أقرأ أيضاً
التاريخ: 2024-03-08
827
التاريخ: 2023-07-20
1071
التاريخ: 2024-02-22
920
التاريخ: 3-10-2016
1618
|
مصر، أقرب ما يتبادر إلى الخاطر من نصيبها في التمايز الإقليمي عن جيرانها، هو أن جريان نهر النيل في أرضها قد خفف نتائج جفافها المناخي إلى حد كبير، على الرغم من دخولها في النطاق الصحراوي العظيم الذي يمتد في أغلب بقاع الشرق الأدنى من الخليج إلى المحيط. ثم استطاع أن يطبعها بطابع خاص من الكفاية والاستقرار، وأن يوجه معايش أهلها وجهة زراعية غالبة مترابطة منذ أن أنس أجدادهم إلى ضفافه وزاد استقرارهم عليها في فجر تاريخهم القديم، ومنذ أصبحوا يستغلونه ويقدرون جوانب نفعه أكثر ما يتهيبون مظاهر جبروته وطغيان فيضاناته.
وأدت خاصية الامتداد الرأسي الطويل لنهر النيل من الجنوب إلى الشمال مع ندرة فروعه الطبيعية الجانبية في مصر، إلى توزيع مواطن العمران فيها على جانبيه توزيعا رأسيا أكثر منه أفقيًّا، وهي ظاهرة أدت فيما هو معروف إلى تكاثف سكانها في مناطق محدودة المساحات نسبيًّا، وإن سمحت في مقابل ذلك بتيسير الاتصالات المكانية ووسائل النقل المائية بينهم. وترتب على هذه الاتصالات البشرية والمكانية المتاحة بعض الأثر في الإيحاء إلى الحكام والمفكرين المصريين القدماء بواقع الترابط الطبيعي بين أجزاء أرضهم ومدى اتصال مصالحها ومقومات حياتها وقوميتها. وأفضى هذا الأثر أو هذا الإيحاء، مع غيره من مجريات الأحداث القديمة في مصر، إلى التبكير فيها بظهور أول وحدة سياسية كبيرة مستقرة معروفة في تاريخ البشرية كلها.
ولم تخل البيئة المصرية من مشكلات تطلبت أن يوجهها سكانها بالتحدي العملي والفكري حتى يتغلبوا عليها أو ييسروها ويقللوا من أخطارها. وغالبًا ما كانت التحديات ولا تزال من أهم الحوافز إلى الرقي والإبداع الحضاري.
والواقع أن أمور النيل والزراعة لم تكن هينة دائمًا في أوائل عصور التحضر المصري القديم، وإنما تخللتها مصاعب وظواهر ظلت تتطلب من أهلها كثيرًا من الصبر والجهد المتصل، وإن يكن جهدا منتجا في حد ذاته. ففيضانات النهر كانت ولا تزال، على الرغم من جودها وانتظام مواسمها، تستدعي اليقظة الجماعية لمواجهتها، وتتطلب التعاون لتقليل أخطارها، وتحتاج إلى كثير من بذل الجهد وتطوير المهارة لتيسير الانتفاع بها وتوصيلها إلى الأراضي المرتفعة عن مستوياتها. وبقيت بعض ضفاف النيل ومناطق دلتاه بخاصة، على الرغم من خصوبتها الفطرية، موطنا للأحراج النباتية والمناقع المائية طوال دهور ما قبل التاريخ وخلال أوائل العصور التاريخية ذاتها، وبهذا ظلت هي الأخرى تحتاج إلى تكاتف بشري وجهد متصل في سبيل استصلاحها وتهذيبها واستغلالها. وأدت جهود المصريين في الحالين إلى تزكية إحساسهم الجماعي بضرورة الارتباط بحكم مركزي مستقر يشرف على جهودهم العامة وينسقها وينظم الانتفاع بنتائجها.
وإذا كانت الصحراوات المصرية الواسعة قد شابهت غيرها من صحراوات الشرق الأدنى، في مظاهر فقرها الطبيعي، وفي أن هذا الفقر كثيرًا ما دفع بدوها المحليين إلى تعكير أمن حواف المناطق الزراعية وطرق التجارة البرية، وظلت نتيجة لذلك تستدعي اليقظة الدائمة من الحكومات المصرية القائمة لكسر شرة بدوها وإلزامهم حدود الطاعة قدر المستطاع، إلا أنه بقي لهذه الصحراوات من الخصائص ما تميزت به إلى حد ما عن غيرها.
فعلى نحو ما ظل النيل أبًا حانيًا لحضارة المصريين القدماء، على الرغم من الجبروت الظاهر لفيضاناته كانت صحراواتهم الجافة الموحشة أمًّا لحضاراتهم من حيث لم يحتسبوا. فقد أدى اتساع فيافيها الداخلية الخطرة إلى التقليل من إمكانية استخدامها سبيلًا للغزوات الشعوبية الخارجية التي كان يمكن أن تهدد استقرار وادي النيل الأخضر، وبذلك تحقق للمصريين نصيب كبير من الوحدة الجنسية النسبية ومن الأمن الدولي القديم. وكفلت لهم صحاراهم ومرتفعاتها، على الرغم من وحشتها، بعض مقومات مدنيتهم المادية، نتيجة لوفرة معادنها وفرة نسبية، وكثرة أحجارها مع تعدد أنواع هذه الأحجار وألوانها وضخامة بحورها مما سمح لهم بأن يقيموا على مر الزمن أضخم وأروع عمائر حجرية عرفها العالم القديم قبل نهضة الإغريق. بل إن رمال الصحراء القريبة من وادي النيل لم تكن بدورها بغير أثر في تزكية آمال المصريين في الخلود حيت استغلوا جفافها لصيانة رفات موتاهم ومقتنيات مقابرهم سليمة لآماد طويلة.
وما من بأس في أن يضاف إلى كل ذلك أن ما لقيه المصريون الأوائل من متاعب بيئتهم يقل كثيرًا عما عاناه بعض جيرانهم الشرقيين من مشكلات بيئاتهم، لا سيما إذا قدرنا أن البيئة المناخية في مصر كانت ولا تزال غير ذات تأثير معاكس على وجدان أهلها على الرغم من جفافها وقلة أمطارها، فهي إذا قورنت بكثير غيرها بيئة مأمونة العواقب هينة الحدة قليلة التقلب، ليس فيها من صراع الظواهر الطبيعية أو مظاهر الرهبة والصخب العنيف ما يوجه أهلها إلى اعتياد الصخب والعنف أو يطبعهم بطبعهم بطابع التمرد والقلق وتقلب الأهواء والمشاعر والعادات. ولهذا لم يكن من الغريب، أن يترتب على ما ألفه المصريون القدماء من غلبة الخير على الشر في أحوال نيلهم وواديهم وصحراواتهم ومناخهم بعض الأثر في صبغ حضاراتهم الطويلة بصبغة غالبة من مظاهر الاستقرار والاتصال، وصبغ حياتهم السياسية بطابع الهدوء والاستمرار، ثم الإيحاء إليهم بنوع من الشعور التلقائي بالكفاية، كفاية الجهد المنتج في الأرض، وكفاية الموارد النسبية بها، فضلًا عن كفاية مقومات الحضارة في بلدهم بوجه عام وبغير حاجة إلى مدد خارجي كبير.
ولم يكن انطباع المصريين بيسر البيئة واستقرارها ووضوح معالمها بغير أثر مرة أخرى في ثبات تقاليدهم الاجتماعية والثقافية، وصبغ إنتاجهم الفني القديم بصبغة غالبة من بساطة الخطوط ووضوح التعبير وسماحة الهيئة والطابع إذا قورن بغيره من الفنون القديمة، وذلك فضلًا عن ثبات عقائدهم الدينية التي استوحوها من بيئتهم، وبعدهم عن مظاهر التعصب المذهبي وتغليبهم طابع الرحمة في أربابهم على طابع العنف والنقمة. بل ولم يكن بغير أثر كذلك في تزكية آمالهم في عالم أخروي مستقر يجدون فيه أحسن ما استحبوه من الطمأنينة والكفاية والاستقرار في دنياهم.
وعلى أية حال، فليس في كل هذا ما يؤدي بالضرورة إلى تفضيل بيئة مصر على بيئة غيرها أو تفضيل حضارة شرقية على أختها، وإنما يكفي الاستشهاد به على ما يمكن أن يتأتى من تبادل التأثر والتأثير بين البيئة وبين أهلها، هنا وهناك، وما قد يترتب على ذلك من اصطباغ حياة الشعوب بخصائص معينة تحتسب لها أحيانًا أو تحتسب عليها أحيانًا أخرى.
|
|
"عادة ليلية" قد تكون المفتاح للوقاية من الخرف
|
|
|
|
|
ممتص الصدمات: طريقة عمله وأهميته وأبرز علامات تلفه
|
|
|
|
|
المجمع العلمي للقرآن الكريم يقيم جلسة حوارية لطلبة جامعة الكوفة
|
|
|