانوا يسكنونها، والقوم الذين بعث هذا المار آية لهم كما يدل عليه قوله ولنجعلك آية للناس، مع أن الأنسب في مقام الاستشهاد الإشارة إلى أسمائهم ليكون أنفى للشبهة.
لكن الآية وهي الإحياء بعد الموت وكذا أمر الهداية بهذا النحو من الصنع لما كانت أمرا عظيما، وقد وقعت موقع الاستبعاد والاستعظام، كان مقتضى البلاغة أن يعبر عنها المتكلم الحكيم القدير بلحن الاستهانة والاستصغار لكسر سورة استبعاد المخاطب والسامعين كما أن العظماء يتكلمون عن عظماء الرجال وعظائم الأمور بالتصغير والتهوين تعظيما لمقام أنفسهم، ولذلك أبهم في الآية كثير من جهات القصة مما لا يتقوم به أصلها ليدل على هوان أمرها على الله، ولذلك أيضا أبهم خصم إبراهيم في الآية السابقة وأبهم جهات القصة من أسماء الطيور وأسماء الجبال وعدد الأجزاء وغيرها في الآية اللاحقة.
وأما التصريح باسم إبراهيم (عليه السلام) فإن للقرآن عناية تشريف به (عليه السلام)، قال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] ، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } [الأنعام: 75] ، ففي ذكره (عليه السلام) بالاسم عناية خاصة.
ولما ذكرناه من النكتة ترى أنه تعالى يذكر أمر الإحياء والإماتة في غالب الموارد من كلامه بما لا يخلو من الاستهانة والاستصغار، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [الروم: 27] ، وقال تعالى: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} - إلى قوله: - {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9].
قوله تعالى: {قال أنى يحيي هذه الله}، أي أنى يحيي الله أهل هذه القرية ففيه مجاز كما في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [يوسف: 82].
وإنما قال هذا القول استعظاما للأمر ولقدرة الله سبحانه من غير استبعاد يؤدي إلى الإنكار أو ينشأ منه، والدليل على ذلك قوله على ما حكى الله تعالى عنه في آخر القصة: {أعلم أن الله على كل شيء قدير} ولم يقل: الآن كما في ما يماثله من قوله تعالى حكاية عن امرأة العزيز: { الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف: 51] ، وسيجيء توضيحه قريبا.
على أن الرجل نبي مكلم وآية مبعوثة إلى الناس والأنبياء معصومون حاشاهم عن الشك والارتياب في البعث الذي هو أحد أصول الدين.
قوله تعالى: {فأماته الله مائة عام ثم بعثه}، ظاهره توفيه بقبض روحه وإبقاؤه على هذا الحال مائة عام ثم إحياؤه برد روحه إليه.
وقد ذكر بعض المفسرين: أن المراد بالموت هو الحال المسمى عند الأطباء بالسبات وهو أن يفقد الموجود الحي الحس والشعور مع بقاء أصل الحياة مدة من الزمان، أياما أو شهورا أوسنين، كما أنه الظاهر من قصة أصحاب الكهف ورقودهم ثلاثمائة وتسع سنين ثم بعثهم عن الرقدة واحتجاجه تعالى به على البعث فالقصة تشبه القصة.
قال: والذي وجد من موارد اتفاقه لا يزيد على سنين معدودة فسبات مائة سنة أمر غير مألوف وخارق للعادة لكن القادر على توفي الإنسان بالسبات زمانا كعدة سنين قادر على إلقاء السبات مائة سنة، ولا يشترط عندنا في التسليم بما تواتر به النص من آيات الله تعالى وأخذها على ظاهرها إلا أن تكون من الممكنات دون المستحيلات، فقد احتج الله بهذا السبات ورجوع الحس والشعور إليه ثانيا بعد سلبه مائة سنة على إمكان رجوع الحياة إلى الأموات بعد سلبها عنهم ألوفا من السنين، هذا ملخص ما ذكره.
وليت شعري كيف يصح الحكم بكون الإماتة المذكورة في الآية من قبيل السبات من جهة كون قصة أصحاب الكهف من قبيل السبات "على تقدير تسليمه" بمجرد شباهة ما بين القصتين مع ظهور قوله تعالى: {فأماته الله}، في الموت المعهود دون السبات الذي اختلقه للآية؟ وهل هوإلا قياس فيما لم يقل بالقياس فيه أحد، وهو أمر الدلالة؟ وإذا جاز أن يلقي الله على رجل سبات مائة سنة مع كونه خرقا للعادة فليجز له إماتته مائة سنة ثم إحياؤه، فلا فرق عنده تعالى بين خارق وخارق إلا أن هذا القائل يرى إحياء الموتى في الدنيا محالا من غير دليل يدل عليه، وقد تأول لذلك أيضا قوله تعالى في ذيل الآية: {وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما}، وسيجيء التعرض له.
وبالجملة دلالة قوله تعالى: {فأماته الله مائة عام}، من حيث ظهور اللفظ وبالنظر إلى قوله قبله: {أنى يحيي هذه الله}، وقوله بعده: {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك} وقوله: {وانظر إلى العظام}، مما لا ريب فيه.
قوله تعالى: {قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام}، اللبث هو المكث وترديد الجواب بين اليوم وبعض اليوم يدل على اختلاف وقت إماتته وإحيائه كأوائل النهار وأواخره، فحسب الموت والحياة نوما وانتباها، ثم شاهد اختلاف وقتيهما فتردد في تخلل الليلة بين الوقتين وعدم تخللها فقال يوما لو تخللت الليلة أو بعض يوم لولم تتخلل قال: {بل لبثت مائة عام}.
قوله تعالى: {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} إلى قوله {لحما}، سياق هذه الجمل في أمره عجيب فقد كرر فيها قوله: انظر ثلاث مرات وكان الظاهر أن يكتفي بواحد منها، وذكر فيها أمر الطعام والشراب والحمار والظاهر السابق إلى الذهن أنه لم يكن إلى ذكرها حاجة، وجيء بقوله: ولنجعلك متخللا في الكلام وكان الظاهر أن يتأخر عن جملة: وانظر إلى العظام، على أن بيان ما استعظمه هذا المار بالقرية – وهو إحياء الموتى بعد طول المدة وعروض كل تغير عليها - قد حصل بإحيائه نفسه بعد الموت فما الموجب لأن يؤمر ثانيا بالنظر إلى العظام؟ لكن التدبر في أطراف الآية الشريفة يوضح خصوصيات القصة إيضاحا ينحل به العقدة وتنجلي به الشبهة المذكورة.
القصة
التدبر في الآية يعطي أن الرجل كان من صالحي عباد الله، عالما بمقام ربه، مراقبا لأمره، بل نبيا مكلما فإن ظاهر قوله: {أعلم أن الله} ، أنه بعد تبين الأمر له رجع إلى ما لم يزل يعلمه من قدرة الله المطلقة، وظاهر قوله تعالى: {ثم بعثه قال كم لبثت}، إنه كان مأنوسا بالوحي والتكليم، وأن هذا لم يكن أول وحي يوحى إليه وإلا كان حق الكلام أن يقال: فلما بعثه قال "إلخ" أو ما يشبهه كقوله تعالى في موسى (عليه السلام): " { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه: 11، 12] ، وقوله تعالى فيه أيضا: { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ} [القصص: 30].
وكيف كان فقد كان (عليه السلام) خرج من داره قاصدا مكانا بعيدا عن قريته التي كان بها، والدليل عليه خروجه مع حمار يركبه، وحمله طعاما وشرابا يتغذى بهما، فلما سار إلى ما كان يقصده مر بالقرية التي ذكر الله تعالى أنها كانت خاوية على عروشها، ولم يكن قاصدا نفس القرية، وإنما مر بها مرورا ثم وقف معتبرا بما يشاهده من أمر القرية الخربة التي كان قد أبيد أهلها وشملتهم نازلة الموت وعظامهم الرميمة بمرأى ومنظر منه (عليه السلام)، فإنه يشير إلى الموتى بقوله: {أنى يحيي هذه الله}، ولوكان مراده بذلك عمران نفس القرية بعد خرابها والإشارة إلى نفس القرية لكان حق الكلام أن يقال: أنى يعمر هذه الله.
على أن القرية الخربة ليس من المترقب عمرانها بعد خرابها، ولا أن عمرانها بعد الخراب مما يستعظم عادة، ولو كانت الأموات المشار إليهم مقبورين وقد اعتبر بمقابرهم لكان من اللازم ذكره والصفح عن ذكر نفس القرية على ما يليق بأبلغ الكلام.
ثم إنه تعمق في الاعتبار فهاله ما شاهده منها فاستعظم طول مدة مكثها مع ما يصاحبه من تحولها من حال إلى حال، وتطورها من صورة إلى صورة بحيث يصير الأصل نسيا منسيا، وعند ذلك قال: {أنى يحيي هذه الله}، وقد كان هذا الكلام ينحل إلى جهتين: "إحداهما": استعظام طول المدة والإحياء مع ذلك، "والثانية": استعظام رجوع الأجزاء إلى صورتها الأولى الفانية بعد عروض هذه التغيرات غير المحصورة، فبين الله له الأمر من الجهتين جميعا: أما من الجهة الأولى فبإماتته ثم إحيائه وسؤاله وأما من الجهة الثانية فبإحياء العظام بمنظر ومرأى منه.
فأماته الله مائة عام ثم بعثه، وقد كان الإماتة والإحياء في وقتين مختلفين من النهار كما مر ذكره، {قال كم لبثت قال لبثت يوما أو بعض يوم} نظرا إلى اختلاف الوقتين، وقد كان موته في الطرف المقدم من النهار وبعثه في الطرف المؤخر منه ولوكان بالعكس من ذلك لقال: لبثت يوما من غير ترديد، فرد الله سبحانه عليه وقال: بل لبثت مائة عام، فرأى من نفسه أنه شاهد مائة سنة كيوم أو بعض يوم، فكان فيه جواب ما استعظمه من طول المكث.
ثم استشهد تعالى على قوله: {بل لبثت مائة عام} بقوله: {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك}! وذلك: أن قوله: {لبثت يوما أو بعض يوم} يدل على أنه لم يحس بشيء من طول المدة وقصره، وإنما استدل على ما ذكره بما شاهد من حال النهار من شمس أو ظل ونحوهما، فلما أجيب بقوله تعالى: {بل لبثت مائة عام} كان الجواب في مظنة أن يرتاب فيه من جهة ما كان يشاهد نفسه ولم يتغير شيء من هيئة بدنه، والإنسان إذا مات ومضى عليه مائة سنة على طولها تغير لا محالة بدنه عما هو عليه من النضارة والطراوة وكان ترابا وعظاما رميمة، فدفع الله تعالى هذا الذي يمكن أن يخطر بباله بأمره أن ينظر إلى طعامه وشرابه لم يتغير شيء منهما عما كان عليه وأن ينظر إلى الحمار وقد صار عظاما رميمة، فحال الحمار يدل على طول مدة المكث وحال الطعام والشراب يدل على إمكان أن يبقى طول هذه المدة على حال واحد من غير أن يتغير شيء من هيئته عما هي عليه.
ومن هنا يظهر أن الحمار أيضا قد أميت وكان رميما وكان السكوت عن ذكر إماتته معه لما عليه القرآن من الأدب البارع.
وبالجملة تم عند ذلك البيان الإلهي: أن استعظامه طول المدة قد كان في غير محله حيث أخذ الله منه الاعتراف بأن مائة سنة - مدة لبثه - كيوم أو بعض يوم كما يأخذ اعتراف أهل الجمع يوم القيامة بمثل ما اعترف به، فبين له أن تخلل الزمان بين الإماتة والإحياء بالطول والقصر لا يؤثر في قدرته الحاكمة على كل شيء، فليست قدرة مادية زمانية حتى يتخلف حالها بعروض تغيرات أقل أو أزيد على المحل، فيكون إحياء الموتى القديمة أصعب عليه من إحياء الموتى الجديدة، بل البعيد عنده كالقريب من غير فرق كما قال تعالى: {نَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا } [المعارج: 6، 7] ، وقال تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ } [النحل: 77].
ثم قال تعالى: {ولنجعلك آية للناس}، عطف الغاية يدل على أن هناك غيرها من الغايات، والمعنى أنا فعلنا بك ما فعلنا لنبين لك كذا وكذا ولنجعلك آية للناس فبين أن الغرض الإلهي لم يكن في ذلك منحصرا في بيان الأمر له نفسه بل هناك غاية أخرى وهي جعله آية للناس، فالغرض من قوله: {وانظر إلى العظام} "إلخ" بيان الأمر له فقط ومن إماتته وإحيائه بيان الأمر له وجعله آية للناس، ولذلك قدم قوله: {ولنجعلك} "إلخ" على قوله: {وانظر إلى العظام} "إلخ".
ومما بينا يظهر وجه تكرار قوله انظر، ثلاث مرات في الآية، فلكل واحد من الموارد الثلاث غرض خاص به لا يشاركه فيه غيره.
وكان في إماتته وإحيائه وبيان ذلك له بيان ما يجده الميت من نفسه إذا أحياه الله ليوم البعث كما قال تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [الروم: 55، 56].
ثم بين الله له الجهة الثانية التي يشتمل عليه قوله: {أنى يحيي هذه الله} وهو: أنه كيف يعود الأجزاء إلى صورتها بعد كل هذه التغيرات والتحولات الطارئة عليها واستلفت نظره إلى العظام فقال: {وانظر إلى العظام كيف ننشزها} والإنشاز الإنماء، وظاهر الآية أن المراد بالعظام عظام الحمار إذ لو كانت عظام أهل القرية لم تكن الآية منحصرة فيه كما هو ظاهر قوله: {ولنجعلك آية} بل شاركه فيه الموتى الذين أحياهم الله تعالى!.
ومن الغريب ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالعظام العظام التي في الأبدان الحية فإنها في نمائها واكتسائها باللحم من آيات البعث، فإن الذي أعطاها الرشد والنماء بالحياة لمحيي الموتى إنه على كل شيء قدير، وقد احتج الله على البعث بمثلها وهو الأرض الميتة التي يحييها الله بالإنبات، وهذا كما ترى تكلف من غير موجب.
وقد تبين من جميع ما مر أن جميع ما تشتمل عليه الآية من قوله: {فأماته الله} إلى آخر الآية جواب واحد غير مكرر لقوله: {أنى يحيي هذه الله}.
قوله تعالى: {فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} ، رجوع منه بعد التبين إلى علمه الذي كان معه قبل التبين، كأنه (عليه السلام) لما خطر بباله الخاطر الذي ذكره بقوله: {أنى يحيي هذه الله} أقنع نفسه بما عنده من العلم بالقدرة المطلقة ثم لما بين الله له الأمر بيان إشهاد وعيان رجع إلى نفسه وصدق ما اعتمد عليه من العلم، وقال لم تزل تنصح لي ولا تخونني في هدايتك وتقويمك وليس ما لا تزال نفسي تعتمد عليه من كون القدرة مطلقة جهلا، بل علم يليق بالاعتماد عليه.
وهذا أمر كثير النظائر فكثيرا ما يكون للإنسان علم بشيء ثم يخطر بباله ويهجس في نفسه خاطر ينافيه، لا للشك وبطلان العلم، بل لأسباب وعوامل أخرى فيقنع نفسه حتى تنكشف الشبهة ثم يعود فيقول أعلم أن كذا كذا وليس كذا كذا فيقرر بذلك علمه ويطيب نفسه!.
وليس معنى الكلام: أنه لما تبين له الأمر حصل له العلم وقد كان شاكا قبل ذلك فقال أعلم "إلخ" كما مرت الإشارة إليه لأن الرجل كان نبيا مكلما وساحة الأنبياء منزه عن الجهل بالله وخاصة في مثل صفة القدرة التي هي من صفات الذات أولا: ولأن حق الكلام حينئذ أن يقال: علمت أوما يؤدي معناه ثانيا: ولأن حصول العلم بتعلق القدرة بإحياء الموتى لا يوجب حصول العلم بتعلقها بكل شيء وقد قال: {أعلم أن الله على كل شيء قدير}، نعم ربما يحصل الحدس بذلك في بعض النفوس كمن يستعظم أمر الإحياء في القدرة فإذا شاهدها له ما شاهده وذهلت نفسه عن سائر الأمور فحكم بأن الذي يحيي الموتى يقدر على كل ما يريد أو أريد منه، لكنه اعتقاد حدسي معلول الروع والاستعظام النفسانيين المذكورين، يزول بزوالهما ولا يوجد لمن لم يشاهد ذلك، وعلى أي حال لا يستحق التعويل والاعتماد عليه، وحاشا أن يعد الكلام الإلهي مثل هذا الاعتقاد والقول نتيجة حسنة ممدوحة لبيان إلهي كما هو ظاهر قوله تعالى بعد سرد القصة: {فلما تبين له} قال: {أعلم أن الله على كل شيء قدير}، على أنه خطأ في القول لا يليق بساحة الأنبياء ثالثا.
قوله تعالى: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى}، قد مر أنه معطوف على مقدر والتقدير: واذكر إذ قال "إلخ" وهو العامل في الظرف، وقد احتمل بعضهم أن يكون عامل الظرف هو قوله: {قال أ ولم تؤمن}، وترتيب الكلام: أ ولم تؤمن إذ قال إبراهيم رب أرني "إلخ" وليس بشيء.
__________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج2 ، ص304-312.
قصة «عُزير» العجيبة :
جاءت هذه الآية معطوفة على الآية السابقة وتقصّ حكاية أحد الأنبياء القدامى، وهي من الشواهد الحيّة على مسألة البعث. وقد دارت الآيات السابقة ـ التي استعرضت الحوار بين إبراهيم (عليه السلام)والنمرود ـ حول التوحيد ومعرفة الله. أمّا هذه الآية والآيات التالية فتدور حول المعاد والحياة بعد الموت. نبدأ بشرح الحكاية بصورة مجملة ثمّ نباشر بالتفسير.
الآية تشير إلى حكاية رجل سافر على حماره ومعه طعام وشراب، فمرّ بقرية قد تهدّمت وتحوّلت إلى أنقاض تتخلّلها عظام أهاليها النخرة. وإذ رأى هذا المشهد المروع قال : كيف يقدر الله على إحياء هؤلاء الأموات ؟
لم يكن تسأوله بالطبع من باب الشكّ والإنكار، بل كان من باب التعجّب، إذ أنّ القرائن الأُخرى في الآية تدلّ على أنّه كان أحد الأنبياء، وقد تحدّث إليه الله، كما أنّ الأحاديث(2) تؤيّد هذا كما سيأتي.
عند ذلك أماته الله مدة مائة سنة، ثمّ أحياه مرّة اُخرى وسأله : كم تظنّ أنّك بقيت في هذه الصحراء ؟ فقال وهو يحسب أنّه بقي سويعات : يوماً أو أقل، فخاطبه الله بقوله : بل بقيت هنا مائة سنة، انظر كيف أنّ طعامك وشرابك طوال هذه المدّة لم يصبه أي تغيّر بإذن الله. ولكن لكي تؤمن بأنك قد أمضيت مائة سنة كاملة هنا انظر إلى حمارك الذي تلاشى ولم يبق منه شيء بموجب نواميس الطبيعة، بخلاف طعامك وشرابك، ثمّ انظر كيف إنّنا نجمع أعضاءه ونحييه مرّة اُخرى. فعندما رأى كلّ هذه الأُمور أمامه قال : (اعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير)، أي : إنني الآن على يقين بعد أن رأيت البعث بصورة مجسّمة أمامي.
ومَن هذا النبيّ الذي تحدّثت عنه هذه الآية ؟ ثمّة أقوال عديدة، قال بعض : إنّه «ارميا». وقال آخرون : إنّه «الخضر». إلاَّ أنّ أشهر الأقوال : إنّه «العزير» ويؤيّده حديث عن الإمام الصادق (عليه السلام)(3).
واختلفت الأقوال أيضاً بشأن القرية المذكورة، قال بعض : إنّها «بيت المقدس» التي دمّرها نبوخذ نصّر، وهو احتمال بعيد.
نعود إلى تفسير الآية :{أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنّى يحيي هذه الله بعد موتها}.
هذه الآية ـ كما قلنا ـ تكملة للآية السابقة التي دارت حول التوحيد. هذه الآية والآيات التالية تجسّد مسألة المعاد.
«عروش» جمع عرش، وهنا تعني السقف. و«خاوية» في الأصل بمعنى خالية، ولكنّها هنا كناية عن الخراب والدمار، فالبيوت العامرة تكون عادةً مسكونة، أمّا الدور الخالية فإمّا أن تكون قد تهدّمت من قبل، أو أنّها تهدّمت بسبب خلوّها من الساكنين، وعليه فإنّ قوله (وهي خاوية على عروشها) تعني أنّ دور تلك القرية كانت كلّها خربة، فقد هوت سقوفها ثمّ انهارت الجدران عليها، وهذا هو الخراب التام إذ أنّ الإنهدام يكون عادةً بسقوط السقف أوّلاً، وتبقى الجدران قائمة بعض الوقت، ثمّ تنهار فوق السقف.
{قال أنّى يحيي هذه الله بعد موتها}.
الظاهر أنّ أحداً لم يكن مع النبيّ في هذه الواقعة، فهو بهذا يخاطب نفسه. وبديهيّ أنّ القرية هنا تعني أهل القرية، وهذا يعني أنّه كان يرى عظام أهل القرية بعينيه، فأشار إليها وهو ينطق بتساؤله.
{فأماته الله مائة عام ثمّ بعثه}.
يرى أكثر المفسّرين أنّ هذه الآية تعني أنّ الله قد أمات النبيّ المذكور مدّة مائة سنة ثمّ أحياه بعد ذلك، وهذا ما يستفاد من كلمة «أماته». إلاَّ أنّ صاحب تفسير المنار يحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى نوع من النوم الطويل المعروف عند بعض الحيوانات المسمّى بالسبات. حيث يغطّ الكائن الحي في نوم عميق وطويل دون أن تتوقف فيه الحياة، كالذي حدث مثلاً عند أصحاب الكهف.
وإذا كان النوم لبضع سنوات ممكناً، فهو على رأي صاحب المنار ممكن أيضاً لمائة عام وإن لم يكن اعتيادياً. ويلزم في قبول الخوارق أن تكون ممكنة لا محاله عقلاً(4).
ولكن ليس في هذه الآية ما يدلّ على صحّة هذا القول، بل إن ظاهر الآية يدلّ على أنّ النبيّ قد فارق الحياة، وبعد مائة سنة استأنف الحياة مرّة أُخرى. ولا شكّ أنّ موتاً وحياةً كهذين هما من خوارق العادات، وإن لم يكن مستحيلاً. وعلى كلّ حال فإنّ الحوادث الخارقة للعادة في القرآن ليست منحصرة بهذه الحادثة بحيث نعمد إلى تأويلها.
نعم نستطيع في هذا المجال ذكر مسألة النوم الطويل الطبيعي أو السبات الشتوي لبعض الحيوانات التي تنام خلال أشهر الشتاء وتستيقظ عند انخفاض حدّة البرد، أو مسألة انجماد بعض الحيوانات انجماداً طبيعياً، أو تجميد بعض الأحياء على يد البشر لمدة طويلة دون أن تموت، كلّ ذلك لتقريب فكرة الإماتة والإحياء مدّة عام إلى الأذهان، ويكون ذكر هذه المسائل بهدف الخروج بالنتيجة التالية :
إنّ الله القادر على الابقاء الأحياء مئات السنين في نوم طويل أو حالة انجماد، ثمّ إيقاظها وإعادتها إلى حالتها الأُولى لهو قادر على إحياء الموتى.
إننا بقبولنا أصل المعاد وإحياء الموتى في البعث وكذلك بقبول خوارق العادات والمعجزات على أيدي الأنبياء ليس ثمّة ما يدعونا إلى محاولة تفسير جميع آيات القرآن بسلسلة من المسائل العادية والطبيعية مخالفين بذلك ظاهر الآيات، فهذا ليس صحيحاً ولا لزوم له(5).
وكما قال بعض المفسّرين : كأننا نسينا أننا هنا أموات في البداية وقد أحيانا الله تعالى، فما المانع أن تتكرر ظاهرة الموت والحياة هذه.
{قال كم لبثتَ قال لبثتُ يوماً أو بعض يوم}.
يسأل الله نبيّه في هذه الآية عن المدّة التي قضاها في النوم، فيتردّد في الجواب بين قضائه يوماً كاملاً أو جزءاً من اليوم. ويستفاد من هذا التردّد أنّ الساعة التي أماته الله فيها تختلف عن الساعة التي أحياه فيها من ساعات النهار، كأن تكون إماتته قد حدثت مثلاً قبل الظهر، وأُعيد إلى الحياة بعد الظهر. لذلك انتابه الشكّ إن كان قد نام يوماً كاملاً بليله ونهاره، أم أنّه لم ينم سوى بضع ساعات من النهار. ولهذا بعد أن قال إنّه قضى يوماً، راوده الشكّ فقال {أو بعض يوم}. ولكنّه ما لبث أن سمع الله يقول له :{بل لبثت مائة عام}.
ثمّ أن الله تعالى أمر نبيه بأن ينظر إلى طعامه الذي كان معه من جهة، وينظر إلى مركوبه من جهة اُخرى ليطمئن إلى واقعية الأمر فالأول بقي سالماً تماماً. أمّا الثاني فتلاشى وأصبح رميماً. ليعلم قدرة الله على حفظ الأشياء القابلة للفساد خلال هذه الأعوام، ويدرك من جهة اُخرى مرور الزمان على وفاته :
{فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتَسنّه}(6).
«لم يتسنّه» من مادّة «سَنَة» أي لم يمض عليه مدّة سنة، لعدم تعفّنه وتفسّخه. وعلى ذلك يكون معنى الآية : لاحظ طعامك وشرابك تجده كأنّه لم تمض عليه سنة ولا مدّة زمنية، فلم يتغير، أي أنّ الله القادر على إبقاء ما يسرع إليه التفسّخ والفساد كالطعام والشراب، قادر أيضاً على إحياء الموتى بيسر. فإبقاء الطعام والشراب نوع من إدامة الحياة لهذه المواد السريعة التفسّخ، وعملية الإبقاء هذه ليست بأيسر من إحياء الموتى(7).
إلاَّ أنّ الآية لم تشر إلى ماهيّة طعام النبيّ وشرابه. يقول بعض : إنّ طعامه كان فاكهة التين وكان شرابه عصير بعض الفواكه(8) ، وكلاهما يسرع إليه الفساد والتفسّخ كما هو معلوم، لذلك فإنّ بقاءهما هذه المدّة الطويلة دون تلف أمرٌ مهم.
{وانظر إلى حمارك}.
لم يذكر القرآن عن حماره شيئاً في الآيات السابقة، إلاَّ أنّ الآيات التالية تشير إلى أنّ حماره قد تلاشى تماماً بمضيّ الزمان، ولولا ذلك لما كان هناك ما يشير إلى انقضاء مائة سنة، وهذا أمر عجيب أيضاً، لأنّ حيواناً معروفاً بطول العمر يتلاشى على هذه الصورة، بينما الذي يطرأ عليه التفسّخ السريع كالفاكهة وعصيرها لم يتغيّر لا في الرائحة ولا في الطعم، وهذا منتهى تجلّي قدرة الله.
{ولنجعلك آيةً للناس}.
أي أنّ حكايتك هذه ليست آية لك وحدك، بل هي كذلك للناس جميعاً.
{وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحماً}.
«النشوز» هو الارتفاع والبروز، ويعني هنا رفع العظام من مكانها وتركيبها مرّة اُخرى. فمعنى الآية يكون : انظر إلى هذه العظام النخرة كيف نرفعها من مواضعها ونربط بعض ببعض ثمّ نغطّيها باللحم ونحييها. واضح أنّ العظام المقصودة هي عظام حماره المتلاشي، لا عظام أهل القرية لما في ذلك من انسجام مع الآيات السابقة.
واحتمل بعض المفسّرين أن المراد من العظام هي عظام نفس ذلك النبي، وهذا بعيد جدّاً، لأنّ الحديث كان بعد احياءه، وكذلك احتمل الآخرون هي عظام الحمار أو عظام الموتى الذين تعجب من احيائهم(9)، وهذا أيضاً بعيد لأن الكلام قبل هذه الجملة كان يدور حول الحمار والراكب لا أهل القرية.
{فلمّا تبيّن له قال أعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير}.
عندما اتّضحت كلّ هذه المسائل للنبيّ المذكور قال إنّه يعلم أن الله قادر على كلّ شيء. لاحظ أنّه لم يقل : الآن علمت كقول زليخا بشأن يوسف {لْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ} [يوسف: 51] بل قال «أعلم» أي أنني أعترف ومعرفتي بهذا الأمر بعلمي.
___________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2 ، ص 102-106.
2-وسائل الشيعة ، ج16- ص142.
3 ـ مجمع البيان : ج 1 و2 ، ص 370.
4 ـ تفسير المنار والمراغي في ذيل الآية المبحوثة.
5- ان بقاء المواد الغذائية والاشربة لمدة مائة عام كما اشارت الاية الكريمة الى ذلك ، وكذلك احياء (الحمار) بعد ان اجتمعت العظام وكسيت العظام لحماً في محضر في ذلك النبي ، كل ذلك دليل قاطع على الاحياء والاماتة في يوم القيامة وان لا نغفل عن هذا الامل الجليل .
6- اتفق كثير من المفسرين على ان جملة (لم يتسنه) مأخوذه من مادة (سنة) راجع الطبرسي و الفخر الرازي و القرطبي و ابو الفتوح واشار الراغب في مفرداته في مادة (سنة) الى هذا المعنى وان فسرها في مادة ( سنّ ) بمعنى اخر.
7 ـ الضمير في «لم يتسنّه» مفرد وعائده مثّنى : الطعام والشراب ،وإنّما أفرد لقصد الجنس،
فكلاهما من جنس واحد.
8- التفسير الكبير ، تفسير روح المعاني ، وتفسير جامع البيان ، ذيل الاية مورد البحث .
9 ـ الكشّاف : ج 1 ص 307.
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
المجمع العلمي ينظّم ندوة حوارية حول مفهوم العولمة الرقمية في بابل
|
|
|