المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 17761 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر المرجع الالكتروني للمعلوماتية
{افان مات او قتل انقلبتم على اعقابكم}
2024-11-24
العبرة من السابقين
2024-11-24
تدارك الذنوب
2024-11-24
الإصرار على الذنب
2024-11-24
معنى قوله تعالى زين للناس حب الشهوات من النساء
2024-11-24
مسألتان في طلب المغفرة من الله
2024-11-24

المـعالجـة المـحاسبيـة لعمليـات المـرابـحة البـسيـطـة
2023-07-27
تساقط ثمار القشطة
2023-09-11
من اصحاب الامام الرضا
28-7-2016
الكاربون ١٤ carbon 14
9-3-2018
مشكلات قياس المطر(التساقط لسائل)
2-1-2016
نظافة اواني الطعام والشراب
11-9-2016


تفسير آية (1-2) من سورة المائدة  
  
16684   04:38 مساءً   التاريخ: 28-2-2017
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : ......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الميم / سورة المائدة /


قال تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة : 1 ، 2] .

 

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير هاتين الآيتين (1) :

قال تعالى : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة : 1].

 خاطب الله سبحانه المؤمنين ، فقال : {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وتقديره : يا أيها المؤمنون ، وهو اسم تكريم وتعظيم {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} أي : بالعهود ، عن ابن عباس ، وجماعة من المفسرين ، ثم اختلف في هذه العهود على أقوال أحدها : إن المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضا فيها على النصرة ، والمؤازرة ، والمظاهرة ، على من حاول ظلمهم ، أو بغاهم سوءا ، وذلك هو معنى الحلف ، عن ابن عباس ، ومجاهد ، والربيع بن انس ، والضحاك ، وقتادة ، والسدي . وثانيها : إنها العهود التي أخذ الله سبحانه على عباده بالإيمان به وطاعته ، فيما أحل لهم ، أو حرم عليهم ، عن ابن عباس أيضا ، وفي رواية أخرى قال : هو ما أحل وحرم ، وما فرض وما حد في القرآن كله أي : فلا تتعدوا فيه ، ولا تنكثوا . ويؤيده قوله {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} إلى قوله {سُوءُ الدَّارِ} وثالثها : إن المراد بها العقود التي يتعاقدها الناس بينهم ، ويعقدها المرء على نفسه ، كعقد الإيمان ، وعقد النكاح ، وعقد العهد ، وعقد البيع ، وعقد الحلف ، عن ابن زيد ، وزيد بن أسلم ورابعها : إن ذلك أمر من الله لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم من العمل بما في التوراة والإنجيل ، في تصديق نبينا ، وما جاء به من عند الله ، عن ابن جريج ، وأبي صالح ، وأقوى هذه الأقوال قول ابن عباس : إن المراد بها عقود الله التي أوجبها الله على العباد في الحلال ، والحرام ، والفرائض ، والحدود ، ويدخل في ذلك جميع الأقوال الأخر ، فيجب الوفاء بجميع ذلك ، إلا ما كان عقدا في المعاونة على أمر قبيح ، فإن ذلك محظور بلا خلاف .

ثم ابتدأ سبحانه كلاما آخر فقال : {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} واختلف في تأويله على أقوال أحدها : إن المراد به الأنعام ، وإنما ذكر البهيمة للتأكيد كما يقال :
نفس الإنسان . فمعناه أحلت لكم الأنعام : الإبل ، والبقر ، والغنم ، عن الحسن ، وقتادة ، والسدي ، والربيع ، والضحاك . وثانيها : إن المراد بذلك ، أجنة الأنعام التي توجد في بطون أمهاتها ، إذا شعرت ، وقد ذكيت الأمهات ، وهي ميتة ، فذكاتها ذكاة أمهاتها ، عن ابن عباس ، وابن عمر ، وهو المروي عن أبي جعفر ، وأبي عبد الله عليهما السلام . وثالثها : إن بهيمة الأنعام : وحشيها كالظباء ، وبقر الوحش ، وحمر الوحش ، عن الكلبي ، والفراء .

والأولى حمل الآية على الجميع . {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} ، معناه : إلا ما يقرأ عليكم تحريمه في القرآن ، وهو قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} الآية ، عن ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، والسدي . {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} من قال إنه حال من {أَوْفُوا} فمعناه : أوفوا بالعقود غير محلي الصيد وأنتم محرمون أي في حال الإحرام . ومن قال : إنه حال من {أُحِلَّتْ لَكُمْ} فمعناه {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} أي : الوحشية من الظباء ، والبقر ، والحمر ، غير مستحلين اصطيادها في حال الإحرام ، ومن قال : إنه حال من {يُتْلَى عَلَيْكُمْ} فمعناه : أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها ، إلا ما يتلى عليكم من الصيد في آخر السورة ، غير مستحلين اصطيادها في حال إحرامكم {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} معناه : إن الله يقضي في خلقه ما يشاء من تحليل ما يريد ، وتحريم ما يريد تحريمه ، وإيجاب ما يريد إيجابه ، وغير ذلك من أحكامه وقضاياه ، فافعلوا ما أمركم به ، وانتهوا عما نهاكم عنه في قوله {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} دلالة على تحليل أكلها وذبحها ، والانتفاع بها .

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة : 2] .

ثم ابتدأ سبحانه بتفصيل الأحكام فقال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أي : صدقوا الله ورسوله ، فيما أوجب عليهم {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} اختلف في معنى شعائر الله على أقوال : أحدها : إن معناه لا تحلوا حرمات الله ، ولا تتعدوا حدود الله ، وحملوا الشعائر على المعالم أي : معالم حدود الله ، وأمره ونهيه ، وفرائضه ، عن عطاء ، وغيره . وثانيها : إن معناه لا تحلوا حرم الله ، وحملوا الشعائر على المعالم أي : معالم حرم الله من البلاد ، عن السدي وثالثها : إن معنى شعائر الله : مناسك الحج ، أي : لا تحلوا مناسك الحج فتضيعوها ، عن ابن جريج ، وابن عباس .

ورابعها : ما روي عن ابن عباس أن المشركين كانوا يحجون البيت ، ويهدون الهدايا ، ويعظمون حرمة المشاعر ، وينحرون في حجهم . فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ، فنهاهم الله عن ذلك . وخامسها : إن شعائر الله هي : الصفا ، والمروة ، والهدي من البدن ، وغيرها ، عن مجاهد .

وقال الفراء : كانت عامة العرب لا ترى الصفا والمروة من شعائر الله ، ولا يطوفون بينهما ، فنهاهم الله عن ذلك ، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام .
وسادسها : إن المراد لا تحلوا ما حرم الله عليكم في إحرامكم ، عن ابن عباس ، في رواية أخرى . وسابعها : إن الشعائر هي العلامات المنصوبة للفرق بين الحل والحرم ، نهاهم الله سبحانه أن يتجاوزوها إلى مكة بغير إحرام ، عن أبي علي الجبائي . وثامنها : إن المعنى لا تحلوا الهدايا المشعرة أي : المعلمة ، لتهدى إلى بيت الله الحرام ، عن الزجاج ، والحسين بن علي المغربي ، واختاره البلخي . وأقوى الأقوال هو القول الأول ، لأنه يدخل فيه جميع الأقوال من مناسك الحج وغيرها ، وحمل الآية على ما هو الأعم أولى . {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} معناه : ولا تستحلوا الشهر الحرام بأن تقاتلوا فيه أعداءكم من المشركين ، كما قال تعالى : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} عن ابن عباس ، وقتادة .

واختلف في معنى الشهر الحرام هنا ، فقيل : هو رجب ، وكانت مضر تحرم فيه القتال . وقيل : هو ذو القعدة ، عن عكرمة . وقيل : هي الأشهر الحرم كلها ، نهاهم الله عن القتال فيها ، عن الجبائي ، والبلخي ، وهذا أليق بالعموم . وقيل : أراد به النسئ كقوله {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} عن القتيبي . {وَلَا الْهَدْيَ} أي : ولا تستحلوا الهدي : وهو ما يهديه الإنسان من بعير ، أو بقرة ، أو شاة ، إلى بيت الله ، تقربا إليه ، وطلبا لثوابه . فيكون المعنى : ولا تستحلوا ذلك ، فتغصبوه أهله ، ولا تحولوا بينهم وبين أن تبلغوه محله من الحرم ، ولكن خلوهم حتى يبلغوا به المحل الذي جعله الله له .

وقوله {وَلَا الْقَلَائِدَ} معناه : ولا تحلوا القلائد ، وفيه أقوال أحدها : إنه عنى بالقلائد الهدي المقلد ، وإنما كرر لأنه أراد المنع من حل الهدي الذي لم يقلد ، والهدي الذي قلد ، عن ابن عباس ، واختاره الجبائي . وثانيها : إن المراد بذلك القلائد التي كان المشركون يتقلدونها إذا أرادوا الحج ، مقبلين إلى مكة ، من لحاء السمر (2) ، فإذا خرجوا منها إلى منازلهم منصرفين منها إلى المشعر ، عن قتادة قال :
كان في الجاهلية ، إذا خرج الرجل من أهله ، يريد الحج ، يقلد من السمر ، فلا يتعرض له أحد ، وإذا رجع يقلد قلادة شعر ، فلا يتعرض له أحد . وقال عطا : إنهم كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم ، يأمنون به إذا خرجوا من الحرم . وقال الفراء : أهل الحرم كانوا يتقلدون بلحاء الشجر ، وأهل غير الحرم كانوا يتقلدون بالصوف ، والشعر ، وغيرهما .

وثالثها : إنه عنى به المؤمنين ، نهاهم أن ينزعوا شيئا من شجر الحرم ، يتقلدون به ، كما كان المشركون يفعلونه في جاهليتهم ، عن عطا في رواية أخرى ، والربيع بن أنس . ورابعها : إن القلائد ما يقلد به الهدي ، نهاهم عن حلها ، لأنه كان يجب أن يتصدق بها ، عن أبي علي الجبائي ، قال : هو صوف يفتل ويعلق به على عنق الهدي . وقال الحسن : هو نعل يقلد بها الإبل ، والبقر ، ويجب التصدق بها إن كانت لها قيمة . والأولى أن يكون نهيا عن استحلال القلائد ، فيدخل الإنسان والبهيمة ، أو يكون نهيا عن استحلال حرمة المقلد ، هديا كان ذلك ، أو إنسانا {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ} أي : ولا تحلوا قاصدين البيت {الْحَرَامَ} أي : لا تقاتلوهم لأنه من قاتل في الأشهر الحرم ، فقد أحل ، فقال : لا تحلوا قتال الآمين البيت الحرام : أي القاصدين . والبيت الحرام : بيت الله بمكة ، وهو الكعبة ، سمي حراما لحرمته .

وقيل : لأنه يحرم فيه ما يحل في غيره . واختلف في المعني بذلك فمنهم من حمله على الكفار ، واستدل بقوله فيما بعد : {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ} الآية . ومنهم من حمله على من أسلم ، فكأنه نهى أن يؤخذ بعد الإسلام بذحل (3) الجاهلية ، لان الإسلام يجب ما قبله .

{يَبْتَغُونَ} أي : يطلبون يعني الذين يأمون البيت {فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} أي : أرباحا في تجاراتهم من الله ، وأن يرضى عنهم بنسكهم على زعمهم ، فلا يرضى الله عنهم وهم مشركون . وقيل : يلتمسون رضوان الله عنهم ، بأن لا يحل بهم ما حل بغيرهم من الأمم من العقوبة ، في عاجل دنياهم ، عن قتادة ، ومجاهد .
وقيل : فضلا من الله في الآخرة ، ورضوانا منه فيها . وقيل : فضلا في الدنيا ، ورضوانا في الآخرة ، وقال ابن عباس : إن ذلك في كل من توجه حاجا ، وبه قال الضحاك ، والربيع .

واختلف في هذا فقيل هو منسوخ بقوله {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} عن أكثر المفسرين . وقيل : لم ينسخ في هذه السورة شيء ، ولا من هذه الآية ، لأنه لا يجوز أن يبتدئ المشركون في الأشهر الحرم بالقتال ، إلا إذا قاتلوا ، عن ابن جريج ، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام ، وروي نحوه عن الحسن . وذكر أبو مسلم : إن المراد به الكفار الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فلما زال العهد بسورة براءة ، زال ذلك الحظر ، ودخلوا في حكم قوله تعالى {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} . وقيل : لم ينسخ من المائدة غير هذه الآية {لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ} عن الشعبي ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، وابن زيد . وقيل : إنما نسخ منها قوله {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} إلى {آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} ذكر ذلك ابن أبي عروبة ، عن قتادة قال : نسخها قوله {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وقوله {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} وقوله {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} في السنة التي نادى فيها بالأذان ، وهو قول ابن عباس . وقيل : لم ينسخ من هذه الآية إلا القلائد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد .

{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} معناه : إذا حللتم من إحرامكم فاصطادوا فيها الصيد الذي نهيتم أن تحلوا ، فاصطادوه إن شئتم حينئذ ، لان السبب المحرم قد زال ، عند جميع المفسرين {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ} أي : ولا يحملنكم . وقيل : لا يكسبنكم {شَنَآنُ قَوْمٍ} أي : بغضاء قوم {أَنْ صَدُّوكُمْ} أي : لأن صدوكم أي : لأجل أنهم صدوكم {عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} يعني النبي وأصحابه ، لما صدوهم عام الحديبية {أَنْ تَعْتَدُوا} ومعناه : لا يكسبنكم بغضكم قوما الاعتداء عليهم ، بصدهم إياكم عن المسجد الحرام . قال أبو علي الفارسي : معناه لا تكتسبوا لبغض قوم عدوانا ، ولا تقترفوه . هذا فيمن فتح أن ، ويوقع النهي في اللفظ على الشنآن ، والمعني بالنهي المخاطبون كما قالوا : لا أرينك ههنا {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . ومن جعل {شَنَآنُ} صفة ، فقد أقام الصفة مقام الموصوف ، ويكون تقديره . ولا يحملنكم بغض قوم والمعنى على الأولى . ومن قرأ : {أَنْ صَدُّوكُمْ} بكسر الألف ، فقد مر ذكر معناه و {أَنْ تَعْتَدُوا} معناه : أن تتجاوزوا حكم الله فيهم إلى ما نهاكم عنه .

نهى الله المسلمين عن الطلب بذحول الجاهلية ، عن مجاهد ، وقال : هذا غير منسوخ ، وهو الأولى . وقال ابن زيد : وهو منسوخ {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} وهو استئناف كلام ، وليس بعطف على {تَعْتَدُوا} فيكون في موضع نصب . أمر الله عباده بأن يعين بعضهم بعضا على البر والتقوى ، وهو العمل بما أمرهم الله تعالى به ، واتقاء ما نهاهم عنه ، ونهاهم أن يعين بعضهم بعضا على الإثم ، وهو ترك ما أمرهم به ، وارتكاب ما نهاهم عنه ، من العدوان ، وهو مجاوزة ما حد الله لعباده في دينهم ، وفرض لهم في أنفسهم ، عن ابن عباس ، وأبي العالية ، وغيرهما من المفسرين .

{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} : هذا أمر منه تعالى بالتقوى ، ووعيد ، وتهديد لمن تعدى حدوده ، وتجاوز أمره يقول : احذروا معصية الله فيما أمركم به ، ونهاكم عنه ، فتستوجبوا عقابه ، وتستحقوا عذابه . ثم وصف تعالى عقابه بالشدة .
لأنه نار لا يطفأ حرها ، ولا يخمد جمرها ، نعوذ بالله منها!

_____________________________

1 . تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 259-267 .

2 . اللحاء : قشر الشجرة . السمر : شجر معروف واحدتها سمرة .

3 . الذحل : الثأر . وقيل العداوة والحقد . وقيل طلب مكافأة بجناية جنيت عليك .

 

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنيه في تفسير هاتين الآيتين (1) :

تدور آيات القرآن حول العقيدة ، والعبادة ، والشريعة ، والأخلاق ، والرئاسة الدينية والدنيوية ، والقضاء والجهاد ، وتعرف الآيات الواردة في الشريعة بما فيها العبادة ، تعرف بآيات الأحكام عند الفقهاء ، وتبلغ حوالي خمسمائة آية ، ومنها قوله تعالى  :
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . وهذه الجملة على إيجازها عظيمة النفع ، فإنها الأصل والأساس لإجماع المذاهب على وجوب الوفاء بما يقع عليه التراضي بين اثنين ، مع توافر الشروط التي اعتبرها الشرع من البلوغ والعقل في المتعاقدين وقابلية الشيء المعقود عليه للتملك ، وعدم استلزامه تحليل الحرام ، أو تحريم الحلال ، وما إلى ذلك مما جاء في كتب الفقه ، ومنها الجزء الثالث من فقه الإمام جعفر الصادق .

{أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعامِ} . الأنعام هي الإبل والبقر والغنم والمعز الأهلية والوحشية ، وتقع البهيمة على الأنعام وغيرها من الحيوانات التي لا نطق لها ، وعلى هذا تكون إضافة البهيمة إلى الأنعام من باب إضافة الشيء إلى ما هو أخص منه . وبعد أن أحلّ اللَّه أكل الأنعام جاء هذا الاستثناء { إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ} .

وقد تلا علينا جل ثناؤه صنفين من الأنعام : الأول ما أشار إليه بقوله : { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأَنْتُمْ حُرُمٌ } . والثاني ما أشار إليه في الآية الثالثة « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ والدَّمُ . . . » . ويأتي الكلام عن هذا الصنف قريبا  .

ومعنى {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأَنْتُمْ حُرُمٌ} ان الأنعام التي أحل اللَّه لنا أكلها هي الأنعام الأهلية ، أو الوحشية التي لم نتصيدها حال الإحرام ، أما المصطادة في هذه الحال ، فأكلها حرام ، لأن كل ما يصطاده المحرم فلا يجوز أكله ، سواء أ كان من الأنعام ، أم من غيره ، ويأتي التفصيل عند تفسير الآية 97 وما بعدها من هذه السورة .
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ} . وشعائره جل وعز هي أحكام دينه ، ومن أظهرها مناسك الحج والعمرة ، قال تعالى : {ذلِكَ ومَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج - 32 ] ، ومعنى النهي عن تحليل أحكام دين اللَّه ان لا نحرفها ، ونتصرف فيها كما نشاء . { ولَا الشَّهْرَ الْحَرامَ } أي لا تحلوا القتال في الشهر الحرام ، والمراد به الأشهر الأربعة : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ، لأن الألف واللام في الشهر للاستغراق . { ولَا الْهَدْيَ } وهو ما يهدى إلى بيت اللَّه من الإبل والبقر والغنم ، والمراد ان لا يتعرض أحد لها بغصب أو منع من بلوغها البيت الحرام . { ولَا الْقَلائِدَ } أي ولا ذوات القلائد فقد كانوا يقلدون الهدي بنعل أو حبل وما إليه ، ليعرف فلا يتعرض له أحد ، وإنما ذكر ذوات القلائد بعد الهدي ، مع ان الهدي يقع عليها وعلى غيرها - للاهتمام بها ، تماما كقوله تعالى : { حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلاةِ الْوُسْطى}.

{ولَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ ورِضْواناً} . أي لا تقاتلوا أحدا قصد بيت اللَّه ، سواء أقصده للعبادة أم التجارة . {وإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا}.
لأن الصيد يحرم في حال الإحرام ، وفي ارض الحرم مطلقا ، فإذا لم يكن الإنسان محرما ولا في أرض الحرم فالصيد وأكل المصيد حلال ، لزوال المانع . . والأمر في قوله : {فَاصْطادُوا} للإباحة ، لأنه ورد بعد النهي  .

{ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا} . في سنة ست للهجرة كان المشركون هم المسيطرين على مكة والبيت الحرام ، وأراد النبي والصحابة أن يزوروا البيت في هذه السنة فصدهم عنه المشركون ، وفي حجة الوداع كانت السيطرة على مكة والبيت للمسلمين ، فنزلت هذه الآية ، ومعناها لا ينبغي لكم أيها المسلمون أن يحملكم بغض المشركين لكم ، أو بغضكم لهم على أن تمنعوهم عن البيت الحرام بعد أن أظهركم اللَّه عليهم ، لأنهم منعوكم من قبل . وقد كان هذا قبل أن تنزل الآية 29 من سورة التوبة : {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا}.

وتسأل : ألم يقل اللَّه سبحانه : {فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ} [البقرة ، 194] ؟

الجواب : ان هذه الآية نزلت في القصاص ، والمعاملة بالمثل في موارد خاصة ، كالحرب وقطع الأعضاء ، أي من قاتلكم فقاتلوه ، ومن قطع يد غيره تقطع يده ، وما إلى ذلك . . أما من منع وصد عن عبادة اللَّه والتجارة والزراعة فلا يجوز أن يمنع هو عن ذلك ، بل يجازى بعقوبة أخرى .

والخلاصة ان جزاء المعتدي قد يكون بالمثل ، وقد يكون بغيره ، وفي سائر الأحوال ينبغي أن يكون الجزاء انتصارا للحق ، لا تشفيا وانتقاما .

الثورة والثورة المضادة  :

{وتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ والتَّقْوى ولا تَعاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ والْعُدْوانِ} . من الألفاظ التي كثر تداولها اليوم على ألسنة المتكلمين ، وأقلام الكتّاب لفظ الثورة والثورة المضادة . . ويعنون بالثورة تعاون المخلصين ونضالهم ضد التخلف والأوضاع الفاسدة ، ويعنون بالثورة المضادة تكتل الرجعيين والخائنين وتعاونهم على مقاومة كل محاولة لتغيير التقاليد الضارة الفاسدة .  

وظاهر الآية الكريمة يخوّل لنا ان نطبق قوله تعالى : {ولا تَعاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ والْعُدْوانِ} على الثورة المضادة لكل خير وتقدم  .

______________________

1. تفسير الكاشف ، ج3 ، ص 6-9 .

 

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير هاتين الآيتين (1) :

قوله تعالى : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } العقود جمع عقد وهو شد أحد شيئين بالآخر نوع شد يصعب معه انفصال أحدهما عن الآخر ، كعقد الحبل والخيط بآخر من مثله ، ولازمه التزام أحدهما الآخر ، وعدم انفكاكه عنه ، وقد كان معتبرا عندهم في الأمور المحسوسة أولا ثم أستعير فعمم للأمور المعنوية كعقود المعاملات الدائرة بينهم من بيع أو إجارة أو غير ذلك ، وكجميع العهود والمواثيق فأطلقت عليها الكلمة لثبوت أثر المعنى الذي عرفت أنه اللزوم والالتزام فيها .

ولما كان العقد ـ وهو العهد ـ يقع على جميع المواثيق الدينية التي أخذها الله من عباده من أركان وأجزاء كالتوحيد وسائر المعارف الأصلية والأعمال العبادية والأحكام المشروعة تأسيسا أو إمضاء ، ومنها عقود المعاملات وغير ذلك ، وكان لفظ العقود أيضا جمعا محلى باللام لا جرم كان الأوجه حمل العقود في الآية على ما يعم كل ما يصدق عليه أنه عقد.

وبذلك يظهر ضعف ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بالعقود العقود التي يتعاقدها الناس بينهم كعقد البيع والنكاح والعهد ، أو يعقدها الإنسان على نفسه كعقد اليمين.

وكذا ما ذكره بعض آخر : أن المراد بها العهود التي كان أهل الجاهلية عاهد بعضهم بعضا فيها على النصرة والمؤازرة على من يقصدهم بسوء أو يبغي عليهم ، وهذا هو الحلف الدائر بينهم .

وكذا ما ذكره آخرون : أن المراد بها المواثيق المأخوذة من أهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والإنجيل فهذه وجوه لا دليل على شيء منها من جهة اللفظ. على أن ظاهر الجمع المحلى باللام وإطلاق العقد عرفا بالنسبة إلى كل عقد وحكم لا يلائمها ، فالحمل على العموم هو الأوجه .

( كلام في معنى العقد )

يدل الكتاب كما ترى من ظاهر قوله تعالى : { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } على الأمر بالوفاء بالعقود ، وهو بظاهره عام يشمل كل ما يصدق عليه العقد عرفا مما يلائم الوفاء. والعقد هو كل فعل أو قول يمثل معنى العقد اللغوي ، وهو نوع ربط شيء بشيء آخر بحيث يلزمه ولا ينفك عنه كعقد البيع الذي هو ربط المبيع بالمشتري ملكا بحيث كان له أن يتصرف فيه ما شاء ، وليس للبائع بعد العقد ملك ولا تصرف ، وكعقد النكاح الذي يربط المرأة بالرجل بحيث له أن يتمتع منها تمتع النكاح ، وليس للمرأة أن تمتع غيره من نفسها ، وكالعهد الذي يمكن فيه العاهد المعهود له من نفسه فيما عهده وليس له أن ينقضه.

وقد أكد القرآن في الوفاء بالعقد والعهد جميع معانيه وفي جميع معانيه وفي جميع مصاديقه وشدد فيه كل التشديد ، وذم الناقضين للمواثيق ذما بالغا ، وأوعدهم إيعادا عنيفا ومدح الموفين بعهدهم إذا عاهدوا في آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها.

وقد أرسلت الآيات القول فيه إرسالا يدل على أن ذلك مما يناله الناس بعقولهم الفطرية ، وهو كذلك .

وليس ذلك إلا لأن العهد والوفاء به مما لا غنى للإنسان في حياته عنه أبدا ، والفرد والمجتمع في ذلك سيان ، وإنا لو تأملنا الحياة الاجتماعية التي للإنسان وجدنا جميع المزايا التي نستفيد منها وجميع الحقوق الحيوية الاجتماعية التي نطمئن إليها مبنية على أساس العقد الاجتماعي العام والعقود والعهود الفرعية التي تترتب عليه ، فلا نملك من أنفسنا للمجتمعين شيئا ولا نملك منهم شيئا إلا عن عقد عملي وإن لم نأت بقول فإنما القول لحاجة البيان ، ولو صح للإنسان أن ينقض ما عقده وعهد به اختيارا لتمكنه منه بقوة أو سلطة أو بطش أو لعذر يعتذر به كان أول ما انتقض بنقضه هو العدل الاجتماعي ، وهو الركن الذي يلوذ به ويأوي إليه الإنسان من إسارة الاستخدام والاستثمار.

ولذلك أكد الله سبحانه في حفظ العهد والوفاء به قال تعالى : { وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً } : ( إسراء : 34 ) والآية تشمل العهد الفردي الذي يعاهد به الفرد الفرد مثل غالب الآيات المادحة للوفاء بالعهد والذامة لنقضه كما تشمل العهد الاجتماعي الدائر بين قوم وقوم وأمة وأمة ، بل الوفاء به في نظر الدين أهم منه بالعهد الفردي لأن العدل عنده أتم والبلية في نقضه أعم.

ولذلك أتى الكتاب العزيز في أدق موارده وأهونها نقضا بالمنع عن النقض بأصرح القول وأوضح البيان قال تعالى : { بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } : ( براءة : 5 ) والآيات كما يدل سياقها نزلت بعد فتح مكة وقد أذل الله رقاب المشركين ، وأفنى قوتهم وأذهب شوكتهم ، وهي تعزم على المسلمين أن يطهروا الأرض التي ملكوها وظهروا عليها من قذارة الشرك ، وتهدر دماء المشركين من دون أي قيد وشرط إلا أن يؤمنوا ، ومع ذلك تستثني قوما من المشركين بينهم وبين المسلمين عهد عدم التعرض ، ولا تجيز للمسلمين أن يمسوهم بسوء حينما استضعفوا واستذلوا فلا مانع من ناحيتهم يمنع ولا دافع يدفع ، كل ذلك احتراما للعهد ومراعاة لجانب التقوى .

نعم على ناقض العهد بعد عقده أن ينقض العهد الذي نقضه ويتلقى هباء باطلا ، اعتداء عليه بمثل ما اعتدى به ، قال تعالى : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ـ إلى أن قال ـ لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ } : ( براءة : 12 ) ، وقال تعالى : { فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ } : ( البقرة : 194 ) ، وقال تعالى : { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ } : ( المائدة : 2 ) .

وجملة الأمر أن الإسلام يرى حرمة العهد ووجوب الوفاء به على الإطلاق سواء انتفع به العاهد أو تضرر بعد ما أوثق الميثاق فإن رعاية جانب العدل الاجتماعي ألزم وأوجب من رعاية أي نفع خاص أو شخصي إلا أن ينقض أحد المتعاهدين عهده فللمتعاهد الآخر نقضه بمثل ما نقضه والاعتداء عليه بمثل ما اعتدى عليه ، فإن في ذلك خروجا عن رقية الاستخدام والاستعلاء المذمومة التي ما نهض ناهض الدين إلا لإماطتها.

ولعمري إن ذلك أحد التعاليم العالية التي أتى بها دين الإسلام لهداية الناس إلى رعاية الفطرة الإنسانية في حكمها والتحفظ على العدل الاجتماعي الذي لا ينتظم سلك الاجتماع

 

الإنساني إلا على أساسه وإماطة مظلمة الاستخدام والاستثمار ، وقد صرح به الكتاب العزيز وسار به النبي صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله في سيرته الشريفة ، ولو لا أن البحث بحث قرآني لذكرنا لك طرفا من قصصه عليه أفضل الصلاة والسلام في ذلك ، وعليك بالرجوع إلى الكتب المؤلفة في سيرته وتاريخ حياته.

وإذا قايست بين ما جرت عليه سنة الإسلام من احترام العهد وما جرت عليه سنن الأمم المتمدنة وغير المتمدنة ولا سيما ما نسمعه ونشاهده كل يوم من معاملة الأمم القوية مع الضعيفة في معاهداتهم ومعاقداتهم وحفظها لها ما درت لهم أو استوجبته مصالح دولتهم ونقضها بما يسمى عذرا وجدت الفرق بين السنتين في رعاية الحق وخدمة الحقيقة.

ومن الحري بالدين ذاك وبسننهم ذلك فإنما هناك منطقان : منطق يقول : إن الحق تجب رعايته كيفما كان وفي رعايته منافع المجتمع ، ومنطق يقول : إن منافع الأمة تجب رعايتها بأي وسيلة اتفقت وإن دحضت الحق ، وأول المنطقين منطق الدين ، وثانيهما منطق جميع السنن الاجتماعية الهمجية أو المتمدنة من السنن الاستبدادية والديموقراطية والشيوعية وغيرها.

وقد عرفت مع ذلك أن الإسلام في عزيمته في ذلك لا يقتصر على العهد المصطلح بل يعمم حكمه إلى كل ما بني عليه بناء ويوصي برعايته ولهذا البحث أذيال ستعثر عليها في مستقبل الكلام إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ } (إلخ) الإحلال هو الإباحة والبهيمة اسم لكل ذي أربع من دواب البر والبحر على ما في المجمع ، وعلى هذا فإضافة البهيمة إلى الأنعام من قبيل إضافة النوع إلى أصنافه كقولنا : نوع الإنسان وجنس الحيوان ، وقيل : البهيمة جنين الأنعام ، وعليه فالإضافة لامية. وكيف كان فقوله { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ } أي الأزواج الثمانية أي أكل لحومها ، وقوله « إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ } إشارة إلى ما سيأتي من قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ } (الآية) .

وقوله { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } حال من ضمير الخطاب في قوله { أُحِلَّتْ لَكُمْ }

 

ومفاده حرمة هذا الذي أحل إذا كان اصطياده في حال الإحرام ، كالوحشي من الظباء والبقرة والحمر إذا صيدت ، وربما قيل : إنه حال من قوله { أَوْفُوا } أو حال من ضمير الخطاب في قوله { يُتْلى عَلَيْكُمْ } والصيد مصدر بمعنى المفعول ، كما أن الحرم بضمتين جمع الحرام بمعنى المحرم اسم فاعل.

قوله تعالى : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً } خطاب مجدد للمؤمنين يفيد شدة العناية بحرمات الله تعالى .

والإحلال هو الإباحة الملازمة لعدم المبالاة بالحرمة والمنزلة ، ويتعين معناه بحسب ما أضيف إليه : فإحلال شعائر الله عدم احترامها وتركها ، وإحلال الشهر الحرام عدم حفظ حرمته والقتال فيه ، وهكذا .

والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة ، وكان المراد بها أعلام الحج ومناسكه. والشهر الحرام ما حرمه الله من شهور السنة القمرية وهي : المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة.

والهدي ما يساق للحج من الغنم والبقر والإبل. والقلائد جمع قلادة ، وهي ما يقلد به الهدي في عنقه من نعل ونحوه ليعلم أنه هدي للحج فلا يتعرض له. والآمين جمع آم اسم فاعل من أم إذا قصد ، والمراد به القاصدون لزيارة البيت الحرام. وقوله { يَبْتَغُونَ فَضْلاً } ، حال من { آمِّينَ } والفضل هو المال ، أو الربح المالي فقد أطلق عليه في قوله تعالى { فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ } : ( آل عمران : 174 ) وغير ذلك أو هو الأجر الأخروي أو الأعم من المال والأجر.

وقد اختلفوا في تفسير الشعائر والقلائد وغيرهما من مفردات الآية على أقوال شتى ، والذي آثرنا ذكره هو الأنسب لسياق الآية ، ولا جدوى في التعرض لتفاصيل الأقوال.

قوله تعالى : { وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا } أمر واقع بعد الحظر لا يدل على أزيد من الإباحة بمعنى عدم المنع ، والحل والإحلال ـ مجردا ومزيدا فيه ـ بمعنى وهو الخروج من الإحرام .

قوله تعالى : { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا } يقال : جرمه يجرمه أي حمله ، ومنه الجريمة للمعصية لأنها محمولة من حيث وبالها ، وللعقوبة المالية وغيرها لأنها محمولة على المجرم . وذكر الراغب أن الأصل في معناها القطع. والشنآن العداوة والبغض. وقوله { أَنْ صَدُّوكُمْ } أي منعوكم بدل أو عطف بيان من الشنآن ، ومحصل معنى الآية : ولا يحملنكم عداوة قوم وهو أن منعوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا عليهم بعد ما أظهركم الله عليهم .

قوله تعالى : { وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ } المعنى واضح ، وهذا أساس السنة الإسلامية ، وقد فسر الله سبحانه البر في كلامه بالإيمان والإحسان في العبادات والمعاملات ، كما مر في قوله تعالى : { وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } الآية : ( البقرة : 177 ) وقد تقدم الكلام فيه. والتقوى مراقبة أمر الله ونهيه ، فيعود معنى التعاون على البر والتقوى إلى الاجتماع على الإيمان والعمل الصالح على أساس تقوى الله ، وهو الصلاح والتقوى الاجتماعيان ، ويقابله التعاون على الإثم الذي هو العمل السيئ المستتبع للتأخر في أمور الحياة السعيدة ، وعلى العدوان وهو التعدي على حقوق الناس الحقة بسلب الأمن من نفوسهم أو أعراضهم أو أموالهم وقد مر شطر من الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى : { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا } الآية : ( آل عمران : 200 ) في الجزء الرابع من هذا الكتاب.

ثم أكد سبحانه نهيه عن الاجتماع على الإثم والعدوان بقوله : { وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ } وهو في الحقيقة تأكيد على تأكيد .

__________________________

1. تفسير الميزان ، ج5 ، ص 135-140 .

تفسير الأمثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هاتين الآيتين (1) :

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ}  [المائدة : 1] .

الإلزام بالوفاء بالعهد والميثاق :

تدل الروايات الإسلامية وأقوال المفسّرين على أنّ هذه السورة هي آخر سورة أو من السور الأخيرة التي نزلت على النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد ورد في تفسير العياشي نقلا عن الإمام الباقر عليه‌ السلام أنّ الإمام علي بن أبي طالب عليه‌ السلام قال : «نزلت المائدة قبل أن يقبض النّبي صلى الله عليه وآله وسلم بشهرين أو ثلاثة» (2) .

وما ورد بشأن هذه السورة من أنّها من السور الناسخة وليست المنسوخة يعتبر إشارة إلى المعنى المذكور أعلاه .

ولا يتنافى هذا الكلام مع ذلك الذي ورد في الجزء الثّاني من تفسيرنا هذا ـ في هامش الآية (٢٨١) من سورة البقرة ـ حيث قلنا هناك بأنّ هذه الآية هي آخر آية نزلت على النّبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنّ كلامنا الحالي هو عن آخر سورة نزلت على النّبي صلى الله عليه وآله وسلم وكلامنا السابق كان عن  آية واحدة.

لقد تمّ التأكيد في هذه السورة ـ لما تمتاز به من موقع خاص ـ على مجموعة من المفاهيم الإسلامية ، وعلى آخر البرامج والمشاريع الدينية ، وقضية قيادة الأمّة وخلافة النّبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد يكون هذا هو السبب في استهلال سورة المائدة بقضية  الإلزام بالوفاء بالعهد والميثاق ، حيث تقول الآية في أوّل جملة لها : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ...} وذلك لكي تلزم المؤمنين بالوفاء بعهودهم التي عقدوها في  الماضي مع الله أو تلك التي أشارت إليها هذه السورة.

ويأتي هذا التأكيد على غرار ما يفعله المسافر في اللحظات الأخيرة ، من الوداع مع أهله وأقاربه وأنصاره حيث يؤكّد عليهم أن لا ينسوا وصاياه ونصائحه ، وأن يوفوا بالعهود والمواثيق التي عقدوها معه.

ويجب الالتفات إلى أنّ كلمة «عقود» هي صيغة جمع من «عقد» التي تعني في الأصل شد أطراف شيء معين ببعضها شدا محكما ، ومن هنا يسمّى شد طرفي الحبل أو شد حبلين ببعضهما «عقدا».

بعد ذلك تنتقل الآية من هذا المعنى المحسوس إلى المفهوم المعنوي فتسمّي كلّ عهد أو ميثاق عقدا ، لكن بعض المفسّرين ـ قالوا بأنّ كلمة «عقد» مفهوم أضيق من العهد، لأن كلمة العقد تطلق على العهود المحكمة إحكاما كافيا ، ولا تطلق على كل العهود ، وإذا وردت في بعض الروايات أو في عبارات المفسّرين كلمتا العقد والعهد للدلالة على معنى واحد فذلك لا ينافي ما قلناه ، لأنّ المقصود في هذه الروايات أو العبارات هو التّفسير الإجمالي لهاتين الكلمتين لا بيان جزئياتهما.

ونظرا لأنّ كلمة العقود هي صيغة جمع دخلت عليها الألف واللام للدلالة على الاستغراق ، والجملة التي وردت فيها هذه الكلمة جملة مطلقة أيضا إطلاقا تاما ، لذلك فإن الآية ـ موضوع البحث ـ تعتبر دليلا على وجوب الوفاء بجميع العهود التي تعقد بين أفراد البشر بعضهم مع البعض الآخر ، أو تلك العهود التي تعقد مع الله سبحانه وتعالى عقدا محكما.

وبذلك تشمل هذه الآية جميع العهود والمواثيق الإلهية والإنسانية والاتفاقيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، والتجارية ، وعقود الزواج ، وأمثال ذلك ، ولها مفهوم واسع يطوي بين جنبيه جميع جوانب حياة الإنسان العقائدية والعملية ، ويشمل العهود الفطرية والتوحيدية وحتى العهود التي يعقدها الناس فيما بينهم على مختلف قضايا الحياة.

وجاء في تفسير «روح المعاني» عن «الراغب الأصفهاني» أنّ العقد ـ نظرا لطرفيه ينقسم إلى ثلاثة أنواع ، فأحيانا يكون عقدا بين العبد وربّه ، وطورا بين الفرد ونفسه ، وحينا بين الفرد ونظائره من سائر أفراد البشر (3) .

وطبيعي أن لكل من هذه الأنواع الثلاثة من العقود طرفين ، وغاية الأمر أنّ الإنسان حين يتعاقد مع نفسه يفترض هذه النفس بمثابة الشخص الثّاني ، أو الطرف الآخر من العقد.

وعلى أي حال ، فإنّ مفهوم هذه الآية ـ لسعته ـ يشمل حتى تلك العقود والعهود التي يقيمها المسلمون مع غير المسلمين.

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ } [المائدة : 2] .

 

ثمانية أحكام في آية واحدة :

لقد بيّنت هذه الآية عددا من الأحكام الإلهية الإسلامية المهمة ، وهي من الأحكام الأواخر التي نزلت على النّبي صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم وكلها أو أغلبها تتعلق بحج بيت الله ، وهي على الوجه  التالي :

١ ـ الطلب من المؤمنين بعدم انتهاك شعائر الله ، ونهيهم عن المساس بحرمة هذه الشعائر المقدسة ، كما تقول الآية الكريمة : {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ الله ...} واختلف المفسّرون حول المراد بكلمة «الشعائر» الواردة هنا ، وبالنظر إلى  الأجزاء الأخرى من هذه الآية ، وإلى السنة التي نزلت فيها وهي السنة العاشرة للهجرة التي أدى فيها النّبي صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم آخر حجّة إلى مكّة المكرمة هي حجّة الوداع، يتّضح أنّ المراد بهذه الكلمة مناسك الحج التي كلف المسلمون باحترامها كلّها ، ويؤكّد هذا  الرأي مجيء كلمة «الشّعائر» في القرآن الكريم مقترنة بالحديث عن مناسك الحج دائما (4) .

٢ ـ دعت الآية إلى احترام الأشهر الحرم وهي شهور من السنة القمرية ، كما نهت عن الدخول في حرب في هذه الشهور ، حيث قالت : {وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ ...}.

٣ ـ حرمت الآية المساس بالقرابين المخصصة للذبح في شعائر الحج ، سواء ما كان منها ذا علامة وهو المسمّى بـ «الهدي» (5) أو تلك الخالية من العلامات والتي تسمّى بـ «القلائد» (6) أي نهت عن ذبحها وأكل لحومها حتى تصل إلى محل القربان للحج وتذبح فيه ، فقالت الآية : {وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ ...}.

٤ ـ أوجبت الآية توفير الحرية التامّة لحجاج بيت الله الحرام أثناء موسم الحج ، الذي تزول خلاله كل الفوارق القبلية والعرقية واللغوية والطبقية ، ونهت عن مضايقة المتوجهين إلى زيارة بيت الله الحرام ابتغاء لمرضاته ، أو حتى الذين توجهوا إلى هذه الزيارة وهم يحملون معهم أهدافا أخرى كالتجارة والكسب الحلال لا فرق فيهم بين صديق أو غريم ، فما داموا كلهم مسلمين وقصدهم زيارة بيت الله ، فهم يتمتعون بالحصانة كما تقول الآية الكريمة : {وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً ...}.

يعتقد بعض المفسّرين والفقهاء أنّ الجملة القرآنية المذكورة أعلاه ذات معنى عام وتشمل غير المسلمين ، أي المشركين أيضا إن هم جاءوا لزيارة بيت الله الحرام يجب أن يتعرضوا للمضايقة من قبل المسلمين .

ولكن نظرا لنزول آية تحريم دخول المشركين إلى المسجد الحرام في سورة التوبة التي نزلت في العام التاسع للهجرة ، ونزول سورة المائدة في أواخر عمر النّبي الكريم صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم أي في العام العاشر للهجرة وهي سورة لم يطرأ النسخ على  أيّ من الأحكام الواردة فيها ـ بحسب روايات الطائفتين الشيعة والسنة ـ لذلك يستبعد أن يكون هذا التّفسير صحيحا ، والحق أن الحكم المذكور خاص بالمسلمين وحدهم.

٥ ـ لقد خصصت هذه الآية حكم حرمة الصيد بوقت الإحرام فقط ، وأعلنت أنّ الخروج من حالة الإحرام إيذان بجواز الصيد للمسلمين ـ حيث تقول الآية الكريمة : {وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا}.

٦ ـ منعت هذه الآية الكريمة المسلمين من مضايقة أولئك النفر من المسلمين الذين كانوا قبل إسلامهم يضايقون المسلمين الأوائل في زيارة بيت الله الحرام ويمنعونهم من أداء مناسك الحج ، وكان هذا في واقعة الحديبية ، فمنع المسلمون من تجديد الأحقاد ومضايقة أولئك النفر في زمن الحج بعد أن أسلموا وقبلوا الإسلام لهم دينا ، تقول الآية الكريمة : {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا} (7) .

ومع أنّ هذا الحكم قد نزل في مجال زيارة بيت الله الحرام ، لكنه ـ في الحقيقة ـ يعد حكما عاما ، وقانونا كليا يدعو المسلمين إلى نبذ «الحقد» وعدم إحياء الأحداث السابقة في أذهانهم بهدف الانتقام من مسببيها.

ولمّا كانت خصلة الحقد إحدى عناصر ظهور وبروز النفاق والفرقة لدى المجتمعات يتّضح لنا ـ منذ ذلك ـ جليا أهمية هذا الحكم الإسلامي في التصدي والوقوف بوجه استعار نار النفاق بين المسلمين وبالأخص في زمن كان نبي الإسلام صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم يوشك على وداع المسلمين والرحيل عنهم.

٧ ـ تؤكّد الآية ـ جريا على سياق البحث الذي تناولته وبهدف إكماله ـ على أنّ المسلمين بدلا من أن يتحدوا للانتقام من خصومهم السابقين الذين أسلموا ـ وأصبحوا بحكم إسلامهم أصدقاء ـ عليهم جميعا أن يتحدوا في سبيل فعل الخيرات والتزام التقوى، وأن لا يتعاونوا ـ في سبيل الشر والعدوان تقول الآية : {وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ ...}.

٨ ـ ولكي تعزز الآية الأحكام السابقة وتؤكّدها تدعو المسلمين في الختام إلى اتّباع التقوى وتجنّب معصية الله ، محذره من عذاب الله الشديد ، فتقول : {وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ}.

 

__________________________

1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 402- 410 .

2. تفسير البرهان ـ الجزء الأوّل ، ص ٤٣٠ ، يجب الانتباه إلى أن ورد أحكام الوضوء والتيمم وأمثالهما في هذه السورة ، لا ينافي كونها آخر سورة من سور القرآن ، لأنّ أغلب هذه الأحكام لها طابع تكراري ، أي أنّها وردت بصورة مكررة للتأكيد عليها ، لذلك ترى بعضا من هذه الأحكام قد وردت في سورة النساء أيضا.

3.  تفسير «روح المعاني» الآية موضوع البحث.

4. سورة البقرة ، الآية ١٥٨ وسورة الحج ، الآيتان ٣٢ و ٣٦.

5. الهدى جمع «هدية» وهو يعني هنا المواشي التي تهدى لتكون قرابين إلى بيت الله الحرام .

6. القلائد جمع «قلادة» وهي الشيء الذي يوضع حول رقبة الإنسان أو الحيوان ، وتعني هنا المواشي التي تعلم بالقلائد لذبحها في مراسم الحج.

7. تفيد أقوال أهل اللغة والتّفسير أنّ كلمة «جرم» تعني في الأصل قطع الثمار أو قطفها من الأغصان قبل الأوان ، وتطلق ـ أيضا على كل عمل مكروه ، كما تطلق على الآخرين بالقيام بعمل غير محبوب ـ وهنا فإن عبارة «لا يجر منكم» تعني لا يحملنكم على القيام بعمل غير صائب .

 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .