أقرأ أيضاً
التاريخ: 14-2-2017
4431
التاريخ: 10-5-2017
9891
التاريخ: 9-12-2016
2610
التاريخ: 10-5-2017
9259
|
قال تعالى : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [البقرة : 240 - 242] .
{والذين يتوفون منكم} أي الذين يقاربون منكم الوفاة لأن المتوفى لا يؤمر ولا ينهى {ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم } أي فليوصوا وصية لهن ومن رفع فمعناه وصية من الله لأزواجهم أو عليهم وصية لهن {متاعا إلى الحول } يعني ما ينتفعن به حولا من النفقة والكسوة والسكنى وقيل وهو مثل المتعة في المطلقات وكان واجبا في المتوفى عنها زوجها بالوصية من مال الزوج {غير إخراج } أي لا يخرجن من بيوت الأزواج {فإن خرجن } بأنفسهن قبل الحول من غير أن يخرجهن الورثة وقيل أن المراد إذا خرجن بعد مضي الحول وقد مضت العدة فإن بمعنى إذا عن القاضي وغيره .
{فلا جناح عليكم } يا معشر أولياء الميت {فيما فعلن في أنفسهن من معروف } اختلفوا في رفع الجناح قيل لا جناح في قطع النفقة والسكنى عنهن عن الحسن والسدي قالا وهذا دليل على سقوط النفقة بالخروج وأن ذلك كان واجبا لهن بالإقامة إلى الحول فإن خرجن قبله بطل الحق الذي وجب لهن بالإقامة وقيل لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج لأن مقامها سنة في البيت غير واجب ولكن قد خيرها الله في ذلك عن الجبائي وقيل لا جناح عليكم أن تزوجن بعد انقضاء العدة وهذا أوجه وتقديره إذا خرجن من العدة بانقضاء السنة فلا جناح إن تزوجن .
وقوله {من معروف } يعني طلب النكاح والتزين {والله عزيز } قادر لا شيء يعجزه {حكيم } لا يصدر منه إلا ما تقتضيه الحكمة واتفق العلماء على أن هذه الآية منسوخة وقال أبوعبد الله ثم كان الرجل إذا مات أنفق على امرأته من صلب المال حولا ثم أخرجت بلا ميراث ثم نسختها آية الربع والثمن فالمرأة ينفق عليها من نصيبها وعنه قال نسختها يتربص بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ونسختها آية المواريث .
ولما قدم سبحانه بيان أحوال المعتدات عقبه ببيان ما يجب لهن من المتعة فقال {وللمطلقات متاع بالمعروف } اختلف فيه فقال سعيد بن جبير وأبو العالية والزهري إن المراد بهذا المتاع المتعة وأن المتعة واجبة لكل مطلقة وقال أبو علي الجبائي المراد به النفقة وهو المتاع المذكور في قوله متاعا إلى الحول وقال سعيد بن المسيب الآية منسوخة بقوله تعالى فنصف ما فرضتم وعندنا أنها مخصوصة بتلك الآية إن نزلتا معا وإن كانت تلك متأخرة فمنسوخة لأن عندنا لا تجب المتعة إلا للمطلقة التي لم يدخل بها ولم يفرض لها مهر فأما المدخول بها فلها مهر مثلها إن لم يسم لها مهر وإن سمي لها مهر فما سمي لها وغير المدخول بها المفروض مهرها لها نصف المهر ولا متعة في هذه الأحوال وبه قال الحسن فلا بد من تخصيص هذه الآية وذكرنا الكلام في المتعة عند قوله {ومتعوهن } .
وقوله {بالمعروف حقا على المتقين } مضى تفسيره وخص المتقين هنا كما خص المحسنين هناك {كذلك يبين الله لكم آياته } أي كما بين الله لكم الأحكام والآداب التي مضت مما تحتاجون إلى معرفتها في دينكم يبين لكم هذه الأحكام فشبه البيان الذي يأتي بالبيان الماضي والبيان هو الأدلة التي يفرق بها الحق والباطل {لعلكم تعقلون } معناه لكي تعقلوا آيات الله وقيل لعلكم تكمل عقولكم فإن العقل الغريزي إنما يكمل بالعقل المكتسب والمراد به استعمال العقل مع العلم به ومن لم يستعمل العقل فكأنه لا عقل له وهذا كقوله تعالى إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة جعلهم جهالا لأنهم آثروا هواهم على ما علموا أنه الحق .
__________________________
1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2 ، ص130-132 .
كانت العادة عند العرب قبل الإسلام ان الرجل إذا مات لم يكن لامرأته من ميراثه شيء إلا النفقة حولا كاملا ، على شريطة أن تعتد في بيت الميت ، فان خرجت قبل الحول سقطت نفقتها ، وهذه الآية اقرار وإمضاء صريح لما كان عليه العرب في حكم من مات زوجها ، وقد حصل هذا الإمضاء في أول الإسلام .
واتفق المفسرون والفقهاء قولا واحدا على نسخ هذه الآية بآيتين : الأولى التي حددت عدة الوفاة بأربعة أشهر وعشرة أيام ، وهي قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } [البقرة : 234] .
والثانية التي جعلت للزوجة نصيبا من تركة زوجها ، وهي قوله سبحانه : { وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ } [النساء : 12] . وعليه ، فان المرأة تنفق على نفسها من نصيبها .
ومع العلم بأن هذه الآية منسوخة قطعا نشرع بتفسيرها كما فعل المفسرون :
{والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} . أي يشرفون على الموت ، من باب تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه . {ويَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لأَزْواجِهِمْ} . كان يجب - قبل النسخ - على الذين تظهر لهم أمارات الموت أن يوصوا لأزواجهم بأن يمتعن بعدهم حولا كاملا بالنفقة والسكنى . ( غير إخراج ) . أي انما تجب لهن النفقة حولا إذا أردن الإقامة في دار الميت ، أما إذا خرجن من تلقائهن فتسقط النفقة ، والى هذا أشار سبحانه بقوله : { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ} . انكم غير مسؤولين عن نفقتهن ، ما دمتم لم تخرجوهن قبل الحول . . وبكلمة تجب النفقة لهن بالإقامة الاختيارية إلى الحول ، فان خرجن قبله سقط الوجوب .
{فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} . إذا خرجت المرأة من دار الميت فلها أن تترك الحداد ، وتتزين ، وتتعرض للخطَّاب ضمن الحدود الشرعية . . والمفهوم من هذا ان التي مات زوجها كانت مخيرة بين الإقامة في بيته حولا ، وتستحق النفقة بذلك ، وبين أن تخرج منه ، ولا شيء لها ، ولا سبيل لأحد عليها .
{ولِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} . المراد بالمتاع المنحة يعطيها المطلق لمطلقته ، مع مراعاة حاله عسرا ويسرا ، كما سبق في الآية 236 . ولفظ المطلقات عام يشمل كل مطلقة ، وهي على أربعة أقسام :
1 - مطلقة مدخول بها ، وقد فرض لها مهر معين في متن العقد ، وهذه لها كل المهر المفروض . قال تعالى : {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [البقرة : 229] .
2 - مطلقة غير مدخول بها ، وقد فرض لها مهر معين ، ولها نصف المهر المفروض . قال سبحانه : {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة : 237] .
3 - مطلقة مدخول بها ، ولم يفرض لها مهر ، ولها مهر المثل بإجماع المسلمين كافة .
4 - مطلقة غير مدخول بها ، ولم يفرض لها شيء في متن العقد ، وهذه لا مهر لها ، وانما لها المتعة ، قال جل جلاله : { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ } [البقرة : 236] .
ونستخلص من مجموع الأدلة ان المتعة تجب للمطلقة غير المدخول بها ، ولم يفرض لها مهر فحسب ، أما غيرها فلا تجب لها المتعة ، بل يترك الأمر للمطلق ، ان شاء منحها ، وان شاء منعها ، وقيل : يستحب أن يمنحها . {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } . أي تعملون ، لأن من لا يتعظ ويعمل بآيات اللَّه وأحكامه بمنزلة من لا عقل له .
_______________________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص370-372 .
قوله تعالى : {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم} . وصية مفعول مطلق لمقدر ، والتقدير ليوصوا وصية ينتفع به أزواجهم ويتمتعن متاعا إلى الحول بعد التوفي .
وتعريف الحول باللام لا يخلو عن دلالة على كون الآية نازلة قبل تشريع عدة الوفاة ، أعني الأربعة أشهر وعشرة أيام فإن عرب الجاهلية كانت نساؤهم يقعدن بعد موت أزواجهن حولا كاملا ، فالآية توصي بأن يوصي الأزواج لهن بمال يتمتعن به إلى تمام الحول من غير إخراجهن من بيوتهن ، غير أن هذا لما كان حقا لهن والحق يجوز تركه كان لهن أن يطالبن به ، وأن يتركنه فإن خرجن فلا جناح للورثة ومن يجري مجراهم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف ، وهذا نظير ما أوصى الله به من حضره الموت أن يوصي للوالدين والأقربين بالمعروف ، قال تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة : 180] .
ومما ذكرنا يظهر أن الآية منسوخة بآية عدة الوفاة وآية الميراث بالربع والثمن .
قوله تعالى : {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين} ، الآية في حق مطلق المطلقات ، وتعليق ثبوت الحكم بوصف التقوى مشعر بالاستحباب .
قوله تعالى : {كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون} ، الأصل في معنى العقل العقد والإمساك وبه سمي إدراك الإنسان إدراكا يعقد عليه عقلا ، وما أدركه عقلا ، والقوة التي يزعم أنها إحدى القوى التي يتصرف بها الإنسان يميز بها بين الخير والشر والحق والباطل عقلا ، ويقابله الجنون والسفه والحمق والجهل باعتبارات مختلفة .
والألفاظ المستعملة في القرآن الكريم في أنواع الإدراك كثيرة ربما بلغت العشرين ، كالظن ، والحسبان ، والشعور ، والذكر ، والعرفان ، والفهم ، والفقه ، والدراية ، واليقين ، والفكر ، والرأي ، والزعم ، والحفظ ، والحكمة ، والخبرة ، والشهادة ، والعقل ، ويلحق بها مثل القول ، والفتوى ، والبصيرة ونحو ذلك .
والظن هو التصديق الراجح وإن لم يبلغ حد الجزم والقطع ، وكذا الحسبان ، غير أن الحسبان كان استعماله في الإدراك الظني استعمال استعاري ، كالعد بمعنى الظن وأصله من نحو قولنا : عد زيدا من الأبطال وحسبه منهم أي ألحقه بهم في العد والحساب .
والشعور هو الإدراك الدقيق مأخوذ من الشعر لدقته ، ويغلب استعماله في المحسوس دون المعقول ، ومنه إطلاق المشاعر للحواس .
والذكر هو استحضار الصورة المخزونة في الذهن بعد غيبته عن الإدراك أو حفظه من أن يغيب عن الإدراك .
والعرفان والمعرفة تطبيق الصورة الحاصلة في المدركة على ما هو مخزون في الذهن ولذا قيل : إنه إدراك بعد علم سابق .
والفهم : نوع انفعال للذهن عن الخارج عنه بانتقاش الصورة فيه .
والفقه : هو التثبت في هذه الصورة المنتقشة فيه والاستقرار في التصديق .
والدراية : هو التوغل في ذلك التثبت والاستقرار حتى يدرك خصوصية المعلوم وخباياه ومزاياه ، ولذا يستعمل في مقام تفخيم الأمر وتعظيمه ، قال تعالى : {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة : 1 - 3] ، وقال تعالى : {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر : 1 ، 2] .
واليقين : هو اشتداد الإدراك الذهني بحيث لا يقبل الزوال والوهن .
والفكر نحو سير ومرور على المعلومات الموجودة الحاضرة لتحصيل ما يلازمها من المجهولات .
والرأي : هو التصديق الحاصل من الفكر والتروي ، غير أنه يغلب استعماله في العلوم العملية مما ينبغي فعله وما لا ينبغي دون العلوم النظرية الراجعة إلى الأمور التكوينية ، ويقرب منه البصيرة ، والإفتاء ، والقول ، غير أن استعمال القول كأنه استعمال استعاري من قبيل وضع اللازم موضع الملزوم لأن القول في شيء يستلزم الاعتقاد بما يدل عليه .
والزعم : هو التصديق من حيث إنه صورة في الذهن سواء كان تصديقا راجحا أو جازما قاطعا .
والعلم كما مر : هو الإدراك المانع من النقيض .
و- الحفظ - : ضبط الصورة المعلومة بحيث لا يتطرق إليه التغيير والزوال .
والحكمة : هي الصورة العلمية من حيث إحكامها وإتقانها .
و- الخبرة - : هو ظهور الصورة العلمية بحيث لا يخفى على العالم ترتب أي نتيجة على مقدماتها .
والشهادة : هو نيل نفس الشيء وعينه إما بحس ظاهر كما في المحسوسات أو باطن كما في الوجدانيات نحو العلم والإرادة والحب والبغض وما يضاهي ذلك .
والألفاظ السابقة على ما عرفت من معانيها لا تخلو عن ملابسة المادة والحركة والتغير ، ولذلك لا تستعمل في مورده تعالى غير الخمسة الأخيرة منها أعني العلم والحفظ والحكمة والخبرة والشهادة ، فلا يقال فيه تعالى : إنه يظن أو يحسب أو يزعم أو يفهم أو يفقه أو غير ذلك .
وأما الألفاظ الخمسة الأخيرة فلعدم استلزامها للنقص والفقدان تستعمل في مورده تعالى ، قال سبحانه : {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [النساء : 176] ، وقال تعالى : { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } [سبأ : 21] ، وقال تعالى : {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة : 234] ، وقال تعالى : {هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف : 83] ، وقال تعالى : {أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [فصلت : 53] .
ولنرجع إلى ما كنا فيه فنقول : لفظ العقل على ما عرفت يطلق على الإدراك من حيث إن فيه عقد القلب بالتصديق ، على ما جبل الله سبحانه الإنسان عليه من إدراك الحق والباطل في النظريات ، والخير والشر والمنافع والمضار في العمليات حيث خلقه الله سبحانه خلقة يدرك نفسه في أول وجوده ، ثم جهزه بحواس ظاهرة يدرك بها ظواهر الأشياء ، وبأخرى باطنه يدرك معاني روحية بها ترتبط نفسه مع الأشياء الخارجة عنها كالإرادة ، والحب والبغض ، والرجاء ، والخوف ، ونحو ذلك ، ثم يتصرف فيها بالترتيب والتفصيل والتخصيص والتعميم ، فيقضي فيها في النظريات والأمور الخارجة عن مرحلة العمل قضاء نظريا ، وفي العمليات والأمور المربوطة بالعمل قضاء عمليا ، كل ذلك جريا على المجرى الذي تشخصه له فطرته الأصلية ، وهذا هو العقل .
لكن ربما تسلط بعض القوى على الإنسان بغلبته على سائر القوى كالشهوة والغضب فأبطل حكم الباقي أو ضعفه ، فخرج الإنسان بها عن صراط الاعتدال إلى أودية الإفراط والتفريط ، فلم يعمل هذا العامل العقلي فيه على سلامته ، كالقاضي الذي يقضي بمدارك أو شهادات كاذبة منحرفة محرفة ، فإنه يحيد في قضائه عن الحق وإن قضى غير قاصد للباطل ، فهو قاض وليس بقاض ، كذلك الإنسان يقضي في مواطن المعلومات الباطلة بما يقضي ، وأنه وإن سمى عمله ذلك عقلا بنحو من المسامحة ، لكنه ليس بعقل حقيقة لخروج الإنسان عند ذلك عن سلامة الفطرة وسنن الصواب .
وعلى هذا جرى كلامه تعالى ، فإنه يعرف العقل بما ينتفع به الإنسان في دينه ويركب به هداه إلى حقائق المعارف وصالح العمل ، وإذا لم يجر على هذا المجرى فلا يسمى عقلا ، وإن عمل في الخير والشر الدنيوي فقط ، قال تعالى { وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك : 10] .
وقال تعالى : {فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج : 46] .
فالآيات كما ترى تستعمل العقل في العلم الذي يستقل الإنسان بالقيام عليه بنفسه ، والسمع في الإدراك الذي يستعين فيه بغيره مع سلامة الفطرة في جميع ذلك ، وقال تعالى : {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } [البقرة : 130] وقد مر أن الآية بمنزلة عكس النقيض لقوله (عليه السلام) : العقل ما عبد به الرحمن الحديث .
فقد تبين من جميع ما ذكرنا : أن المراد بالعقل في كلامه تعالى هو الإدراك الذي يتم للإنسان مع سلامة فطرته ، وبه يظهر معنى قوله سبحانه : {كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون} ، فبالبيان يتم العلم ، والعلم مقدمة للعقل ووسيلة إليه كما قال تعالى : {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت : 43] .
___________________________
1- الميزان ، الطباطبائي ، ج2 ، ص210-214 .
قسم آخر من أحكام الطّلاق :
تعود هذه الآيات لتذكر بعض مسائل الزواج والطّلاق والاُمور المتعلّقة بها ، وفي البداية تتحدّث عن الأزواج الّذين يتوسّدون فراش الإحتضار ولهم زوجات فتقول : {والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصيّة لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج} .
أي أنّ الأشخاص من المسلمين إذا حانت ساعة وفاتهم وبقيت زوجاتهم على قيد الحياة فينبغي أن يوصوا بأزواجهم في النفقة والسكن في ذلك البيت لمدّة سنة كاملة ، وهذا طبعاً في صورة ما إذا بقيت الزوجة في بيت زوجها ولم تخرج خارج البيت ، ولهذا تضيف الآية : {فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف} كأن يخترن زوجاً جديداً ، فلا مانع من ذلك ولا إثم عليكم ، ولكن يسقط حقّها في النفقة والسكنى .
وفي ختام الآية تشير إلى أنّه لا ينبغي التخوّف من عاقبة خروج النسوة ، فتقول بأنّ الله قادر على فتح أبواب اُخرى أمامهنّ بعد وفاة الأزواج فلو حدثت مشكلة في البيت ولحقت بها مصيبة فإنّ ذلك سيكون لحكمة حتماً لأنّ الله تعالى عزيز حكيم {والله عزيز حكيم} ، فلو أغلق باباً بحكمته فسوف يفتح اُخرى بلطفه ، فلا محلّ للقلق والتخوّف ، ويُعلم من ذلك أنّ جملة {يتوفّون} هنا لا تعني الموت ، بل تعني المُشرف على الموت بقرينة ذكر الوصيّة .
وقوله {فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف} تدلّ على وجوب دفع ورثة الزّوج نفقة الزوجة لمدّة سنة كاملة ، وفيما إذا لم ترض هذه المرأة بالبقاء في بيت الزوج والإستفادة من النفقة ، فلا مانع من ذلك ، ولا مانع كذلك من أن تختار زوجاً آخر أيضاً ، ولكنّ بعض المفسّرين ذكر تفسيراً آخر لهذه العبارة وهو أنّها إذا صبرت في بيت زوجها مدّة سنة كاملة ثمّ خرجت من البيت فتزوّجت فلا مانع من ذلك .
وطبقاً للتفسير الثاني يجب على المرأة العدّة لمدّة سنة كاملة ، ولكن على التفسير الأوّل لا يلزم ذلك . وبعبارة أُخرى أنّ دوام العدّة لمدّة سنة كاملة على التفسير الأوّل يُعتبر حقٌّ للمرأة ، ولكنّه على التفسير الثاني حكم وإلزام ، ولكنّ ظاهر الآية ينسجم أكثر مع التفسير الأوّل ، لأنّ ظاهر الجملة الأخيرة هو أنّه إستثناء من الحكم السابق .
_______________________________
1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2 ، ص46-47 .
|
|
تفوقت في الاختبار على الجميع.. فاكهة "خارقة" في عالم التغذية
|
|
|
|
|
أمين عام أوبك: النفط الخام والغاز الطبيعي "هبة من الله"
|
|
|
|
|
قسم شؤون المعارف ينظم دورة عن آليات عمل الفهارس الفنية للموسوعات والكتب لملاكاته
|
|
|