المرجع الالكتروني للمعلوماتية
المرجع الألكتروني للمعلوماتية

القرآن الكريم وعلومه
عدد المواضيع في هذا القسم 16661 موضوعاً
تأملات قرآنية
علوم القرآن
الإعجاز القرآني
قصص قرآنية
العقائد في القرآن
التفسير الجامع
آيات الأحكام

Untitled Document
أبحث عن شيء أخر
العمرة واقسامها
2024-06-30
العمرة واحكامها
2024-06-30
الطواف واحكامه
2024-06-30
السهو في السعي
2024-06-30
السعي واحكامه
2024-06-30
الحلق واحكامه
2024-06-30

الأفعال التي تنصب مفعولين
23-12-2014
صيغ المبالغة
18-02-2015
الجملة الإنشائية وأقسامها
26-03-2015
اولاد الامام الحسين (عليه السلام)
3-04-2015
معاني صيغ الزيادة
17-02-2015
انواع التمور في العراق
27-5-2016


تفسير الاية (130-134) من سورة البقرة  
  
3181   03:51 مساءً   التاريخ: 14-2-2017
المؤلف : اعداد : المرجع الإلكتروني للمعلوماتية
الكتاب أو المصدر : تفاسير الشيعة
الجزء والصفحة : .......
القسم : القرآن الكريم وعلومه / التفسير الجامع / حرف الباء / سورة البقرة /


قال تعالى : {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [البقرة: 130 - 134].

تفسير مجمع البيان
- ذكر الطبرسي في تفسير  هذه الآيات (1) :

لما بين سبحانه قصة إبراهيم وأن ملته ملة محمد عقبه بذكر الحدث على اتباعها فقال : {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } أي لا يترك دين إبراهيم وشريعته إلا من أهلك نفسه وأوبقها وقيل أضل نفسه عن الحسن وقيل جهل قدره لأن من جهل خالقه فهو جاهل بنفسه عن الأصم وقيل جهل نفسه بما فيها من الآيات الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شيء عن أبي مسلم وقوله {ولقد اصطفيناه في الدنيا } أي اخترناه بالرسالة واجتبيناه {وإنه في الآخرة لمن الصالحين } أي من الفائزين عن الزجاج وقيل معناه لمع الصالحين أي مع آبائه الأنبياء في الجنة عن ابن عباس وقيل إنما خص الآخرة بالذكر وإن كان في الدنيا كذلك لأن المعنى من الذين يستوجبون على الله سبحانه الكرامة وحسن الثواب فلما كان خلوص الثواب في الآخرة دون الدنيا وصفه فيها بما ينبىء عن ذلك وفي قوله سبحانه {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } دلالة على أن ملة إبراهيم هي ملة نبينا (صلى الله عليه وآله وسلّم) لأن ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد مع زيادات في ملة محمد فبين أن الذين يرغبون من الكفار عن ملة محمد التي هي ملة إبراهيم قد سفهوا أنفسهم وهذا معنى قول قتادة والربيع ويدل عليه قوله {ملة أبيكم إبراهيم} .

وهذا متصل بقوله {ولقد اصطفيناه} وموضع {إذ } نصب باصطفينا وتقديره ولقد اصطفيناه حين قال له ربه أسلم واختلف في أنه متى قيل له ذلك فقال الحسن كان هذا حين أفلت الشمس ورأى إبراهيم تلك الآيات والأدلة فاستدل بها على وحدانية الله سبحانه وقال يا قوم إني بريء مما تشركون إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض الآية وأنه أسلم حينئذ وهذا يدل على أنه كان ذلك قبل النبوة وأنه قال له ذلك إلهاما استدعاء منه إلى الإسلام فأسلم حينئذ لما وضح له طريق الاستدلال بما رأى من الآيات ولا يصح أن يوحي الله إليه قبل إسلامه بأنه نبي الله لأن النبوة حال إجلال وإعظام ولا يكون ذلك قبل الإسلام وقال ابن عباس إنما قال ذلك إبراهيم (عليه السلام) حين خرج من السرب(2) وقيل إنما قال ذلك بعد النبوة ومعنى {أسلم } استقم على الإسلام واثبت على التوحيد كقوله سبحانه فاعلم أنه لا إله إلا الله وقيل إن معنى أسلم أخلص دينك بالتوحيد وقوله {أسلمت لرب العالمين } أي أخلصت الدين لله رب العالمين .

لما بين عز اسمه دعاء إبراهيم (عليه السلام) لذريته وحكم بالسفه على من رغب عن ملته ذكر اهتمامه بأمر الدين وعهده به إلى نبيه في وصيته فقال {ووصى بها } أي بالملة أو بالكلمة التي هي قوله أسلمت لرب العالمين ويؤيد هذا قوله تعالى وجعلها كلمة باقية في عقبه وقيل بكلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله {إبراهيم بنيه } إنما خص البنين لأن إشفاقه عليهم أكثر وهم بقبول وصيته أجدر وإلا فمن المعلوم أنه كان يدعو جميع الأنام إلى الإسلام {ويعقوب } وهو ابن إسحاق وإنما سمي يعقوب لأنه وعيصا كانا توأمين فتقدم عيص وخرج يعقوب على إثره أخذا بعقبه عن ابن عباس والمعنى ووصى يعقوب بنيه الاثني عشر وهم الأسباط {يا بني إن الله اصطفى لكم الدين } أي فقالا جميعا يا بني إن الله اختار لكم دين الإسلام {فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } أي لا تتركوا الإسلام فيصادفكم الموت على تركه أولا تتعرضوا للموت على ترك الإسلام بفعل الكفر وقال الزجاج معناه الزموا الإسلام فإذا أدرككم الموت صادفكم مسلمين وفي هذه الآية دلالة على الترغيب في الوصية عند الموت وأنه ينبغي أن يوصي الإنسان من يلي أمرهم بتقوى الله ولزوم الدين والطاعة .

ثم خاطب سبحانه أهل الكتاب فقال : {أم كنتم شهداء } أي ما كنتم حضورا {إذ حضر يعقوب الموت } وما كنتم حضورا {إذ قال يعقوب لبنيه ما تعبدون من بعدي } ومعناه أنكم لم تحضروا ذلك فلا تدعوا على أنبيائي ورسلي الأباطيل بأن تنسبوهم إلى اليهودية والنصرانية فإني ما بعثتهم إلا بالحنيفية وذلك أن اليهود قالوا أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية فرد الله تعالى عليهم قولهم وإنما قال {ما تعبدون } ولم يقل من تعبدون لأن الناس كانوا يعبدون الأصنام فقال أي الأشياء تعبدون من بعدي {قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } وإنما قدم ذكر إسماعيل على إسحاق لأنه كان أكبر منه وإسماعيل كان عم يعقوب وجعله أبا له لأن العرب تسمي العم أبا كما تسمي الجد أبا وذلك لأنه يجب تعظيمهما كتعظيم الأب ولهذا قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ردوا علي أبي يعني العباس عمه {إلها واحدا ونحن له مسلمون } أي مذعنون مقرون بالعبودية وقيل خاضعون منقادون مستسلمون لأمره ونهيه قولا وعقدا وقيل داخلون في الإسلام يدل عليه قوله إن الدين عند الله الإسلام .

{تلك أمة قد خلت } أي جماعة قد مضت يعني إبراهيم وأولاده {لها ما كسبت } أي ما عملت من طاعة أو معصية {ولكم } يا معشر اليهود والنصارى {ما كسبتم } أي ما عملتم من طاعة أو معصية {ولا تسئلون عما كانوا يعملون } أي لا يقال لكم لم عملوا كذا وكذا على جهة المطالبة لكم بما يلزمهم من أجل أعمالهم كما لا يقال لهم لم عملتم أنتم كذا وكذا وإنما يطالب كل إنسان بعمله دون عمل غيره كما قال سبحانه ولا تزر وازرة وزر أخرى وفي الآية دلالة على بطلان قول المجبرة أن الأبناء مؤاخذون بذنوب الآباء وإن ذنوب المسلمين تحمل على الكفار لأن الله تعالى نفى ذلك .

___________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج1 ، ص394-402.

2-السرب : الحفير تحت الارض.

تفسير الكاشف
- ذكر محمد جواد مغنية في تفسير  هذه الآيات (1) :

{ ومَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهً نَفْسَهُ}. هذا توبيخ من اللَّه لليهود والنصارى ومشركي العرب الذين لم يؤمنوا بمحمد ، وسر التوبيخ والتقريع ان اليهود يفتخرون بنسبتهم إلى إسرائيل ، وإسرائيل هو يعقوب بن اسحق بن إبراهيم ، والنصارى يفتخرون بعيسى ، وعيسى يتصل نسبه من جانب الأم بإسرائيل أيضا ، أما مشركو العرب فسائرهم عدنانيون يرجعون بنسبهم إلى إسماعيل بن إبراهيم ، بالإضافة إلى انهم نالوا الخير في الجاهلية ببركة البيت الذي بناه إبراهيم . . فالكل - إذن - يفتخرون بإبراهيم ، وملة إبراهيم ، والمعلوم ان محمدا ( صلى الله عليه واله وسلم ) من نسل إبراهيم ، وعلى ملة إبراهيم ، وعليه فمن كفر بمحمد وملته فقد كفر بإبراهيم وملته . . وليس من شك ان من يكفر بمصدر عزه وافتخاره فهو سفيه ، تماما كمن تصرف في نفسه تصرفا يودي به إلى الهلاك .

{ولَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا }. أي جعلناه صافيا خالصا من الأرجاس ، على حد قوله تعالى : { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} .

{وإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} . بديهة ، لأنه في الدنيا كذلك ، فان الإسلام يربط الآخرة بأعمال الدنيا ، ولا يفصل بينهما أبدا ، فمن كان في هذه مبصرا صالحا ، فهو في تلك كذلك ، ومن كان في الدنيا أعمى شقيا فهو في الآخرة أعمى وأشقى .

{ إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ} . وتسأل : متى طلب اللَّه الإسلام من إبراهيم ؟ هل طلبه منه قبل النبوة ، أو بعدها ؟ والأول غير ممكن ، لأن اللَّه لا يطلب بطريق الوحي ممن ليس بنبي ، والثاني تحصيل حاصل ، لأن اللَّه لا ينزل الوحي على انسان إلا بعد أن يسلم .

والجواب : ان قوله تعالى :{ أسلم قال أسلمت}  كناية عن ان إبراهيم هومن صفوة الصفوة ، وانه أهل للنبوة والرسالة . . ذلك انه استجاب لجميع أوامر اللَّه ونواهيه ، وقام بأعباء النبوة والرسالة على أتم الوجوه وأكملها ، فالمقصود بالآية مجرد الثناء على إبراهيم ، لإخلاصه وطاعته وانقياده ، وفي الوقت نفسه توبيخ لليهود والنصارى والمشركين الذين يفتخرون بإبراهيم ، ثم يعصون ويتمردون على من جاء لإحياء ملة إبراهيم ، ونشر سنته وعقيدته .

{ووَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ} . الضمير في ( بها ) يعود إلى ملة إبراهيم .

{فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}  . أي أثبتوا على الإسلام ، حتى الموت ، كي تبعثوا عليه ، وتقابلوا اللَّه به .

حق الولد على الوالد :

وتشعر هذه الآية بأن الوالد مسؤول عن تربية ولده وإرشاده إلى دين الحق ، قال الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) : (أما حق ولدك فان تعلم انه منك ، ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره ، وانك مسؤول عنه من حسن الأدب ، والدلالة على ربه عز وجل ، والمعونة له على طاعته ، فاعمل في أمره عمل من يعلم انه مثاب على الإحسان إليه ، معاقب على الإساءة إليه) .

{أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} . حضره الموت معناه احتضر ، ونزلت به أمارات الموت . قال صاحب مجمع البيان : ان اليهود زعموا ان يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية . . فأبطل اللَّه هذا الزعم بقوله لهم : انكم لم تشهدوا يعقوب عند موته ، فكيف تدعون عليه الأباطيل ؟ . والحقيقة أن يعقوب قال لبنيه في تلك اللحظة : {ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي } ؟ .

وتسأل : ان ( ما ) تستعمل لغير العاقل ، فكيف استعملت هنا في المعبود الحق ؟ .

الجواب : ان الناس آنذاك كانوا يعبدون الأصنام فنزّل السؤال على معبود الناس ، لا على معبود الحق ، وعليه تكون ( ما ) بمعنى أي شيء تعبدون ؟ .

{قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وإِلهً آبائِكَ إِبْراهِيمَ وإِسْماعِيلَ وإِسْحاقَ } . . وتسأل : ان يعقوب هو ابن اسحق ، وإسماعيل عمه أخو أبيه ، فكيف صح إدخال إسماعيل مع الآباء ؟ .

الجواب : ان العم بمنزلة الأب ، لأنه أخوه ، ويعظم كما يعظم ، وفي الحديث الشريف ان رسول اللَّه ( صلى الله عليه واله ) قال : (ردوا عليّ أبي ) يعني عمه العباس .

{ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ ولَكُمْ ما كَسَبْتُمْ } . هذه الآية تشير إلى مبدأ عام ، وهوان نتائج الأعمال وآثارها تعود غدا على العامل وحده ، لا ينتفع بها من ينتسب إليه ، ان تكن خيرا ، كما لا يتضرر بها غيره ان تكن شرا ، وقرر الإسلام هذا المبدأ بأساليب شتى ، منها الآية 164 من سورة الانعام : {ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى } ومنها الآية 39 من سورة النجم : {وأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى } . . ومنها قول الرسول الأعظم ( صلى الله عليه واله ) لوحيدته فاطمة :

يا فاطمة اعملي ، ولا تقولي : اني ابنة محمد ، فاني لا أغني عنك من اللَّه شيئا . .

وأمثال ذلك . . والتبسط في هذا الموضوع ان دل على شيء فإنما يدل على أننا حتى اليوم نجهل أوضح الواضحات ، وأظهر البديهيات .

________________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج1 ، ص207-210.

تفسير الميزان
- ذكر الطباطبائي في تفسير  هذه الآيات (1) :

قوله تعالى: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه}، الرغبة إذا عديت بعن أفادت معنى الإعراض والنفرة، وإذا عديت بفي أفادت: معنى الشوق والميل، وسفه يأتي متعديا ولازما، ولذلك ذكر بعضهم أن قوله: {نفسه} مفعول لقوله: {سفه}، وذكر آخرون أنه تمييز لا مفعول، والمعنى على أي حال: أن الإعراض عن ملة إبراهيم من حماقة النفس، وعدم تمييزها ما ينفعها مما يضرها ومن هذه الآية يستفاد معنى ما ورد في الحديث: أن العقل ما عبد به الرحمن.

قوله تعالى: {ولقد اصطفيناه في الدنيا}، الاصطفاء أخذ صفوة الشيء وتمييزه عن غيره إذا اختلطا، وينطبق هذا المعنى بالنظر إلى مقامات الولاية على خلوص العبودية وهو أن يجري العبد في جميع شئونه على ما يقتضيه مملوكيته وعبوديته من التسليم الصرف لربه، وهو التحقق بالدين في جميع الشئون فإن الدين لا يشتمل إلا على مواد العبودية في أمور الدنيا والآخرة وتسليم ما يرضاه الله لعبده في جميع أموره كما قال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ } [آل عمران: 19] ، فظهر: أن مقام الاصطفاء هو مقام الإسلام بعينه ويشهد بذلك قوله تعالى: {إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين} الآية فإن الظاهر أن الظرف متعلق بقوله: اصطفيناه، فيكون المعنى أن اصطفاءه إنما كان حين قال له ربه: أسلم، فأسلم لله رب العالمين فقوله تعالى: {إذ قال له ربه أسلم}، قال أسلمت لرب العالمين، بمنزلة التفسير لقوله: {اصطفيناه}.

وفي الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة في قوله: {إذ قال له ربه أسلم}، ولم يقل إذ قلنا له أسلم، والتفات آخر من الخطاب إلى الغيبة في المحكي من قول إبراهيم: قال أسلمت لرب العالمين، ولم يقل: قال أسلمت لك أما الأول، فالنكتة فيه الإشارة إلى أنه كان سرا استسر به ربه إذ أسره إليه فيما خلى به معه فإن للسامع المخاطب اتصالا بالمتكلم فإذا غاب المتكلم عن صفة حضوره انقطع المخاطب عن مقامه وكان بينه وبين ما للمتكلم من الشأن والقصة ستر مضروب، فأفاد أن القصة من مسامرات الأنس وخصائص الخلوة.

وأما الثاني فلأن قوله تعالى: {إذ قال له ربه}، يفيد معنى الاختصاص باللطف والاسترسال في المسارة لكن أدب الحضور كان يقتضي من إبراهيم وهو عبد عليه طابع الذلة والتواضع أن لا يسترسل، ولا يعد نفسه مختصا بكرامة القرب متشرفا بحظيرة الأنس، بل يراها واحدا من العبيد الأذلاء المربوبين، فيسلم لرب يستكين إليه جميع العالمين فيقول: أسلمت لرب العالمين.

والإسلام والتسليم والاستسلام بمعنى واحد، من السلم، وأحد الشيئين إذا كان بالنسبة إلى الآخر بحال لا يعصيه ولا يدفعه فقد أسلم وسلم واستسلم له، قال تعالى {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [البقرة: 112] ، وقال تعالى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79] ، ووجه الشيء ما يواجهك به، وهو بالنسبة إليه تعالى تمام وجود الشيء، فإسلام الإنسان له تعالى هو وصف الانقياد والقبول منه لما يرد عليه من الله سبحانه من حكم تكويني، من قدر وقضاء، أو تشريعي من أمر أو نهي أو غير ذلك، ومن هنا كان له مراتب بحسب ترتب الواردات بمراتبها.

الأولى: من مراتب الإسلام، القبول لظواهر الأوامر والنواهي بتلقي الشهادتين لسانا، سواء وافقه القلب، أو خالفه، قال تعالى: { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ } [الحجرات: 14] ، ويتعقب الإسلام بهذا المعنى أول مراتب الإيمان وهو الإذعان القلبي بمضمون الشهادتين إجمالا ويلزمه العمل في غالب الفروع.

الثانية: ما يلي الإيمان بالمرتبة الأولى، وهو التسليم والانقياد القلبي لجل الاعتقادات الحقة التفصيلية وما يتبعها من الأعمال الصالحة وإن أمكن التخطي في بعض الموارد، قال الله تعالى في وصف المتقين: { الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف: 69] ، وقال أيضا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208] ، فمن الإسلام ما يتأخر عن الإيمان محققا فهو غير المرتبة الأولى من الإسلام، ويتعقب هذا الإسلام المرتبة الثانية من الإيمان وهو الاعتقاد التفصيلي بالحقائق الدينية، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] ، وقال أيضا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } [الصف: 10، 11] ، وفيه إرشاد المؤمنين إلى الإيمان، فالإيمان غير الإيمان.

الثالثة: ما يلي الإيمان بالمرتبة الثانية فإن النفس إذا أنست بالإيمان المذكور وتخلقت بأخلاقه تمكنت منها وانقادت لها سائر القوى البهيمية والسبعية، وبالجملة القوى المائلة إلى هوسات الدنيا وزخارفها الفانية الداثرة، وصار الإنسان يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، ولم يجد في باطنه وسره ما لا ينقاد إلى أمره ونهيه أو يسخط من قضائه وقدره، قال الله سبحانه: " {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [النساء: 65] ، ويتعقب هذه المرتبة من الإسلام المرتبة الثالثة من الإيمان، قال الله تعالى {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1] إلى أن قال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } [المؤمنون: 3] ، ومنه قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة: 131] إلى غير ذلك، وربما عدت المرتبتان الثانية والثالثة مرتبة واحدة.

والأخلاق الفاضلة من الرضاء والتسليم، والحسبة والصبر في الله، وتمام الزهد والورع، والحب والبغض في الله، من لوازم هذه المرتبة.

الرابعة: ما يلي، المرتبة الثالثة من الإيمان فإن حال الإنسان وهو في المرتبة السابقة مع ربه حال العبد المملوك مع مولاه، إذ كان قائما بوظيفة عبوديته حق القيام، وهو التسليم الصرف لما يريده المولى أو يحبه ويرتضيه، والأمر في ملك رب العالمين لخلقه أعظم من ذلك وأعظم وإنه حقيقة الملك الذي لا استقلال دونه لشيء من الأشياء لا ذاتا ولا صفة، ولا فعلا على ما يليق بكبريائه جلت كبرياؤه.

فالإنسان – وهو في المرتبة السابقة من التسليم - ربما أخذته العناية الربانية فأشهدت له أن الملك لله وحده لا يملك شيء سواه لنفسه شيئا إلا به لا رب سواه، وهذا معنى وهبي، وإفاضة إلهية لا تأثير لإرادة الإنسان فيه، ولعل قوله تعالى: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا، الآية، إشارة إلى هذه المرتبة من الإسلام فإن قوله تعالى: إذ قال له ربه أسلم، قال، أسلمت لرب العالمين الآية ظاهره أنه أمر تشريعي لا تكويني، فإبراهيم كان مسلما باختياره، إجابة لدعوة ربه وامتثالا لأمره، وقد كان هذا من الأوامر المتوجهة إليه (عليه السلام) في مبادىء حاله، فسؤاله في أواخر عمره مع ابنه إسماعيل الإسلام وإراءة المناسك سؤال لأمر ليس زمامه بيده أو سؤال لثبات على أمر ليس بيده فالإسلام المسئول في الآية هو هذه المرتبة من الإسلام ويتعقب الإسلام بهذا المعنى المرتبة الرابعة من الإيمان وهو استيعاب هذا الحال لجميع الأحوال والأفعال، قال تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62، 63] ، فإن هؤلاء المؤمنين المذكورين في الآية يجب أن يكونوا على يقين من أن لا استقلال لشيء دون الله، ولا تأثير لسبب إلا بإذن الله حتى لا يحزنوا من مكروه واقع، ولا يخافوا محذورا محتملا، وإلا فلا معنى لكونهم بحيث، لا يخوفهم شيء، ولا يحزنهم أمر، فهذا النوع من الإيمان بعد الإسلام المذكور فافهم.

قوله تعالى: وإنه في الآخرة لمن الصالحين، الصلاح، وهو اللياقة بوجه ربما نسب في كلامه إلى عمل الإنسان وربما نسب إلى نفسه وذاته، قال تعالى: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110] ، وقال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } [النور: 32].

وصلاح العمل وإن لم يرد به تفسير بين من كلامه تعالى غير أنه نسب إليه من الآثار ما يتضح به معناه.

فمنها: أنه صالح لوجه الله، قال تعالى: { صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد: 22] ، وقال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة: 272].

ومنها: أنه صالح لأن يثاب عليه، قال تعالى: { ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [القصص: 80] .

ومنها: أنه يرفع الكلم الطيب الصاعد إلى الله سبحانه قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] ، فيستفاد من هذه الآثار المنسوبة إليه أن صلاح العمل معنى تهيؤه ولياقته لأن يلبس لباس الكرامة ويكون عونا وممدا لصعود الكلام الطيب إليه تعالى، قال تعالى: {وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج: 37] ، وقال تعالى: { كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا} [الإسراء: 20] ، فعطاؤه تعالى بمنزلة الصورة، وصلاح العمل بمنزلة المادة.

وأما صلاح النفس والذات فقد قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69] ، وقال تعالى: {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 86] ، وقال تعالى حكاية عن سليمان: { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19] ، وقال تعالى: {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } [الأنبياء: 74، 75] ، وليس المراد الصلاح لمطلق الرحمة العامة الإلهية الواسعة لكل شيء ولا الخاصة بالمؤمنين على ما يفيده قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } [الأعراف: 156] ، إذ هؤلاء القوم وهم الصالحون، طائفة خاصة من المؤمنين المتقين، ومن الرحمة ما يختص ببعض دون، بعض قال تعالى {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ } [البقرة: 105] وليس المراد أيضا مطلق كرامة، الولاية وهو تولي الحق سبحانه أمر عبده، فإن الصالحين وإن شرفوا بذلك، وكانوا من الأولياء المكرمين على ما بيناه سابقا في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 6] وسيجيء في تفسير الآية لكن هذه أعني الولاية صفة مشتركة بينهم وبين النبيين، والصديقين، والشهداء فلا يستقيم إذن عدهم طائفة خاصة في قبالهم.

تعالى قصر الأجر والشكر على ما بحذاء العمل والسعي قضيت بأن الصلاح الذاتي كرامة ليست بحذاء العمل والإرادة وربما تبين به معنى قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} [ق: 35] وهوما بالعمل - وقوله: "ولدينا مزيد" – وهو أمر غير ما بالعمل على ما سيجيء بيانه إن شاء الله في تفسير قوله تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا } [ق: 35].

ثم إنك إذا تأملت حال إبراهيم ومكانته في أنه كان نبيا مرسلا وأحد أولي العزم من الأنبياء، وأنه إمام، وأنه مقتدى عدة ممن بعده من الأنبياء والمرسلين وأنه من الصالحين بنص قوله تعالى: "وكلا جعلنا صالحين": الأنبياء - 72، الظاهر في الصلاح المعجل على أن من هو دونه في الفضل من الأنبياء أكرم بهذا الصلاح المعجل وهو(عليه السلام) مع ذلك كله يسأل اللحوق بالصالحين الظاهر في أن هناك قوما من الصالحين سبقوه وهو يسأل اللحوق بهم فيما سبقوه إليه، وأجيب بذلك في الآخرة كما يحكيه الله تعالى في ثلاثة مواضع من كلامه حيث قال تعالى: { وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [البقرة: 130] ، وقال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ } [العنكبوت: 27] ، وقال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النحل: 122] ، فإذا تأملت ذلك حق التأمل قضيت بأن الصلاح ذو مراتب بعضها فوق بعض ولم تستبعد لو قرع سمعك أن إبراهيم (عليه السلام) سأل اللحوق بمحمد " (صلى الله عليه وآله وسلم)" وآله الطاهرين (عليهم السلام) فأجيب إلى ذلك في الآخرة لا في الدنيا فإنه (عليه السلام) يسأل اللحوق بالصالحين، ومحمد " (صلى الله عليه وآله وسلم)" يدعيه لنفسه.

قال تعالى: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } [الأعراف: 196]  فإن ظاهر الآية أن رسول الله " (صلى الله عليه وآله وسلم)" يدعي لنفسه الولاية فالظاهر منه أن رسول الله " (صلى الله عليه وآله وسلم)" هو المتحقق بالصلاح الذي يدعيه بموجب الآية لنفسه وإبراهيم كان يسأل الله اللحوق بعده من الصالحين يسبقونه في الصلاح فهو هو.

قوله تعالى: ووصى بها إبراهيم بنيه، أي وصى بالملة.

قوله تعالى: فلا تموتن، النهي عن الموت وهو أمر غير اختياري للإنسان، والتكليف إنما يتعلق بأمر اختياري إنما هو لرجوعه إلى أمر يتعلق بالاختيار، والتقدير احذروا أن يغتالكم الموت في غير حال الإسلام، أي داوموا والزموا الإسلام لئلا يقع موتكم إلا في هذا الحال، وفي الآية إشارة إلى أن الدين هو الإسلام كما قال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام}( آل عمران – 19).

قوله تعالى: وإله آبائك إبراهيم وإسمعيل وإسحق، في الكلام إطلاق لفظ الأب على الجد والعم والوالد من غير مصحح للتغليب، وحجة فيما سيأتي إن شاء الله تعالى في خطاب إبراهيم لآزر بالأب.

قوله تعالى: إلها واحدا، في هذا الإيجاز بعد الإطناب بقوله: {إلهك وإله آبائك} "إلخ" دفع لإمكان إبهام اللفظ أن يكون إلهه غير إله آبائه على نحو ما يتخذه الوثنيون من الآلهة الكثيرة.

قوله تعالى: ونحن له مسلمون، بيان للعبادة وأنها ليست عبادة كيفما اتفقت بل عبادة على نهج الإسلام وفي الكلام جملة أن دين إبراهيم هو الإسلام والموروث منه في بني إبراهيم كإسحق ويعقوب وإسمعيل، وفي بني إسرائيل، وفي بني إسمعيل من آل إبراهيم جميعا هو الإسلام لا غير، وهو الذي أتى به إبراهيم من ربه فلا حجة لأحد في تركه والدعوة إلى غيره.

____________________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج1 ،ص251-256.

 

 

تفسير الامثل
- ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير  هذه الآيات (1) :

إبراهيم الإِنسان النّموذج

الآيات السابقة ألقت الضوء على جوانب من شخصية إبراهيم(عليه السلام)، فتحدثت عن بعض خدماته وطلباته الشاملة للجوانب المادية والمعنوية.

من مجموع ما مرّ نفهم أن الله سبحانه شاء أن يكون هذا النّبي، شيخ الموحدين وقدوة الرساليين، على مرّ العصور.

لذلك تقول الآية الاُولى من آيات بحثنا هذا: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}؟!

أليس من السفاهة أن يعرض الإنسان عن مدرسة الطهر والنقاء والفطرة والعقل وسعادة الدنيا والآخرة، ويتجه إلى طريق الشرك والكفر والفساد وضياع العقل والإنحراف عن الفطرة وفقدان الدين والدنيا؟!

ثم تضيف الآية: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وإنَّهُ فِي الاْخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحينَ}.

نعم، إبراهيم (عليه السلام) اصطفاه الله في الدنيا ليكون (الاُسوة) و(القدوة) للصالحين.

الآية التالية تؤكد على صفة اُخرى من صفات إبراهيم التي هي الواقع أساس بقية صفاته العظيمة وتقول: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).

هذا الإِنسان المتحرر من الإِنشدادات الوضيعة يسارع إلى التسليم التام حال سماعه نداء ربّه: (أسلم)، ولا يتوانى في رفض كل أوهام زمانه القائمة على عبادة النجوم والشمس والقمر، فيتركها بعد أن رآها محكومة بالقوانين التي تسود الخليقة ويقول: { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 79].

مرّ بنا في الآيات السابقة أن إبراهيم وإسماعيل(عليهما السلام) بعد بناء الكعبة طلبا من الله سبحانه أن يتقبل أعمالهما، ثم بعد ذلك طلبا أن يمنّ عليهما الله بنعمة التسليم لوجهه الكريم: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَينِ لَكَ} ومثل هذا طلباه لذريّتهما: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}.

ذلك لأن الخطوة الاُولى في سمو الشخصية الإِنسانية الطهر والإِخلاص، ومن هنا أسلم إبراهيم(عليه السلام) وجهه لربّه دون سواه، ولذلك عرف هو ودينه بهذا العنوان.

حياة إبراهيم(عليه السلام) بأجمعها كانت مفعمة بأعمال جسيمة نادرة، نضاله المرير ضد المشركين، صموده الكبير في قلب النيران، هذا الصمود الذي أثار إعجاب نمرود الطاغية نفسه حيث راح يردد دون وعي: {مَنِ اتَّخَذَ إِلهاً فَلْيَتَّخِذْ إِلهاً مِثْلَ إِلهِ إِبْرَاهِيمَ}(2).

وكذلك إسكان الزوج والطفل الرضيع في تلك الأرض الجافة القاحلة ... والمقدسة، وبناء الكعبة، وتقديم الولد على مذبح التضحية والفداء استجابة لأمر الله تعالى ... كل واحدة من هذه الأعمال قمة من سلسلة قمم حياة إبراهيم(عليه السلام).

ووصية إبراهيم بنيه في أواخر أيّام حياته تجسيد آخر لهذه الحياة الشامخة: {وَوَصّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} ... فكل من إبراهيم ويعقوب وصّيا أَبْنَاءهُما بالقول: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.

لعلّ القرآن الكريم، بنقله وصية إبراهيم، يريد أن يقول للإنسان إنه مسؤول عن مستقبل أبنائه، عليه أن يهتم بمستقبلهم المعنوي قبل أن يهتم بمستقبلهم المادي.

يعقوب كإبراهيم وصّى أيضاً أبناءه، بنفس هذه الوصايا، وأكد لأبنائه أن رمز نجاحهم يتلخص في جملة واحدة، هي التسليم لربّ العالمين.

ربّما يعود ذكر اسم يعقوب هنا من بين سائر الأنبياء، إلى أن اليهود والنصارى كانوا يعتقدون بانتسابهم إلى يعقوب بشكل من الأشكال، فأرادت الآية أن توضح لهم أن خط الشرك الذي يسلكونه لا يتناسب مع منهج يعقوب، وهو منهج التسليم المحض لربّ العالمين.

كما رأينا في سبب النّزول، وظاهر الآية يدل على ذلك أيضاً، كان جمع من منكري الإِسلام ينسبون ما لا ينبغي نسبته إلى النّبي يعقوب، والقرآن يرد عليهم بالقول: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ}؟!

هذا الذي نسبوه إليه ليس بصحيح، بل الذي حدث آنذاك {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}؟

في الجواب {قَالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ ابَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.

أجل فإنّ يعقوب لم يوصِ أبناءه بشيء غير التوحيد والتسليم لربّ العالمين والذي هو الاساس لبرنامج الأنبياء.

من الآية يبدو أن قلقاً ساور يعقوب لدن أن حضرته الوفاة بشأن مستقبل أبنائه، وعبّر عن قلقه هذه متسائلا: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي}؟ وإنما قال: {مَا تَعْبُدُونَ ...} ولم يقل {مَنْ تَعْبُدُونَ ...} لتلوث البيئة الإِجتماعية آنذاك بالشرك والوثنية، أي بعبادة الأشياء من دون الله. فأراد يعقوب أن يفهم ما في قرارة نفوس أبنائه من ميول واتجاهات، وبعد أن استمع الجواب اطمأنت نفسه.

ويلفت النظر هنا أن إسماعيل لم يكن أبا ليعقوب ولا جدّه، بل عمّه، بينما الآية استعملت كلمة {آباء}، ويتضح من ذلك أن كلمة (الأب) تطلق أيضاً على (العم) توسعاً، ومن هنا نقول بالنسبة لآزر، الذي ذكره القرآن باعتباره والد إبراهيم، أنه لا يمنع أن يكون عمّ إبراهيم لا والده. (تأمل بدقّة).

آخر آية في بحثنا، تجيب على توهّم آخر من توهمات اليهود، فكثير من هؤلاء كانوا يستندون إلى مفاخر الآباء والأجداد وقرب منزلة أسلافهم من الله تعالى، فلا يرون بأساً في انحرافهم هم ظانين أنهم ناجون بوسيلة أُولئك الأسلاف.

يقول القرآن: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْئَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

وبذلك أرادت الآية أن توجّه أنظار هؤلاء إلى أعمالهم وسلوكهم وأفكارهم، وتصرفهم عن الإِنغماس في الإِفتخار بالماضين.

هذه الآية ـ وإن اتجهت في الخطاب إلى فئة اليهود وأهل الكتاب في عصر البعثة ـ تخاطبنا نحن المسلمين أيضاً، وتطرح أمامنا مبدأ:

إن الفتى من يقول ها أناذا ***  ليس الفتى من يقول كان أبي

____________________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج1 ، ص323-326.

2 ـ نور الثقلين، ج 3، ص 439. واصول الكافي ، ج8، ص369.

 

 




وهو تفسير الآيات القرآنية على أساس الترتيب الزماني للآيات ، واعتبار الهجرة حدّاً زمنيّاً فاصلاً بين مرحلتين ، فكلُّ آيةٍ نزلت قبل الهجرة تُعتبر مكّيّة ، وكلّ آيةٍ نزلت بعد الهجرة فهي مدنيّة وإن كان مكان نزولها (مكّة) ، كالآيات التي نزلت على النبي حين كان في مكّة وقت الفتح ، فالمقياس هو الناحية الزمنيّة لا المكانيّة .

- المحكم هو الآيات التي معناها المقصود واضح لا يشتبه بالمعنى غير المقصود ، فيجب الايمان بمثل هذه الآيات والعمل بها.
- المتشابه هو الآيات التي لا تقصد ظواهرها ، ومعناها الحقيقي الذي يعبر عنه بـ«التأويل» لا يعلمه الا الله تعالى فيجب الايمان بمثل هذه الآيات ولكن لا يعمل بها.

النسخ في اللغة والقاموس هو بمعنى الإزالة والتغيير والتبديل والتحوير وابطال الشي‏ء ورفعه واقامة شي‏ء مقام شي‏ء، فيقال نسخت الشمس الظل : أي ازالته.
وتعريفه هو رفع حكم شرعي سابق بنص شرعي لا حق مع التراخي والزمان بينهما ، أي يكون بين الناسخ والمنسوخ زمن يكون المنسوخ ثابتا وملزما بحيث لو لم يكن النص الناسخ لاستمر العمل بالسابق وكان حكمه قائما .
وباختصار النسخ هو رفع الحكم الشرعي بخطاب قطعي للدلالة ومتأخر عنه أو هو بيان انتهاء امده والنسخ «جائز عقلا وواقع سمعا في شرائع ينسخ اللاحق منها السابق وفي شريعة واحدة» .